محمد محمود إبراهيم عطية
Member
الوقف عبر التاريخ
ولا يخفى على متأمل ما كان لدور الوقف عبر التاريخ في التقدم الروحي والمادي ، كما لا يخفى دوره في التأثير على الحياة الاجتماعية والثقافية التي تشكل الحضارة كما هو في التصور الحديث لها .
فالوقف له دور فعال ومؤثر في جوانب الحياة ، ولقد قامت على أوقاف المسلمين عوامل ساعدت على قيام حضارة حقيقية ، لا حضارة مزعومة ؛ فقد كان الوقف يقوم بعمل مؤسسات ووزارات في النظم الحديثة .
فمدارس الوقف كانت تقوم بدور وزارات التعليم والتعليم العالي في نظام الحكومات المعاصرة ؛ والبيمارستانات ( المستشفيات ) كانت تقوم بدور وزارة الصحة ؛ والوقف على الفقراء والمساكين ورعاية الأرامل واليتامى والضعفاء ، كان يقوم بعمل وزارة الشئون الاجتماعية ؛ وهذه الوزارات هي التي تشكل التأثير على الحياة الاجتماعية والثقافية في أي حضارة .
ولذلك كانت الحضارة الإسلامية زاهرة في حين كانت أوربا وغيرها من الدول تعيش تخلفا ملحوظًا ، وقد شهد بذلك كثير من منصفي الغرب ومفكريه .
لقد كان للوقف دوره الكبير في التنمية الشاملة في المجتمعات الإسلامية ، وبخاصة في النواحي الثقافية والصحية والاجتماعية ، في وقت كان فيه دور الدولة محدودا نسبيًا فيها ؛ ومع توسع دور الدولة في التنمية فإنه لا يزال دور الوقف وعمله ملحوظًا في كثير من بلاد المسلمين بالمشاركة الفاعلة في التأثير في الحياة الثقافية والصحية والاجتماعية بشكل عام .
لقد أسهم الوقف في تكوين المجتمع الإسلامي المتراحم ، ووثق عرى النسيج الاجتماعي ، كما دعم روح التكافل والتواصل بين الناس .
وليس أدل على رقي الأمة وجدارتها بالحياة واستحقاقها لقيادة العالم - كما يقول د مصطفى السباعي - من سمو النزعة الإنسانية في أفرادها ، سموًّا يفيض بالخير والبر والرحمة على طبقات المجتمع كافة ، بل على كل من يعيش على الأرض من إنسان وحيوان ، وبهذا المقياس تخلد حضارات الأمم وبآثارها في هذا السبيل يفاضل بين حضاراتها ومدنياتها ( [1] ) .
وهنا حقيقة قد يكون من المفيد تجليتها - كما يقول د عمر عبيد حسنة - وهي : إن نظام الوقف يختلف عن سائر موارد التكافل الاجتماعي في الإسلام من صدقات وزكوات وكفارات ونذور ووصايا ... الخ ؛ لأن هذه الموارد في معظمها تمثل علاجات إغاثية استهلاكية آنية موقوتة ، وقد يكون نطاقها في كثير من الأحوال فرديًا .
أما الوقف فهو منذ البدء كان نزوعًا إلى بناء النظام المؤسسي التنموي الإنتاجي دائم النفع والعطاء ، والتأصيل والتأسيس للعملية التنموية الاجتماعية ، لدرجة يمكن معها وصفه بمؤسسة التنمية المستدامة في المجالات جميعا ؛ بل لعلنا نقول : إن نظام الوقف بشروطه وأحكامه وثمراته ومجالاته يعتبر عملا مؤسسيا ، فهو مؤسسة المؤسسات جميعا ، أو ( أبو ) المؤسسات جميعا .
فالدور التنموي الذي اضطلع به الوقف في التاريخ الإسلامي كان شاملا لكثير من مرافق الحياة .. ولا يزال ؛ فلقد كان يقوم بدور الكثير من الوزارات والمؤسسات اليوم ، من مثل وزارة الصحة - وزارة التربية والتعليم - وزارة السياحة - وزارة الشؤون الاجتماعية - وزارة الدفاع - وزارة الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد والتوجيه ؛ ومؤسسات الخدمة الاجتماعية ... الخ ( [2] ) ؛ لقد اتسعت مجالات الوقف الخيري حتى كاد يعم خيره وأثره مجالات الحياة جميعها ، مع استمرار عمله عبر الزمن ؛ ومن هنا كان أجره لا ينقطع ، كما أن نفعه كذلك إلا أن يشاء الله تعالى .
[1] - انظر ( من روائع حضاراتنا ) د مصطفى السباعي ص 121 ( المكتب الإسلامي ) .
[2] - انظر تقديمه لكتاب الأمة ( أوقاف الرعاية الصحية في المجتمع الإسلامي ) د أحمد عوف عبد الرحمن ( العدد 119 ) .