قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
"فما أشدها حسرة ،....
وأعظمها غبنة ، ....
على من أفنى أوقاته في طلب العلم !!
ثم يخرج من هذه الدنيا ....
وما فهم حقائق القرآن ....
ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه ...
فالله المستعان "
بسم الله الرحمن الرحيم
جزى اللهُ خيراً الأخ عمر المقبل على هذا التنبيه .
وما ذكره ابن القيم جدير بالتأمل ، وحري بالاهتمام .
ومن باب التفاعل مع هذا الموضوع المهم ، والمشاركة فيه أنقل بعض حقائق القرآن وأسراره ودرره من كلام ابن القيم نفسه ، عسى الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم .
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة وهو يتكلم عن شرف العلم بالله :
( فالعلم بذاته سبحانه وصفاته وأفعاله يستلزم العلم بما سواه ؛ فهو في ذاته رب كل شيء ومليكه ، والعلم به أصل كل علم ومنشؤه فمن عرف الله عرف ما سواه ، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل .
قال تعالى: "ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم"
فتأمل هذه الآية تجد تحتها معنىً شريفاً عظيماً وهو أن من نسي ربه أنساه ذاته ونفسه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه بل نسي ما به صلاحه وفلاحه ومعاشه ومعاده ؛ فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة ، بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه لبقائها على هداها الذي أعطاها إياها خالقها.
وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها فنسي ربه فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل به وتزكو به وتسعد في معاشها ومعادها .
قال الله تعالى " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ". فغفل عن ذكر ربه فانفرط عليه أمره وقلبه ؛ فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسه وقلبه ، بل هو مشتت القلب مضيعه مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلاً. ) 1/312
ومما قاله ابن القيم رحمه الله حول حقائق القرآن ، وكيفية الوصول إلى العلم بها :
( ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن.
فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علماً ضرورياً ويقيناً جازماً: أنه حق وصدق. بل أحق كل الحق، وأصدق كل صدق. وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأكملهم علماً وعملاً، ومعرفة، كما قال تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان. وعلمت علماً ضرورياً يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية -من الفرح، والألم، والحب، والخوف- أنه من عند الله. تكلم به حقاً. وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد.
فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه، بعد أن يدخل فيه ؟ فقال: لا. فقال له: وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد . وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" وقوله: " وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به " وقوله "ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك: هو الحق" وقوله : "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟" وقوله :"ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب" يعني: أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية. بل الله هو الذي يهدي ويضل. ثم نبههم على أعظم آية وأجلها، وهي: طمأنينة قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله. فقال: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله " أي بكتابه وكلامه : "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" فطمأنينة القلوب الصحيحة، والفطر السليمة به، وسكونها إليه: من أعظم الآيات. إذ يستحيل في العادة: أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل.) من مدارج السالكين : فصـل شهادة الله للقرآن بجعله موافقاً للعقل والفطرة .
ارتباط الخير والشر بالعمل
قال ابن القيم رحمه الله وهو يتكلم عن الدعاء في كتابه الداء والدواء :
( وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال، ترتب الجزاء على الشرط، والمعلوم على العلة، والمسبب على السبب. وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع.
فتارة يرتب الحكم الخيري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له، كقوله تعالى: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين".
وقوله" فلما آسفونا انتقمنا منهم".
وقوله" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا".
وقوله" إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما".
وهذا كثير جداً.
وتارة يرتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم".
وقوله تعالى " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين".
وقوله تعالى " وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا".
ونظائره.
وتارة يأتي بلام التعليل كقوله" ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب".
وقوله تعالى" لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً".
وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل كقوله تعالى : " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ".
وتارة يأتي بباء السببية، كقوله تعالى " ذلك بما قدمت أيديكم". وقوله "بما كنتم تعملون ".وقوله "بما كنتم تكسبون"، وقوله" ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله".
وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهراً أو محذوفاً. كقوله تعالى" فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى".
وكقوله تعالى" أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين".
وقوله" أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا".
أي كراهة أن تقولوا.
وتارة يأتي بفاء السببية، كقوله" فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها".
وقوله "فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية".
وقوله " فكذبوهما فكانوا من المهلكين".
وتارة يأتي بأداة لما الدالة على الجزاء كقوله" فلما آسفونا انتقمنا منهم".
ونظائره.
وتارة يأتي بإن وما عملت فيه، كقوله" إنهم كانوا يسارعون في الخيرات".
وقوله في ضوء هؤلاء" إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين".
وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله" فلولا أنه كان من المسبحين* للبث في بطنه إلى يوم يبعثون".
وتارة يأتي بلو الدالة على الشرط، كقوله "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم".
وبالجملة: فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتيب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب. بل ترتيب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.
ومن تفقه في هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القدر جهلاً منه، وعجزاً وتفريطاً وإضاعة، فيكون توكله عجزاً وعجزه توكلاً. بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكن الإنسان أن يعيش إلا بذلك، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر.
والخلق كلهم ساهون في دفع هذا القدر بالقدر.
وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهذا وزان القدر المخوف في الدنيا وما يضاده سواء، فرب الدراين واحد، وحكمته واحده، لا يناقض بعضها بعضاً، ولا يبطل بعضها بعضاً، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، والله المستعان.
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه:
أحدهما: يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير، وتكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم، وما جربه في نفسه وغيره، وما سمعه في أخبار الأمم قديماً وحديثاً.
ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه. وفيه أسباب الخير والشر جميعاً مفصلة مبينة. ثم السنة، فإنها شقيقة القرآن، وهي الوحي الثاني. ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما. وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما، حتى كأنك تعاين ذلك عياناً. وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به، وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الله ينجز وعده لا محالة، فالتاريخ تفصيل لجزيئات ما عرفنا الله ورسوله به من الأسباب الكلية للخير والشر.
الأمر الثاني: أن يحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب. وهذا من أهم الأمور، فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ولا بد، ولكن تغالطه نفسه بالإتكال على عفو ربه ومغفرته تارة، وبالتسويف بالتوبة والإستغفار باللسان تارة، وبفعل المندوبات تارة، وبالعلم تارة، وبالإحتجاج بالقدر تارة، وبالإحتجاج بالأشباه والنظراء تارة، وبالإقتداء بالأكابر تارة أخرى.) انتهى .
قال : ( قوله تعالى " وكان الكافر على ربه ظهيراً " هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه وأن المؤمن دائماً مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه فهو مع الله على عدوه الداخل فيه والخارج عنه يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه . كما يكون خواص الملك معه على حرب أعدائه والبعيدون منه فارغون من ذلك ، غير مهتمين به والكافر مع شيطانه وهواه على ربه ، وعبارات السلف على هذا تدور. ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: عوناً للشيطان على ربه بالعداوة والشرك . وقال ليث بن مجاهد : يظاهر الشيطان على معصية الله : يعينه عليها . وقال زيد بن أسلم : ظهيراً أي موالياً . والمعنى أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به فيكون مع عدوه معيناً له على مساخط ربه .
فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه ولهذا صدر الآية بقوله " ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم " وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة فظاهروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه ، بخلاف وليه سبحانه فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه
وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله وبالله التوفيق .)
ومما قاله رحمه الله في هذا الشأن ـ في الجواب الكافي ص (10) :
(لكن يبقى عليه أمران ـ بهما تتم سعادته وفلاحه ـ :
أحدهما أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ،ويكون له بصيرة في ذلك بما شهده في العالم ،وما جربه في نفسه وغيره ،وما سمعه من أخبار الأمم ، قديماً وحديثاً ،ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن ؛ فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه ،وفيه أسباب الخير والشر جميعاً مفصلة مبينة ،ثم السنة فإنها شقيقة القرآن ،وهي الوحي الثاني ،ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما ،وهما يريانك الخير والشر ،وأسبابهما حتى كأنك تعاين ذلك عياناً ... الخ ).
قال ابن القيم ـ في "الحادي" (48) ـ
"وقد جعل الله سبحانه لكل مطلوبٍ مفتاحاً يفتح به ، فجعل مفتاح الصلاة : الطهور ، ...
ومفتاح الحج الإحرام ،...
ومفتاح حياة القلب تدبرالقرآن ،والتضرع بالأسحار وترك الذنوب ،...
وهذا باب عظيم من انفع أبواب العلم ،وهو معرفة مفاتيح الخير والشر ،لا يوفق لمعرفته ومراعاته إلا من عظم حظه وتوفيقه ،فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل خير وشر مفتاحا وبابا يدخل منه إليه كما جعل".
بارك الله فيكم على هذه الإلماعات من درر الإمام ابن القيم رحمه الله،
ووالله إن في تدبراته واستنباطاته لآيات القرآن ما يزيد الإيمان عند الإنسان بما يظهره من عظمة هذا القرآن، وبما يكشفه لنا من معاني تخفى على الكثير منا، وأتمنى من الإخوة المشرفين على هذا الملتقى المبارك لو أنهم يقومون بعمل صفحة خاصة لدرر الإمام ابن القيم رحمه الله، ففيها عظيم فائدة إن شاء الله تعالى.