الوعظ بالقرآن عند الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,318
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
القرآنُ الكريم مَوعظةٌ كما سَمّاهُ الله تعالى بِقَوْلِهِ :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}(يونس:57) ، قالَ الشوكانيُّ رحمه الله في تفسير هذه الآيةِ :"{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي القرآن فيهِ ما يتَّعِظُ به مَن قرأهُ وعَرَفَ مَعناهُ ، والوَعْظُ في الأصلِ : هو التذكير بالعواقبِ سواء بالترغيبِ أو الترهيب، والواعظُ هو كالطبيبِ يَنهَى المريضَ عَمَّا يَضُرُّه ".( )
ولقد اهْتمَّ الشيخُ رحمه الله بهذا الجانبِ ، فتجـدهُ يُذَكِّرُ بالقرآنِ ويَعِـظُ بآياتهِ ، وسأذكرُ مِن الأمثلةِ ما يَدُلُّ على ذلك .
عند تفسيره لقوله تعالى :{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}(البقرة: من الآية66)
ذكرَ مِن فوائدها :" أنّ المواعظَ قِسمَان : كَوْنِيَّةٌ ، وشَرْعِيَّةٌ ؛ فالموعظةُ هنا كَونِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ ؛ لأنّ الله أحلَّ بهم العقوبةَ التي تكونُ نكالاً لما بينَ يديها ، وما خلفها ، وموعظةً للمتقينَ ؛ وأمّا الشرعيةُ فمثلُ قولهِ تعالى{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }(يونس:من الآية57) ؛ والمواعظُ الكونيةُ أشَدُّ تأثيراً لأصحابِ القلوبِ القاسيةِ ؛ أما المواعظُ الشرعيةُ فَهِيَ أعظمُ تأثيراً في قلوبِ العارفينَ بالله الليِّنةِ قلوبهم ؛ لأنّ انتفاعَ المؤمنِ بالشرائعِ أعظمُ مِن انتفاعهِ بالمقْدُورَات .
ومن فوائدِ الآيتين : أنّ الذينَ ينتفعونَ بالمواعظِ هم المتقونَ ؛ وأمّا غير المتَّقِي فإنّه لا ينتفعُ لا بالمواعظِ الكونيةِ ، ولا بالمواعظِ الشرعيةِ ؛قد ينتفعُ بالمواعظِ الكونيةِ اضطرارًا ، وإكراهًا ؛ وقد لا ينتفع ؛ وقد يقولُ : هذهِ الأشياءُ ظَواهِرُ كونيةٌ طبيعيةٌ عاديةٌ ، كما قالَ تعـالى : {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ}(الطور:44) ؛ وقد ينتفعُ ، ويَرجِعُ إلى الله تعالى ، كما قالَ تعالى : {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65) ، وقالَ تعالى :{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان:32) .
ومِن فوائدِ الآيتين : أنّ مِن فوائدِ التقوى - وما أكثر فوائدها - أنّ المتَّقِي يَتَّعِظُ بآياتِ الله  الكونيّةِ والشرعيّة ".( )
فَبَيَّنَ فِيمَا سبقَ أقسامَ الموعظةِ ومَن ينتفعُ بها ، وأنّ الاتّعاظَ مِن ثمارِ التقوى .
وفي مَوضعٍ آخرَ بيّنَ أنّه ينبغي للواعظِ أنْ يجمعَ في وَعْظِهِ بينَ الترغيبِ والترهيب مُتَّبِعًا في ذلكَ طريقةَ القرآن .
فعند تفسيره لقوله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ}(الزمر:من الآية23)
قال :" المثاني :أن يُقْرَنَ المعنى وما يُقابله ، فتأمّل الآياتِ الكريمةِ تجد أنّه إذا ذُكرت النار ذُكرت بعدها الجنّة ، وإذا ذُكر أهل النارِ ذُكر بعدهم أهل الجنّةِ ؛ وهكذا ، وذلكَ مِن أجْلِ أنْ لا يَمَلَّ السامعُ مِن مَوضوعٍ واحـد ، ومِن أجْلِ أن ينتقلَ مِن تخويفٍ إلى ترغيب فينشطَ لفعلِ الواجباتِ ويحذرَ مِن فعلِ المحرّماتِ ، وهذا مِن أساليبِ البلاغةِ التَّامَّةِ ".( )
وذكرَ مِـن فوائـدِ الآيةِ :" أنّ القرآنَ قد بَلَغَ الغايةَ في البلاغةِ لِكَوْنِهِ يأتي مَثانِيَ ، ويتفرّعُ على هذه الفائدةِ أنّه ينبغي لِمَنْ تكلّمَ في مَوعظةِ الناسِ أنْ لا يأتي بالترغيبِ المُطْلَقِ ولا بالترهيبِ المُطْلَقِ ، وذلكَ لأنّه إذا أَتَى بالترغيبِ المُطْلَقِ حَمَلَهُمْ على الرَّجَاءِ فَتَهاونُوا ، وإذا أَتَى بالترهيبِ المُطْلَقِ حَمَلَهُمْ على اليَأْسِ فقنطوا مِن رحمةِ الله .
ومِن فوائد الآيةِ : أنّ المؤمنَ يتأثَّرُ بالقرآنِ ويقْشعرُّ مِنه جلدهُ ويخاف ، ثم بعد ذلكَ ترجعُ إليه الطمأنينةُ ولِينُ القلبِ ، ويتفرّعُ على هذه الفائدة أنّكَ إذا رأيتَ نفسكَ على غير هذه الحال فَاعْلَمْ أنّ إيمانكَ ضعيف ".( )
وعند تفسيره لقوله تعالى{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(البقرة:من الآية203)
ذكرَ مِن فوائدها :" قَرْنُ المواعظِ بالتخويف ؛ لقوله تعالى :{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}؛ لأنّ الإنسانَ إذا عَلِمَ أنّه سَيُحْشَرُ إلى الله  ، وأنّه سَيُجَازِيِهِ فإنّه سوفَ يَتَّقِي الله ، ويقومَ بما أوجبَ الله ، ويتركَ ما نَهَى الله عنهُ ؛وبهذا عَرفْنَا الحكمةَ مِن كَوْنِ الله يَقْرِنُ الإيمانَ باليومِ الآخرِ في كثيرٍ مِن الآياتِ بالإيمانِ بالله دونَ بقيةِ الأركانِ التي يُؤْمَن بها ؛ وذلكَ لأنّ الإيمانَ باليومِ الآخرِ يَستَلزِمُ العملَ لذلكَ اليومِ ؛ وهو القيامُ بطاعـةِ الله ورَسُولهِ ".( )
وعند تفسيره لقوله تعالى :{ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}(يّـس: من الآية11)
قال :" وقوله :{ بِالْغَيْبِ}قالَ المؤلِّفُ_ يعني جلال الدين المحلي _ ( ):" وَلَمْ يَرَهُ " كأنّهُ يُفسِّرُ أنّ المرادَ بالغيبِ: أنّهُ يَخشَى اللهَ مع غَيْبَةِ الله عنهُ ،فيكونُ " بالغَيْب " حَالاً مِن المخْشِي ، يعني يَخشَى اللهَ واللهُ غائبٌ عنه ، هذا أحدُ الوجهين ِفي الايةِ .
الوجه الثاني : يَخشَى اللهَ بالغيبِ ،أيْ يَخشَى اللهَ في حالِ الغَيْبَةِ عن الناسِ ، يخشى اللهَ في قلبهِ في عملٍ غائبٍ لا يغفل ، فيكونُ " بالغيب " حالاً مِن الخاشي ، يعني أنّ هذا الإنسانَ الذي أنذرته وانتفعَ بإنْذاركَ هو الذي اتّبعَ الذِّكْرَ وخشي الله بالغيبِ حالَ كَونهِ غائبًا عن الناسِ ، خشيَ اللهَ بالغيبِ أيْ بالعملِ الغائبِ ، وهذه هي الخشيةُ الحقيقيّةُ ؛ لأنّ خشيةَ الله تعالى في العلانيةِ قد يكونُ سببها مُراءاةُ الناسِ ، ويكون في هذه الخشيةِ شيءٌ مِن الشركِ ؛ لأنّه يُرائي بها ، ولكن إذا كانَ يخشى الله في مكانٍ لا يَطَّلِعُ عليه إلاّ الله فهذا هو الخاشي حقيقةً ، وكم مِن إنسانٍ عند الناسِ لا يفعلُ المعاصي ولكن فيما بينه وبينَ نفسهِ يتهاونُ بها ، فهذا خَشِيَ الناسَ في الحقيقةِ ولم يَخْشَ الله  ؛ لأنّ الذي يخشى الله لا بُدَّ أنْ يقومَ بقلبهِ تعظيمُ الله  سواء بِحَضْرَةِ الناسِ ، أو بِغَيْبَةِ الناس ، أيضًا يخشى الله بالغيبِ أيْ بما غابَ عن الأبصارِ نظرًا ، وعن الأذن سمعًا ، وهو خشية ُالقلبِ ، وخشيةُ القلبِ أعظمُ مُلاحظةً مِن خشيةِ الجوارحِ؛ إذْ خشيةُ الجوارحِ بإمكانِ كُلِّ إنسانٍ أنْ يقومَ بها حتّى في بيتهِ، فَكُلُّ إنسانٍ يستطيع ُأنْ يُصلِّي ولا يتحرّك ، ينظرُ إلى مَوضعِ سجودهِ ، يرفعُ يديهِ في مَوضعِ الرفعِ ، يعني يستقيمُ استقامةً تامّةً في ظاهر الصلاةِ ، لكنّ القلبَ غافلٌ ؛ أمّا خشيةُ القلبِ فهي الأصلُ ،وهي التي يجبُ أنْ يُراقبها الإنسانُ ويحرصَ عليها حِرصًا تامًّا ، وهذا معنى قوله تعالى : { وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} ".( )
وعند تفسيره لقوله تعالى :{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً} (الكهف:100) قالَ :" {وَعَرَضْنَا }أيْ عَرَضْناها لهم فتكونُ أَمَامَهُمْ - اللّهم أَجِرْنَا مِنها -.
{ جَهَنَّمَ }اسمٌ مِن أسماءِ النار .
{ عَرْضاً}يعني عَرْضًا عَظِيمًا ، ولذلكَ نُكِّرَ ، يعني : عَرْضًا عَظِيمًا تتساقطُ مِنه القلوبُ ، ومِن الحكمِ في إخبارِ الله بذلكَ أنْ يُصلحَ الإنسانُ ما بينهُ وبينَ اللهِ ، وأنْ يَخاف مِن هذا اليومِ ، وأنْ يستعدَّ لهُ ، وأنْ يُصوِّرَ نَفسهُ وكأنّه تَحْتَ قَدَمَيْهِ .
هذه نماذج مختصرة , القصد منها الإشارة , اسأل الله أن ينفعنا بالقرآن .
 
أشكر أخي الكريم د.أحمد على هذه الإطلالة الرائعة على هذا الموضوع المهم ،والذي ربما غفل عنه طالب علم القرآن في غمرة التفتيش في الأقوال ،والبحث عن الراجح منها ... حتى تضيع الثمرة الكبيرة ،وهي الاتعاظ بهذا القرآن العظيم .. وعوداً على ما ذكرتموه من عناية شيخنا ـ رحمه الله ـ فإن هذا الجانب في تفسيره للآيات وتعليقه عليها بيّن جداً في لقاء الباب المفتوح ـ وغالب رواده من العامة ـ ،والذي كان يستفتحه بالكلام على سور جزء عم (وهو المطبوع حالياً ) بلغة بسيطة يفهمها جل العامة ،وإليك هذان المثالان :

المثال الأول :

قال ـ رحمه الله ـ في تفسيره لقوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ) [البروج : 21 ] :

(فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والكرامة والرفعة ؛ ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم ،ونوجه الدعوة ـ على وجه أوكد ـ إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم ،وأن لا يغرهم البهرج المزخرف الذي يرد من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة ،المخالفة للعدل ،المخالفة لإصلاح الخلق ، ثم يضعوها موضع التنفيذ ، وينبذوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله ج وراء ظهورهم ،فإن هذا ـ والله ـ سبب التأخر . ولا أظن أحداً يتصور أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر ! وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة ! لكن سبب ذلك ـ لا شك ـ معلوم ،وهو أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا ،وهو التمسك بهذا القرآن العظيم ،وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة فاسدة ،مخالفة للعدل ،مبينة على الظلم والجور ، فننحن نناشد ولاة أمور المسلمين جميعاً ،أناشدهم أن يتقوا الله  ، وأن يرجعوا رجوعاً حقيقياً إلى كتاب الله تعالى ،وسنة رسوله ج حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار ،وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة ،وتطيعهم شعوبهم ،ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء ،وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله ما بينه وبين الناس ،فإذا كان ولاة الأمرو يريدون أن تذعن لهم الشعوب ،وأن يطيعوا الله فيهم ،فليطيعوا أولاً حتى تطيعهم أممهم ،وإلا فليس من المعقول أن يعصوا مالك الملك وهو الله  ،ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم ، هذا بعيد جداً ،بل كلما بعد القلب عن الله بعد الناس عن صاحبه ،وكلما قرب من الله قرب الناس منه ،فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها ،وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان ،وأن يكبتهم ،وأن يردهم على أعقابهم خائبين ،إنه على كل شيء قدير).

المثال الثاني :

قال ـ رحمه الله ـ في تفسيره لقوله تعالى : (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (*) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (*) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (*)يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) [ سورة الفجر - الآيات : 21 - 24 ] .

(يُذكّر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) حتى لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا ، تدك الجبال ،فلا بناء ،ولا أشجار ،تمد الأرض كمد الأديم ،ويكون الناس عليها في مكان واحد ،يسمعهم الداعي ،وينفذهم البصر . في هذا اليوم (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (*)يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) ولكن قد فات الأوان ؛ لأننا في الدنيا في مجال العمل ،وفي زمن المهلة ،فيمكن للإنسان أن يكتسب لمستقره ،كما قال مؤمن آل فرعون (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر : 39 ] فهي متاع يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره ،فهكذا الدنيا ،واعتبر ما يستقبل بما مضى . كل ما مضى كأنه ساعة من نهار ، كأننا الآن مخلوقون ،فكذلك ما يستقبل سوف يمر بنا سريعاً ويمضي بنا سريعاً ،وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مستقراً ،إلى الأجداث والقبور ،ومع هذا فإنها ليست محل استقرار ؛ لقول الله تعالى : (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (*) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [ سورة التكاثر : 1 ، 2 ] ،وقد سمع أعرابيٌّ رجلاً يقرأ هذه الآية ،فقال : (والله ما الزائر بمقيم ! ولا بد من مفارقة لهذا المكان) وهذا استنباط قويٌّ ،وفهم جيد ،يؤيده الآيات الكثيرة الصريحة في ذلك ... (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) لم يذكر الجائي ،لكن قد دلّت السنة أنه يؤتى بالنار تقاد بسبعين ألف زمام ،كل زمام منها يقوده سبعون ألف ملك ! وما أدراك ما قوة الملائكة ،قوة ليست كقوة البشر ،ولا كقوة الجن ،بل هي أعظم وأعظم بكثير ... وقيادة النار بهذا العدد الكثير دليل على أنها عظيمة . وهذه النار إذا رأت أهلها من مكان بعيد سمعوا لها تعظياً وزفيراً ،وليس زفيرها كزفير المعدات والطائرات ،بل هو زفير تنخلع منه القلوب ... ؛ فلهذا أنذرنا الله تعالى منها . فهذه ثلاثة أمور ،كلها إنذار : مجيء الرب جلّ جلاله ،صفوف الملائكة ،الإتيان بجهنم . (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) والمعنى : إذا جاء الله تعالى في يوم القيامة ،وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفا ،وأحاطوا بالخلق ،وحصلت الأهوال والأفزاع ،يتذكر الإنسان أنه وعد بهذا اليوم ،وأنه أعلم به من قبل الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنذروا وخوّفوا ، ولكن من حقّت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية ،حينئذٍ يتذكر ،لكن يقول الله  : (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) .. (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) يتمنى أنه قدم لحياته ! وماهي حياته ؟ أهي حياة الدنيا ؟ لا والله ! فالحياة الدنيا انتهت وانقضت ،وليست الحياة الدنيا حياة في الواقع ،فهي هموم وأكدار ،كل صفو يعقبه كدر ،كل عافية يتبعها مرض ،كل اجتماع يعقبه تفرق ! أين الآباء ؟ أين الإخوان ؟ أين الأبناء ؟ أين الأزواج ؟ هل هذه حياة ؟! ... كل إنسان يتذكر أن مآله أحد أمرين : إما الموت ،وإما الهرم ! نحن نعرف أناساً كانوا شباباً في عنفوان الشباب ، فعُمّروا لكن رجعوا إلى أرذل العمر ، يرق لهم الإنسان إذا رآهم في حالة بؤس ، حتى وإن كان عندهم من الأموال ما عندهم ،وعندهم من الأهل ما عندهم ،لكنهم في حالة بؤس ... الحياة هي ما بينها الله تعالى في قوله : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [ العنكبوت : 64] أي : لهي الحياة التامة (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ... إذن على الإنسان أن يستعد قبل أن يقول : (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).


وقد جمعت بعض مواعظ المفسرين ،وضعت منها الموعظة الأولى ،وستنزل البقية تباعاً ـ إن شاء الله ـ : http://vb.tafsir.net/showthread.php?t=6403
 
كلامك في محله أخي الكريم الدكتور عمر , والجوانب الوعظية بينة في تفسير الشيخ رحمه الله عموماً , إلا أنه أوضح فيما تفضلت به , وأضيف أيضا تفسيره الإذاعي والذي طبع فيما بعد باسم أحكام القرآن الكريم .
وما اشرت إليه كان يُلقيهِ أثناءَ افتتاحيّةِ لقاءِهِ : البابُ المفتوح ، وهو لقاءٌ لم يَكُنْ خاصًّا بطلبةِ العلمِ ، وإنّما هو لعامّةِ الناسِ ، وقد بدأَ بتفسيرِ جزء عمّ ، وبعد انتهائه مِنه بدأَ بسورة الحجراتِ ( 1) وماتَ رحمه الله ولَمْ يُتِمَّه حيثُ وصلَ فيه الآيةَ السادسة عشرة مِن سورة المجادلة ( )، وعلى هذا فيكون ما فسَّرهُ مِن المفصَّلِ يزيدُ على النصفِ قليلاً .
وقد طُبِعَ مِنه حتّى الآن جزءُ عمَّ وأُلحِقَ به تفسير سورة الفاتحة ؛ تحتَ عنوان : تفسير القرآن الكيم ، والذي أراهُ تسميتهُ بـ : تفسيرُ المفصَّل ، حيثُ أنّ طريقتهُ هنا تختلفُ عن طريقتهِ في تفسيرِ أوَّلِ القرآنِ وتعليقهِ على تفسير الجلالين ، ويتبينُ هذا بذكرِ ملامح مَنهجهِ في هذا التفسير بما يلي :
1 - يذكرُ المعنى العام للآية بأسلوبٍ ميسّر مناسبٍ للمخاطَبين ، حيث كانَ الشيخُ يُلقِيهِ على عامّةِ الناسِ في اللقاء المشهور: البابُ المفتوح ، وهو لقاءٌ لم يكنْ خاصاً بطلبةِ العلم كما قدّمتُ ، قالَ الشيخُ في تفسير سورة العاديات :" هذا هو التفسير اليسير لهذهِ السورة العظيمة ومَن أرادَ البَسْطَ فعليهِ بكتب التفاسير التي تَبْسُطُ القولَ في هذا ، ونحنُ إنما نشير
إلى المعاني إشارةً مُوجَزة ".( )
وهو في هذا الجُزْء أَشْبَهَ طريقةَ شيخهِ عبد الرحمن السعدي في تفسيره .
2 - اعتنى الشيخُ بالجانبِ السلوكيّ والوعظيّ .( )
3 - لم يتعرّض الشيخُ لإعرابِ الآيات واستنباطِ الفوائدِ مِنها على عادتهِ في التفسير ؛ إلاّ في القليلِ النَّادِر . ( )
4 - يُنَبِّهُ على ما يقعُ فيه الناسُ مِن أخطاء سواء كانت أخطاء عملية ( ) أو أخطاء قولية ( )، وذلكَ عند مناسبتها لما يفسِّره الشيخُ من الآيات .
5 - اهتمّ بذِكْرِ المناسباتِ بين الآيات . ( )
6 - اهتم بذِكْرِ القراءاتِ وتَوْجِيهها . ( )
7 - الاكتفاءُ بالقولِ الراجحِ في الآية ، وذكرُ الخلافِ عند الحاجة . ( )
8 – يتعرّضُ أحيانًا لأسبابِ النزول . ( )
................ حاشية
(1) المفصَّل يبدأُ مِن سورة (ق) على القولِ الراحجِ ، وهو رأيُ ابن عثيمينَ رحمه الله ، وقد بيّنَ أنّه إنّما بدأَ بسورة الحجراتِ نظرًا لاشتمالها على أحكامٍ كثيرة ، مع العلم أنّ هناكَ قول بأنّ المفصَّلَ يبدأُ مِن سورة الحجرات .
 
أثابكم الله ـ أبا خالد ـ على هذه الفوائد ،والتي يعظم وقعها في نفسي خصوصاً لارتباطها بشيخي ووالدي العلامة المتفنن ابن عثيمين رحمه الله رحمةً واسعة ..

بمناسبة قولي عن الشيخ (والدي) أذكر مرةً وأنا أتشرف بإيصاله للمسجد قادمين من بلدنا (المذنب) ـ قبل عشر سنوات تقيرباً ـ قلت له : والله يا شيخ إن فضلكم علينا كبير ، نسأل الله أن يعيننا على ردّ بعضه ،فقال لي : أنا أبوك ! فلا تسل عن مشاعري حينها ...

أسأل الله تعالى أن يجمعني به وبكم في الفردوس الأعلى .
 
عودة
أعلى