د. محمد بن جميل المطري
Member
الوسطية المشروعة
جعل الله سبحانه الشريعة سمحة سهلة، ليس فيها حرجٌ على العباد، ولم يأمرنا الله سبحانه إلا بما نستطيعه، قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا)) رواه البخاري (69) ومسلم (1734) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا)) رواه البخاري (39) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولا يعني التيسير ترك الاستقامة، فإن الله سبحانه يقول: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]، فعلى المسلم أن يستقيم كما أمره الله، لا كما تهوى نفسه، ويحرص على السداد بإصابة الكمال، فإن لم يستطع الكمال فليقارب بقدر استطاعته، وليحذر من الطغيان بالغلو والتشدد أو بالتميع وترك الاستقامة كما أمر الله، وخير الأمور أوسطها، والوسطية في الإسلام هي الوسطية بين باطل الغلو وباطل التميع، وليست الوسطية المشروعة الوسطية الباطلة التي يقع فيها المنافقون والذين في قلوبهم مرض فيكونون بين أهل الحق وأهل الباطل، كما قال الله عنهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]، فالوسطية المشروعة هي التمسك بالحق، واتباع الشريعة ليس تشددًا، بل هو تمسك مشروع، وهذه الوسطية هي الطريقة المرضية التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، التي لا إفراط فيها ولا تفريط، وفيها الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وفيها إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، وعلَّمنا الله سبحانه أن ندعوه فنقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، وروى البخاري (1974) ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)) لزورِك أي: لضيفك.
فالإسلام جاء بمراعاة حاجة الروح والجسد، والجمع بين الدين والدنيا، مع تغليب الدِّين لأنه الأبقى، ومن القواعد الشرعية في التيسير على العباد:
لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، ولا مكروه مع الحاجة، والمشقة تجلب التيسير، والحاجة لها أثرٌ في إباحة الرخص الشرعية.
فالحج مثلًا لا يجب إلا على من استطاع إليه سبيلًا، والقيام في الصلاة ركنٌ على القادر، فمن عجز عن القيام سقط عنه وجوب هذا الركن، والضرورات تبيح المحظورات بقدر الضرورة، كمن لم يجد طعامًا إلا ميتة، فليست الميتة حرامًا على المضطر، ويجوز له أن يأكل منها بقدر حاجته بلا زيادة، وتزول الكراهة بسبب الحاجة، فمثلًا يُكره الشرب قائمًا، لكن من احتاج إلى الشرب حال القيام لعدم وجود مكان مناسب للجلوس أو لزحمة الناس فليشرب قائمًا ولا كراهة، والسفر يُبِيح للصائم أن يفطر لأنه قد يشق عليه الصوم حال السفر، ويجوز الجمع بين الصلاتين عند الحاجة إلى الجمع كالمسافر أو المريض أو عند المطر كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، وهكذا يسر الله على عباده كما وعد رسوله بقوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8]، فالحمد لله على تيسيره.