باب: في ذم المختصرات !

إنضم
23/04/2003
المشاركات
805
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
الحمد لله وصلى الله على نبينا محمد أما بعد:
فلا يخفى عليكم ولع المتاخرين بالمختصرات في كل الفنوان وفي ذلك مصالح ومفاسد، وكنت من مدة أريد أن أكتب موضوعا عن المختصرات، لكني ما استطعت أن استجمع الفكر وأجد من الفراغ ما يكفي، وكنت قد جمعت نقولا متفرقة في ذمها وبيان عيبها، فالظاهر أن غاية ما سيكون هو نقل بعض هذه النقول!
والغرض أن تخفف هذه العبارات من غلو بعضنا فيها، وتلفت انتباههم إلى كتب الأئمة المتوسطة والموسعة .

وسأبدأ بكلام لطيف طريف للشيخ علي الطنطاوي

قال ـ رحمه الله ـ في ذكرياته 2/43
في كلامه على (رسائل سيف الإسلام ):
وأثرتُ بعض المشايخ لما نقدتُ طريقتهم في الدعوة إليه، وفي تلقين المتعلمين أحكام شريعته، وكانت (في الحق) أسوأ الطرق في التدريس في كتب ألفت على أسوأ الأساليب في التأليف: (متن) موجز إيجازًا مخلاً ، كأن مؤلفه بخيل كُلِّف بأن يرسله في (برقية) إلى أوستراليا، يغرم أجرتها من ماله، فهو يقتصد في الكلمات لتقل عليه النفقات، وانظروا (جمع الجوامع) و(التحرر) في الأصول مثالا على هذه المتون، وقابلوا أسلوبه بأسلوب الغزالي في (المستصفى) .
كانت أكثر الكتب التي يعكفون عليها بعيدة عن البيان بعد الأرض عن السماء، معقدة العبارة أعجمية السبك، وإن كانت عربية الكلمات، فيأتي من يوضح غامض المتن فيدخل جملة من عنده بين كل جملتين منه كما يرقعون اليوم الجلد المحروق من الإنسان بقطعة من جلده السليم فينجح الرتق أو يظهر الفتق وهذا هو (الشرح).
ويأتي من يضع لهذا الشرح حواشي وذيولا يطوله فيها فيجمله أو يقبحه ويعطله وهذه هي (الحاشية)، ويبدو ضعف الإنشاء في القرون المتأخرة حتى في مثل حاشية ابن عابدين التي هي اليوم عمدة المفتين على المذهب الحنفي ثم يجيء من يعلق على هذه الحاشية تعليقات وتسمى (التقريرات) فلا الأسلوب عربي فصيح ولا المنهج قويم صحيح.
وانظروا (المبسوط) مثلا للسرخسي أو (البدائع ) للكاساني ثم انظروا الحاشية أو انظروا في مذهب الشافعية (الأم) ثم (مغني المحتاج) إن ما بينهما كالذي بين (أسرار البلاغة) و(شروح التلخيص) في كتب الأولين، البلاغة والبيان والأسلوب العربي النير، وفي حواشي الآخرين.. فيها ما تعرفون !
 
وقال في ذكرياته ـ رحمه الله ـ 4/279:
كنت قبل أن ألي القضاء، وبعد أن أنهيت عهد الطلب وأيام الدراسة، كنت عاكفا على كتب الأدب والتاريخ , قلما أنظر في كتاب فقه أو أصول إلا إن احتجت إلى مراجعة مسألة أو تحقيقها.
ولكني كنت على ذلك أقرأ في اليوم عشرين أو ثلاثين صفحة من مثل كتاب "الخراج" لأبي يوسف، أو كتاب "الأم" للشافعي، أو "المبسوط" للسرخسي، لا لاستيعاب ما فيه، ولكن إعجابًا بأسلوبه واستئناسا ببلاغة عبارته، وسلامة لغته، كذلك كانت كتبنا الأولى، ثم فسد الأسلوب وغلبت عليه العجمة، وبعد عن السليقة العربية...
 
وقال في ذكرياته ـ رحمه الله ـ 7/66 : ... ولقد ظهر في هذه القرون الثلاثة علماء لا يحصيهم العد، ألفوا مؤلفات لا يحيط بها الحصر، ولم يكن في هؤلاء جميعا ـ على أغلب الظن ـ من هو أوثق في الفقه، وأنفذ فيه فكرا، من ابن عابدين، الذي كتب الله لمؤلفاته أن تكون أكثر الكتب ذيوعا، وأعمها نفعا، وأن تكون حاشيته المشهورة عمدة المفتين في المذهب الحنفي من أكثر من مئة سنة، لا يضارعها في تحقيق مسائلها، وفي إقبال الناس عليها، كتاب من كتب الفقهاء المتأخرين في المذهب الحنفي، على بعض العجمة في أسلوبها، وبعده عن الأسلوب العربي النيَّر الذي تجدون مثاله في كتاب " المبسوط" للسرخسي الحنفي، أو في كتاب "الأم" للإمام الشافعي.
 
قال العلامة ابن خلدون في المقدمة ص457:
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن.
فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم.
وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان، فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه، وابن مالك في العربية، والخونجي في المنطق وأمثالهم.
وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي.
ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها.
لأن ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت.
ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة؛ فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة.
وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة؛ فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها. « ومن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له » . والله سبحانه وتعالى أعلم.
 
قال شهاب الدين أحمد الناصري في الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 3/67-68:
ومن عجيب سيرته [السلطان محمد بن عبد الله] ـ رحمه الله ـ أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره، وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة = تضييع للأعمار في غير طائل، وكان ينهى عن ذلك غاية، ولا يترك من يقرأ "مختصر خليل" و"مختصر ابن عرفة" وأمثالهما، ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك، حتى كاد الناس يتركون قراءة "مختصر خليل"، وإنما كان يحض على كتاب "الرسالة" و"التهذيب" وأمثالهما، حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه .
ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان ـ رحمه الله ـ صار يحض الناس على التمسك بالمختصر، ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة، والكل مأجور على نيته وقصده غير أنّا نقول:
الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد ـ رحمه الله ـ وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل: الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي،
والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي،
والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون،
وغيرهم أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام، ونقصان ملكة أهله فيه = إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم، وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني الواضحة الأدلة، التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة، ولعمري لا يعلم هذا يقينا إلا من جَرّبه وذاقه، وقد تقدم لنا في صدر هذا الكتاب أن ملوك بني عبد المؤمن كانوا يحملون الناس على الرجوع في الأحكام إلى الكتاب والسنة كل ذلك اعتناء بالعلم القديم ومحافظة على أصوله، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
 
قال العلامة محمد بن الحسن الحجوي في الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 2/146:
في القرن الرابع بدأت فكرة الاختصار والإكثار من جمع الفروع بدون أدلة وشرح تلك المختصرات، فبعدما كانوا في القرن الثالث مصنفين مبتكرين ؛كأسد بن الفرات وسحنون، وابنه، والبويطي ومحمد بن الحسن وأمثالهم، صار الحال في القرن الرابع إلى الشرح ثم الاختصار والجمع، فانظر الفضل بن سلمة وابن أبي زمنين وابن أبي زيد والبراذعي اختصروا «المدونة» في عصر متقارب، وهكذا نظراؤهم في عصرهم من المذاهب الأخرى؛ كالمزني حيث اختصر مذهب الشافعي.
والاختصار لا يسلم صاحبه من آفة الإفساد والتحريف فقد اعترض عبد الحق الإشبيلي مواضع من مختصر ابن أبي زيد القيرواني والبراذعي أفسدها الاختصار، وهكذا المزني اعترض عليه ابن سريج كما سبق في ترجمته.
ولا يخفى أن الاشتغال بإصلاح ما فسد هو غير الاشتغال بالعلم نفسه؛ فالرزية كل الرزية ما حال بين المسلمين وبين نصوص نبيهم وكلام ربهم، والرزية كل الرزية في الاشتغال بالمختصرات، فالاختصار والتوسع في جمع الفروع من غير التفات للأدلة هو الذي أوجب الكهولة؛ بل القرب من الشيخوخة التي دخل فيها الفقه في القرون الآتية، فالفقه بقي مدة قرنين متماسكا كهلا قويا، ولله عاقبة الأمور.

= يتبع
 
شكراً لك شيخ عبد الرحمن على هذه الإطلالة, وبالمناسبة فهناك رسالة علمية-ماجستير- من روائع أخينا الشيخ علي بن سعيد العمري إلى جامعة أُم القرى – كلية الدعوة وأصول الدين بعنوان: "المختصرات في التفسير" دراسة- وتطبيق, ولعلي أسوق خطة هذه الرسالة في وقتٍ لاحقٍ إنشاء الله!!
 
الحمد لله ، وبعد ..

عنوان جميل ، واختيار للموضوع موفق .
وأرجو أن يكون الطرح والتقسيم موفقاً ونافعاً

وليتك تعجل لنا أيها الأخ الكريم
 
[align=justify]
[glow=000033][align=center]أخي الفاضل الشيخ : عبد الرحمن السديس[/align][/glow]
بارك الله فيكم .. طرح جيد ومبارك ولكن هذا في مجمله وصف للداء ولا بد من وجود البديل ووضع الدواء الناجع الذي يفرض وجوده عمليا على أرض الواقع فلا المختصرات المخلة ولا المطولات المملة نستطيع أن نقررها لأبنائنا والأمر ككل حال في دنيا المؤمنين يجب أن يحكمها قول الباري جل جلاله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ..) وقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه (خير الأمور أوسطها ) وفي رواية ( أوساطها ) . فالوسطية رائدنا من غير إفراط ولا تفريط ...
لا حرمنا الله من مناهج تعتمد الدليل متوسطة في منهجيتها متكاملة في طرحها لا تغادر معلوما من الدين بالضرورة إلا بينته لتكون مشعل هداية في طريق السالكين من الدعاة المخلصين وطلبة العلم والعلماء العاملين حتى يتخرج جيل متفتح يحمل الراية بجدارة متسلحا بخير سلاح ألا وهو البيضاء النقية التي لا يزيغ عنها إلا هالك : كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . إذا لا بد لكل طرح من واقع يستند إليه ولا بد لهذا الواقع من إمكانات وطاقات مادية وفكرية ودعم معنوي يدفها في حيز التنفيذ حتى لا تضيع الجهود ولا تتفرق الأمة فتسير إلى المجهول . ولمثل هذا فليعمل العاملون . جزاكم الله خيرا .
[/align]
 
[. إذا لا بد لكل طرح من واقع يستند إليه ولا بد لهذا الواقع من إمكانات وطاقات مادية وفكرية ودعم معنوي يدفها في حيز التنفيذ حتى لا تضيع الجهود ولا تتفرق الأمة فتسير إلى المجهول . ولمثل هذا فليعمل العاملون . جزاكم الله خيرا . [/color][/size][/align][/QUOTE]

سلمت يمينك الشيخ الأديب "أبو الخير".
 
[align=justify]
إذا لا بد لكل طرح من واقع يستند إليه ولا بد لهذا الواقع من إمكانات وطاقات مادية وفكرية ودعم معنوي يدفها في حيز التنفيذ حتى لا تضيع الجهود ولا تتفرق الأمة فتسير إلى المجهول . .
[/align]

جزاك الله خيرا ونفع بما قلت .

والقصد من الموضوع مبين في أول سطور هذه المشاركة:

والغرض أن تخفف هذه العبارات من غلو بعضنا فيها، وتلفت انتباههم إلى كتب الأئمة المتوسطة والموسعة .
ولذا لا يظهر لي أن هذا الطرح بحاجة لما تفضلتم بذكره.
 
عودة
أعلى