الوقف على لفظ الجلالة في قوله :( وما يعلم تأويله إلا الله )هو الصحيح لوجوه سبعة

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
جاء في كتاب ذم التأويل لابن قدامة المقدسي :
(فقوله تعالى :(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ) [آل عمران:7] . فذم مبتغي تأويل المتشابه ، وقرنه بمبتغي الفتنة في الذم ثم أخبر أنه لا يعلم تأويله غير الله تعالى ، فإن الوقف الصحيح عند أكثر أهل العلم على قوله :(إلا الله ) ولا يصح قول من زعم أن الراسخين يعلمون تأويله لوجوه :

[color=0033CC]أحدها :[/color] أن الله ذم مبتغي التأويل ، ولو كان معلوما للراسخين لكان مبتغيه ممدوحا غير مذموم .
[color=0033CC]الثاني :[/color] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فهم الذين عنى الله فاحذروهم ) . يعني كل من اتبع المتشابه فهو من الذين في قلوبهم زيغ ، فلو علمه الراسخون لكانوا باتباعه مذمومين زائغين ، والآية تدل على مدحهم ، والتفريق بينهم وبين الذين في قلوبهم زيغ ، وهذا تناقض .
[color=0033CC]الثالث :[/color] أن الآية تدل على أن الناس قسمان ، لأنه قال : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ، وأما لتفصيل الجمل ، فهي دالة على تفصيل فصلين أحدهما : الزائغون المتبعون للمتشابه ، والثاني : الراسخون في العلم . ويجب أن يكون كل قسم مخالفا للآخر فيما وصف به ، فيلزم حينئذ أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه مفوضين إلى الله تعالى بقولهم : آمنا به كل من عند ربنا ، تاركين لابتغاء تأويله . وعلى قولنا يستقيم هذا المعنى ، ومن عطف الراسخين في العلم أخل بهذا المعنى ، ولم يجعل الراسخين قسما آخر ، ولا مخالفين للقسم المذموم فيما وصفوا به فلا يصح .
[color=0033CC]الرابع :[/color] أنه لو أراد العطف لقال : ويقولون ( بالواو ) لأن التقدير : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون .
[color=0033CC]الخامس :[/color] أن قولهم { آمنا به كل من عند ربنا } كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه لعلمهم بأنه من عند ربهم ، كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده .
[color=0033CC]السادس :[/color] أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا رأوا من يتبع المتشابه ، ويسأل عنه ، استدلوا على أنه من أهل الزيغ . ولذلك عد عمر صبيغا من الزائغين ، حتى استحل ضربه وحبسه ، وأمر الناس بمجانبته ، ثم أقرأ صبيغ بعد بصدق عمر في فراسته فتاب وأقلع وانتفع ، وعصم بذلك من الخروج مع الخوارج ، ولو كان معلوما للراسخين لم يجز ذلك .
[color=0033CC]السابع :[/color] أنه لو كان معلوما للراسخين لوجب أن لا يعلمه غيرهم ، لأن الله تعالى نفى علمه عن غيرهم ، فلا يجوز حينئذ أن يتناول إلا من ثبت أنه من الراسخين ، ويحرم التأويل على العامة كلهم والمتعلمين الذين لم ينتهوا إلى درجة الرسوخ ، والخصم في هذا يجوز التأويل لكل أحد ، فقد خالف النص على كل تقدير .

فثبت بما ذكرناه من الوجوه : أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ، وأن متبعه من أهل الزيغ ، وأنه محرم على كل أحد .)
انتهى

أرجو من الإخوة إبداء رأيهم حول هذا الكلام وخاصة شيخنا مساعد الطيار ، فقد سبق أن سمعت منه كلامأ حول هذا الوقف .
 
هذه نقولات احببت اثراء الموضوع بها
وقد نقل الشنقيطي كلام ابن قدامة في الأضواء

والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو يقولون لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبي ويقول الراسخون في العلم كما ذكرناه عن بن عباس أنه كان يقرؤه (( الطبري 3 / 182 )
************
وقوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله ) اختلف القراء في الوقف ها هنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن بن عباس رضي الله عنه أنه قال التفسير على أربعة أنحاء فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها وتفسير يعلمه الراسخون في العلم وتفسير لا يعلمه إلا الله ويروى هذا القول عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم ((ابن كثير 1 / 347)
************
وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن بن عباس أنه كان يقرأ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وأن لم تثبت بها القراءة لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه لوصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة وصرح بوفق ذلك حديث الباب ودلت الآية على مدح الذين فوضوا العلم إلي الله وسلموا إليه كما مدح الله المؤمنين بالغيب (( فتح الباري 8/ 210 ))
************

واختلف العلماء في الراسخين في العلم هل يعلمون تأويل المتشابه وتكون الواو في والراسخون عاطفه أم لا ويكون الوقف على وما يعلم تأويله الا الله ثم يبتدئ قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكل واحد من القولين محتمل واختاره طوائف والاصح الاول وان الراسخين يعلمونه لانه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته وقد اتفق اصحابنا وغيرهم من المحققين على انه يستحيل ان يتكلم الله تعالى بما لا يفيد والله اعلم (( النووي على مسلم 16 / 218 ))

************
فائدة والقول بأن الوقف تام على قوله ) إلا الله ( وأن قوله ) والراسخون ( ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرءانية التي ذكرنا
وممن قال بذلك عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود وأبي بن كعب نقله عنهم القرطبي غيره ونقله ابن جرير عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد
وقال أبو نهيك الأسدي إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنا ) به كل من عند ربنا ( والقول بأن الواو عاطفة مروي
أيضا عن ابن عباس وبه قال مجاهد والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم وممن انتصر لهذا القول وأطال فيه ابن فورك ((اضواء البيان 1/ 194 ))

والله اعلم
 
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم محمد القحطاني حفظه الله ورعاه ، ووفقه وسدد خطاه ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فأعتذر إليك لعدم تمكني من إجابة طلبك السابق في الحديث عن قوله تعالى : ( أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما ) فأنا بين انشغال ونسيان .
أما هذا النقل الذي نقلته عن ابن قدامة رحمه الله تعالى فها أنذا أعلق بما يمنُّ الله به ، فأقول :
أولاً : يظهر من عنوان الكتاب توجيه الآية إلى المذهب الذي يناسب هذا الكتاب ، وهو ذمُّ التأويل .
ولا شكَّ أن الآية على الوجه الذي ذهب إليه ابن قدامة وعلل له صحيح من حيث هو ، لكنه لا يدل على غلط غيره ، وهو القول الآخر المشهور عن السلف ، كما سيأتي ذكره .
ثانيًا : قوله : ((فإن الوقف الصحيح عند أكثر أهل العلم على قوله :(إلا الله ) )) .
أقول : إن عبارة الصحيح تدل على أن غيره هو الضعيف ، والأمر ليس كذلك ، فعدم الوقف على لفظ الجلالة مبني على وجه صحيح من التفسير ، وهو أن يكون المراد بالتأويل : التفسير ، وهو مذهبٌ لابن عباس ومجاهد وابن قتيبة وغيرهم من السلف ، وهو قول صحيح لا يناقض القول الذي ذهب ابن قدامة لاختلاف محامل التفسير بين القولين .
وأصحاب هذا القول لا يقولون بأن المتشابه الكلي الذي يتبعه أهل الزيغ يعرفه الراسخون ، بل هم كأولئك في هذا المذهب .
وإنما يأتي كلام ابن قدامة فيما لو كان هؤلاء يفسرون التأويل في الآية بما ذهب إليه ، ثم يزعمون أنهم يعرفونه ، فهنا يُطلب القول الصحيح في معنى الآية ؛ لوجود التضاد .
أما الحال التي عليها تفسير السلف من جعل التأويل على معنيين متغايرين تُحمل عليهما الآية على سبيل التغاير دون الاجتماع ، وهذا كثير جدًّا في تفسير السلف .
وإذا كان القول الثاني صحيحًا ومعتبرًا ، فلا معنى للتصحيح هنا ، وإنما السبيل تقديم القول الأولى والأقرب للصواب ، وهذا لا يكون فيه ترك للقول الثاني أو تضعيف له من حيث هو قول صحيح ، وإنما يكون ذلك بتقديم القول الآخر عليه ، وليس تقديمه دالاً على عدم صحة الآخر .
وإذا صحت هذه المقدمة ظهر أنَّ الوجوه الأخرى التي سيذكرها مبنية على تصور اختلاف متضادٍ في الآية ، والأمر ليس كذلك ، كما شرحت لك .
فقوله : (( ولا يصح قول من زعم أن الراسخين يعلمون تأويله )) ، فهذا لم يقل به أحد من السلف على وجه التأويل الذي ذهب إليه ابن قدامة رحمه الله .
لكن إذا كان التأويل بمعنى التفسير ، فهذا لا يمكن أن تنفى معرفته عن الراسخين ، بل له علاقة بأصول الاعتقاد ، وهو كون الله خاطبنا بما لا نعلم معناه ، وهذا له ما بعده مما أدخله الفلاسفة كابن سينا وغيره من أهل التخييل والتوهم الذين يزعمون أن النبي خاطب العامة بما يدركونه من المحسوسات ، والأمر أن لا جنة ولا نار .
هذا هو منتهى من يزعم أن في القرآن ما خوطبنا به ، وأنه لا أحد يعلم معناه ، وبسط الوصول إلى هذه النتيجة يطول ، وهو موجود في كلام شيخ الإسلام .
ثالثًا : يظهر جليًا من نص الإمام ابن قدامة أن يناقش قومًا يرون جواز التأويل ـ فيما لا يجوز فيه التأويل ـ ويزعمون أنهم من الراسخين ، وأنهم يعرفونه بدلالة هذه الآية ، بدلالة قوله في نهاية هذا النقل (والخصم في هذا يجوز التأويل لكل أحد ، فقد خالف النص على كل تقدير ) .
وعلى هذا جمهور أهل البدع من المؤوِّلة الذين تأوَّلوا كلام الله ورسوله على غير ما يراد به ، فصاروا أهل تحريف ، وهم يدَّعون التأويل ، وهذا ظاهر من كتبهم العقدية ؛ كرسالة الإرشاد والشامل للجويني ، وأساس التقديس للرازي ، وغيرها ممن سار على التأويل الفاسد الذي هو لمصطلح التحريف أقرب .
وأصحاب هذا المذهب قد ناقشهم شيخ الإسلام في بعض كتبه ؛ كتعليقته على سورة الإخلاص ، ورسالته في المحكم والمتشابه ، وكتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل ، وغيرها ، كما ناقشها أيضًا تلميذه ابن القسم في كتابه الصواعق المرسلة .
والمقصود أن الشيخ ابن قدامة رحمه الله صبَّ كلامه في هذه الآية على التأويل الفاسد الذي يُدَّعى به الوصول إلى ما ستره الله من علمه .
رابعًا : إن تفكيك موضوع المحكم والمتشابه وارتباط التأويل به يكفي معرفة أنواع التأويل الفاسد من غيره ، ويعرف به معنى الآية على وجهها ، فأقول :
لقد كتبت في هذا الموضوع كتابةً مفصلة في كتابي ( مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر ) وتكلمت عن هذه الآية وما فيها من التفسير والوقف ، وهاأنذا أختصر شيئًا من ذلك هنا :
1 ـ المتشابه نوعان :
الأول : المتشابه الكلي ، وهو الذي لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه ، أو تعرض لتأويل ، فقد دخل في الزيغ الذي نبه الله عنه في هذه الآية ، ومنهم من يدعي معرفة الغيوب عن طريق الأحرف المقطعة ، أو من يدعيه عن طريق ما يسمى بالإعجاز العددي ، أو من يدخل في تعريف كيفيات صفات الله تعالى .
وهذا الصنف ـ فيما يظهر ـ هم الذين اتجه إليهم كلام الإمام ابن قدامة ، والله أعلم .
وعلى هذا النوع من المتشابه يكون الوقف على لفظ الجلالة ، ويكون الراسخون ممن لا يعلمون تأويله ، وهم ممدوحون بتفويض العلم الله خلافًا لأهل الزيغ المذمومين الذين يتبعون هذا النوع من المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
الثاني : المتشابه النسبي ، وهو الذي يخفى على قوم دون آخرين ، فالناس ليسوا مرتبة واحدة في الفهم ، وهذا مما لا يحتاج إلى تقرير ، فقراءتهم للقرآن ، وفهمهم له يختلف لأسباب متعددة ، من أهمها التكوين العلمي للأفراد .
وهذا النوع يدخل في معلوم البشر ، وهو مرتبط بإدراك المعاني ، وهو الذي يُبنى عليه قاعدة : ليس في القرآن ما يخفى معناه على الناس ، بحيث لا يعرفه أحد منهم .
ومن هذا النوع أسئلة صبيغ للصحابة ، فهو كان يسأل سؤال متعنِّت مجادلٍ ، ولم يكن سؤاله سؤال استعلام ، لذا لم يُجبه الصحابة ، مع أنه قد سأل غيرهم بعض أسئلته وأجيبوا ، وذلك ظاهر باستقراء أسئلة صبيغ وتفسير السلف لها .
ولم يرد في أسئلة صبيغ ـ فيما أعلم ـ انه سأل عن متشابه كليٍّ لا يعلمه إلا الله ، بل أسئلته من الذي يعلمه الراسخون في العلم ، لكنهم لم يجيبوه لمعرفتهم لحاله ، ولفقه خاصٍ لهم في هذه المرحلة التي كانوا يعيشونها ، والله أعلم .
ومن ظواهر الزيغ في اتِّباع المتشابه النسبي ما وقع للخوارج والمرجئة والجبرية وبعض الصفاتية الذين يأخذون بجزءٍ من موضوع الآيات ، ويأوِّلون الجزء الآخر ، فالجبرية أخذوا بالآيات التي ظاهرها الجبر ، وأوَّلوا الآيات التي ظاهرها الاختيار والكسب ، والقدرية كانوا عكسهم في الأخذ بآيات ظاهرها الكسب والاختيار وتأويل آيات ظاهرها الجبر ، وهكذا غيرها من البدع التي ظهرت في الإسلام ، إنما هي من باب التأويل جاءت ، وفي المتشابه النسبي ـ كثيرًا ـ وقعت .
وقد فصَّل العلماء وجه جملة ( يقولون آمنا به ...) ووجه تعلقها بما قبلها على هذا الوجه التفسيري ، ومن ثمَّ فلا يدخلها اعتراض ابن قدامه الذي ذكره ، والتفويض الذي يقول به الراسخون في هذا النوع مناسب للحال التي تقع من أولئك الذين في قلوبهم زيغ فيتركون المحكمات الواضحات ، ويأتون إلى المشتبهات الخفيات ، فهؤلاء يؤمنون بمحكمه ، ويكلون علم متشابه إلى الله ، وليس في ذلك أنهم لا يعلمونه أو يعرفونه ، بل هو من باب نسب العلم الذي علموه إلى الله الذي هداهم لمعرفته ، وأضل غيرهم ، وبهذا تظهر مناسبة قولهم على هذا الوجه التفسيري .
وإذا ظهر لك هذا النوع وبان ، فإن من قال بأن الراسخين يعلمون التأويل ، إنما ذهب إلى هذا النوع من المتشابه ، ولا خلاف في أن الراسخين يعلمونه ، وبهذا الكلام يتبين أمور :
1 ـ صورة اتباع المتشابه النسبي ابتغاء تأويله وابتغاء الفتنة .
2 ـ أن المتشابه النسبي يعلمه العلماء .
3 ـ أن التأويل على هذا الوجه بمعنى التفسير ، والله أعلم .
4 ـ أن المتشابه النسبي يقابله المحكم ، وهو الذي لم يقع فيه خلاف ، أو لا يُتصوَّر فيه الخلاف ، وهذا أحد أنواع المحكم الواردة في القرآن .
هذه بعض تلميحات في هذا الموضوع ، أسأل الله أن يجعله خالصًا صوابًا ، والله ولي التوفيق .
 
والراجح أن الخلاف في الأصل ليس بلفظي لأن المتشابه مختلف في المراد به وعلى هذا الخلاف ينبني الخلاف في الوقف كما تقدم .
و قول أكثر العلماء- وهو أن الوقف على لفظ الجلالة .. - أصح ، وهذا القول يؤيده ظاهر النظم القرآني ، و الأدلة التي تقدمت عند ذكره قوية ، ولو لم يكن فيها إلا القراءات الثابتة عن الصحابة لكان فيها دلالة قوية على ترجيحه ، فكيف وقد انضاف إلى ذلك غيرها مما تقدم ، هذا مع أنه لم يثبت عن الصحابة غيره .
ورواية مجاهد عن ابن عباس معارضة برواية طاووس وهي أصح كما قاله السيوطي ( ) بل حكى الإمام أبو المظفر السمعاني( ) أن الصحيح رواية طاووس وتقدم قول ابن الأنباري في ذلك وتضعيفه لرواية ذلك عن مجاهد نفسه . وبينت أنه مسبوق إلى الطعن في رواية ابن أبي نجيح التفسير عن مجاهد ، ولكن الراجح أنها صحيحة لأن ابن أبي نجيح ثقة و إن كان سمعه من القاسم بن أبي بزة ، فالقاسم ثقة أيضا ( ) ، فقد علمنا الواسطة بينه وبين مجاهد في التفسير ، فيكون قد دلسه عن القاسم بن أبي بزة ، فإن ابن أبي نجيح معدود في المدلسين كما تقدم ، لكننا في هذا الموضع نرجح رواية طاووس إذ لم يكتنفها ما اكتنف رواية مجاهد من طريق ابن أبي نجيح . وقال الإمام السمعاني أيضا في كتابه قواطع الأدلة : ( ونقل بعضهم ذلك عن مجاهد ولا أعلم تحققه ) اهـ . بل زاد على ذلك بأن جعل قول بعض العلماء في اختيار هذا الوقف كبوة من كبوات الجواد ( ) ؟. كذا قال رحمه الله تعالى ، ولا يبلغ الأمر ذلك ، ويزاد على هذه الأدلة ، ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عائشة رضي الله عنها قالت :
( تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7)  قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم ) اهـ ( )
فهذا الحديث دال على ذم متبعي المتشابه كالآية

****
( )القاسم بن أبي بزة واسمه نافع ويقال يسار ويقال نافغ بن يسار المكي أبو عبد الله ويقال أبو عاصم القارئ مولى عبد الله بن السائب المخزومي قيل إن أصله من همذان روى عن أبي الطفيل وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعنه ابن جريج وشعبة وجمع . وثقه ابن معين والعجلي والنسائي . وروى له الجماعة : ت : 114 هـ وقيل 115 هـ وقيل : 125 هـ . قال المزي : ( والأول أصح ) ا هـ . ( الجرح والتعديل 7 / الترجمة 697 و تهذيب الكمال : 23 / 338 والكاشف : 4503 وفي التقريب : ثقة : ( 2 / 116 )
( ) قواطع الأدلة في الأصول للسمعاني 1 /265
( ) صحيح البخاري مع فتح الباري كتاب التفسير : سورة آل عمران ، باب منه آيات محكمات رقم 3547 ج 8 /209 وصحيح مسلم مع شرح النووي كتاب العلم : باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه رقم 6717 ج 16 / 433 –434 والمسند 6 / 48 و256

****
ومعلوم أن القائلين من أهل السنة والجماعة بالقول الآخر ، لا يقصدون بعلم الراسخين للمتشابه أنهم يعلمون ما استأثر الله بعلمه كوقت قيام الساعة ونحو ذلك . ولكن يبقى أمور من المتشابه عند بعض العلماء كالحروف المقطعة ، وبعض الآيات المتعارضة في الظاهر التي يختلفون في الجمع بينها ولا يوجد مرجح ينقطع به النزاع ، ونحو ذلك .
و هذه الآية من الآيات التي ينبغي على كل طالب علم أن يمعن النظر في أقوال السلف ثم الأئمة المحققين في بيان معناها ، فإن المبتدعة قد أكثروا من الاستدلال بها .
والكلام عليها لا بد فيه من بيان معنى المحكم والمتشابه ، ومعنى التأويل فلا يصلح أن نهمل ذكره هنا لمسيس الحاجة إليه

****


والقول بأن الرسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه هو الصحيح ، وهو مروي عن أبي بن كعب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعائشة وعبد الله بن عباس في رواية طاوس عنه ( ) وهو الصحيح عنه ( ) وبه قال أكثر السلف ، منهم عمر بن عبد العزيز والحسن وعروة وقتادة والضحاك ( ) قال ابن النحاس : ( رويناه عن نيف وعشرين من الصحابة والتابعين والقراء والفقهاء وأهل اللغة ) ( ) . وقد اختاره مالك ( ) والفراء ( ) أبو عبيد وابن الأنباري ( ) والزجاج والطبري
والخطابي ( ) والداني ( ) والسمعاني ( ) والبغوي ( ) وفخر الدين الرازي ( ) وأبو حيان ( ) والسيوطي ( ) والشوكاني ( ) و شهاب الدين الآلوسي ( ) و اختاره أيضا القاضي أبو يعلى رحمه الله تعالى وقال : ( إنه أشبه بأصولنا
) اهـ . ( ) وقال ابن النجار : ( إنه الأصح المختار ) ( ) وقال المرداوي :
( وهو المختار وهو قول السلف ) ( )وقال الخطابي : ( هو مذهب أكثر العلماء ) ( ) وهو الراجح لوجوه منها ما ذكر ومنها ما لم يذكر

هذا اقتبسته من رسالة موجودة لي في هذا المنتدى العامر المبارك
ويطول الكلام على ذكر الأدلة مع الرد على الشبه المثارة من الفريقين ولا شك دل السياق وما ثبت من قراءات الصحابة على رجحان الوقف على لفظ الجلالة و لو قيل فيه إنه الصحيح فليس بمستبعد و قد قال ذلك السمعاني و غيره و عبارة السمعاني أشد من ذلك و لكن الإنصاف يقتضي عدم قبولها بإطلاق و التفصيل في المسألة اختيار جماعة منهم ابن عطية المفسر ثم شيخ الإسلام ابن تيميية في بعض ما قاله و من أراد الرجوع للبحث فهو موجود في مكتبة الملتقى وقد عثرت على زيادات و تتمات كنت أغفلتها و في كلام
الشيخ : د / مساعد تنبيهات مفيدة فجزاه الله خيرا و لم أتمعن في جميعها
 
مشاركة مني أنقل لكم ما كتبته في رسالتي حول هذا الموضوع إتماما للفائدة فأقول :

اختلف السلف رحمهم الله تعالى في المتشابه المذكور في قوله تعالى :{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(آل عمران:من الآية7)هل هو مما يمكنُ الإطلاعُ على عِلْمِهِ أو لا يعلمهُ إلا الله ؟ على قولين :
القول الأول : أنه مما يمكنُ علمه ، ونُقل عن مجاهد وإحدى الروايات عن ابن عبّاس .
القول الثاني : أنّ المتشابه لا يعلمه إلاّ الله ، وعليه الأكثر من السلف .
وسببُ الخلافِ :الاختلافُ في معنى (الواو) في قوله تعالى{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فمنهم مَن قال : إنها عاطفةٌ ، كأصحاب القول الأول ، ولذا فالمتشابه مما يُعْلَمْ ، ويجعلون الوقفَ عند قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} .
ومنهم مَن قال : إنها للاستئنافِ ، ولذا فالمتشابه مما لا يعلمه إلاّ الله ، ويجعلون الوقفَ على لفظِ الجَلاَلَةِ { وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } .( )
وهذا الخلاف المذكور إذا تأمّلْتَه وجدتَهُ ليسَ بخلافٍ في الحقيقة ، ويمكنُ الجمعُ بين القولينِ وذلكَ بمعرفةِ أنواعِ التشابهِ في القرآنِ والفرقَ بينهما ، ويتبيّنُ هذا بما قرّرهُ الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله حيث قال :" التشابه نوعان :
تشابهٌ نسبيٌّ ، وتشابهٌ مُطْلَق .
والفرق بينهما : أن المطلقَ يخفى على كلِّ أحد ، والنسبيُّ يخفى على أحدٍ دونَ أحد وبناءً على هذا التقسيم ينبني الوقفُ على قولـه تعالى :{وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } .
فالوقفُ على{ إِلاَّ اللَّهُ }يكونُ المرادُ بالمتشابهِ المتشابهَ المطلقَ ، وعلى الوصْلِ{ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }يكونُ المرادُ بالمتشابهِ : المتشابهَ النسبيَّ ، وللسلفِ في ذلكَ قولانِ :
القول الأول : بالوقفِ على { إِلاَّ اللَّهُ } وعليه ِأكثرُ السلفِ ، وعلى هذا فالمرادُ بالمتشابهِ المتشابهَ المُطْلَق الذي لا يعلمهُ إلاّ الله ، وذلكَ : مثل كيفيةِ وحقائقِ صفاتِ الله ، وحقائقِ ما أخبرَ الله به مِن نعيم الجنّة وعذاب النارِ "... إلى أنْ قال :"
القول الثاني : بالوَصْلِ فيقرأ : { إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }، وعلى هذا فالمرادُ بالمتشابهِ المتشابهَ النسبيَّ ،وهذا يعلمهُ الراسخونَ في العلمِ ؛ ويكون عند غيرهم مُتشابهًا ".( )
وفي موضع آخر قال :" التشابه الواقع في القرآن نوعان :
أحدهما : حقيقيٌّ وهو ما لا يمكنُ أنْ يَعْلَمَهُ البَشَرُ ؛ كحقائقِ صفاتِ الله  ، فإننا وإنْ كُنَّا نعلمُ معاني هذهِ الصفاتِ ، لكنّنا لا نُدرِك حقائقها ، وكيفيتها لقوله تعالى : {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}(طه:من الآية110) وقوله تعالى :{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103) "... إلى أنْ قال :"وهذا النوعُ لا يُسْأَلُ عن استكشافه لِتَعَذُّرِ الوصولِ إليه .
النوع الثاني : نسبيٌّ وهو ما يكونُ مشتبهاً على بعضِ الناسِ دونَ بعضٍ ، فيكونُ معلوماً للراسخينَ في العلمِ دونَ غيرهمْ ، وهذا النوعُ يُسْأَلُ عن استكشافهِ وبيانه ؛ لإِمكانِ الوصولِ إليه ؛ إذْ لا يوجدْ في القرآنِ شيءٌ لا يتبينُ معناهُ لأحدٍ مِن الناسِ ، قال الله تعالى : {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}(آل عمران:138) ، وقال :{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيءٍ}(النحل: من الآية89) ، وقال :{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ  ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة:18-19) ، وقـال : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (النساء :174 ) .
وأمثلةُ هذا النوع كثيرة منها قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: من الآية11) حيث اشتبهَ على أهلِ التعطيلِ ، ففهموا مِنه انتفاءَ الصفاتِ عن الله تعالى ، وادَّعوا أنّ ثُبوتها يستلزمُ المماثلةَ ، وأعرضوا عن الآياتِ الكثيرةِ الدَّالَّةِ على ثبوتِ الصفاتِ لهُ ، وأنَّ إثباتَ أصلِ المعنى لا يستلزمُ المماثلةَ .
ومنها قوله تعالى :{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء:93) حيثُ اشتبهَ على الوعِيديَّةِ ، ففهموا مِنه أنَّ قاتلَ المؤْمِن عَمْدًا مُخَلَّدٌ في النارِ، وطَرَدُوا ذلكَ في جميعِ أصحابِ الكبائرِ ،وأعرضوا عن الآياتِ الدَّالَّةِ على أنّ كُلَّ ذنبٍ دونَ الشركِ فهو تحتَ مشيئةِ الله تعالى .
ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج:70) حيثُ اشتبهَ على الجبْرِيَّةِ ، ففهموا مِنه أنّ العبدَ مَجْبُورٌ على عمله ، وادَّعَوا أنه ليسَ له إرادةٌ ولا قدرةٌ عليهِ ، وأعرضوا عن الآياتِ الدَّالَّةِ على أنّ للعبدِ إرادةً وقدرةً ، وأنّ فعلَ العبدِ نوعانِ : اختياريٌّ ، وغير اختياريٍّ .
والراسخونَ في العلمِ أصحابُ العقولِ يعرفونَ كيفَ يُخَرِّجُونَ هذهِ الآياتِ المتشابهةِ إلى معنى يتلاءمُ مع الآياتِ الأخرى ، فيبقى القرآنُ كُلُّهُ محكماً لا اشتباه فيه ".( )
وبهذا التقريرِ تتجلّى لكَ هذه المسألةُ ؛ ولابنِ عطيّةَ رحمه الله كلامٌ نفيسٌ أنْقُلُهُ بِنَصِّهِ، حيثُ قالَ بعد عرضه لخلافِ السلفِ في قوله{وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}:" وهذهِ المسألةُ إذا تُؤمِّلَتْ قَرُبَ الخلاف فيها من الاتفاق .
وذلك أنّ الله تعالى قسّمَ آي ِالكتابِ على قسمين – محكمًا ومتشابهًا – فالمحكم هو المتّضحُ المعنى لكلِّ مَن يفهم كلامَ العربِ لا يحتاجُ فيه إلى نظر ولا يتعلّق به شيءٌ يُلْبِس ، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره ، والمتشابه يتنوّع ؛ فمنه ما لا يُعْلَم البتّةَ ، كأمر الروح ، وآحاد المغيّبات التي قد اعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلكَ ، ومنه ما يُحمل على وجوهٍ في اللغةِ ومناحٍ في كلام العرب ، فَيُتَأوّل تأويله المستقيم ، ويُزال ما فيه مما عسى أن يتعلّق به مِن تأويلٍ غير مستقيم كقوله في عيسى { وَرُوحٌ مِنْهُ }(النساء: من الآية171) إلى غير ذلكَ ، ولا يسمّى راسخًا إلاّ بأن يعلم مِن هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له ؛ وإلاّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمّى راسخًا وقوله تعالى{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}(آل عمران:من الآية7) الضميرُ عائدٌ على جميع متشابه القرآن وهو نوعان كما ذكرنا ، فقوله : { إِلاَّ اللَّهُ }(آل عمران:من الآية7) مُقتَضٍ ببديهية العقل أنّه يعلمه على الكمال والاستيفاء ، يعلم نوعيه جميعًا فإنْ جعلنا قوله { وَالرَّاسِخُونَ }(آل عمران:من الآية7) عطفاً على اسمِ الله تعالى ، فالمعنى إدخالُهم في علمِ التأويلِ لا على علمِ الكمالِ ، بل عِلْمُهم إنّما هو في النوعِ الثاني مِن المتشابه ، وبديهة العقل تقتضي بهذا ، والكلام مستقيمٌ على فصاحة العرب كما تقول : ما قام لنُِصرَتي إلاّ فلانٌ وفلان ، وأحدهما قد نَصَرَكَ بأنْ حاربَ معكَ ،والآخرُ إنّما أعانكَ بكلامٍ فقط ، إلى كثير ٍمِن الْمُثُلْ ، فالمعنى : {وَمَا يَعْلَمُ }تأويلَ المتشابه إلاّ الله والراسخونَ كُلٌّ بقدرهِ ، وما يصلح له ، والراسخونَ بحال ( ) قول في جميعه آمنّا به ، وإذا تحصّل لهم في الذي لا يُعلم ولا يتصوّر عليه تمييزه مِن غيره فذلك قدر مِن العلم بتأويله .
وإنْ جعلنا قوله{وَالرَّاسِخُونَ}رفعًا بالابتداءِ مقطوعًا ممّا قبله ،فتسميتهم راسخينَ يقتضي بأنّهم يعلمونَ أكثرَ مِن المحكمِ الذي يستوي في علمهِ جميعُ مَن يفهمُ كلامَ العربِ ، وفي أيِّ شيءٍ هو رسوخهم ، إذا لم يَعْلَمُوا إلاّ ما يعلمُ الجميعُ ، وما الرسوخُ إلاّ المعرفةُ بتصاريفِ الكلامِ ومواردِ الأحكامِ ، ومواقعِ المواعظِ وذلكَ كلّهُ بقريحةٍ مُعَدّةٍ ، فالمعنى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}على الاستيفاءِ إلاّ الله ،والقومُ الذين يعلمون منه ما يمكن أنْ يُعلم يقولون في جميعه{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}(آل عمران:من الآية7) وهذا القَدْرُ هو الذي تعاطى [به]( ) ابنُ عبّاس رضي الله عنهما ، وهو ترجمانُ القرآنِ ، ولا يُتَأَوَّلُ عليه أنّه عَلِمَ وقتَ الساعةِ وأمرَ الروحِ وما شاكله ، فإعرابُ { الرَّاسِخُونَ } يحتملُ الوجهينِ ، ولذا قالَ ابنُ عبّاس بهما ، والمعنى فيهما يتقاربُ بهذا النظرِ الذي سطّرناهُ ".( )
ولذا فإنّ تقسيم التشابه إلى مطلقٍ ونسبيٍّ تجتمعُ به الأقوال المذكورة في المسألةِ ، ويجيبُ عن الإشكالِ في اختلاف السلف رحمهم الله في هذه الآية .
وتقسيمُ المتشابهِ إلى نوعيِن نَصَّ عليه أهلُ العلمِ كما تقدّمَ عن ابنِ عطيةَ رحمه الله ونقلَ السيوطيُّ عن الخطابيِّ قوله :" المتشابهُ على ضَرْبينِ : أحدهما : ما إذا رُدَّ إلى المحكمِ واعتبر به عُرف معناه ، والآخر : ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته ، وهو الذي يتَّبِعُه أهلُ الزيغِ فيطلبونَ تأويله ، ولا يبلغونَ كُنْهَه ، فيرتابون فيه فَيُفْتَنُون ".( )
وقال ابن تيمية :" فينبغي أنْ يُعرفَ الإحكـام والتشابـه الذي يَعُمُّهُ ، والإحكام والتشابه الذي يَخُصُّ بعضه ".( )
وقال ابن القيّم :" التشابه والإحكام نوعان : تشابهٌ وإحكامٌ يعمُّ الكتابَ كُلَّهُ ، وتشابهٌ وإحكامٌ يَخُصُّ بعضهُ دونَ بعضٍ ".( )
وقال الراغبُ الأصفهانيّ :" وحقيقةُ ذلك أنّ الآياتِ عند اعتبار بعضها ببعضٍ ثلاثةُ أضربٍ : محكمٌ على الإطلاق ، ومتشابهٌ على الإطلاق ، ومحكمٌ مِن وجهٍ متشابهٌ مِن وجهٍ " ( )... إلى أنْ قال :" ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب :
ضربٌ لا سبيلَ للوقوفِ عليه ، كوقتِ الساعةِ ، وخروج دابّة الأرض وكيفيةُ الدابّة ونحو ذلك . وضربٌ للإنسانِ سبيلٌ إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة . وضربٌ متردّدٌ بين الأمرين يجوز أنْ يَخْتَصَّ بمعرفة حقيقته بعض الراسخينَ في العلم ويخفى على مَن دونهم " ... إلى أنْ قال :"وإذا عرفتَ هذه الجملةَ عُلِمَ أنّ الوقفَ على قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران:من الآية7) وَوَصْلَهُ بقوله{ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }(آل عمران:من الآية7) جائزٌ وأنّ لكلِّ واحدٍ منهما وجهًا حسبما دلَّ عليه التفصيلُ المتقدّم ا.هـ
قلت : وهناك مِن أهل العلم مَن سلكَ طريقًا آخر في الجمع بين أقوال السلف في هذه الآية وذلك بِرَدِّ المسألةِ إلى الاختلاف في كلمة : التأويل ، فمنهم مَن جعل التأويلَ بمعنى التفسير ، وجعل الوقفَ على قوله:{ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }(آل عمران: من الآية7) ، ومِنهم مَن جعلَ التأويلَ بمعنى العاقبةِ والغاية المجهولة وجعل الوقفَ على لفظ الجَلاَلَةِ في قوله{ إِلاَّ اللَّهُ }(آل عمران: من الآية7) كما قرّرَ ذلكَ ابنُ تيميةَ رحمه الله وقال :" ولا منافاةَ بين القولين عند التحقيق " مجموع فتاوى ابن تيمية ( 3/ 55 ) وانظر : تفسير ابن كثير ( 2/ 9 )
 
عودة
أعلى