حذاء المليون دولار !!! للكاتب فتى الأدغال
حذاء المليون دولار !!! للكاتب فتى الأدغال
[align=center]المصدر :
http://forum.ma3ali.net/t517893.html[/align]
أذكرُ وجهك جيّداً على الرغم من مسافاتِ التيهِ والشتاتِ.. فبغداد الرشيد لم تعد رشيدة.. أثخنتها الجراح.. وهدتها الجنازير.. مواطئ أقدام الإمام أحمد بن حنبل محتها بساطير المارينز.. ومتكأ الفقيه إبراهيم الحربي أضحى ثكنة عسكرية.. ومعتكف الزاهد بشر الحافي غدا حانة.. ومكتبة الخليفة المأمون باتت مأوى لكل ثمل عربيد من جنود إبليس.. وأنت كما أنتَ.. لم تمحُ رسمك العوادي.. ولا غيرتك الصروفُ.
باسماً.. هادئاً كما عهدتهُ.. قسماتُهُ بريئة.. طاهرة.. كأنّه قطعة من غيمةٍ سديمية تمخرُ عبابَ قيظ الصمّان في لحظة لهفةٍ بعد إجدابٍ.
ألستَ مثلي من جيل النكبة الرعديد؟.. فما حملك على ما صنعتَ؟، ما الذي حرّك ساكناً.. وأثار بركانك؟، وأي عزم وقّاد سرت روحهُ في جسدك الغضِّ؟، أرجوك.. أتوسّلُ إليك.. لا تقل لي ما جيلُ النكبة!.. لا تستغربْ أيّها العزيز.. نعم مسّنا وأهلنا الذّلُّ وجئنا ببضاعة مزجاةٍ.. فأوف لنا كيل المكرمات.. وتصدّق علينا.. جئنا بخزي وعار.. لا تستفهمْ.. لا تستفسرْ.. انظرْ حولكَ، إنه جيلُكَ، ورعيلُك، ذلك الجيل الذي يودي به تقريرٌ.
الجيلُ الذي جدرانهُ آذانٌ.. وهواتفه مراقبةٌ.
الجيل الذي يلهثُ ويسفُّ ترابَ الأرضِ ليعيشَ منكوباً.. مسحوقاً.. محروقاً.. مطحوناً.. مخذولاً.. لا يهم.. المهم أن يعيشَ.. ليجدَ قبولاً في كليّةٍ.. أو ركناً في سوق خضار.. أو موطئَ قدمٍ في منشأةٍ يغدو فيها حارس أمن.. أو مضطَجعاً في مستشفى.. أو قبراً في الصحراء.. أو كفناً في دربِ عراء.
في بلد الدولارِ والنفطِ والأنهار.. والحفاةِ العراةِ الذين يسكنونَ الناطحاتِ.. ويعاقرونَ الساقياتِ! ويستكنّونَ في كنيفِ المنطقةِ الخضراءِ!.. والعراقُ تموتُ كل يومٍ ألف مرّةٍ.. وبغدادُ الرشيد ما عادت رشيدة.
لن ينسي الناسَ الجرحَ الغائرَ.. وساطور الجزّار.. والتنكيل.. والأصفاد والأغلال.. وضوء الزنزانة الصفراء.. ودموع صابرين الجنابي وهتك سترها.. وبُقع الدماء الطاهرة.. وأكوام السجناء العراة في دهاليز "أبو غريب".. لكل أجلٍ كتابٌ.
هاهم سجّانوك.. وساحقو إخوانكَ من قبلُ.. دولارٌ يرفعهم.. وآخرُ يخفضهم.. هم ذاتهم سجّانو "الكرنك"، و "التحويلة" و"إحنا بتوع الأتوبيس" و"البريء"، هم جلادو "ليمان" و"طره" و "الباستيل" و "الكاتراز" و "جانغي" و "غوانتنامو" و "شاوشنك".
أذْكُرُك أيّها العزيز مشتاقاً إلى سطر صغيرٍ في حانة "شحاذّون ونبلاء".. تحب البسطاء.. تأنس بهم.. في العامرية.. والدورة.. والعطيفية.. والأعظمية.. والزعفرانيّة.. في أزقة بغداد.. في ملاهي أطفالها.. ومقاهي كهولها.. في ذات المكان الذي سطّر فيه الدكاترة زكي مبارك خالدتهُ "ليلى المريضة في العراق".
ماتت ليلى والعراقُ يحتضرُ يا زكي.. تحترقُ بغدادُ.. والبصرةُ أشتاتٌ.
حيث كان المازني.. والزيّات.. وحيث مرَّ الطنطاوي.. تشعرُ أنك قطعةٌ منهم.. تتلاشى روحك العذبة معهم.
مع ألبير قصيري.. العجوز البوهيمي.. المتسكّع في أزقة باريس الفوّاحةِ برائحةِ الموكا ذات الرغوة الكثيفةِ ونكهة البندقِ الغنيّة الممتزجة بروائح قيرلان ولانكوم وكارتييه.. الذي رحل فجأة وترك فراغاً كبيراً.. كالفراغ الذي تركتهُ حين أخذوكَ حافيَ القدمينَ.. وحذاؤكَ يخطُّ طريق العلياءَ، ليسجّل اسمك في صحائف الخلدِ وتاريخٍ لا يبلى.
هل سحرتك المدنيّة والأضواء يا ابن الأزقةِ والدهاليز.. فتركت درب الصعلكة.. ودخلت التاريخ من أقذر أبوابه: بوش اللعينِ!.
هل صحيحٌ ما يُقالُ: اتق شر الحليم إذا غضبَ!.. هل فعلاً كنتَ غاضباً..أجبني: لماذا لم تغضب بقية الشرذمة وهم يرون الجزّارَ يرقصُ فوق الجثث المكدّسة.. جثث الآباء والأمهاتِ.. وروائح الموت تملأ المكان.. هل جعلوكَ الطعمَ لاصطياد السنّور.. لكن ما للسنّور ولّى هارباً.. والطعم في شباك الصيدِ.. لقد كنتَ صيداً ثميناً بحق.. فلم يجد أولئك العتاة بداً من التساقط فوقكَ.. والتشبّثِ بمعطفكَ.
أيّها الرفيق.. إنّي أقرؤك بسكينةٍ ووقارٍ.. مترنّماً بتمتماتٍ متأوهةٍ في "رأس المال" للصعلوك الثائرِ المكدود كارل ماركس.. أجدُك في سطور "البيان الشيوعي" لفريدريك إنجلز.. في أعمدة البرافدا.. أراك في صفوف لينين.. ثورة ستالين.. في أحلام تشي غيفارا.. في صمود فيدل كاسترو.. على حائط برلين.. بلوروتاريّاً.. في صفحاتِ البيريسترويكا لجورباتشوف.. في جدارية محمود درويش.. فوق جبال الأورال.. في الساحة الحمراء.. في شوارع براغ.. وعلى تخوم وارسو.
ألست رفيقاً!.. ألم يقلِ الرفيق الأعظم عبدالرحمن المنيف: أنا لن أخون الرفاق!.. ألهذا بقيتَ وفيّاً لحذائكَ!.. فآليت أن لا يخرجَ من رجلكَ إكراماً له ووفاءً إلا على رأس مستحقّهِ.. فما بال كثيرٍ من الرفاق لم يُحسنِ العهدَ فصار دمية القصر! يعتصرُ الخمرةَ من كرمة أبيهِ.. ليسقيها بيدين مرتعشتينِ الجلادَ الذي يشربها في أواني الجماجم العراقية الأصيلةِ.. لماذا أسلمك الرفاق إلى حتفك وخانوك بزوجٍ من حذاءٍ ظللتَ لهما وفيّاً حتى يوم وداعهما فسقتهما إلى حتفٍ خالدٍ ومجدٍ تليدٍ.. أيهابونَ الموتَ شرفاً!.. ألم تمتْ أخواتهم وأمهاتهم أعزّةً وهنَّ يدافعن عن شرفهنَّ.. عن شرفكَ.. عن شرفي.. وشرف العربِ والمسلمينَ!.. وتفرغوا هم للعقِ أحذية المحتلّين!
"الشرف".. يااااه! يالطيب مذاقها.. معتّقة هي كالقهوةِ الإيطاليّة الإسبريسو.. لذيذة كرشفات البينا كولادا الاستوائيّةِ.. نقيّة كمياه نورد.. نابضة بالحياة كالحرّية.. دافئة كحضن الأمِّ الحنون.. حالمة كروضةِ التنهاتِ.. فوّاحةٌ كالخُزامى.. هل بقيتْ هذه الكلمة في القاموس بعدُ!.. هل صار لها معنى؟!.. أما زال الجيلُ يحفظُها ويعي معناها.. أيّها الرفيق إن الجيلَ الجديد مدينٌ لك لأنك جدّدت معنى "الشرف".. وبثثتَ فيه الروحَ.. فانتفضَ تمثال الشمعِ وصارَ مارداً مغادراً قمقمهُ.
باسم الحرّية.. باسم الأمة.. باسم الثورة.. باسم الشعب المغلوب.. باسم الوطن السليب.. باسم الجراح المتقرحة.. باسم الدماء النازفة.. باسم الجموع الثائرة في كتماندو.. في كولومبو.. في هيراري.. في سانتياجو.. في تيرانا.. في ليما.. في كراكاس.. في هافانا.. في الفلّوجة.. في بغداد الرشيد.. بكل اسم مقدّس.. باسم الحذاء.. لا تهم الأسماء.. أين بغداد؟.. أين الإباء؟.. أين أحمد.. وإبراهيم.. وبشر.. تغرق بغداد في الظلام.. لينيرها زوج حذاء.. مؤكدة نبوءة الشافعي الخالدة: ما رأيتَ الدنيا ولا رأيتَ الناس.
أيّها الجبناءُ إنَّ الرفاقَ لا يموتون حبطاً.. ولا تخمةً.. ولا في أحضان الغانياتِ.. لا يقع الطعن إلا في نحورهم.. لا يولون الدبرَ!.. أيها الجبناء البرجوازيّونَ.. سكّان القصور الخضراء.. إنَّ مزابل التاريخ تنتظركم.. ومحارق العار ترقبكم.. بلا زوج أحذية هذه المرة.. بل ببصقاتِ الجموع الثائرة.
أسائلك أيّها العزيزُ: هل كنت تعلمُ أنَّ الحذاء طريقٌ مختصرٌ إلى الجنّة؟.. هل تعرف قصّة البغي أيها الشريفُ الطاهرُ.. تلك التي سقت كلبها بخفّها من البئر فدخلت الجنة وغُفر لها ما كان منها.. يا من سقيتَ أمة بكاملها شراب العزةِ.. ومعنى الإباء.. ونكهة الكرامة.. يا من علمتنا كيف يمحو الحذاء عار الأمة.. ويغسل عنها درنها.
كم أنت شجاعٌ حقّاً.. لقد جعلت أزلام الغدر والخيانةِ يتوارونَ خجلاً خلفَ جدران القصور.. والحدائقِ.. والدخان الأزرقِ.. والقوارير السوداءِ.. وأرتال البغايا.. وغابات السيقان.. وتضاعيف النهـ....!
هاؤم جاؤوك تترنّح الكأس فوق شفاههم الغليظة قائلين: عيب!.. لا تكملِ الكلمة!.. قفْ!.. حدّك!.. أين كان العيبُ وهم يرونكَ تصرخُ متألّماً من ركلاتِ الجبناءِ.. تنزف دماءً بسخاءٍ لترسم طريقةَ الأنفةِ والشموخِ للجيلِ الصاعدِ.. أين كان العيبُ وهم يرونَ بلادكَ تجوع فيها الحرّة لتأكلَ بثدييها بينما المايباخ والبانوراما مع جلاوزة البلاك ووتر في الظلال الوارفةِ في المنطقة الخضراء تستجيرُ من رمضاءِ بلاد الرافدينِ.. أين كان العيبُ لمّا كانت فضائحُ "أبو غريبٍ" تنثالُ.. وهم صرعى.. سكْرى.. كأنّهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ.. ولا ترى لهم من باقية!
هل غضِب عليهم سيّدهم.. بوش.. الذي خاضت بلادهُ 1500 حرب مقدّسةٍ لتطهيرِ البلادِ من الهنود الحمر.. واللاتين البرونز.. والأيرلنديين الصفرِ.. لماذا سمحوا لغربانهم بالنعيق.. وحرموا صدح بلابلنا يا بلبلنا الصدّاح.. لماذا صارت الثورة والنضالُ منقبة لهم.. وسبّة وعاراً علينا.. لماذا صارت نياشين على صدورهم يفخرون بها.. تتوالى ستديوهات هوليود على بث فيلم " brave heart" وهو يصوّر حياة البطل الأسطوري وليم والاس.. ويستولي ميل جبسون بعينيه الزرقاويتين وقوامه المربوع وشعره المتهدّل على قلوب العذارى وهو بأسمالٍ باليّةٍ وأوصال مبضّعةٍ على خشبةِ الإعدامِ صارخاً: FREEDOM!.. لتنهمرَ معها دموع الملايين طرباً وحُزناً وإعظاماً.. بينما صارت البندقيّة في بغداد كأنّها فأر أجربُ.. يحاصرُها كالموت ألف سنّور!.. ويُطاردُها ألف باسل.. وتترصدّها ألف مصيدةٍ.. وصار المناضلُ طريداً.. والمحتلُّ بطلاً مُحرّراً.
أتدري أيّها الرفيق.. لو كنتَ غربياً.. من الأنجلوسكسون.. شبيهاً لتوم كروز.. أو براد بيت.. أو ديفيد بيكهام.. لثارت ثائرة الغربِ.. وانتفضت جموعه.. واحتفت بك جادة بيكادللي.. وساحة قوس النصر.. وملعب النيو كامب.. ولصرتَ اليوم بطلاً في روايةٍ لباولو كويلو.. أو دان براون.. تحلمُ بكَ نساءُ الإفرنج.. وتنتظرك صفحات الـ PLAYBOY .. ولخلّدك العجوز كلينت أستود في رائعة باسمٍ "حذاء المليون دولار".. لكنّك لستَ هيلاري سوانك.. ولا حتّى العجوز الزنجي مورغان فريمان.. أنتَ عربي وهم بكرامة!
حين تخرسُ البنادق.. وتكلُّ السيوفُ.. وتتعطّلُ القاذفاتُ.. تتحرّكُ الأحذيّةُ.. أيّها الرفيق العزيزُ سأخلعُ قبّعتي.. لن أنحني إعظاماً وإجلالاً فذاك في قاموس الطغاةِ لا الشرفاء.. العزيزُ يخلعُ قبعتهُ.. يطبعُ قبلة.. يُهدي دمعةً.. يمنحُ عُمْراً.. يمحو عاراً.. حتى إن كانت آلته زوجَ حذاءٍ!