اليقين الديني واليقين التجريبي

إنضم
18/06/2005
المشاركات
113
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الموضوع لأستاذنا الجليل وشيخنا الكبير العلامة: أد. محمد بلتاجي رحمه الله


اليقين الديني واليقين التجريبي

1 ـ هناك فارق كبير بين العلوم ذات الطابع التجريبي ـ التي يقوم اليقين فيها على التجربة المادية ـ والعلوم ذات الطابع الإنساني، التي يُعرض فيها لقضايا الدين والوحي، ذلك أن قضايا العلوم التجربية تمثل ـ عند الوصول إليها بصورة يقينية حقائق خارجية، لها وجود يمكن الرجوع إليه خارج الذات التي توصلت إليها، وخارج كل ذوات البشر، بحيث يكون من اليقيني أن تتكرر النتيجة التجريبية كلما توفرت شروطها، وظروفها، بصرف النظر عن المكونات الذاتية والوجدانية لمن يقوم بها ومن يشاهدها. فإذا كانت إضافة عنصر ما إلى عنصر آخر ـ في ظروف خاصة ـ تنتج تركيباً معيناً، فإنه كلما أضيف العنصرات ـ في نفس الظروف المطلوبة ـ فإن الإضافة لابدّ أن تنتهي إلى نفس النتيجة اليقينية التي سبق التوصل إليها، بحيث لا تتخلف النتيجة أبداً إلا إذا كان التخلف راجعاً إلى تغير شيء من شروط التجربة وظروفها. ومهما تكن عقيدة القائم بالتجربة، وجنسه، وسنّه، وتكوينه الوجداني والنفسي، فلابدّ أن تنتهي تجربته بنفس نتيجتها ما دام قد التزم بكافة شروطها وتيسرت له موادها.
وهنا يمكن الفصل حقاً بين (ذاتية القائم بالتجربة ومكوناته الشخصية الخاصة) وبين (موضوع هذه التجربة)، وذلك لأن التجربة، مرجعاً يقينياً خارجاً عن ذوات البشر جميعاً، غير متأثر بعقائدهم وصفاتهم الخاصة. وهذا المرجع اليقيني الخارجي الذي لا يتخلف هو (الطبيعة والوجود المادي). ومن هنا نستطيع تكرار التجربة دون حدود واثقين من أنها ـ عند توفر كل شروطها ـ لابدّ أن تنتهي إلى نفس النتيجة، أياً كان القائم بها.
أما المعارف ذات الطابع الإنساني المتداخل مع ذات الإنسان ووجوده الباطني والنفسي بصورة ما ـ فإن اليقين فيها مختلف عن اليقين الذي عرضنا له في التجريبيات الموضوعية، ذلك أن الأمر في الإنسانيات ـ وإن اعتمد على شواهد الطبيعة والوجود المادي الخارج عن الذات ـ فإن مرجع اليقين، والتوقف، والرفض فيه إلى الذات الإنسانية التي تُعرض عليها هذه الشواهد الخارجية، فتمزجها بمكوناتها الخاصة، تنظر إليها من خلال تجاربها الذاتية وخصوصياتها النفسية والوجدانية، وتنتهي فيها إلى نتيجة ما لا تستطيع نقلها إلى الآخرين، كما ينقل العالم التجريبي يقينه، ونتيجته في التجربة المادية إلى الآخرين، بوصفها وصفاً مادياً دقيقاً، وتكرارها أمامهم إلى أن يقوموا بها هم أنفسهم ليصلوا فيها إلى نفس يقينه، ذلك أن المعرفة البشرية التي تدخل خصوصيات الذات في تكوينها ترجع إلى أمور واعتبارات يستحيل نقلها والبرهنة عليها خارج الذات بصورة كاملة قاطعة، كما يتيسر ذلك في التجريبيات الموضوعية.
فللإيمان بصدق الدين مثلاً شواهد موضوعية خارج الذات، لكن وجهة النظر الخاصة إليها ويقين الإنسان فيها ترجع في الحقيقة إلى مكونات الذات الخاصة، بحيث تكون هذه الشواهد ملائمة بالنسبة لشخص ما لأن تنتهي به إلى يقين ثابت في أن الدين والوحي حق، وأن مقولاتهما من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ـ حق.
لكن هذه الشواهد المادية نفسها حينما تعرض على شخص آخر يختلف عن السابق في مكوناته الذاتية وتجاربه وظروفه ـ فإن هذه الشواهد يمكن أن تنتهي به إلى نقيض النتيجة السابقة من رفض دعوى صدق الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر وتفسير الوجود تفسيراً مادياً مطلقاً، بما في ذلك ظواهر (النبوة) و (الوحي) و (نشأة التدين) وكل القضايا العقدية والتاريخية المتصلة بذلك.
وحينئذ، هل يستطيع أي الرجلين أن ينقل يقينه الباطن إلى الآخر كما هو عنده تماماً؟ وهل يستطيع أن يبرهن ـ ببرهان خارج عن ذاتهما معاً، أي ذوات البشر جميعاً ـ على صحة معتقده بصورة تجريبية يقينية لا يملك الآخر معها إلا التسليم؟
لو أن هذا الأمر كان ممكناً حقاً لكان الناس منذ ظهرت قضية الدين قد انحازوا فيها جميعاً ـ وهم على يقين لا يتزعزع ـ إلى قول واحد لا سبيل لعاقل إلى مخالفته ورفضه ـ كما يحدث عادة في مجال النتائج اليقينية للعلم التجريبي بشتى فروعه ـ لأن صاحب اليقين الديني عندئذ كان سيدلل على يقينه الباطني بأدلة خارجة عن ذاته وذات معارضه وذوات البشر جميعاً، كما يدلل صاحب التجربة العلمية على صحة تجربته بدعوة الناس إلى تكرارها بشروطها وظروفها مرات عديدة ليروا أن نتيجتها لا تتخلف مرة واحدة إذا ما توفرت هذه الشروط والظروف، بصرف النظر عن شخص القائم بها ومكوناته النفسية والوجدانية الخاصة وجنسه وسنه وكافة خصوصياته.
لكن ذلك لم يحدث، ويبدو أنه لن يحدث، ما دام أمر الاعتقاد البشري ـ في المعرفة التي تتداخل فيها والذات البشرية على السابق ـ ليس مرجعه الأخير خارج الذات، بحيث يمكن تكرار التجربة فيه مرات لا حصر لها كلما توفرت ظروفها، وبحيث تنتهي التجربة في كل مرة ـ دون تخلف ـ إلى نفس النتيجة التي لا يملك العاقل إلا التسليم بها.
2 ـ ولا شك أن الأنبياء الذين عاينوا تجربة الوحي وعايشوها بأنفسهم كانوا أكثر المؤمنين بها يقيناً، ومع هذا لم يستطيع واحد منهم أن ينقل يقينه الباطن هذا إلى البشر جميعاً بحيث لا يتخلف واحد منهم عن التسليم بصحته، ولا إلى كل مَن لقيهم ولقوه من معاصري كل نبي.
وفي النصوص والتواريخ الدينية نماذج متعددة لم يستطيع فيها النبي أن ينقل شيئاً من يقينه إلى أفراد من أقرب الناس إليه بينما يستطيع أصغر الباحثين التجريبيين ـ حين يصل إلى نتيجة يقينية ـ أن ينقل يقينه المكتشف فيها إلى الناس جميعاً، حيث يرجع فيها إلى أمور خارجة عن ذوات البشر، بحيث تتكرر النتيجة كلما توفرت نفس ظروف اكتشافها، فلا يكون أمام العاقل إلا التسليم بصحتها.
وقد يثير شيئاً من العجب لدى بعض الناس أن يعرفوا أن بعض آيات القرآن الكريم قد عرضت لتقرير هذه الحقيقة فيما يختص بأثر النصوص الدينية ـ بما تتضمنه من دلائل وشواهد للإيمان ـ في قلوب الناس وعقولهم، حيث تبين بصورة صريحة أن الآيات التي تزيد الإيمان في قلوب بعض الناس وتهديهم إلى اليقين هي نفسها التي لا تزيد بعضهم الآخر إلا جحوداً واصراراً على الرفض، فهي تحدث تأثيرين متناقضين تجاهها وتجاه قضية (الدين) بعامة، وذلك تبعاً لاختلاف الخصوصية الذاتية لدى نوعين من البشر، يقول تعالى: (وتنزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) الإسراء: 82.
3 ـ وقد يأتي إلى الذهن في هذا المجال موضوع (المعجزات الدينية) باعتبارها أمراً يصدر عن الأنبياء خارقاً للعادات والقوانين الطبيعية، بحيث يكون من شأنها أن تحمل مشاهديها ـ وكل مَن يصلهم خبرها اليقيني ـ على التسليم بصدورها عن قوة أعلى من البشر، فما يتضمن التسليم بقضية الدين الأساسية، وهي أن الوحي من الله سبحانه وتعالى ولا يمكن أن يكون صادراً عن ذات النبي أو غيره من البشر.
وقد يقال بناء على ذلك إن المعجزة في هذا تؤدي ـ من حيث أثرها ـ نفس دور التجربة العلمية التي سبق أن أشرنا إليها، لأن كلا منهما تؤدي ضرورة إلى تسليم المشاهدين بها ويقينهم فيها، وإن كانت التجربة العلمية كشفاً لقانون مطرد من قوانين الطبيعة، يكشف العقل عنه فلا تتخلف نتائجه إذا توفرت شروطها، أما المعجزة الدينية فهي في حقيقتها كسر للقوانين المطردة في الطبيعة لا يستطيع الإنسان له تفسيراً إلا بالتسليم بصدوره عما وراء هذه الطبيعة حيث يستحيل تفسيرها في نطاقها.
لكن استقراء تواريخ النبوات يدلنا في وضوح على أن (المعجزة الدينية) لم تقم في تاريخ النبوة بنفس الدور الذي قامت ـ وتقوم به ـ (التجربة العلمية) في تاريخ العلم والتطور التجريبي المادي. وقد بدا الفارق بينهما أكثر وضوحاً في القرون الأخيرة على وجه الخصوص، منذ أخذ الناس يتقبلون نتائج العلوم التجريبية باليقين والتصديق، متى توفرت لهم الدلائل المادية على صدفها، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر كان يصدهم من قبل عن هذا التصديق. ولست تجد الآن إنساناً عاقلاً ينازع في أية نتيجة أو قانون علمي ثبتت صحته بطريق المنهج التجريبي في الطبيعة وموادها.
فالاكتشاف في مجال التجريبيات يحمل طابع الإلزام لجميع البشر، لأن دلائل اليقين فيه والاستدلال عليه ترجع في النهاية ـ كما سبق ـ إلى الوجود المادي الخارج عن الذات البشرية في خصوصها وعمومها.
فمتى توصل العلماء التجريبيون إلى اكتشاف قانون ما من قوانين الوجود، في الطبيعة، أو الكيمياء، أو الطب، أو العلوم الرياضية، أو غيرها من مختلف العلوم التي تعتمد قوانينها أساساً على التجربة الموضوعية ـ فلن تجد إنساناً عاقلاً يحكِّم (ذوقه الخاص) أو (مكونات وجدانه الباطني) أو غيرهما من خصوصيات وجوده الذاتي، في قبوله أو رفضه، لأن مرجع اليقين فيه خارج الذات. وحتى (الفرض العلمي) الذي لا يرقى إلى مستوى القانون اليقيني، فإن موقف العلماء من قبوله أو رفضه أو التوقف فيه لا يرجع إلى شيء من خصوصيات الذات (أو الذوق الباطني) أو (مكونات وخصائص الوجدان)، إنما يرجع إلى اعتبارات وحقائق مادية تدركها عقول العلماء في مواد الطبيعة وقوانينها الأخرى التي حظيت منهم جميعاً بالقبول.
أما فيما يتصل بأثر (المعجزة الدينية) في تاريخ النبوات فإن الأمر يختلف عن ذلك، حيث لم تؤد معجزات الأنبياء إلى تصديق معاصريهم جميعاً، بل لم تؤد إلى إيمان كل مَن عاينوا المعجزة بأنفسهم.
وفيما يتصل بموسى وأخيه هارون (ع)، فإننا نجد في العهد القديم أنه بعد أن تحققت معجزة العصا أمام فرعون والمصريين، اشتدّ قلب فرعون فلم يسمع لهما، ولم يؤمن بهما رغم حدوث المعجزة أمامه، وكلم الرب موسى وهارون قائلاً: إذا كلمكما فرعون قائلاً هاتيا عجيبة تقول لهارون: خذ عصاك واطرحها أمام فرعون فنصير ثعباناً. فدخل موسى وهارون إلى فرعون وفعلا هكذا كما أمر الرب. طرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعباناً. فدعا فرعون أيضاً الحكماء والسحرة. ففعل عرافو مصر أيضاً بسحرهم كذلك. طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصى ثعابين. ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم. فاشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب» (سفر الخروج، الاصحاح السابع، 8 ـ 13).
وفيما يتصل بالمسيح (ع) فإننا نجد في إنجيل يوحنا عن إحيائه لليعازر أن المسيح (ع) جاء إلى قبره «وكان مغارة وقد وضع عليه حجر، قال يسوع: ارفعوا الحجر. قالت له مرثا أخت الميت: يا سيد قد أنتن لأن له أربعة أيام. قال لها يسوع: ألم أقل لك إن آمنت ترين بحد الله. فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعاً ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم: لعازر هلم خارجاً. فخرج الميت ويداه ورجلاً مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم يسوع: حلوه ودعوه يذهب.
فكثيرون من اليهود الذين جاؤوا إلى مريم ونظروا ما فعل يسوع آمنوا به وأما قوم منهم فمضوا إلى الفريسيين وقالوا لهم عما فعل يسوع. فجمع رؤوساء الكهنة والفريسيون تجمعاً وقالوا: ماذا نصنع فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا» (يوحنا، الاصحاح الحادي عشر، 29 ـ 40).
وبعد أن أبرأ المسيح (ع) الأكمه فجعله يبصر، حدث أيضاً الشقاق بين اليهود بسبب ذلك، وانقسم رأيهم فيه بين مصدق لنبوته ومكذب لها على رغم المعجزة (انظر: يوحنا، الاصحاح التاسع).
فهانحن نرى أن المشاهدين الذين كان لهم دين سماوي سابق يعرف المعجزة الدينية قد انقسموا أمام المعجزات الخارقة للعادات الطبيعية المادية التي حدثت على يد المسيح (ع)، فبعضهم آمن، ولم يؤمن بعضهم الآخر.
وقد حدث مثل هذا أيضاً بالنسبة لرسولنا محمد (ص)، فلم يؤمن به كل مَن وصلته أنباء معجزاته أو عاصرها.
ومما لا شك فيه أن (القرآن الكريم) أعظم معجزاته وأبقاها على مر الزمن ومع هذا أن بعض آياته تذكر بوضوح أن قارئي القرآن وسامعيه لا يستوون من حيث أثره فيهم، فمنهم مَن يؤمن به ويستقر في قلبه أنه اليقين والحق وأن فيه شفاء القلوب مما تجد من هواجس الشك والريبة، ومنهم مَن لا يزيده إلا خساراً وكفراناً وجحوداً.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أن خرق نواميس الطبيعة المادية بالمعجزات الإلهية ـ مهما بلغت في الإعجاز ـ يمكن أن يؤدي ببعض الناس إلى الإصرار على الجحود والكفر ومحاولة تفسير المعجزة بصورة تبعدهم عن الالتزام بالإيمان بصدق الدين والوحي. يقول تعالى: (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعجرون. لقالوا: إنما سكِّرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون) الحجر: 14 ـ 25. وذلك أن الأمر في الإيمان يرجع إلى اعتبارات باطنة في قلب الانسان من الهداية والضلال، تمتزج فيها المشيئة الإلهية بالاختيار البشري في صورة لا يتوقف الإيمان فيها على مجرد الشواهد المادية الخارجية التي تحدث في الطبيعة المادية كما هو الحال في العلم المادي التجريبي وقوانينه الملزمة للناس جميعاً بيقينها، كرجوع أمر اليقين فيها إلى أمور التجربة المادية وحدها دون أن تتداخل فيها الاعتبارات والخصوصيات الذاتية.
يقول الله تعالى في ذلك عن بعض الكافرين: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، قل إنما الآيات عند الله، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أولى مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) الأنعام: 109 ـ 110، ثم يفصل ذلك بقوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى، وحشرنا لعيهم كل شيء قبلا، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، ولكن أكثرهم يجهلون) الأنعام: 111.
وقد أحالت هذه الآية أمر الإيمان إلى مشيئة الله تعالى، هذه المشيئة التي تتداخل في قلب الإنسان من حيث الهداية والإضلال، فتهدي إلى سبل اليقين قوماً اختاروا الإيمان واتجهوا إليه، كما تضل عن هذه السبل قوماً آخرين اختاروا الكفر واتجهت إليه قلوبهم وأعمالهم، كما قال تعالى في آيات أخرى: (يضل به كثيراً، ويهدي به كثيراً، وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) البقرة: 26 ـ 27.
وكما قال تعالى عن الاختيار البشري الذي تيسر له المشيئة الإلهية. السبل إلى ما اتجه إليه اختياره (والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. وما خلق الذكر والأنثى. إن سعيكم لشتى. فأما مَن أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره اليسرى. وأما مَن بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى. وما يُغنى عنه ماله إذا تردى. إن علينا الهدى. وإن لنا للآخرة والأولى) سورة الليل: 1 ـ 3.
4 ـ هل هذا الاختلاف بين طبيعة العلم التجريبي في الماديات، والعلم في المجالات التي تتداخل فيها خصوصيات الذات البشرية بالتقويم والنظر والتوجيه ـ يتضمن نوعان من الغض من قيمة ذلك العلم الذي لا يمكن البرهنة الخارجية على اليقين فيه بصورة موضوعية خالصة لا تتدخل فيها الذات ولا يملك العقل إلا التسليم أمامها؟
قد يقول بعض الناس ذلك، وقد يبنون عليه أنه ينبغي قصر مفهوم كلمة (العلم) على النوع الذي يمكن البرهنة اليقينية عليه خارج الذات كلما توفرت شروطها المادية. وقد يدعون ـ وقد حدث بالفعل ـ إلى طرح النوع الآخر من دائرة (العلم البشري). وهم ينتهون من ذلك كله إلى الدعوة إلى تفسير الوجود تفسيراً مادياً لا يؤمنون فيه إلا بالمعرفة التجريبية التي يكون مرجعها النهائي خارج الذات البشرية وخصائصها ومكوناتها النفسية والعقلية والوجدانية.
وقد يرد عليهم بأن الحياة البشرية لن يتيسر لها أبداً طرح كل ما تتداخل الذات في تقويمه، وما تكون الخصائص والمكونات الوجدانية والنفسية دخل كبير في قبوله ورفضه، ذلك أن تقويم الإنتاج الأدبي والفني، أو النظرة الخاصة إلى القيم الجمالية في الطبيعة أو في الفن، أمور لابدّ أن يتدخل فيها (الذوق الخاص) و (خصوصية التكوين النفسي والوجداني)، مهما حاول النقاد أن يقعدوا لها قواعد موضوعية مضبطة خارج الذات.
فبالرغم من أنه يمكن فعلاً وضع قواعد موضوعية منهجية لتقويم الأعمال الأدبية والفنية، ومقاييس للجمال والجودة فيها، وفي الطبيعة أيضاً، بحيث يتفق عليها جمهور الناس ـ إلا أنه من المقطوع به أن يظل هناك في مجال تقويم مثل هذه الأعمال ـ إلى جوار هذه القواعد المنضبطة الخارجة عن خصوصيات الذات ـ جانب ينبع مباشرة من المكونات النفسية والعقلية والوجدانية الخاصة لذات الإنسان الذي يطالع العمل الأدبي أو الفني ويقومه. أعني أنه سيظل هناك جانب ينبع عن (الذوق الخاص) وخصوصية التكوين النفسي والوجداني، وهو جانب من العسير جداً على عقل الناقد أن يرصده، ويخلص إلى مصادره الأساسية في نفسه وخبراته ومكوناته الشعورية واللاشعورية، بحيث يستطيع بعد ذلك أن يعبر عنه في وضوح. وحتى إذا فرضنا أن ذلك أمر ميسور له، فإن نقل اليقين، أو النفور، الصادر عنه، إلى الناس أمر عسير جداً، بل نظن أنه غير مستطاع بصورة كاملة، لما في ذلك الجانب من خصوصية شديدة.
وأيضاً فإن الحجة التي يستند إليها القائلون بوجوب قصر مجال (العلم البشري) على ما يمكن البرهنة اليقينية عليه تجريبياً خارج الذات ـ لا تكفي الوصول إلى هذه النتيجة، لأن عدم استطاعتنا البرهنة على قضايا الاعتقاد بصورة تجريبية مباشرة ـ كتلك التي تجري في علوم الطبيعة أو الكيمياء مثلاً ـ لا يلزم منه بالضرورة أن مضمون هذه القضايا الاعتقادية باطل، لأن الحياة المادية نفسها ـ وفي نطاق التجريبيات التي يتعلقون بها ـ أمور كثيرة جداً ينحصر مجال العلم البشري بها ـ حتى الآن على الأقل ـ في فروض ونظريات لا يستطيع أصحابها البرهنة اليقينية عليها بصورة تجريبية قاطعة حاسمة كتلك التي يطلبونها وينادون باشتراطها في كل ما يصح إطلاق (العلم) عليه عندهم، ذلك أن مثل هذه البرهنة اليقينية على هذه الفروض لم تتح لأصحابها الدين يتقدمون بها كفروض واحتمالات فحسب.
ولا يكاد يخلو مجال من مجالات المعرفة البشرية من هذه الأمور التي يقوم العلم البشري فيها على مجرد (الافتراض)، حتى يصل الافتراض إلى أكبر القضايا وأخطرها مثل (الأصل المادي للكون): كيف تكوّن؟ وممّ؟ وما المراحل التي مر بها؟ وكتصوير لشيء من الأسئلة التي لا تجد لها في دائرة العلم البشري حتى الآن أجوبة يقينية أو أدلة تجريبية قاطعة نجد العالم ب. ي. ليفين بعد أن تناول بعض النظريات في (تركيب المجموعة الشمسية) و (تكوين الكواكب) و (عمر الأرض) وما يتصل بذلك من قضايا.
يقول في خاتمة دراسته: «وما زال هناك الكثير الذي يجب إنجازه لنحصل على صورة كاملة عن أصل المجموعة الشمسية.
فبعض المشاكل لم تدرس بالمرة، وبعضها الآخر يجب أن يتم بعضه بتفصيل أكبر. فمثلاً، لماذا لا تكاد كتلة تابع الأرض (القمر) Moon تبلغ إلا 82 مرة أقل من كتلة الأرض نفسها، بينما للكواكب الأخرى نوابع ذوات كتل أصغر آلاف وملايين المرات من كواكبها؟ وكيف تشكل سطح القمر؟ ولماذا ليس للمريخ جبال عالية أو سلاسل جبال؟ وما هو أصل هذا الحشد الهائل من المذنبات التي أنت منها المذنبات التي نراها اليوم؟ وما هو أصل الغضاريف Chondrukes هذه الكرات الدقيقة التي هي إحدى المكونات الهامة لمعظم الشهب؟.
كل هذه الأسئلة، وعديد غيرها، إما ينتظر الجواب، وإما أن الإجابة عليه ما زالت عامة ذات طبيعة تقريبية» (أصل الأرض والكواكب).
فالقول بأن مجال (العلم التجريبي) كله، وما ينبني عليه من قضايا أساسية، يمكن البرهنة عليه تجريبياً بصورة قاطعة ينتفي فيها (التساؤل) أو (الفرض) أو (عدم اليقين) ـ قول يتضمن كثيراً من الخداع والبطلان. ومن ثم ليس لأحد أن يحاول قصر (المعرفة البشرية) على العلم التجريبي، وعد كل ما عداه خرافة أو أسطورة، بحجة أنه غير مستوف لشروط اليقين التجريبي القاطع، لأنه يبدو أيضاً أنه مكتوب على البشر أن تظل أمامهم دائماً ـ مهما تقدموا في شتى مجالات المعرفة ـ أمور لا يتيسر لهم فيها اليقين القاطع الذي يطلبونه، ويتحقق لهم فعلاً في بعض القضايا التجريبية.
فإذا نادى أحد بوجوب طرح كل ما لا يمكن البرهنة المادية عليه تجريبياً ـ وبصورة مباشرة متكررة ـ من مجال المعرفة والاعتقاد البشري، فإنه يجاب عليه بأن ذلك نفسه يؤدي إلى طرح كثير من القضايا التي تدخل في صميم بحث العلم التجريبي، والتي لا يستطاع ـ حتى الآن على الأقل ـ البرهنة اليقينية عليها تجريبياً، أو حتى الوصول فيها إلى ظن راجح بأدلة.
فإن قيل: إن العلم التجريبي سوف يصل في وقت ما ـ بطريق البحث المتتابع جيلاً بعد جيل ـ إلى اليقين العلمي في هذه القضايا.
فإنه يقال أيضاً: إن وصول البشرية إلى إجابات يقينية عن كل شيء في الوجود المادي ـ دون أي استثناء ـ إنما هو، حتى الآن، مجرد (فرض) تجد له هو الآخر معارضة قوية فيما يذكره كثير من العلماء التجريبيين من أن حل كثير من مشكلات الوجود المادي بإجابات مقنعة، كثيراً ما يقودنا إلى أسئلة أخرى لا تجد جواباً، فإذا بحثنا عن إجابة لها، ووصلنا إلى حل ألغاز بعضها، فإن هذا الحل نفسه كثيراً ما يقودنا هو الآخر إلى تساؤلات أخرى تتطلب الجواب ... وهكذا، حتى يدرك العقل البشري أن محاولاته المستمرة لتعليل الظواهر المادية، وتعليل العلة، وعلة العلة، أمر لن يقوده في النهاية إلى العلم الشامل الكامل الذي ينكشف معه كل شيء بإطلاق دونما أي خفاء، لأن أسرار الوجود المادي وعلله تبدو أكبر بكثير جداً مما يمكن العقل البشري أن يحيط به بشمول.
وحتى إن يحقق ذلك الفرض، وأصبحت البشرية عالمة علماً شاملاً محيطاً بكل جوانب الوجود المادي من أصغر ذرة في الأرض إلى أبعد نجم وكوكب من الكون، فإن ذلك كله لا يكفي ـ في ذاته ـ للبرهنة على بطلان قضية الدين ومضمونها، لا بعد أن يصل البشر إلى السيطرة الكاملة على كل قوانين الخلق والوجود المادي، بحيث يصبح في مقدورهم خلق الحياة من العدم، والإحاطة القاطعة بكنه (الروح)، والقضاء على ظاهرة (الموت)، وغير ذلك من الأمور التي قطعت النصوص الدينية بعجز البشر المؤبد عن الوصول إليها أو الإحاطة بأسرارها.
أما قبل ذلك، فإن الدعوة إلى طرح قضايا الاعتقاد الديني من مجال (العلم البشري) بحجة أنه لا يمكن البرهنة على صحتها بصورة تجريبية مادية مباشرة قابلة للتكرار، دعوة تتضمن شيئاً كثيراً من ترتيب النتائج على مقدمات لا تؤدي إليها لما سبق أن عرضنا له ـ ثم هي أيضاً دعوة تخالف ـ في نظري ـ الأسلوب العلمي المتبع في العلوم التجريبية ذاتها، حيث لا يُطرح احتمال ما من ماجل البحث ـ بصورة نهائية ـ إلا بعد أن تقوم أدلة قاطعة على وجوب طرحه لأنه لا احتمال لليقين فيه. ومثل هذه الأدلة القاطعة لم تقم أبداً بالنسبة لبطلان قضايا الدين ومضامينه على وجه العموم، بل إن النقيض هو الذي يحدث دائماً بالنسبة للباحث المحايد حيث تقوم أدلة بالغة القوة على صدق قضية الدين.
5 ـ لكن، ألا يقودنا ذلك كله إلى تساؤل هام:
ولِمَ لَمْ تكن معجزات الدين ونصوصه وبراهينه، بالنسبة لكل من تعرض عليه، في قطعية التجربة المادية اليقينية التي سبق أن عرضنا لها، بحيث لا يملك الإنسان أمامها إلا التسليم بصحتها، دون احتمال منه لرفض أو رد وبحيث يمكن تكرر البرهنة المادية عليها ـ عند توفر شروطها ـ أمام كل مَن تعرض عليه؟
إن القرآن الكريم يعرض وجهة الدين في الإجابة عن هذا التساؤل الهام حين يقول الله تعالى لرسوله الذي كان الحزن يملأ قلبه لعدم إيمان الناس جميعاً بصدق القرآن: (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) الشعراء: 3 ـ 4. يعني ـ كما يقول ابن كثير وغيره ـ : لو شئنا لأنزلنا آية تضطر الخلق جميعاً إلى الإيمان بها قهراً، بحيث لا يكون أمام واحد منهم أدنى احتمال لتكذيب أو رفض، ولكنا لا نفعل ذلك، لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري، الذي يعطى فيه شيء من حرية الإرادة والاختيار الحقيقي الذي سيحاسب الإنسان على أساسه.
ويعرض القرآن الكريم لخلق الكون والإنسان فيقول: (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون. يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون. ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم. الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) السجدة: 4 ـ 9. ثم يرسل الله إليهم رسله بالكتب، والبينات، والمعجزات، فيختار كثير منهم الكفر والجحود لأنهم لا يصدقون بإمكان بعث الأجساد بعد موتها وانحلالها واختلاطها بالأرض (وقالوا: أإذا ضللنا في الأرض أننا لي خلق جديد؟ بل هم بلقاء ربهم كافرون) السجدة: 10. ثم يصور الله الموت وما بعده بالنسبة لهم فيقول: (قل: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم: ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون) السجدة: 11 ـ 12. فعندئذ فحسب يستيقن الذي جحدوا في الدنيا بصحة ما أتى به إليهم الدين. فيطالبون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا، وذلك لن يكون. ويعقب الله سبحانه وتعالى على ذلك كله بقوله: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) السجدة: 13. أي لو شئنا لأجبرنا الخلق على الهداية، لكنا أردنا أن يكون منهم اختيار، وعلمنا أن منهم مَن يختار الكفر ومنهم مَن يختار الإيمان.
فموجز التفسير الديني في هذه القضية ـ كما يستخلص من نصوص القرآن الكريم ـ أن الخالق سبحانه وتعالى لو شاء لفطر الخلق جميعاً على طبيعة مؤمنة لا تتأثر بدواعي الجحود وليس معها احتمال لكفر، ولو شاء لجعل معجزات الأنبياء ونصوص الدين في صورة تحمل ـ بذاتها ـ الالزام واليقين إلى الناس جميعاً، بحيث تخضع أعناق الخلق لها، فلا يملك واد منهم أمامها تكذيباً أو رفضاً. لكنه لو فعل ذلك لكان معناه (جرّ الخلق جميعاً على الإيمان) مما تنتفي معه عند كل منهم أية خصوصية للنظر والاختيار بين الإيمان والكفر وبهذا الجبر الشامل للخلق جميعاً تُلغي الخصوصيات الفردية، ومكونات الذات الخاصة التي هي مناط الحرية والاختيار. وإذا آمن الناس جميعاً بهذا الإلزام الجبري فإن حكمة الله من خلق الكون وخلافة الإنسان في الأرض لم تكن لتتحقق لأنه (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) المُلك: 2. وهذا الابتلاء والتمايز في العمل يقتضي قسطاً من الحرية وخصوصية الذات في النظر والاخيار، مما يتناقض معه جبر الخلق جميعاً على الإيمان بحكم طبيعة خلقهم، أو بآية تنزل عليهم من السماء متضمنة إلزام الخلق جميعاً على الإيمان الجبري عبر عنه بخضوع الأعناق.
فالحاصل أن الله سبحانه وتعالى لا يُعصى ولا يُكفر به قسراً، لأنه لو شاء لما كفر به مخلوق، إنما اقتضت مشيئته في الخلق أن يعطي لكل منهم شيئاً من خصوصية الذات في النظر والاختيار حتى يكون للحساب معنى ومجال، ومن هنا لم يضمن آياته ـ في ذاتها ـ معنى الالزام القسري لكل مَن تعرض عليه دون إفساح لخصوصية ذاته في النظر والاختيار.
ويضاف إلى ذلك أيضاً أن آيات القرآن الكريم تبين ـ في آيات متعددة ـ أنه رغم إفساح المجال لخصوصية كل ذات في النظر في قضية الدين ـ فإن آيات الله ـ سواء في الطبيعة المادية أو في النصوص الدينية ـ وإن لم تتضمن بذاتها ضرورة معنى الإلزام للخلق، إلا أنها آيات محكمة، من شأنها أن الإنسان إذا جرد ذاته من هوى النفس الذي يميل إلى إسقاط التكاليف أو التخفف منها، واتجه إلى البحث عن الحقيقة في ذاتها، مهما وافقت هوى النفس أو خالفته، فإنه لابدّ أن يفتي ـ بنظره الخاص وحريته واختياره ـ إلى الإيمان بصدق الدين والوحي، لأن الله قد بثَّ في الكون ـ وفي نفس الانسان ذاتها ـ ما يهديه إلى الحق واليقين إن طلبه بروح خالصة غير ملتبسة بهوى النفس.
فنظرية القرآن في هذا المجال أن الله تعالى قد أنصف الإنسان حين أعطاه شيئاً من حريته وخصوصية ذاته في النظر والاختيار حسب تكوينه الخاص، ثم أنصفه حين بث في نفسه وفي كل مجالات الكون المخلوق دلائل واضحة على صدق الدين والوحي (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت: 53. فمن يتجه إليها بضمير مستقيم يوجهه الله إلى اليقين، أما من يتجه ابتداء إلى طريق الجحود والإنكار، أو من لم يُعن أصلاً بقضية الدين واستغرقته شهواته ومطالبه في الحياة الدنيا واكتفى بها، فسوف يجحد الطريق ميسراً أيضاً للمضي فيما اختاره، ومن ثم ينبني على ذلك الحساب.
6 ـ وبعد، فسوف تظل قضايا الدين والوحي والقرآن والغيب مجالاً للنظر والبحث والدراسة والجدل، وسوف يظل موقف الناس منها ـ كما كان دائماً ـ مختلفاً بين التصديق والتكذيب، واليقين والجحود، والتوقف العاجز عن أي منهما، والانصراف عن الموضوع أصلاً بالاستغراق في مطالب الحياة الدنيا المادية والصراع على وسائلها لكن الأمر الذي لا ريب فيه أنها ستظل قضية حية ماثلة في ضمائر الخلق على نحو ما، أما المؤمنون فبحكم إيمانهم بها ومعايشتهم المتجددة لها، وأما غيرهم فلأن واحداً من الناس، سواء كان جاحداً، أم متوقفاً أم منصرفاً جاحداً، لن يستطيع أبداً ـ وهذا ما يبدو لنا حتى الآن ـ أن يجد أدلة يقينية على كذب قضية الدين والوحي. وحتى بالنسبة لأولئك الذين يحاولون أن يتجاهلوها وينصرفوا عها بصورة نهائية، فسوف يظل لهذه القضية ـ على الرغم من إراداتهم الواعية ـ وجود كامن في غور من أعماق وجودهم. وربما كان ذلك الوجود الكامن أثراً للميثاق الأزلي الذي واثق الله الخلق جميعاً به قبل أن يوجدوا في الحياة الدنيا، كما يقول تعالى: (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172. وكثيراً ما تحدثنا وقائع الحياة عن أفراد استغرقتهم حياتهم المادية، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وحصروا وجودهم وتفكيرهم وإرادتهم فيها، وظنوا وقتاً ما أن قضية (الدين) لم تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة لهم، ثم فجأهم بعد ذلك اكتشافهم ـ بصورة أو بأخرى ـ . ذلك الوجدو الكامن الذي لم يمت قط رغم استتاره الطويل العميق في غور مجهول من أعماق النفس، سوءا ملهم ذلك الاكتشاف المفاجئ على طر القضية على مجال التفكير والنظر مرة أخرى، أو عاد إلى كونه القديم وغلبته الإرادة الواعية المتجهة بكليتها إلى الحياة الدنيا وحدها.
وغاية ما يتبعه غير المؤمن بالدين إنما هو الشك في الصدق، القائم على ظنون وتفسيرات الكون والحياة تخالف التفسير الديني، فهو يفسر نشأة الدين مثلاً بخوف الإنسان البدائي من ظواهر الطبيعة التي لم يفهمها فهماً علمياً صحيحاً، ولم يرجعها إلى أسبابها المادية الحقيقية، بسبب عدم توفر وسائل المعرفة التجريبية له عندئذ، مما حمله على الاعتقاد في أن هناك كائنات أعلى من الإنسان متحكمة فيه، وفي هذه الظواهر التي هالته، ومن ثم يسعى إلى إرضائها بالقرابين والصلوات والأدعية، التي تتطور بدورها ـ وبتدخل عوامل كثيرة ـ حتى تنتهي إلى الأديان الأخيرة في تاريخ البشرية.
وهناك نظرية أخرى تقول إن نشأة الدين كانت رد فعل ضد هذا الخوف من ظواهر الطبيعة. كما يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون Henri Bergson (1859 ـ 1941م):
«وثمة نظرية أصبت الآن قديمة، تقول إن الدين قد نشأ عن الخوف الذي تبعثه فينا الطبيعة في مثل هذه الحالات: فالخوف أول مَن أوجد الآلهة في العالم. ومن الشطط في الواقع أن رفض بعضهم هذه النظرية رفضاً تاماً. فمما لا شك فيه أن انفعال الإنسان بإزاء الطبيعة أصل من أصول الأديان. ولكن نعود فنقول: إن الدين ليس خوفاً بقدر ما هو رد فعل ضد الخوف، ولم يصبح إيماناً بآلهة فوراً» ومن ثم يقول إنه وجد أن أصل المعتقدات التي درسها «إنما هو رد فعل دفاعي تقوم به الطبيعة محاربة لتثبيط مصدره العقل. ورد الفعل هذا يثير في العقل ذاته صوراً وآراء تُفني التصور المثبط، أو تمنعه من أن يصير إلى فعل، فنرى كائنات تنبثق، وليس من الضروري أن تكون شخصيات تامة، بل يكفي أن تكون لها نيات، بل أن تكون هي نيات.
فالاعتقاد إذن يعني في جوهره الثقة، واصله الأول ليس هو الخوف، بل الأمان من الخوف».
لكن ذلك كله وما يماثله لا يعدو في الحقيقة باب الظن الذي لا يستطاع البرهنة عليه بصورة يقينية مباشرة، كتلك التي يطلبها الباحث في العلم التجريبي، إنما هي ظنون وتفسيرات تعتمد ـ بصورة أساسية ـ على التجميع العقلي المجرد لبعض الظواهر المرصودة، ومحاولة سلكها في إطار عقلي منطقي موحد، لكن لا سبيل إلى البرهنة اليقينية عليه بصورة حاسمة. وإن لم يمنع ذلك بالطبع من حماس بعض الناس له واعتقادهم الذاتي في صحته.
ومن ثم يبقى التفسير الديني للكون ـ كما هو في الكتب المقدمة عامة، وفي القرآن بصفة خاصة ـ قائماً لم يُنقض لأن الاحتمال العقلي المجرد ـ بصرف النظر حتى عن الدواعي القوية للإيمان ـ يتسع له، كما يتسع لتلك الظنون والتفسيرات المناقضة له، ومن ثم تبقى القضية قائمة وحية وماثلة ـ كما كانت دائماً على مر العصور ـ ثم هي محتاجة إلى البحث والدراسة والحوار بين الآراء والتفسيرات المتعارضة، كما كانت أيضاً على مر العصور.



-----------------------------
* مدخل الى الدراسات القرانية
 
عودة
أعلى