باب في وجوب الحكم والتحاكم إلى الشريعة

إنضم
25/04/2003
المشاركات
10
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
المطلب الأول : تعريف الحكم والتحاكم :

قال ابن فارس : مادة ( ح ك م) أصل واحد هو المنع ([1])

قال الراغب الأصفهاني ـ رحمه الله ـ ( حَكَمَ : أصله منع منعا لإصلاح ، ومنه سميت اللجام : حكمة الدابة ، فقيل : حَكَمْته وحَكمْتُ الدابة : منعتها بالحكمة ، وأحكمتها جعلتُ لها حكمة ، وكذلك حكمت السفيه وأحكمته قال الشاعر :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

والحكم بالشيء أن تقضي بأنه كذا ، أو ليس بكذا ، سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه ، .. ويقال حاكم لمن يحكم بين الناس ، ويقال الحَكَمُ للواحد والجمع وتحاكمنا إلى الحاكم) ([2])


وأما التحاكم والتحكيم : فالعرب تقول : حكَّمت فلانا إذا أطلقت يده فيما يشاء واحتكموا إلى الحاكم بمعنى ، ويقول العرب أيضا : حكمت وأحكمت وحكَّمت بمعنى منعت ورددت ([3])


ونجد أن مادة الحكم تأتي في القرآن على عدة معان منها : الفقه والحكمة والفصل والقضاء والموعظة والفهم والعلم النبوة وحسن التأويل . ([4])

ـ
--------------------

([1]) معجم مقاييس اللغة ـ 2/91 ـ مطبعة الحلبي

([2]) مفردات ألفاظ القرآن ـ مادة حكم 248 ـ دار القلم

([3]) تهذيب اللغة ـ 4/114

([4]) انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي ـ عبدالعزيز مصطفى كامل ـ دار طيبة ـ ط: الأولى
 
تعريف الحاكم في الشرع :


قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ( وكل من حكم بين اثنين فهو قاض سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام ) ([5])فكل من انتصب للقضاء بين الناس فهو حاكم ولا يشترط أن يكون في دار قضاء ، فتأمل هذا المعني جيدا .

===========
([5]) مجموع الفتاوى 18/170
 
المطلب الثالث : علاقة الحكم بما أنزل الله بتوحيد الألوهية :



انها قضية الحكم والشريعه والتقاضي - ومن ورائها قضية الألوهيه والتوحيد والايمان - والقضيه في جوهرها تتلخص في الاجابه على هذا السؤال : أيكون الحكم والشريعه والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي استحفظ عليها اصحاب الديانات السماويه واحده بعد الأخرى وكتبها على الرسل ، وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم ؟ أم يكون ذلك كُله للأهواء المتقلبه ، والمصالح التي لا ترجع الى أصل ثابت من شرع الله ، والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال ؟ وبتعبير آخر : أتكون الألوهيه والربوبيه والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس ؟ أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرع للناس ما لم يأذن به الله ؟ الله - سبحانه - يقول : إنه هو الله لا آله إلا هو . وإن شرائعه التي سنها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له ، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض ، وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس ، وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام . . والله - سبحانه - يقول : إنه لا هوادة في هذا الأمر ، ولا ترخص في شيء منه ، ولا انحراف عن جانب ولو صغير . وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل ، أو لما اصطلح عليه قبيل ، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثيرا ! والله - سبحانه - يقول : إن المسألة - في هذا كله - مسألة إيمان أو كفر أو إسلام أو جاهلية وشرع أو هوى . وإنه لا وسط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح ! فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله - لا يخرمون منه حرفا ولا يبدلون منه شيئا - والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله . وأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان . وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى مما لم يإذن به الله ، فهم الكافرون الظالمون الفاسقون . وأن الناس إما أن يقبلوا من الحكام والقضاة حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم مؤمنون . . وإلا فما هم بالمؤمنين . . ولا وسط بين هذا الطريق وذاك ولا حجة ولا معذرة ، ولا احتجاج بمصلحة . فالله رب الناس يعلم ما يصلح للناس ويضع شرائعة لتحقيق مصالح الناس الحقيقية . وليس أحسن من حكمه وشريعته حكم أو شريعة . وليس لأحد من عباده أن يقول : إنني أرفض شريعة الله ، أو إنني أبصر بمصلحة الخلق من الله . . فإن قالها - بلسانه أو بفعله - فقد خرج من نطاق الإيمان . . هذه هي القضية الخطيرة الكبيرة التي يعالجها هذا الدرس في نصوص تقريرية صريحة . . ذلك إلى جانب ما يصوره من حال اليهود في المدينة ، ومناوراتهم ومؤامراتهم مع المنافقين : ( من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) . وما يوجه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمواجهة هذا الكيد الذي لم تكف عنه يهود ، منذ أن قامت للإسلام دولة في المدينة . . والسياق القرآني في هذا الدرس يقرر أولا : توافي الديانات التي جاءت من عندالله كلها على تحتيم الحكم بما أنزله الله وإقامة الحياة كلها على شريعة الله وجعل هذا الأمر مفرق الطريق بين الإيمان والكفر وبين الإسلام والجاهلية وبين الشرع والهوى . . فالتوراة أنزلها الله فيها هدى ونور : ( يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) . . ( وعندهم التوارة فيها حكم الله ) . . ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . الخ ) . . والإنجيل آتاه الله عيسى بن مريم ( مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ) . . والقرآن أنزله الله على رسوله ( بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) وقال له : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) . . ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) . . ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . . ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) . . ( أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ) . . وكذلك تتوافى الديانات كلها على هذا الأمر ، ويتعين حد الإيمان وشرط الإسلام ، سواء للمحكومين أو للحكام . . والمناط هو الحكم بما أنزل الله من الحكام ، وقبول هذا الحكم من المحكومين ، وعدم ابتغاء غيره من الشرائع والأحكام . . والمسألة في هذا الوضع خطيرة والتشدد فيها على هذا النحو يستند إلى إسباب لا بد خطيرة كذلك . فما هي يا ترى هذه الأسباب ؟ إننا نحاول أن نتلمسها سواء في هذه النصوص أو في السياق القرآني كله ، فنجدها واضحة بارزة . . إن الاعتبار الأول في هذه القضية هو أنها قضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر - بلا شريك - أو رفض هذا الإقرار . . ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان ، وجاهلية أو إسلام . . . . . والقرآن كله معرض بيان هذه الحقيقة . . إن الله هو الخالق . . خلق هذا الكون ، وخلق هذا الإنسان . وسخر ما في السماوات والأرض لهذا الإنسان . . وهو - سبحانه - متفرد بالخلق ، لا شريك له في كثير منه أو قليل . وإن الله هو المالك . . بما أنه هو الخالق . . ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما . . فهو - سبحانه - متفرد بالملك . لا شريك له في كثير منه أو قليل . وإن الله هو الرازق . . فلا يملك أحد أن يرزق نفسه أو غيره شيئا . لا من الكثير ولا من القليل . . وإن الله هو صاحب السلطان المتصرف في الكون والناس . . بما أنه هو الخالق المالك الرازق . . وبما أنه هو صاحب القدرة التي لا يكون بدونها خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر . وهو - سبحانه - المتفرد بالسلطان في هذا الوجود . والإيمان هو الإقرار لله - سبحانه - بهذه الخصائص . الألوهية ، والملك ، والسلطان . . . متفردا بها لا يشاركه فيها أحد . والإسلام هو الاستسلام والطاعة لمقتضيات هذه الخصائص . . هو إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة على الوجود كله - وحياة الناس ضمنا - والاعتراف بسلطانه الممثل في قدره والممثل كذلك في شريعته . فمعنى الاستسلام لشريعة الله هو - قبل كل شيء - الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه . ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة ، واتخاذ شريعة غيرها في أية جزئية من جزئيات الحياة ، هو - قبل كل شيء - رفض الاعتراف بألوهية الله وربوبيته وقوامته وسلطانه . . ويستوي أن يكون الاستسلام أو الرفض باللسان أو بالفعل دون القول . . وهي من ثم قضية كفر أو إيمان وجاهلية أو إسلام . ومن هنا يجيء هذا النص : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) . . ( الظالمون ) . . ( الفاسقون ) . والاعتبار الثاني هو اعتبار الأفضلية الحتمية المقطوع بها لشريعة الله على شرائع الناس . . هذه الأفضلية التي تشير إليها الآية الأخيرة في هذا الدرس : ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ ) . . والاعتراف المطلق بهذه الأفضلية لشريعة الله ، في كل طور من أطوار الجماعة ، وفي كل حالة من حالاتها . . هو كذلك داخل في قضية الكفر والإيمان . . فما يملك إنسان أن يدعي أن شريعة أحد من البشر ، تفضل أو تماثل شريعة الله ، في أية حالة أو في أي طور من أطوار الجماعة الإنسانية . . ثم يدعي - بعد ذلك - أنه مؤمن بالله ، وأنه من المسلمين . . إنه يدعي أنه أعلم من الله بحال الناس وأحكم من الله في تدبير أمرهم . أو يدعي أن أحوالا وحاجات جرت في حياة الناس ، وكان الله - سبحانه - غير عالم بها وهو يشرع شريعته أو كان عالما بها ولكنه لم يشرع لها ! ولا تستقيم مع هذا الادعاء دعوى الإيمان والإسلام . مهما قالها باللسان ! فأما مظاهر هذه الأفضلية فيصعب إدراكها كلها . فإن حكمة شرائع الله لا تنكشف كلها للناس في جيل من الأجيال . والبعض الذي ينكشف يصعب التوسع في عرضه هنا . . في الظلال . . فنكتفي منه ببعض اللمسات : إن شريعة الله تمثل منهجا شاملا متكاملا للحياة البشرية يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية في جميع حالاتها ، وفي كل صورها وأشكالها . . وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني ، والحاجات الإنسانية ، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية . . ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق . . الأمر الذي لا يتوافر أبدا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرا من الأمر وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض . والهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم . وهو منهج قائم على العدل المطلق . . أولا . . لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق . . وثانيا . . لأنه - سبحانه - رب الجميع فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف - كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط - الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان ، ذي الشهوات والميول ، والضعف والهوى - فوق ما به من الجهل والقصور - سواء كان المشرع فردا ، أو طبقة ، أو أمة ، أو جيلا من أجيال البشر . . فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد . . وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله . لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله . صانع الكون وصانع الإنسان . فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني ، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه بشرط السير على هداه ، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها . . ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعا كونيا ، ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب ، ولا مع بني جنسه فحسب ! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض ، الذي يعيش فيه ، ولا يملك أن ينفذ منه ، ولا بد له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم . ثم . . إنه المنهج الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان . . ففي كل منهج - غير المنهج الإسلامي - يتعبد الناس الناس . ويعبد الناس الناس . وفي المنهج الإسلامي - وحده - يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك . . إن أخص خصائص الألوهية - كما أسلفنا - هي الحاكمية . . والذي يشرع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها . فهم عبيده لا عبيد الله ، وهم في دينه لا في دين الله . والإسلام حين يجعل الشريعه لله وحده ، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ويعلن تحرير الإنسان . بل يعلن "ميلاد الإنسان" . . فالإنسان لا يولد ، ولا يوجد ، إلا حيث تتحرر رقبتة من حكم إنسان مثله وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعاً أمام رب الناس . . إن هذه القضيه التي تعالجها نصوص هذا الدرس هي أخطر وأكبر قضايا العقيده . . إنها قضية الألوهيه والعبوديه . قضية العدل والصلاح . قضية الحريه والمساوا . قضية تحرر الإنسان - بل ميلاد الإنسان - وهي من أجل هذا كله كانت قضية الكفر أو الإيمان ، وقضية الجاهلية أو الإسلام . . ( هامش رقم 897 ) والجاهليه ليست فتره تاريخيه إنما هي حاله توجد كلما وجدت مقوماتها في وضع أو نظام . . وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر ، لا إلى منهج الله وشريعته للحياة . ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد ، أو أهواء طبقه ، أو أهواء أمه ، أو أهواء جيل كامل من الناس . . فكلها . . ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله . . أهواء . . يشرع فرد لجماعه فإذا هي جاهليه . لأن هواه هو القانون . . أو رأيه هو القانون . . لا فرق إلا في العبارات ! وتشرع طبقه لسائر الطبقات فإذا هي جاهليه . لأن مصالح تلك الطبقه هي القانون - أو رأي الأغلبيه البرلمانيه هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات ! ويشرع ممثلوا جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمه لأنفسهم فإذا هي جاهليه . . لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبداً من الأهواء ، ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبداً من الجهل ، هو القانون - أو لأن رأي الشعب هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات ! وتشرع مجموعه من الأمم للبشريه فإذا هي جاهليه . لأن أهدافها القوميه هي القانون - أو رأي المجامع الدوليه هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات ! ويشرع خالق الأفراد ، وخالق الجماعات ، وخالق الأمم والأجيال ، للجميع ، فإذا هي شريعة الله التي لا محاباه فيها لأحد على حساب أحد . لا لفرد ولا لجماعه ولا لدوله ، ولا لجيل من الأجيال . لأن الله رب الجميع والكل لديه سواء . ولأن الله يعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع ، فلا يفوته - سبحانه - أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون تفريط ولا إفراط . ويشرع غير الله للناس . . فإذا هم عبيد من يشرع لهم . كائناًمن كان . فردً أو طبقه أو أمه أو مجموعه من الأمم . . ويشرع الله للناس . . فإذا هم كلهم أحرار متساوون ، لا يحنون جباههم إلا لله ، ولا يعبدون إلا الله . ومن هنا خطورة هذه القضيه في حياة بني الإنسان ، وفي نظام الكون كله : ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) . . فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهايه عن نطاق الإيمان . . بنص القرآن . . الدرس الأول : 40 ذم المنافقين لتحاكمهم إلى غير الله ورسوله ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه .
 
المطلب الرابع : علاقة الحكم بما أنزل الله بالرضا بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :

الرضى بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أصل الإيمان وهذا مما لا ينازع فيه أحد من المسلمين ومن مقتضى هذا الرضا الرضى بحكمه وتحكيم أمره ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وأما الرضى بنبيه رسولا فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته ، ولا يحاكم إلا إليه ، ولا يحكم عليه غيره ولا يرضى بحكم غيره اللبته لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقامه ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه ، لا يرضى في ذلك بحكم غيره ، ولا يرضى إلا بحكمه ، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم . وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور ) ([11]) وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب ، وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان فيجب على العبد أن يكون راضيا به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ، ولا اعتراض .


قال تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : 65] فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله ، وحتى يترفع الحرب عن نفوسهم من حكمه وحتى يسلموا لحكمه تسليما ، وهذا حقيقة الرضى بحكمه . فالتحكيم في مقام الإسلام ، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان والتسليم في مقام الإحسان ) ([12])


وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : يقسم تعالى بذاته المقدسه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ولهذا قال : (ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)[النساء : 65] أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث : (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) ([13]) .

----------------------------

([11]) مدارج السالكين ـ ابن القيم ـ تحقيق : عبدالعزيز بن ناصر الجليل ـ الأولى ـ 1423هـ ـ دار طيبة ـ 2/456

([12]) مندارج السالكين ـ ابن القيم ـ 2/201

([13]) تفسير ابن كثير ــ 1/520 .
 
جزاكم الله خيراً أيها الشيخ الكريم على هذا اللباب. وملتقى أهل التفسير ينتظر منكم الكثير وفقكم الله ، ونفع بكم.
 
وهذا نقل قيم للعلامة الشنقيطي صاحب أضواء البيان ذكره عند تفسيره لقول الله تعالى : (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (الكهف:26)

قال رحمه الله :
( قوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا}. قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر «ولا يشرك» بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية ـ والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. والقضاء ما قضاه. وقرأه ابن عامر من السبعة. «ولا تشرك» بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} شامل لكل ما يقضيه جل وعلا. ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله تعالى: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ} وقوله تعالى: {وَقَالَ يٰبَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ} ، وقوله تعالى: {وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ} ، وقوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـىِّ ٱلْكَبِيرِ} ، وقوله تعالى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقوله تعالى: {لَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلاٍّولَىٰ وَٱلاٌّخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقوله: {أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِىۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلاً} ، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من هذه الآيات كقوله {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه
لَفِسْقٌ وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى ـ هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌوَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: {يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً} ، وقوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـٰناً مَّرِيداً} أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} . وقد بين النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: {ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ} ـ فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً.
ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب. وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـٰلاً بَعِيداً} .
[color=000066]وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم. [/color]
تنبيه
اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضى تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضى ذلك.
وإيضاح ذلك ـ أن النظام قسمان: إداري، وشرعي. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن
بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة «بني إسرائيل» في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم. وكاشترائه ـ أعني عمر رضي الله عنه ـ دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع ـ لا بأس به. كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالقي السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض. كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم ـ كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ} ، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة «بني إسرائيل» في الكلام على قوله تعالى:
{إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} .) انتهى كلامه رحمه الله
 
عودة
أعلى