طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,331
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
كتاب الوحي المحمدي من مجلة المنار بحسب اعداد المجلة وقد يكون فلت مني عدد او اكثر الا ان اهم مايتميز به هذا الملف الذي صنعته بنفسي فهو التعليقات التي عرضت في المنار وكلام رشيد رضا على بعضها وهي امور خارج الكتاب المنشور
(مرفق الملف كاملا بصيغة ورد في المداخلة الثالثة)
كتاب الوحي المحمدي
الكاتب : محمد رشيد رضا
ربيع الأول - 1352هـ
يونيه - 1933م
ربيع الأول - 1352هـ
يونيه - 1933م
مقدمة كتاب الوحي المحمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
العَزِيزُ الحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * فَإِنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } ( آل
عمران : 18-20 )
ارتقاء البشر المادي وهبوطهم الأدبي
وحاجتهم إلى الدين
إن من المعلوم اليقيني الثابت بالحواس أن علوم الكون المادية تَثِبُ في هذا
العصر وُثُوبًا يشبه الطفور ، وتؤتي من الثمار اليانعة بتسخير الطبيعة للإنسان ما
صارت به الدنيا كلها كأنها مدينة واحدة ، وكأن أقطارها بيوت لهذه المدينة ، وكأن
شعوبها أسر ( عائلات ) لأمة واحدة في هذه البيوت ( الأقطار ) يمكنهم أن يعيشوا
فيها إخوانًا متعاونين ، سعداء متحابين ، لو اهتدوا بالدين .
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن البشر يرجعون القهقرى في الآداب
والفضائل على نسبة عكسية مُطَّرِدَة لارتقائهم في العلوم المادية واستمتاعهم بثمراتها ،
فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل ، وجرأة على اقتراف الجرائم ، وافتنانًا في
الشهوات البهيمية ، ونقض ميثاق الزوجية ، وقطيعة وشائج الأرحام ، ونبذ هداية
الأديان ، حتى كادوا يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوات من دين
وأدب وعرف وعقل ، بل رجع بعضهم إلى عيشة العري في أرقى ممالك أوربة
علمًا وحضارة ، كما يعيش بعض بقايا الهَمَج السُّذَّج في غابات أفريقية وبعض
جزائر البحار النائية عن العمران .
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد
جناية عليهم وعلى الإنسانية - من جنايتهم على أنفسهم - بإغرائها أضغان التنافس
بينهم ، وباستعمالها جميع ثمرات العلوم ومنافع الفنون في الاستعداد للحرب العامة
التي تدمر صروح العمران التي شيدتها العصور الكثيرة ، في أَشْهُرٍ أو أيام معدودة ،
وتفني الملايين فيها من غير المحاربين كالنساء والأطفال ، وبصرفها معظم
ثروات شعوبها في هذه السبيل وفي سبيل ظلمها للشعوب الضعيفة التي ابتليت
بسلطانها ، وسلبها لثروتهم وحريتهم في دينهم ودنياهم ، فالعالم البشري كله في شقاء
من سياسة هذه الدولة الباغية الخبيثة الطوية ، وكل ما عقد من المؤتمرات لدرء
أخطارها لم يزد نارها إلا استعارًا ، ولو حسنت نياتها وأنفقت هذه الملايين التي
تسلبها من مكاسب شعوبها وغيرهم في سبيل الإصلاح الإنساني العام لبلغ البشر بها
أعلى درجات الثراء والرخاء .
كل ما ذكر معلوم باليقين ، فهو حق واقع ما له من دافع ، ومن المعلوم من
استقراء تاريخ هذه الحضارة المادية أن هذه الشرور كانت لازمة لها ، ونمت بنمائها ،
فكان هذا برهانًا على أن العلوم والفنون البشرية المحض غير كافية لجعل البشر
سعداء في حياتهم الدنيا ، فضلا عن سعادتهم في الحياة الآخرة ، وإنما تتم السعادتان
لهم بهداية الدين ، فالإنسان مدني بالطبع ، أو بالفطرة كما يقول الإسلام .
من أجل ذلك فكر بعض عقلاء أوربة وغيرهم في اللجوء إلى هداية الدين ،
وأنه هو العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها ، وتمنوا لو يبعث
في الغرب أو في الشرق نبي جديد بدين جديد يصلح الله بهدايته فسادها ، ويقوِّمُ بها
منئادها ؛ لأن الأديان المعروفة لهم لا تصلح لهذا العصر ، وقد فسد حال جميع أهلها ،
وكان ما يسمونه دين المحبة مِصْداقًا لآية : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ } ( المائدة : 14 ) .
الحجب بين الإفرنج وحقيقة الإسلام :
بيد أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة دين القرآن ، وهو الدين الإلهي العام ، والمانع
لهم من معرفته ثلاثة حُجُب تحول دون النظر الصحيح فيه ، وعدم فهمهم للقرآن كما
يجب أن يُفْهَم ، فأما الحجب دونه فهذا بيانها بالإيجاز :
( الحجاب الأول ) الكنيسة أو الكنائس التي عادته منذ بلغتها دعوته ،
وطفقت تصوره بصور مشوهة باطلة بدعاية عامة فيها من افتراء الكذب وأقوال
الزور والبهتان ، ما لم يعهد مثله في أهل ملة من البشر في زمن من الأزمان ،
وألَّفَت في ذلك من الكتب والرسائل والأغاني والأناشيد والقصائد ، ما يعرف بطلانه
كل مؤرخ مطلع على الحقائق ، ثم إنها جعلت تشويهه ووجوب معاداته من أركان
التربية والتعليم في جميع المدارس التي يتولى أتباعها تعليم الناس فيها ، فما من أحد
يتعلم فيها من أتباعها إلا وهو يعتقد أن جميع المسلمين أعداء للمسيح وللمسيحيين
كافة فيجب عليه عدواتهم ما استطاع ، والحق الواقع أن الإسلام هو صديق
المسيحية المتمم لهدايتها ، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الفارقليط روح الحق
الذي بشَّر به المسيح عليه السلام
( الحجاب الثاني ) رجال السياسة الأوربية ، فإنهم ورثوا عداوة الإسلام من
الكنيسة ، وتلقوا مفترياتها في الطعن عليه بالقبول ، وضاعف هذه العداوة له
والضراوة بحربه ، طمعهم في استعباد شعوبه واستعمار ممالكهم .
وإذا كان رجال الدين قد ملئوا الدنيا كذبًا وافتراء على الإسلام - ومن أسس
الدين الصدق وقول الحق والحب والرحمة والعدل والإيثار - فأي شيء يكثر فعله
على رجال السياسة ، وأساس بنائها الكذب وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان
والقسوة والأثرة والخداع ، وهو ما نراه بأعيننا ونسمع أخباره بآذاننا كل يوم في
المستعمرات الأوربية ؟ بل نحن نعلم أن سبب افتراء رجال الدين على الإسلام هو
السياسة لا الدين نفسه ، وإن قاعدتهم المشهورة ( الغاية تبرر الواسطة ) سياسية لا
إنجيلية ، فما كان لدين أن يبيح الجرائم والرذائل باتخاذها وسيلة لمنفعة أهله ، وإن
دينية .
( الحجاب الثالث ) سوء حال المسلمين في هذه القرون الأخيرة ، فقد فسدت
حكوماتهم وشعوبهم ، واستحوذ عليهم الجهل بحقيقة دينهم ومصالح دنياهم ، حتى
صاروا حجة لأعدائهم فيهما على أنه لا خير فيهم ولا في دينهم ، وأمكن لهؤلاء
الأعداء أن يقنعوا بهذه الحجة الداحضة أكثر من يتخرج في مدارسهم السياسية
والتبشيرية من ملتهم ، حتى نابتة المسلمين أنفسهم ، وهم يختارون من هذه النابتة
الأفراد التي تتولى أعمال الحكومة والتعليم في مدارسها في كل قطر خاضع لنفوذ
دولهم الفعلي ، بأي اسم من أسمائه من فتح وامتلاك وحماية واحتلال وانتداب ، أو
لنفوذهم السياسي والتعليمي كما فعلوا في بلاد الترك و إيران ، لتساعدهم على هدم
كل شيء إسلامي فيها من اعتقاد وأدب وتشريع ، وقد كان السيد جمال الدين
الأفغاني حكيم الإٍسلام موقظ الشرق يرى أن هذا الحجاب أكثف الحُجُب الحائلة بين
شعوب أوربة والإسلام ، ونقل لي الثقة عنه أنه قال : إذا أردنا أن ندعو أوربة إلى
ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين ، فإنهم ينظرون إلينا من خلال
القرآن هكذا : - ورفع كفيه وفرَّج بين أصابعهما - فيرون وراءه أقوامًا فشا فيهم
الجهل والتخاذل والتواكل فيقولون : لو كان هذا الكتاب حقًّا مصلحًا لما كان أتباعه
كما نرى .
لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر
المسلمين فأنصفوه فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة ، ومن مباحث عامة في العلم
والدين ، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة ، ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم
يكن مُبَيِّنًا لحقيقته كلها ، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم ، وكان جُلُّ تأثيره في
أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا في بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم
آخرون ، فهي لم تهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام .
وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب ، وأعني به الفهم الذي تعرف به حقيقة
إعجازه وتشريعه ، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذي لا يحتاج البشر معه إلى
كتاب آخر ولا إلى نبي آخر - فله أسباب .
الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن :
( أولهما ) جهل بلاغة اللغة العربية التي بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز في
أسلوبه ونظمه وتأثيره في أنفس المؤمنين والكافرين به جميعًا ، فأحدث بذلك ما
أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية في العرب والانقلاب العام في البشر ، كما
شرحناه في هذا الكتاب ، وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها علماء
المسلمين موضوع تحدي البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه ، وجعلوا
عجز العرب الخُلَّص عن معارضته بها ، ثم عجز المولَّدين الذين جمعوا بين ملكة
العربية العلمية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان ، هو الحجة الكبرى على نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادًا
متفرقين منهم - فما القول في غيرهم ؟ فعلماء المسلمين في هذه القرون يحتجون بعجز
أولئك ولا يدعون أنهم يدركون سر هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه ، بل قال بعض
علماء النظر المتقدمين منهم : إن الإعجاز واقع غير معقول السبب ، فما هو إلا أن
الله تعالى صرف الناس عن معارضته بقدرته والصواب أن منهم من حاول المعارضة
فعجزوا ؛ إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التي تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا ،
ومن متأخري هؤلاء من ادعى النبوة كمسيح الهند القادياني الدجال ، ومن ادعى
الألوهية ( كالبهاء ) وقد أخفى أتباع هذا كتابه الملقب بالأقدس ؛ لئلا يفتضحوا به بين
الناس .
( ثانيها ) أن ترجمات القرآن التي يعتمد عليها علماء الإفرنج في فهم القرآن
كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر ،
وإنما تؤدي بعض ما يفهمه المترجم له منهم ، وقلما يكون فهمه تامًّا صحيحًا ،
ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا ، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما : قصور
فهمه وقصور لغته ، وقد اعترف لي ولغيري بهذا مستر ( محمد ) مارما ديوك بكتل
الذي ترجمه بالإنكليزية وجاء مصر منذ 3 سنوات فعرض على بعض علماء
العربية المتقنين للغة الإنكليزية ما رأى أنه عجز عن أداء معناه منه ، وصحح
بمساعدتهم ما ذاكرهم فيه .
واعترف بذلك الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي الذي كلفته وزارتا
الخارجية والمعارف الفرنسية لدولته بترجمة 62 سورة من السور الطول والمئين
والمفصل التي لا تكرار فيها ففعل . وقد قال في مقدمة ترجمته التي صدرت سنة
1926 ما معناه :
( أما أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق جل وعلا ، فإن الأسلوب الذي
ينطوي على كُنْه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيًّا . والحق
الواقع أن أكثر الكُتاب ارتيابًا وشكًّا قد خضعوا لسلطان تأثيره ( في الأصل : لتأثير
سحره ، يعني تأثيره الذي يشبه السحر في كونه لا يعرف له سبب عادي ) وإن
سلطانه على الثلاثمائة الملايين من المسلمين المنتشرين على سطح المعمور لبالغ
الحد الذي جعل أجانب المبشرين يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة
محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن .
( ذلك أن هذا الأسلوب الذي طرق في أول عهده آذان البدو [1] كان نثرًا جد
طريف ، يفيض جزالة في اتساق نسق ، متجانسًا مسجعًا ، لفعله أثر عميق في نفس
كل سامع يفقه العربية ( لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان
أداء تأثير هذا النثر البديع ( الذي لم يسمع بمثله ) بلغة أخرى ، وخاصة اللغة
الفرنسية الضيقة ( التي لا سعة فيها للتعبير عن الشعور ) المرنة ( التي لا تتنازل
عن حقوقها ) والقاسية ، وزد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات
العصرية ليست لغة دينية وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية ) ا هـ .
ثم تكلم عن عنايته هو مدة تسع سنوات متواليات بمحاولة نقل شيء من
القرآن إلى اللغة الفرنسية على شرط المحافظة على بلاغة الأصل ( وتساءل هل
أمكنه التغلب على هذه الصعوبة أم لا ؟ يعني أنه يشك في ذلك ) .
( ثالثها ) أن أسلوب القرآن الغريب المخالف لجميع أساليب الكلام العربي ،
وطريقته في مزج العقائد والمواعظ والحكم والأحكام والآداب بعضها ببعض في
الآيات المتفرقة في السور - وهو ما بينا سببه وحكمته في هذا الكتاب - قد كان
حائلاً دون جمع كبار علماء المسلمين من المفسرين وغيرهم لكل نوع من أنواع
علومه ومقاصده في باب خاص به ، كما فعلوا في آيات الأحكام العملية من العبادات
والمعاملات ، دون القواعد والأصول الاجتماعية والسياسية والمالية التي يرى
القارئ نموذجها في هذا الكتاب ؛ إذ لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها كما نشعر في
هذا العصر .
وقد عني بعض الإفرنج بوضع كتاب باللغة الفرنسية جمع فيه آيات القرآن
بحسب معانيها ، ووَضْع كل منها في باب أو أبواب خاصة بقدر فهمه ، ولكنه أخطأ
في كثير من هذه المعاني وقصَّر في بعض ، على أن أخذ القواعد والأصول العامة
من هذه الآيات يتوقف على العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في بيان
القرآن وتنفيذه لشرعه ، وآثار خلفائه وعلماء أصحابه من بعده ، كما يعلم من يراجع
في ذلك الكتاب الآيات الدالة على ما بيناه في كتابنا هذا من مقاصد القرآن
بالاختصار ، وما فصلناه منها في تفسير المنار .
( رابعها ) أن الإسلام ليس له دولة تقيم القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه
وسلم بالحكم وتتولى نشره بالعلم ، ولا جمعيات دينية تتولى بحمايتها الدعوة إليه
بالحجة ، وليس لأهله مجمع ديني علمي يُرْجَعُ إليه في بيان معاني القرآن وهدايته
في سياسة البشر ومصالحهم العامة التي تتجدد لهم بتجدد الحوادث ومخترعات
العلوم والفنون ، وفيما يتعارض من العلوم ونصوص الدين فيرجع إليها علماء
الإفرنج في استبانة ما خفي عليهم من نصوصها .
وأعجب من هذا وأغرب أن المسلمين أنفسهم قد تركوا من بعد خير القرون
الأولى أخذ دينهم من القرآن المنزل ومن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم له كما
أمره الله تعالى فيه بقوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ } ( النحل : 44 ) وما زالوا يهجرون الاهتداء بهما حتى استغنوا عنها
استغناء تامًّا بأخذ عقائدهم عن كتب المتكلمين ، وأخذ أحكام عباداتهم ومعاملاتهم عن
كتب علماء المذاهب غير المجتهدين ، وهذه الكتب لا تقوم بها حجة الله تعالى على
البشر ، ولا سيما أهل هذا العصر الذي ارتقت فيه جميع العلوم العقلية والتشريعية ،
حتى صار المسلمون منا ، يأخذون عنهم ما كانوا يأخذون عنا ، بل فيها من آراء
المتكلمين والفقهاء ، وروايات الكذابين والضعفاء ما قد يعد حجة على الإسلام وأهله ،
كما أن سوء حال المسلمين في فُشُوِّ الجهل في شعوبهم والفساد والانحلال في
حكوماتهم قد اتُّخِذَ حجة على دينهم ، فصاروا فتنة للذين كفروا به .
وإذا كان هذا حال المسلمين في فهم القرآن وهدايته ، فيكف يكون حال
الشعوب التي نشأت على أديان أخرى ألفتها ، ولها رؤساء يربونهم عليها ويصدونهم
عن غيرها ، ودول حربية قد عادوا الإسلام منذ بضع قرون ، بما لو وجهوه إلى
الجبال لاندكت وزالت من الوجود ، ولكنه دين الله الحي القيوم فهو باقٍ ما دام البشر
في الأرض لا يزول أو تزول .
هذه أظهر الأسباب لخفاء حقيقة الإسلام الكاملة على علماء الحضارة العصرية
من الأجانب ومن المسلمين أيضًا وتمنيهم لو يبعث نبي جديد بهداية إلهية عامة كافية
لإصلاحهم .
ولما كان الإسلام هو دين الإنسانية العام الدائم الجامع لكل ما تحتاج إليه جميع
الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية وجب على العقلاء الأحرار والعلماء المستقلين
الذين يتألمون من المفاسد المادية التي تفاقم شرها في هذا العهد أن يعنوا بهتك تلك
الحجب التي تحجبهم عن النظر فيه ، وإزالة الموانع التي تعوقهم عن فهم حقيقته .
***
بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام
بما تقوم به الحجة على جميع الأنام
أما بعد فإنني أقدم لهم هذا الكتاب الذي صنفته في إثبات ( الوحي المحمدي )
وكون القرآن كلام الله عز وجل ، وكونه مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه البشر من
الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي . وقد أطلت في بيان هذه
المقاصد الأساسية بعض الإطالة ؛ لأنها مثار جميع الفتن والمفاسد التي يشكو منها
عقلاء هذا العصر ، وأما توفية هذا الموضوع حقه فلا يكون إلا في سِفْرٍ كبير يجمع
مقاصد القرآن كلها مع بيان حاجة البشر إليها في أمور معاشهم ومعادهم ، وهو ما
أبينه في تفسير المنار بالتفصيل في شرح آياتها ، وبإجمال قواعد كل سورة
وأصولها في آخر تفسيرها .
على أنني لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض ، وإنما بدأت منه
بفصل استطرادي لتفسير آية : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) إلخ من أول سورة يونس بينت به الدلائل القطعية على أن القرآن
وحي من الله تعالى كان محمد صلى الله عليه وسلم يَعْجَزُ كغيره عن مثله بعلمه
ولغته ، وأنه أعم وأكمل وأثبت من كل وحي كان قبله ، وأن حجته قائمة على
المؤمنين بالوحي وغيرهم ، ثم بدا لي في أثناء كتابته أن أجرده في كتاب خاص
أدعو به شعوب الحضارة المادية من الإفرنج و اليابان إلى الإسلام ، بتوجيهه أولا
إلى علمائهم الأحرار ، حتى إذا ما اهتدوا به تولوا دعوة شعوبهم ودولهم إليه بلغاتهم ،
ولهذا زدت فيه على ما كتبته في التفسير ، ووضعت له الخاتمة التي صرحت فيها
بالدعوة وجعلتها هي المقصودة بالذات منه .
ولو أنني قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار بتحقيق كل مسألة في موضعها ، على أن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار متعمد فيها . ولكنني كتبته في أوقات متفرقة ،
وحالات بؤس وعسرة ، لا أراجع عند موضوع منها ما قبله ، ولا أعتمد إلا على ما
أتذكره من القرآن نفسه ، على صعوبة استحضار المعاني المتفرقة في سوره ، وإلا
بعض الأحاديث في مواضعها من كتبها لتخريجها والثقة بصحتها ، وإني أحيل
القارئ له في كل إجمال على مراجعة تفسير المنار في تفصيله ، وفي كل إشكال
على مراجعة محرره : محمد رشيد رضا
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يعني العرب الذين تغلب عليهم البداوة حتى في حواضرهم كمكة و يثرب .
(33/282)
ذو القعدة - 1352هـ
فبراير - 1933م
فبراير - 1933م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
قد حبَّذ الفضلاء هذا الكتاب أحسن التحبيذ ، وقرَّظوه بالممتاز من التقريظ ،
وشكروا لنا ودعوا ، فمن الشكر لله تعالى وللمحسنين من الناس ، والتعاون على
إذاعة دعوة الإسلام ، أن ننشر أهم ما حفظناه مما كتب إلينا ، ومما نشر في
الصحف التي اطلعنا عليها .
ونبدأ بكتابين كريمين ، لملكي الإسلام الكبيرين ، الإمامين الجليلين :
إمام العترة الزيدية يحيى بن حميد الدين ملك اليمن الميمون ، وإمام أهل السنة
والجماعة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك المملكة العربية السعودية ،
وخادم الحرمين الشريفين ، أدام الله توفيقهما ، وأعز العرب والإسلام باتفاقهما
وتعاونهما ، وإننا ننشرهما بحسب تاريخ ورودهما .
كتاب الإمام يحيى
( بسم الله الرحمن الرحيم )
الختم
( أمير المؤمنين ، المتوكل على الله رب العالمين ، الإمام يحيى حميد الدين )
إلى السيد العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار حفظه الله .
لقد ظفرت العيون بما تشتهيه ، وحظيت من الأماني بما تبتغيه ، بعد إرسال
رائدِ لحظها ، وتمتعها بالوموق على تلك الرياض الأنيقة ، وينابيع التحقيق الغزيرة ،
التي أودعتموها ذلك المجموع النفيس المطبوع المسمى ( بالوحي المحمدي ) فإنه -
والحق يقال - وحيد في بابه موضوعًا وتنسيقًا ، واستدلالاً وسياقًا ، يهدي إلى القلوب
ما يرفع عنها الرين والكروب ، ويتحف المُطَالع بما تستلذه المسامع ، ويستطيبه
القارئ والسامع ، وتثلج له الصدور ، وتنبعث من حقائقه أشعة النور ، فجزاك الله
خيرًا على هذه الخدمة الدينية التي نراها من العلم الصالح ، والمتجر الرابح ، والقصد
الناجح ، وإنا لتعميم الانتفاع به نطلب منكم أن ترسلوا إلينا من نسخه المصححة أخيرًا
مائة نسخة على حسابنا ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
... ... ... ... ... ... في 21 جمادى الآخرة سنة 1352
كتاب جلالة الملك عبد العزيز
( بسم الله الرحمن الرحيم )
من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل
إلى حضرة الأخ المكرم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى ، السلام
عليكم ورحمة الله ، أما بعد فقد تلقينا كتابكم الكريم ، المؤرخ في 23 رمضان سنة
1352 وأحطنا علمًا بما ذكرتم بارك الله فيكم . لقد اطلعنا على كتابكم ( الوحي
المحمدي ) فَسَرَّنَا اهتمامكم بإخراجه للناس ، وقيامكم بما فرض الله من الدعوة إلى
سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة في زمن تكاثرت فيه الشبهات ممن ران الشيطان
على قلوبهم فصدهم عن سبيل الله حتى ضلوا وأضلوا . فكان كتابكم من أبلغ القول
في إظهار حجة الله القائمة على عباده ، يدعو من كان له قلب إلى دين الحق ،
ويبين للجاحد الملحد بطلان حجته ، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا . وأخذ
بيدكم في تأييد الدعوة الإسلامية ، ونشر عقائد السلف الصالح ، ووفقنا وإياكم لما فيه
نصر لدينه ، وإعلاء لكلمته ، إنه على كل شيء قدير . والسلام .
في 4 من ذي القعدة سنة 1352 ... ... ... ... ... ( الختم )
***
كلمة من كتاب لإمام
طائفة الإباضية الهمام
كنا أهدينا نسخة من كتاب الوحي المحمدي إلى هذا الإمام الجليل مع كتاب
خاص فجاءنا كتاب منه ( من نزوى - عمان ) بعد جمع ما تقدم وما بعده قبل طبعه
قال في أوله بعد البسملة :
من إمام المسلمين محمد بن عبد الله الخليلي إلى حضرة العلامة المحقق أخينا
السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فإن رأيتم في إبطائنا في الرد على كتابكم الكريم المرسل معه مؤلفكم
فذاك لا عن إهمال وعدم تقدير ، وإن لكم ولأمثالكم من إخواننا علماء الدين الحنيف
منزلة كبرى في القلب لا يحلها سواهم … ( ثم قال بعد بيان العذر )
( أما مؤلفكم العظيم فهو في غنى عن التقريظ والمدح ، وإعجابنا به لا
يحد ، ولا شك أنه الحجة الدامغة والقول المتين لمن لا يدين بهذا الدين القويم ،
وفقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين ، وبارك الله فيما تنوون وتقصدون ، وسلام الله
عليكم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء )
كتاب صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر بالأمس ورئيس المحكمة الشرعية من قبل
ورئيس جامعة الدفاع عن الإسلام اليوم
صديقي السيد الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا :
أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم ( الوحي المحمدي ) أن أقول : إنكم
وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم ، فقد عرضتم خلاصته من
ينابيعه الصافية عرضًا قلَّ أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة ،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون ،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون ، ولكم مني تحية الإخاء
والسلام عليكم ورحمة الله .
... ... ... ... ... ... ... محمد مصطفى المراغي
تقريظ الأستاذ الفاضل صاحب المصنفات المفيدة
الشيخ محمد أحمد العدوي من نابغي علماء الأزهر
كتاب جديد أخرجه الأستاذ الكبير صاحب المنار ، وآية كبرى من آيات الله
في التأليف ، وحسنة من حسنات صاحب المنار ( وحسناته كثيرة ) تقرأ هذا السفر
فترى فيه حججًا دامغة ، وإحاطة بمقاصد الإسلام ، ودفعًا لشُبَهٍ يوردها أعداء الحق ،
ولقد يخيل إليك أثناء دراستك للكتاب أن صاحبه لمس أمراض النفوس فوضع لها
علاجها ، كما تراه قد أقام الحجة من العقل والنقل على الملحدين من رجال العلم ولا
سيما الماديين منهم ، وإنه لكتاب تحتاجه جميع الطبقات ، وحاجة الذين يهمهم نشر
الدين والدعوة إليه أشد ، أفاض في مباحث الوحي ، وأقام الأدلة على أن ذلك الوحي
لم يكن نابعًا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم كما زعم المسيو درمنغام في كتابه
( حياة محمد ) وغيره ، وإنما هو نازل من السماء .
ليس بالعجيب أن نرى لصاحب المنار هذه المعجزة العلمية فإن البحوث
الدينية والتحقيقات العلمية قد امتزجت بلحمه ودمه ، حتى أصبحت الكتابة فيها هينة
عليه لينة له ، ويأخذ منك العجب منتهاه حيث تجلس إليه فيحادثك وتحادثه وقلمه
يسيل بتحرير مسائل في الدين أقل ما يحتاج الكاتب إليه فيها أن ينقطع عن العالم
ليجمع شتات فكره رجاء أن يلم بأطراف مسألة منها .
وهذه آثاره في تفسير كتاب الله تعالى ناطقة بنبوغه وتفوقه ، وأنه بَزَّ علماء
التفسير جميعهم في إبراز القرآن الكريم للناس معجزة دائمة ، وهداية عامة شاملة ،
وسعادة لهم في دينهم ودنياهم ، تقرأ طائفة من التفسير فتحس في خلال القراءة أن
من ورائك سوطًا من أسواط الحق يسوقك إلى الفضيلة ويردعك عن الرذيلة وأن
صلتك بكتاب الله تعالى وتعلقك في هدايته وفقه معانيه هي أغلى شيء في هذه
الحياة ، وأعظم رزق ساقه الله إليك ، كما تحس في ذلك التفسير أنك في دائرة من
دوائر المعارف الإلهية الكبرى .
وجدير بأستاذ له هذا الأثر أن يطلع على الناس بأمثال الوحي المحمدي مما
يغذي أرواحهم ، وينمي معارفهم ، دع ما وراء ذلك كله من قوة في البيان ، ورواء
في الأسلوب ، وتنسيق لطرق الاستدلال ، ودقة في المأخذ ؛ كل ذلك تجده في
مؤلفات صاحب المنار ، وتراه أوضح وأجلى في ( كتاب الوحي المحمدي ) وما
سبقه من كتاب ( نداء للجنس اللطيف وحقوق المرأة في الإسلام ) .
وكل ما نتمناه أن يُلْهَم الناس رشدهم ، ويعرفوا للعاملين قدرهم ، فيكافئوهم
على هذه المجهودات بمطالعة كتبهم ، وأن ينسأ الله في أجل صاحب المنار حتى يتم
تفسيره الذي خدم فيه أحد عشر جزءًا من أجزاء القرآن الكريم ، وأن يمده بروح
منه ويبعد عنه مشاغل الحياة حتى يعيش موفور الصحة هادئ البال .
وأن يستجيب فيه دعاء الأستاذ الإمام وهو يقول في آخر حياته :
فيا رب إن قدرت رُجْعَى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... من الرأي والتأويل يَهْدِي ويلهم
... ... ... ... ... ... محمد أحمد العدوي من العلماء
كلمة من كتاب للأستاذ الكريم صاحب الإمضاء
لئن اجتمع علماؤنا الرسميون على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
أطال الله حياتك يا مرشد الحيران ، ويا خليفة حكيم الإسلام . حتى تصير
الأمة الإسلامية ( رشيدية ) اسمًا ولحمًا ودمًا إن شاء الله ، رغم أنف الحاسدين أمثال
صاحب سجود الشمس تحت العرش ، وأعوذ بك ربي أن أكون من الجاهلين .
يا صاحب الفضيلة :
قرأت كتابكم ( الوحي المحمدي ) إلى آخره فإذا به فيض من نور الله ، وقبس
من ضيائه ، يجب على كل مسلم متدين أن يقرأه ؛ إذ إنه خير كتاب من نوعه ألف
في هذا الموضوع ، بل يجب على كل مسلم غيور أن يعمل على ذيوعه وانتشاره
بين طبقات الأمة حتى يعم نفعه ، وهذا ما عاهدت الله عليه خدمة للدين وابتغاء
وجهه الكريم .
... ... ... ... ... ... ... ... ( أحمد أحمد القصير )
... ... ... ... ... في كَفْر المندرة
طائفة مما كتبه إلينا علماء ديار الشام الأعلام
أيد الله بهم الإسلام
-1-
للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار [1]
إذا أردت أن تعرف قيمة تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأن تتحقق أنه أفضل
تفسير للمسلمين في هذا العصر يقوم به أقدرهم عليه ، وأولاهم به ، وأنه لا يسد
مسده تفسير آخر ؛ لأنه يستمد من قوى هذا العصر وحقائقه ، ويدفع ما تجدد من
الشبهات والشكوك ، ويقيم الأدلة القاطعة ، ويورد الشواهد الحسية والتاريخية على
أن الحكومة الإسلامية هي أفضل حكومة في العالم كله .
إذا شاقك ذلك وأردت أن تعرفه يقينًا ، فاقرأ كتاب ( الوحي المحمدي ) للسيد
الإمام علامة العصر الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومؤلف تفسيره ،
فهو نموذج من ذلك التفسير العجيب الذي صدر منه عشرة مجلدات ضخمة إلى الآن ،
فسَّر بها ثلث القرآن الحكيم ، وكتاب ( الوحي المحمدي ) منها هو تفسير لقوله
تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) في أول
يونس من الجزء الحادي عشر [2] .
ولعمر الحق إنه أتى في هذا الكتاب بالعجب العجاب ، فقد أثبت نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بالبراهين العقلية والعلمية القاهرة ، وأورد الشواهد التاريخية
الحسية الكثيرة ورد جميع ضلالات بني آدم عنها ، لا سيما شبهات فلاسفة الإفرنج ،
ومطاعن الملحدين وخرافات المشعوذين .
وقد كان بعض فلاسفة الغرب كتوماس ورينيه ودرمنغام وأمثالهم كتبوا في
السيرة النبوية شيئًا حسنًا ، وبسطوا لأممهم حقائق منها ، لولاهم لطمسها الجهل
والتعصب غير أن هؤلاء قد عرضت لهم شبهات وأوهام ، فحسبوا الوحي الإلهي
النبوي عمومًا والمحمدي منه خصوصًا ، ضربًا من الاستعداد النفسي ، والفيض
الذاتي ، أي أنه نابع من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم غير نازل من عند الله .
وقد بسط السيد الإمام شبهتهم هذه ، وأبرزها بأوسع معانيها ، وصورها بأجلى
صورها ، ثم كر عليها بالنقض والإبطال ، وبين فسادها واستحالتها من عشرة وجوه
لا تحتمل الرد ولا المراء .
ثم عقد فصولاً في إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته . وقوة تأثيره وهدايته . بما
لم يؤثر مثله أي كتاب آخر . ثم أفرد مقاصد القرآن الدينية والمدنية لرفع مستوى
الإنسانية . فشرح أصول السعادة الخالدة . ومطالب الحياة الراقية . ودل على
مقاصد الإسلام العالية التي لا يطمح العقل البشري ولا الارتقاء المدني إلى أسمى
منها أبدًا .
ولقد شرح السيد الإمام معجزات الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام شرحًا
بليغًا يوقف من تدبيره على سر اصطفائهم واجتبائهم ، وكونهم صفوة البشر وأكملهم
وأفضلهم وأولاهم بحمل أمانة التشريع ، والقيام بعهدة التبليغ { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( الأنعام : 124 ) .
ثم إن من أمعن النظر فيما كتبه عن المعجزات نفسها ، وما أقامه من ميزان
العدل والنصفة بينها ، أدرك أن ليس فيما ظهر على يد المسيح عيسى بن مريم منها
ما يعلو به عن مقام النبوة والرسالة أبدًا { مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } ( المائدة : 75 ) ثم أدرك أن
القرآن هو الآية الإلهية الكبرى ، والمعجزة الدينية العظمى ، بل هو معجزة
المعجزات ، وآية الآيات ، ولولاه لانمحى رسم تلك الخوارق من الأذهان .
ألا ليت دعاة النصرانية المبشرين الذين يسعون لتنصير مسلمي الأرض وهم
مئات الملايين ، ويبغون زوال القرآن ( وقد تولى الله حفظه ) من الوجود ، ليتهم
يعلمون أن أمة القرآن التي دانت به وأذعنت لحكمه ، ولم تلتفت إلى شيء غيره ، قد
شهدت ببراءة العذراء البتول ، وابنها المسيح الرسول ، من مفتريات أعدائهم اليهود ،
وآمنت عن طريق القرآن وحده بكل ما ورد من معجزات الرسل وآياتهم ، وأن
القرآن لو زال لا قدر الله تعالى من الأرض فإن أمة القرآن لا تؤمن لأحد بعد
(الوحي المحمدي ) بنبوة ولا رسالة ، ولا تعتقد بنزول وحي من السماء على أحد من
الأنبياء ، فإيمانهم بالقرآن إيمان بسائر كتب الله ، وتصديقهم بخاتم النبيين تصديق
بسائر رسل الله ، وكفرهم بالقرآن كفر بجميع الكتب والرسل ، فأي الفريقين من
المؤمنين والكافرين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ( الأنعام : 82 ) .
وإنك لتجد هذه الحقائق كلها وأضعافها واضحة في كتاب ( الوحي المحمدي )
وإني لمعترف بأني عاجز عن وصفه ، وبأني لم أحط علمًا بكنهه ، ولكني أختم
كلمتي بما قاله أحد خطباء الشرق الأستاذ يوسف اصطفان الشهير في المؤلف نفسه
على إثر محاضرة كان ألقاها السيد الإمام بدمشق الشام في عهد الحكومة العربية قال
لا فض فوه : إن كان لهذا الرجل ( يعني السيد الإمام ) نظير في رجال الدين في
الغرب ، فنحن لا نستحق الحياة أو قال الاستقلال في الشرق .
ثم ختم الكتاب بدعوة الشعوب المتمدنة إلى ما ينجيهم من غوائل المدنية
الفاسدة ، ويمتعهم في ظلال الإسلام والسلام .
والكتاب قد ترجم إلى لغات كثيرة شرقية وغربية وتقرر تدريسه في بعض
الممالك الإسلامية ، أفليس العرب وفيهم أنزل القرآن ، ومنهم أرسل الرسول صلى
الله عليه وسلم أولى بذلك ؟ بلى ، وإن قلمي ليعجز عن الإحاطة بوصف كتاب
( الوحي المحمدي )
وحسبي أن أوجه نظر كل من يهمه أمر دينه ولا سيما شبابنا المثقف وطلاب
المدارس العالية أن يجعلوه عمدتهم في دراستهم ودروس قراءتهم ، فهو يغني عن
كل كتاب في موضوعه ، ولا يغني عنه غيره .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
-2-
للعلامة الأستاذ الشيخ محمد ظبيان الكيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مستوجب الحمد ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى
الخير الهادي إلى الرشد ، وآله وصحبه وتابعيه وحزبه ، أما بعد فقد مَنَّ الله تعالى
عليَّ بالاطلاع على كتاب الوحي المحمدي الذي أخرجه للناس العلامة الكبير
والأستاذ الشهير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر فأدهشني ما رأيت من
بدائع ذلك البناء الشامخ ، والطود الراسخ ، وما حواه من الآيات البينات ،
ومعجزات العلم الباهرات ، وإني لا أريد أن أتوسع في تقريظ هذا الكتاب ، وأن
أبالغ في مدحه كما يفعله كثير من العلماء والكتاب ، ولكني أريد أن أقول كلمتي عما
حواه من الحقائق التي أتى بها المؤلف حفظه الله على ضوء العلم فأقول :
إنه لما أخبرني أخي وصديقي العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار أحد
علماء دمشق بصدور هذا الكتاب ، وأخذ يصف لي ما اشتمل عليه من الحقائق
العلمية والأسلوب الجذاب ، داخلني الريب فيما قال ، وعددت ذلك غلوًّا في الدعاية
أو ضربًا من الخيال ، ولكني ما كدت أتناوله وأتصفح عباراته ، وأتذوق طلاوة
أسلوبه الحكيم ، حتى انقلب ذلك الريب يقينًا ، وأصبح عندي ذلك الخيال حقيقة
ملموسة ، وإذا بهذا السفر يتدفق حججًا استمدها المؤلف ( أدام الله إرشاده ) من نور
القرآن ، واقتبسها من مشكاة العرفان ، فكأنه وحي من الوحي ، فقلت : { ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } ( المائدة : 54 ) .
جاء هذا الكتاب في وقت اشتدت الحاجة إلى مثله ، وتطاولت الأعناق إلى
وجود مُؤَلَّف جامع على شكله ؛ إذ نشأ اليوم الجهل وكثر الفساد ، وهجمت على
المؤمنين جيوش الزيغ والإلحاد ، فكادت تجتاح الفضيلة ، وتقضي على البشرية
بسموم الرذيلة ، وتجتث الاعتقاد بوجود الخالق ، وتقذفه من حالق .
فجاء الأستاذ المؤلف يدعو الأمم أجمع إلى هداية القرآن بالحكمة والموعظة
الحسنة ، يخاطب كل أمة على قدر عقولها ، وينوع الأساليب الحكيمة بتقريب الحق
إلى أفهامها ، ليمحو ظلمة شكوكها وأوهامها ، وليكون ذلك أوقع في النفوس وأبلغ
في تأثير الحجة .
إننا اليوم في عصر كَثُرَ فيه طلاب العلوم الكونية ، فلا يذعنون إلا لما كان
مؤسسًا على الحقائق العلمية ، فها هم اليوم قد وجدوا ضالتهم المنشودة ، وبغيتهم
المقصودة ، فهو كترجمان حكيم يخاطب كل واحد منهم بلغته ، ويناجي كل فريق
على قدر عقله ودرجة استعداده ومعرفته ، فما أجدر طلاب العلوم الكونية ، وعشاق
الحقائق في كل أمة أن يعكفوا على اقتنائه ، ودراسته وتدبر آياته ، ليستضيئوا بنور
مشكاته ، فينالوا السعادتين ، ويفوزوا بالنعمتين .
أما علماء الإسلام فإنهم إذا ولوا وجوههم شطره ، وقرءوه لإخوانهم ، ازدادوا
إيمانًا مع إيمانهم ، وكان لهم منه سلاح جديد يدفعون به هجمات أعداء الإسلام من
المبشرين والملحدين ، ويدحضون به دعاويهم الباطلة ، وكان لهم منه أيضًا مادة
غزيرة يستعينون بها على الدعوة إلى الله .
وأنا أرجو من الأستاذ ( أدام الله نفعه ) أن يسعى في ترجمة هذا الكتاب القيم
إلى اللغات الأجنبية ، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية ؛ لأنها أكثر انتشارًا في الأرض ،
وليطلع عليه الأمم التي لم تقف على حقيقة الإسلام حتى اليوم كالأمتين اليابانية
والأميركية ، وليكون عونًا لجمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية في طوكيو عاصمة
اليابان ؛ لتفهيم القوم حقيقة الإسلام ، وأنه لم يكن دينًا تعبديًّا فحسب ، بل هو دين
اجتماعي ، جاء لسعادة البشر ، جمع بين خيري الدنيا والآخرة والله يهدي من يشاء
إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
دمشق ... ... ... ... محمد علي ظبيان الكيلاني
-3-
( للعلامة الأستاذ الشيخ محمد مسلم الغنيمي الميداني )
نور سطع في سماء جزيرة العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا فأضاء الكون لجدير
بأن يكون موضع الإعجاب وتوجه الأنظار ، وإن جزيرة العرب في ذلك الزمن
كانت مجدبة من كل علم وفن لا يرى في سمائها بارقة نور .
أخذ هذا النور يتلألأ في سماء الجزيرة وما تزيده الأيام إلا ضياء وامتدادًا ،
والمعلوم أن مصدر هذا النور العظيم هو ذلك القرآن الحكيم ، والنبي الكريم ،
العربي الصميم ، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
ولقد شهد عظماء الإفرنجية وفلاسفتهم كدروي وإبرفنج وسديو وإسحاق طيلر
وغوستاف وتولستوي وتومس كارليل وهنري كاستري وغيرهم أن المدنية الغربية
مقتبسة من الحضارة الإسلامية ، ولو أخذنا نبسط أقوالهم لطال بنا المقام وخرجنا
عن الموضوع .
وممن كتب في السيرة النبوية من مفكري الغرب درمنغام و منتيه وغيرهما
فوصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان للخلاء والعزلة يفكر في طريق النجاة
من هذه المخازي والضلالات التي عم ظلامها البشر ، ولكنهم حسبوا الكتاب الذي
أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي النفسي والإلهام الذاتي : أي أنه عليه
الصلاة والسلام صفت سريرته على رءوس الهضاب وبين الشعاب في غار حراء ،
فأوحت إليه نفسه كتابًا أرشد الأمم وجميع الشعوب بتعاليمه كما ذكر مونتيه في
مقدمة ترجمته للقرآن الكريم بعد ذكره لأنبياء بني إسرائيل فقال : فتحدث فيه ( أي
الفكرة الدينية ) كما كانت تحدث فيهم ذلك الإلهام النفسي .
فهذا أقصى ما وصلت إليه أفكار فلاسفة الغرب في الوحي الإلهي ، لذلك قام
علامة الإسلام السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر ، فكشف اللثام
عن حقيقة الوحي وماهيته وكيفيته ، وأبطل مزاعمهم ورد شبهاتهم بأدلة عقلية
وبراهين حسية مفسرًا قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 )
كتاب لم يُنْسَج على منواله ، ولم يُسْبَق المؤلف لمثله ، فهو كتاب لا يستغني
عنه المسلم ولا غير المسلم ، فالمسلم يعلم كيف يقيم الحجة على صحة دينه ، ونبوة
نبيه وكتاب ربه ، وغير المسلمين يرون الفرق واضحًا بين الوحي السماوي والإلهام
النفسي ، فجزى الله السيد المؤلف خيرًا ، وأدامه للمسلمين ذخرًا ، آمين .
دمشق ... محمد مسلم الغنيمي الميداني
-4-
للطبيب النطاسي والعالم العصري الدكتور سعد عيد عرابي
لقد تقهقر البشر في هذا العصر في الأخلاق والآداب ، ومحقت الفضيلة ،
وحلت مكانها الرذيلة ، التي انحطت به إلى أقصى درجات البهيمية ، وما ذلك إلا
لأن تقدم الحضارة والعلوم الكونية كان ماديًّا ، وكان البشر آليًّا متجردًا عن الروح
في كل حركاته وسكناته ، ومتى سلب الشيء روحه كان باهتًا لا لذة فيه ولا طعم ،
هذا ما دعاهم أن يسرفوا في ألوان الرذائل وأشكالها علهم يجدون بها متعة جديدة
تنسيهم آلام هذه الحياة ، وهذه الحضارة الزائفة ، وما كان ذلك إلا ليزيدهم شقاء
وبلاء .
لئن فكّر بعض عقلاء أوربا وغيرهم في اللجوء إلى الدين ، وبأنه العلاج
الوحيد لأدواء هذه الحضارة ، وتمنوا لو يبعث في الشرق أو في الغرب نبي جديد
يصلح بهدايته فسادها ، فقد نادى منادي ( الوحي المحمدي ) بأن حي على الفلاح ها
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وها إن الإسلام دين البشرية والسلام
كفيل إن اتبعتموه أن يهديكم صراطًا مستقيمًا ، وأبان فضائل الدين الإسلامي ومزاياه
على ما جاء في الأديان الأخرى ، وما حواه من التشريع الديني والمدني ، وأماط
اللثام عن الحجب التي بين الإفرنج وحقيقة الإسلام وعددها : فمن عداوة الكنيسة
وتداعياتها المشوهة الباطلة ، إلى كذب رجال السياسة وطمعهم في استعباد الشعوب
شعوب الإسلام إلى سوء حال هؤلاء في القرون الأخيرة وجهلهم حقيقة دينهم وأمور
دنياهم .
مع أن الغاية الأساسية لهذا الكتاب دحض مزاعم درمنغام وغيره من الإفرنج
الذين يدعون أن الوحي المحمدي وحي نفسي لا إلهي ، ومع أنه أفاض في
الموضوع ، وأيد بالبراهين العقلية والأدلة القطعية وبمعجزة القرآن المجيد فساد
مزعمهم هذا ، وأن الوحي المحمدي أثبت وأكمل وأعم من كل وحي جاء قبله فقد
جاء هذا الكتاب من مقدمته إلى خاتمته جامعًا شاملاً لم يترك شاردة أو واردة تعلي
كلمة الله تعالى وتنصر الحق المبين إلا وذكرها ، كما وأن هذا السفر النفيس يروي
غليل من كان للحقيقة من المستطلعين ، فقد عرَّف النبوة وأبان الفوارق بين
المعجزات والكرامات ، وشرح مقاصد القرآن المجيد شرحًا دقيقًا : من دينية
واجتماعية وسياسية ومالية ( وأستأذن أن أذكِّرَه بالقواعد الصحية وهي كثيرة )
والخلاصة أن هذا الكتاب قد جمع شمل ما في الإسلام من حكم ، وقد وفَّى
الموضوع حقه ، بأن قدمه للجمعيات الإسلامية في العالم داعيًا رجالاتها إلى ترجمته
إلى لغاتهم لتكون فائدته أعم ، وقد دعا في خاتمته شعوب المدنية إلى الإسلام ، دين
الإنسانية والسلام ؛ لإنقاذ البشر من هذا الشقاء العام .
ومن جمل ما قال لهم في دعوته هذه : ( قد بينا لكم أيها العلماء الأحرار
بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلل
والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي الأعلى ، والتشريع المدني الأسمى ،
والحكمة الأدبية المثلى ، نابعًا من استعداده الشخصي ، وما اقتبسه من بيئته ومن
أسفاره ، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً ، وعلمتم أن بعض ما قالوه
افتراء على التاريخ وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه ، وعلمتم أنه في جملته
مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر ، وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ ، ونحن
نتحداكم الآن بالإتيان بعلل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي الله تعالى
وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه : علل يقبلها ميزان العقل
المسمى بعلم المنطق ، فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول ،
وتؤيدها النقول ، فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته ، وبكاتبه المُنَزَّل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر ، وأن تتولوا
الدعوة إلى هذا الإيمان ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به )
ومما قاله حفظه الله : ( أما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار فالمرجو
منكم أن تسمعوا وتبصروا ، وأن تعلموا فتعملوا ، فإن كانت دعوة القرآن لم تبلغكم
حقيقتها الكافلة لإصلاح البشر على الوجه الصحيح الذي يحرك إلى النظر لأنكم لم
تبحثوا عنها بالإخلاص مع التجرد من التقاليد المسلمة عندكم والأهواء ؛ ولأن
الإسلام ليس له زعامة ولا جماعات تبث دعوته ، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ
حضارته ، بل صار المسلمون في جملتهم حجة على الإسلام وحجابًا دون نوره ،
فأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في إبلاغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا
العصر ، فإن ظهر لكم الحق فذلك ما نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها ، وإن
عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم للعلم ، وحرصكم على استبانة الحق أن
تشرحوها لنعرض عليكم جوابنا عنها ، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون ) .
حقًّا قليلون وقليلون جدًّا ( كذا ) العلماء الذين يحذون حذو صاحب الفضيلة
العالم العلامة حجة الإسلام الأستاذ السيد رشيد رضا في إظهار الإسلام في صورته
الحقيقية العلمية العقلية ، وقد أظهر في دعوته شعوبَ المدنية إلى الإسلام ، كما
أثبت في مقاصد القرآن المجيد ، أن الإسلام دين البشرية والسلام ، دين العقل
والفكر ، دين العلم والحكمة ، دين الحجة والبرهان .
إن ظهور السفر النفيس ( الوحي المحمدي ) خدمة جلى أسداها للدين وللبشر
وللحقيقة وللتاريخ ، جديرة بأن تسطر له بأحرف من نور على صفحات الفخار
وليتفضل المؤلف الإمام بقبول شكري
دمشق ... ... ... ... ... ... ... الدكتور سعد عيد عرابي
... ... ... ... ... ... ... خريج جامعتي باريز وبرلين
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الأستاذ جامع بين العلم الصحيح والعمل به والدعوة إليه قولاً وكتابة وخطابة ومناظرة وبذلاً مما يملك من مال قليل فقد علمنا أنه اشترى من كتاب الوحي المحمدي نسخًا كثيرة من دمشق ووزعها على مَن يظن بهم الفهم والانتفاع ، حتى من ملاحدة الأغنياء ، فنسأل الله أن يخلفه عليه ويجزيه خير الجزاء .
(2) سيصدر الجزء الحادي عشر في المحرم سنة 1353 إن شاء الله تعالى .
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
قد حبَّذ الفضلاء هذا الكتاب أحسن التحبيذ ، وقرَّظوه بالممتاز من التقريظ ،
وشكروا لنا ودعوا ، فمن الشكر لله تعالى وللمحسنين من الناس ، والتعاون على
إذاعة دعوة الإسلام ، أن ننشر أهم ما حفظناه مما كتب إلينا ، ومما نشر في
الصحف التي اطلعنا عليها .
ونبدأ بكتابين كريمين ، لملكي الإسلام الكبيرين ، الإمامين الجليلين :
إمام العترة الزيدية يحيى بن حميد الدين ملك اليمن الميمون ، وإمام أهل السنة
والجماعة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك المملكة العربية السعودية ،
وخادم الحرمين الشريفين ، أدام الله توفيقهما ، وأعز العرب والإسلام باتفاقهما
وتعاونهما ، وإننا ننشرهما بحسب تاريخ ورودهما .
كتاب الإمام يحيى
( بسم الله الرحمن الرحيم )
الختم
( أمير المؤمنين ، المتوكل على الله رب العالمين ، الإمام يحيى حميد الدين )
إلى السيد العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار حفظه الله .
لقد ظفرت العيون بما تشتهيه ، وحظيت من الأماني بما تبتغيه ، بعد إرسال
رائدِ لحظها ، وتمتعها بالوموق على تلك الرياض الأنيقة ، وينابيع التحقيق الغزيرة ،
التي أودعتموها ذلك المجموع النفيس المطبوع المسمى ( بالوحي المحمدي ) فإنه -
والحق يقال - وحيد في بابه موضوعًا وتنسيقًا ، واستدلالاً وسياقًا ، يهدي إلى القلوب
ما يرفع عنها الرين والكروب ، ويتحف المُطَالع بما تستلذه المسامع ، ويستطيبه
القارئ والسامع ، وتثلج له الصدور ، وتنبعث من حقائقه أشعة النور ، فجزاك الله
خيرًا على هذه الخدمة الدينية التي نراها من العلم الصالح ، والمتجر الرابح ، والقصد
الناجح ، وإنا لتعميم الانتفاع به نطلب منكم أن ترسلوا إلينا من نسخه المصححة أخيرًا
مائة نسخة على حسابنا ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
... ... ... ... ... ... في 21 جمادى الآخرة سنة 1352
كتاب جلالة الملك عبد العزيز
( بسم الله الرحمن الرحيم )
من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل
إلى حضرة الأخ المكرم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى ، السلام
عليكم ورحمة الله ، أما بعد فقد تلقينا كتابكم الكريم ، المؤرخ في 23 رمضان سنة
1352 وأحطنا علمًا بما ذكرتم بارك الله فيكم . لقد اطلعنا على كتابكم ( الوحي
المحمدي ) فَسَرَّنَا اهتمامكم بإخراجه للناس ، وقيامكم بما فرض الله من الدعوة إلى
سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة في زمن تكاثرت فيه الشبهات ممن ران الشيطان
على قلوبهم فصدهم عن سبيل الله حتى ضلوا وأضلوا . فكان كتابكم من أبلغ القول
في إظهار حجة الله القائمة على عباده ، يدعو من كان له قلب إلى دين الحق ،
ويبين للجاحد الملحد بطلان حجته ، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا . وأخذ
بيدكم في تأييد الدعوة الإسلامية ، ونشر عقائد السلف الصالح ، ووفقنا وإياكم لما فيه
نصر لدينه ، وإعلاء لكلمته ، إنه على كل شيء قدير . والسلام .
في 4 من ذي القعدة سنة 1352 ... ... ... ... ... ( الختم )
***
كلمة من كتاب لإمام
طائفة الإباضية الهمام
كنا أهدينا نسخة من كتاب الوحي المحمدي إلى هذا الإمام الجليل مع كتاب
خاص فجاءنا كتاب منه ( من نزوى - عمان ) بعد جمع ما تقدم وما بعده قبل طبعه
قال في أوله بعد البسملة :
من إمام المسلمين محمد بن عبد الله الخليلي إلى حضرة العلامة المحقق أخينا
السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فإن رأيتم في إبطائنا في الرد على كتابكم الكريم المرسل معه مؤلفكم
فذاك لا عن إهمال وعدم تقدير ، وإن لكم ولأمثالكم من إخواننا علماء الدين الحنيف
منزلة كبرى في القلب لا يحلها سواهم … ( ثم قال بعد بيان العذر )
( أما مؤلفكم العظيم فهو في غنى عن التقريظ والمدح ، وإعجابنا به لا
يحد ، ولا شك أنه الحجة الدامغة والقول المتين لمن لا يدين بهذا الدين القويم ،
وفقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين ، وبارك الله فيما تنوون وتقصدون ، وسلام الله
عليكم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء )
كتاب صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر بالأمس ورئيس المحكمة الشرعية من قبل
ورئيس جامعة الدفاع عن الإسلام اليوم
صديقي السيد الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا :
أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم ( الوحي المحمدي ) أن أقول : إنكم
وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم ، فقد عرضتم خلاصته من
ينابيعه الصافية عرضًا قلَّ أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة ،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون ،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون ، ولكم مني تحية الإخاء
والسلام عليكم ورحمة الله .
... ... ... ... ... ... ... محمد مصطفى المراغي
تقريظ الأستاذ الفاضل صاحب المصنفات المفيدة
الشيخ محمد أحمد العدوي من نابغي علماء الأزهر
كتاب جديد أخرجه الأستاذ الكبير صاحب المنار ، وآية كبرى من آيات الله
في التأليف ، وحسنة من حسنات صاحب المنار ( وحسناته كثيرة ) تقرأ هذا السفر
فترى فيه حججًا دامغة ، وإحاطة بمقاصد الإسلام ، ودفعًا لشُبَهٍ يوردها أعداء الحق ،
ولقد يخيل إليك أثناء دراستك للكتاب أن صاحبه لمس أمراض النفوس فوضع لها
علاجها ، كما تراه قد أقام الحجة من العقل والنقل على الملحدين من رجال العلم ولا
سيما الماديين منهم ، وإنه لكتاب تحتاجه جميع الطبقات ، وحاجة الذين يهمهم نشر
الدين والدعوة إليه أشد ، أفاض في مباحث الوحي ، وأقام الأدلة على أن ذلك الوحي
لم يكن نابعًا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم كما زعم المسيو درمنغام في كتابه
( حياة محمد ) وغيره ، وإنما هو نازل من السماء .
ليس بالعجيب أن نرى لصاحب المنار هذه المعجزة العلمية فإن البحوث
الدينية والتحقيقات العلمية قد امتزجت بلحمه ودمه ، حتى أصبحت الكتابة فيها هينة
عليه لينة له ، ويأخذ منك العجب منتهاه حيث تجلس إليه فيحادثك وتحادثه وقلمه
يسيل بتحرير مسائل في الدين أقل ما يحتاج الكاتب إليه فيها أن ينقطع عن العالم
ليجمع شتات فكره رجاء أن يلم بأطراف مسألة منها .
وهذه آثاره في تفسير كتاب الله تعالى ناطقة بنبوغه وتفوقه ، وأنه بَزَّ علماء
التفسير جميعهم في إبراز القرآن الكريم للناس معجزة دائمة ، وهداية عامة شاملة ،
وسعادة لهم في دينهم ودنياهم ، تقرأ طائفة من التفسير فتحس في خلال القراءة أن
من ورائك سوطًا من أسواط الحق يسوقك إلى الفضيلة ويردعك عن الرذيلة وأن
صلتك بكتاب الله تعالى وتعلقك في هدايته وفقه معانيه هي أغلى شيء في هذه
الحياة ، وأعظم رزق ساقه الله إليك ، كما تحس في ذلك التفسير أنك في دائرة من
دوائر المعارف الإلهية الكبرى .
وجدير بأستاذ له هذا الأثر أن يطلع على الناس بأمثال الوحي المحمدي مما
يغذي أرواحهم ، وينمي معارفهم ، دع ما وراء ذلك كله من قوة في البيان ، ورواء
في الأسلوب ، وتنسيق لطرق الاستدلال ، ودقة في المأخذ ؛ كل ذلك تجده في
مؤلفات صاحب المنار ، وتراه أوضح وأجلى في ( كتاب الوحي المحمدي ) وما
سبقه من كتاب ( نداء للجنس اللطيف وحقوق المرأة في الإسلام ) .
وكل ما نتمناه أن يُلْهَم الناس رشدهم ، ويعرفوا للعاملين قدرهم ، فيكافئوهم
على هذه المجهودات بمطالعة كتبهم ، وأن ينسأ الله في أجل صاحب المنار حتى يتم
تفسيره الذي خدم فيه أحد عشر جزءًا من أجزاء القرآن الكريم ، وأن يمده بروح
منه ويبعد عنه مشاغل الحياة حتى يعيش موفور الصحة هادئ البال .
وأن يستجيب فيه دعاء الأستاذ الإمام وهو يقول في آخر حياته :
فيا رب إن قدرت رُجْعَى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... من الرأي والتأويل يَهْدِي ويلهم
... ... ... ... ... ... محمد أحمد العدوي من العلماء
كلمة من كتاب للأستاذ الكريم صاحب الإمضاء
لئن اجتمع علماؤنا الرسميون على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
أطال الله حياتك يا مرشد الحيران ، ويا خليفة حكيم الإسلام . حتى تصير
الأمة الإسلامية ( رشيدية ) اسمًا ولحمًا ودمًا إن شاء الله ، رغم أنف الحاسدين أمثال
صاحب سجود الشمس تحت العرش ، وأعوذ بك ربي أن أكون من الجاهلين .
يا صاحب الفضيلة :
قرأت كتابكم ( الوحي المحمدي ) إلى آخره فإذا به فيض من نور الله ، وقبس
من ضيائه ، يجب على كل مسلم متدين أن يقرأه ؛ إذ إنه خير كتاب من نوعه ألف
في هذا الموضوع ، بل يجب على كل مسلم غيور أن يعمل على ذيوعه وانتشاره
بين طبقات الأمة حتى يعم نفعه ، وهذا ما عاهدت الله عليه خدمة للدين وابتغاء
وجهه الكريم .
... ... ... ... ... ... ... ... ( أحمد أحمد القصير )
... ... ... ... ... في كَفْر المندرة
طائفة مما كتبه إلينا علماء ديار الشام الأعلام
أيد الله بهم الإسلام
-1-
للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار [1]
إذا أردت أن تعرف قيمة تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأن تتحقق أنه أفضل
تفسير للمسلمين في هذا العصر يقوم به أقدرهم عليه ، وأولاهم به ، وأنه لا يسد
مسده تفسير آخر ؛ لأنه يستمد من قوى هذا العصر وحقائقه ، ويدفع ما تجدد من
الشبهات والشكوك ، ويقيم الأدلة القاطعة ، ويورد الشواهد الحسية والتاريخية على
أن الحكومة الإسلامية هي أفضل حكومة في العالم كله .
إذا شاقك ذلك وأردت أن تعرفه يقينًا ، فاقرأ كتاب ( الوحي المحمدي ) للسيد
الإمام علامة العصر الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومؤلف تفسيره ،
فهو نموذج من ذلك التفسير العجيب الذي صدر منه عشرة مجلدات ضخمة إلى الآن ،
فسَّر بها ثلث القرآن الحكيم ، وكتاب ( الوحي المحمدي ) منها هو تفسير لقوله
تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) في أول
يونس من الجزء الحادي عشر [2] .
ولعمر الحق إنه أتى في هذا الكتاب بالعجب العجاب ، فقد أثبت نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بالبراهين العقلية والعلمية القاهرة ، وأورد الشواهد التاريخية
الحسية الكثيرة ورد جميع ضلالات بني آدم عنها ، لا سيما شبهات فلاسفة الإفرنج ،
ومطاعن الملحدين وخرافات المشعوذين .
وقد كان بعض فلاسفة الغرب كتوماس ورينيه ودرمنغام وأمثالهم كتبوا في
السيرة النبوية شيئًا حسنًا ، وبسطوا لأممهم حقائق منها ، لولاهم لطمسها الجهل
والتعصب غير أن هؤلاء قد عرضت لهم شبهات وأوهام ، فحسبوا الوحي الإلهي
النبوي عمومًا والمحمدي منه خصوصًا ، ضربًا من الاستعداد النفسي ، والفيض
الذاتي ، أي أنه نابع من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم غير نازل من عند الله .
وقد بسط السيد الإمام شبهتهم هذه ، وأبرزها بأوسع معانيها ، وصورها بأجلى
صورها ، ثم كر عليها بالنقض والإبطال ، وبين فسادها واستحالتها من عشرة وجوه
لا تحتمل الرد ولا المراء .
ثم عقد فصولاً في إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته . وقوة تأثيره وهدايته . بما
لم يؤثر مثله أي كتاب آخر . ثم أفرد مقاصد القرآن الدينية والمدنية لرفع مستوى
الإنسانية . فشرح أصول السعادة الخالدة . ومطالب الحياة الراقية . ودل على
مقاصد الإسلام العالية التي لا يطمح العقل البشري ولا الارتقاء المدني إلى أسمى
منها أبدًا .
ولقد شرح السيد الإمام معجزات الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام شرحًا
بليغًا يوقف من تدبيره على سر اصطفائهم واجتبائهم ، وكونهم صفوة البشر وأكملهم
وأفضلهم وأولاهم بحمل أمانة التشريع ، والقيام بعهدة التبليغ { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( الأنعام : 124 ) .
ثم إن من أمعن النظر فيما كتبه عن المعجزات نفسها ، وما أقامه من ميزان
العدل والنصفة بينها ، أدرك أن ليس فيما ظهر على يد المسيح عيسى بن مريم منها
ما يعلو به عن مقام النبوة والرسالة أبدًا { مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } ( المائدة : 75 ) ثم أدرك أن
القرآن هو الآية الإلهية الكبرى ، والمعجزة الدينية العظمى ، بل هو معجزة
المعجزات ، وآية الآيات ، ولولاه لانمحى رسم تلك الخوارق من الأذهان .
ألا ليت دعاة النصرانية المبشرين الذين يسعون لتنصير مسلمي الأرض وهم
مئات الملايين ، ويبغون زوال القرآن ( وقد تولى الله حفظه ) من الوجود ، ليتهم
يعلمون أن أمة القرآن التي دانت به وأذعنت لحكمه ، ولم تلتفت إلى شيء غيره ، قد
شهدت ببراءة العذراء البتول ، وابنها المسيح الرسول ، من مفتريات أعدائهم اليهود ،
وآمنت عن طريق القرآن وحده بكل ما ورد من معجزات الرسل وآياتهم ، وأن
القرآن لو زال لا قدر الله تعالى من الأرض فإن أمة القرآن لا تؤمن لأحد بعد
(الوحي المحمدي ) بنبوة ولا رسالة ، ولا تعتقد بنزول وحي من السماء على أحد من
الأنبياء ، فإيمانهم بالقرآن إيمان بسائر كتب الله ، وتصديقهم بخاتم النبيين تصديق
بسائر رسل الله ، وكفرهم بالقرآن كفر بجميع الكتب والرسل ، فأي الفريقين من
المؤمنين والكافرين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ( الأنعام : 82 ) .
وإنك لتجد هذه الحقائق كلها وأضعافها واضحة في كتاب ( الوحي المحمدي )
وإني لمعترف بأني عاجز عن وصفه ، وبأني لم أحط علمًا بكنهه ، ولكني أختم
كلمتي بما قاله أحد خطباء الشرق الأستاذ يوسف اصطفان الشهير في المؤلف نفسه
على إثر محاضرة كان ألقاها السيد الإمام بدمشق الشام في عهد الحكومة العربية قال
لا فض فوه : إن كان لهذا الرجل ( يعني السيد الإمام ) نظير في رجال الدين في
الغرب ، فنحن لا نستحق الحياة أو قال الاستقلال في الشرق .
ثم ختم الكتاب بدعوة الشعوب المتمدنة إلى ما ينجيهم من غوائل المدنية
الفاسدة ، ويمتعهم في ظلال الإسلام والسلام .
والكتاب قد ترجم إلى لغات كثيرة شرقية وغربية وتقرر تدريسه في بعض
الممالك الإسلامية ، أفليس العرب وفيهم أنزل القرآن ، ومنهم أرسل الرسول صلى
الله عليه وسلم أولى بذلك ؟ بلى ، وإن قلمي ليعجز عن الإحاطة بوصف كتاب
( الوحي المحمدي )
وحسبي أن أوجه نظر كل من يهمه أمر دينه ولا سيما شبابنا المثقف وطلاب
المدارس العالية أن يجعلوه عمدتهم في دراستهم ودروس قراءتهم ، فهو يغني عن
كل كتاب في موضوعه ، ولا يغني عنه غيره .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
-2-
للعلامة الأستاذ الشيخ محمد ظبيان الكيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مستوجب الحمد ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى
الخير الهادي إلى الرشد ، وآله وصحبه وتابعيه وحزبه ، أما بعد فقد مَنَّ الله تعالى
عليَّ بالاطلاع على كتاب الوحي المحمدي الذي أخرجه للناس العلامة الكبير
والأستاذ الشهير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر فأدهشني ما رأيت من
بدائع ذلك البناء الشامخ ، والطود الراسخ ، وما حواه من الآيات البينات ،
ومعجزات العلم الباهرات ، وإني لا أريد أن أتوسع في تقريظ هذا الكتاب ، وأن
أبالغ في مدحه كما يفعله كثير من العلماء والكتاب ، ولكني أريد أن أقول كلمتي عما
حواه من الحقائق التي أتى بها المؤلف حفظه الله على ضوء العلم فأقول :
إنه لما أخبرني أخي وصديقي العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار أحد
علماء دمشق بصدور هذا الكتاب ، وأخذ يصف لي ما اشتمل عليه من الحقائق
العلمية والأسلوب الجذاب ، داخلني الريب فيما قال ، وعددت ذلك غلوًّا في الدعاية
أو ضربًا من الخيال ، ولكني ما كدت أتناوله وأتصفح عباراته ، وأتذوق طلاوة
أسلوبه الحكيم ، حتى انقلب ذلك الريب يقينًا ، وأصبح عندي ذلك الخيال حقيقة
ملموسة ، وإذا بهذا السفر يتدفق حججًا استمدها المؤلف ( أدام الله إرشاده ) من نور
القرآن ، واقتبسها من مشكاة العرفان ، فكأنه وحي من الوحي ، فقلت : { ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } ( المائدة : 54 ) .
جاء هذا الكتاب في وقت اشتدت الحاجة إلى مثله ، وتطاولت الأعناق إلى
وجود مُؤَلَّف جامع على شكله ؛ إذ نشأ اليوم الجهل وكثر الفساد ، وهجمت على
المؤمنين جيوش الزيغ والإلحاد ، فكادت تجتاح الفضيلة ، وتقضي على البشرية
بسموم الرذيلة ، وتجتث الاعتقاد بوجود الخالق ، وتقذفه من حالق .
فجاء الأستاذ المؤلف يدعو الأمم أجمع إلى هداية القرآن بالحكمة والموعظة
الحسنة ، يخاطب كل أمة على قدر عقولها ، وينوع الأساليب الحكيمة بتقريب الحق
إلى أفهامها ، ليمحو ظلمة شكوكها وأوهامها ، وليكون ذلك أوقع في النفوس وأبلغ
في تأثير الحجة .
إننا اليوم في عصر كَثُرَ فيه طلاب العلوم الكونية ، فلا يذعنون إلا لما كان
مؤسسًا على الحقائق العلمية ، فها هم اليوم قد وجدوا ضالتهم المنشودة ، وبغيتهم
المقصودة ، فهو كترجمان حكيم يخاطب كل واحد منهم بلغته ، ويناجي كل فريق
على قدر عقله ودرجة استعداده ومعرفته ، فما أجدر طلاب العلوم الكونية ، وعشاق
الحقائق في كل أمة أن يعكفوا على اقتنائه ، ودراسته وتدبر آياته ، ليستضيئوا بنور
مشكاته ، فينالوا السعادتين ، ويفوزوا بالنعمتين .
أما علماء الإسلام فإنهم إذا ولوا وجوههم شطره ، وقرءوه لإخوانهم ، ازدادوا
إيمانًا مع إيمانهم ، وكان لهم منه سلاح جديد يدفعون به هجمات أعداء الإسلام من
المبشرين والملحدين ، ويدحضون به دعاويهم الباطلة ، وكان لهم منه أيضًا مادة
غزيرة يستعينون بها على الدعوة إلى الله .
وأنا أرجو من الأستاذ ( أدام الله نفعه ) أن يسعى في ترجمة هذا الكتاب القيم
إلى اللغات الأجنبية ، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية ؛ لأنها أكثر انتشارًا في الأرض ،
وليطلع عليه الأمم التي لم تقف على حقيقة الإسلام حتى اليوم كالأمتين اليابانية
والأميركية ، وليكون عونًا لجمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية في طوكيو عاصمة
اليابان ؛ لتفهيم القوم حقيقة الإسلام ، وأنه لم يكن دينًا تعبديًّا فحسب ، بل هو دين
اجتماعي ، جاء لسعادة البشر ، جمع بين خيري الدنيا والآخرة والله يهدي من يشاء
إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
دمشق ... ... ... ... محمد علي ظبيان الكيلاني
-3-
( للعلامة الأستاذ الشيخ محمد مسلم الغنيمي الميداني )
نور سطع في سماء جزيرة العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا فأضاء الكون لجدير
بأن يكون موضع الإعجاب وتوجه الأنظار ، وإن جزيرة العرب في ذلك الزمن
كانت مجدبة من كل علم وفن لا يرى في سمائها بارقة نور .
أخذ هذا النور يتلألأ في سماء الجزيرة وما تزيده الأيام إلا ضياء وامتدادًا ،
والمعلوم أن مصدر هذا النور العظيم هو ذلك القرآن الحكيم ، والنبي الكريم ،
العربي الصميم ، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
ولقد شهد عظماء الإفرنجية وفلاسفتهم كدروي وإبرفنج وسديو وإسحاق طيلر
وغوستاف وتولستوي وتومس كارليل وهنري كاستري وغيرهم أن المدنية الغربية
مقتبسة من الحضارة الإسلامية ، ولو أخذنا نبسط أقوالهم لطال بنا المقام وخرجنا
عن الموضوع .
وممن كتب في السيرة النبوية من مفكري الغرب درمنغام و منتيه وغيرهما
فوصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان للخلاء والعزلة يفكر في طريق النجاة
من هذه المخازي والضلالات التي عم ظلامها البشر ، ولكنهم حسبوا الكتاب الذي
أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي النفسي والإلهام الذاتي : أي أنه عليه
الصلاة والسلام صفت سريرته على رءوس الهضاب وبين الشعاب في غار حراء ،
فأوحت إليه نفسه كتابًا أرشد الأمم وجميع الشعوب بتعاليمه كما ذكر مونتيه في
مقدمة ترجمته للقرآن الكريم بعد ذكره لأنبياء بني إسرائيل فقال : فتحدث فيه ( أي
الفكرة الدينية ) كما كانت تحدث فيهم ذلك الإلهام النفسي .
فهذا أقصى ما وصلت إليه أفكار فلاسفة الغرب في الوحي الإلهي ، لذلك قام
علامة الإسلام السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر ، فكشف اللثام
عن حقيقة الوحي وماهيته وكيفيته ، وأبطل مزاعمهم ورد شبهاتهم بأدلة عقلية
وبراهين حسية مفسرًا قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 )
كتاب لم يُنْسَج على منواله ، ولم يُسْبَق المؤلف لمثله ، فهو كتاب لا يستغني
عنه المسلم ولا غير المسلم ، فالمسلم يعلم كيف يقيم الحجة على صحة دينه ، ونبوة
نبيه وكتاب ربه ، وغير المسلمين يرون الفرق واضحًا بين الوحي السماوي والإلهام
النفسي ، فجزى الله السيد المؤلف خيرًا ، وأدامه للمسلمين ذخرًا ، آمين .
دمشق ... محمد مسلم الغنيمي الميداني
-4-
للطبيب النطاسي والعالم العصري الدكتور سعد عيد عرابي
لقد تقهقر البشر في هذا العصر في الأخلاق والآداب ، ومحقت الفضيلة ،
وحلت مكانها الرذيلة ، التي انحطت به إلى أقصى درجات البهيمية ، وما ذلك إلا
لأن تقدم الحضارة والعلوم الكونية كان ماديًّا ، وكان البشر آليًّا متجردًا عن الروح
في كل حركاته وسكناته ، ومتى سلب الشيء روحه كان باهتًا لا لذة فيه ولا طعم ،
هذا ما دعاهم أن يسرفوا في ألوان الرذائل وأشكالها علهم يجدون بها متعة جديدة
تنسيهم آلام هذه الحياة ، وهذه الحضارة الزائفة ، وما كان ذلك إلا ليزيدهم شقاء
وبلاء .
لئن فكّر بعض عقلاء أوربا وغيرهم في اللجوء إلى الدين ، وبأنه العلاج
الوحيد لأدواء هذه الحضارة ، وتمنوا لو يبعث في الشرق أو في الغرب نبي جديد
يصلح بهدايته فسادها ، فقد نادى منادي ( الوحي المحمدي ) بأن حي على الفلاح ها
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وها إن الإسلام دين البشرية والسلام
كفيل إن اتبعتموه أن يهديكم صراطًا مستقيمًا ، وأبان فضائل الدين الإسلامي ومزاياه
على ما جاء في الأديان الأخرى ، وما حواه من التشريع الديني والمدني ، وأماط
اللثام عن الحجب التي بين الإفرنج وحقيقة الإسلام وعددها : فمن عداوة الكنيسة
وتداعياتها المشوهة الباطلة ، إلى كذب رجال السياسة وطمعهم في استعباد الشعوب
شعوب الإسلام إلى سوء حال هؤلاء في القرون الأخيرة وجهلهم حقيقة دينهم وأمور
دنياهم .
مع أن الغاية الأساسية لهذا الكتاب دحض مزاعم درمنغام وغيره من الإفرنج
الذين يدعون أن الوحي المحمدي وحي نفسي لا إلهي ، ومع أنه أفاض في
الموضوع ، وأيد بالبراهين العقلية والأدلة القطعية وبمعجزة القرآن المجيد فساد
مزعمهم هذا ، وأن الوحي المحمدي أثبت وأكمل وأعم من كل وحي جاء قبله فقد
جاء هذا الكتاب من مقدمته إلى خاتمته جامعًا شاملاً لم يترك شاردة أو واردة تعلي
كلمة الله تعالى وتنصر الحق المبين إلا وذكرها ، كما وأن هذا السفر النفيس يروي
غليل من كان للحقيقة من المستطلعين ، فقد عرَّف النبوة وأبان الفوارق بين
المعجزات والكرامات ، وشرح مقاصد القرآن المجيد شرحًا دقيقًا : من دينية
واجتماعية وسياسية ومالية ( وأستأذن أن أذكِّرَه بالقواعد الصحية وهي كثيرة )
والخلاصة أن هذا الكتاب قد جمع شمل ما في الإسلام من حكم ، وقد وفَّى
الموضوع حقه ، بأن قدمه للجمعيات الإسلامية في العالم داعيًا رجالاتها إلى ترجمته
إلى لغاتهم لتكون فائدته أعم ، وقد دعا في خاتمته شعوب المدنية إلى الإسلام ، دين
الإنسانية والسلام ؛ لإنقاذ البشر من هذا الشقاء العام .
ومن جمل ما قال لهم في دعوته هذه : ( قد بينا لكم أيها العلماء الأحرار
بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلل
والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي الأعلى ، والتشريع المدني الأسمى ،
والحكمة الأدبية المثلى ، نابعًا من استعداده الشخصي ، وما اقتبسه من بيئته ومن
أسفاره ، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً ، وعلمتم أن بعض ما قالوه
افتراء على التاريخ وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه ، وعلمتم أنه في جملته
مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر ، وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ ، ونحن
نتحداكم الآن بالإتيان بعلل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي الله تعالى
وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه : علل يقبلها ميزان العقل
المسمى بعلم المنطق ، فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول ،
وتؤيدها النقول ، فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته ، وبكاتبه المُنَزَّل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر ، وأن تتولوا
الدعوة إلى هذا الإيمان ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به )
ومما قاله حفظه الله : ( أما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار فالمرجو
منكم أن تسمعوا وتبصروا ، وأن تعلموا فتعملوا ، فإن كانت دعوة القرآن لم تبلغكم
حقيقتها الكافلة لإصلاح البشر على الوجه الصحيح الذي يحرك إلى النظر لأنكم لم
تبحثوا عنها بالإخلاص مع التجرد من التقاليد المسلمة عندكم والأهواء ؛ ولأن
الإسلام ليس له زعامة ولا جماعات تبث دعوته ، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ
حضارته ، بل صار المسلمون في جملتهم حجة على الإسلام وحجابًا دون نوره ،
فأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في إبلاغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا
العصر ، فإن ظهر لكم الحق فذلك ما نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها ، وإن
عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم للعلم ، وحرصكم على استبانة الحق أن
تشرحوها لنعرض عليكم جوابنا عنها ، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون ) .
حقًّا قليلون وقليلون جدًّا ( كذا ) العلماء الذين يحذون حذو صاحب الفضيلة
العالم العلامة حجة الإسلام الأستاذ السيد رشيد رضا في إظهار الإسلام في صورته
الحقيقية العلمية العقلية ، وقد أظهر في دعوته شعوبَ المدنية إلى الإسلام ، كما
أثبت في مقاصد القرآن المجيد ، أن الإسلام دين البشرية والسلام ، دين العقل
والفكر ، دين العلم والحكمة ، دين الحجة والبرهان .
إن ظهور السفر النفيس ( الوحي المحمدي ) خدمة جلى أسداها للدين وللبشر
وللحقيقة وللتاريخ ، جديرة بأن تسطر له بأحرف من نور على صفحات الفخار
وليتفضل المؤلف الإمام بقبول شكري
دمشق ... ... ... ... ... ... ... الدكتور سعد عيد عرابي
... ... ... ... ... ... ... خريج جامعتي باريز وبرلين
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الأستاذ جامع بين العلم الصحيح والعمل به والدعوة إليه قولاً وكتابة وخطابة ومناظرة وبذلاً مما يملك من مال قليل فقد علمنا أنه اشترى من كتاب الوحي المحمدي نسخًا كثيرة من دمشق ووزعها على مَن يظن بهم الفهم والانتفاع ، حتى من ملاحدة الأغنياء ، فنسأل الله أن يخلفه عليه ويجزيه خير الجزاء .
(2) سيصدر الجزء الحادي عشر في المحرم سنة 1353 إن شاء الله تعالى .
(33/697)
ذو الحجة - 1352هـ
أبريل - 1934م
أبريل - 1934م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تصدير كتاب الوحي المحمدي
الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله جل ثناؤه أن جعل قبول هذا الكتاب وتأثيره فوق ما كنا نقدر
ونحتسب ، على ما نظن من دقة اختبارنا للعالم الإسلامي ، فإنه لم يكن إلا خلاصة
عامة من تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأكثر المسلمين قد هجروا القرآن هجرًا غير
جميل ؛ إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية ، وقوة
سياسية وحربية ، وثروة وحضارة ونَعمة معيشة ، بله ما يلزم ذلك من الفوائد
السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم ، وصد عدوانهم عن بلادهم وإنقاذهم من
استذلالهم لشعوبهم .
في القرآن كل ما ذكرت وما هو أكثر منه وأكبر ، ولا يطلبونه منه ، ومنهم
من يطلبه من غيره - حتى الحياة الروحية يعتقدون أنه هو ينبوعها الأعظم ، ويوجد
فيهم من يطلبها من غيره ( كالأوراد والأحزاب ) بناء على أنها مستمدة منه ويقل
فيهم من يزيد عليها تلاوة ألفاظه ، وإنما يتلوها تاليها منهم ومن غيرهم ؛ لأن
لقارئها على كل حرف منه عشر حسنات , لا للتدبر والادكار الذي أنزل لأجله
القرآن { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( ص :
29 ) { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ( المؤمنون : 68-69 ) { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } ( محمد : 24-25 ) .
إن أكثر المسلمين يجهلون أن للقرآن تأثيرًا صالحًا ما في حياتهم المعاشية
والمدنية والسياسية وهي أكبر همومهم ولا مرشد لهم فيها ، ويجهلون البرهان العقلي
المقترن بالشعور الوجداني ، على أنه وحي الله لنبيه ورسوله ، وأن في اتباعه
سعادتهم في دينهم ودنياهم ، ولا يجدون أحدًا من الذين يتولون تربيتهم وتعليمهم في
بيوتهم ولا في مدارسهم يقنعهم به ، ويربي فيهم ملكة الوازع النفسي لاتباعه ، لا
يعرفون كتابًا من كتب عقائدهم أو تفاسيره يهديهم إلى هذا ، والمجهول المطلق لا
تتوجه إليه النفس ، فلا عجب إذا هجروا القرآن وأعرضوا عن تدبره .
إن تفسير المنار قد أُلِّفَ لاستدراك هذا التقصير في كتب التفسير ، ولكنه لا
يدرس في المدارس ، ولا يعتمد عليه في التربية ، ولا يخطر في بال من لم يقرأه
أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها ، ولا لدفع الغوائل
عنها ، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من
الإصلاح والهدى ، وتجديد ثورته الأولى ، ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
كل ما يحتاج إليه المسلمون من إصلاح وتجديد حضارة وملك متوقف فيهم
على هداية القرآن وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله
عنهم له ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه
الله ، وكيف السبيل إلى إقناعهم بذلك ونحن ندعوهم إلى هذا منذ ثلث قرن ، وقل
منهم من سمع فاستجاب واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب ، حتى أهابت بهم صيحة
هذا الكتاب باسم الوحي المحمدي ، وإعجاز القرآن للبشر بما تقتضيه حضارة هذا
العصر وعلومه ومشكلاته السياسة والقومية : وتحدي علماء الإفرنج بعلومه
وإصلاحه ، ودعوتهم إلى الإسلام به ؛ لإنقاذ العالم المدني من أخطاره وانتياشهم من
تياره ، فكانت أول صيحة صخت الأسماع ، فأصغت الآذان ، وأشخصت الأبصار ،
وأهطعت الأعناق ، بالقرآن للقرآن ، فبادر أهل الغيرة إلى ترجمته بما اختلف من
اللغات ، وبث دعوته في الأقطار ، فأسر ما سرني من تأثيره إنما هو توجيه القلوب
إلى هداية القرآن ، وروح القرآن ، وإن اشترك فيه العربي والعجمي ، والسني
والشيعي والإباضي ، ولا غرو فالقرآن فوق المذاهب والأجناس والأوطان ، ومن
آياته المحكمات : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ } ( آل عمران : 105 ) ومن خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ( الأنعام : 159 ) .
وإنما مزية هذا الكتاب أنه بيَّن إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية
التي يفهمها كل قارئ ، وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد
مؤيدة بالشواهد ، وذكَّرهم بما كان من إحداثه أعظم ثورة عالمية وانقلاب ديني مدني
في الأرض ، وعرض على أبصارهم ما لا مراء فيه من فساد حال شعوب الحضارة
الغربية ، وعجز علومهم وفنونهم عن تلافي شرها ، وتدارك خطرها بعبارة
مختصرة ، تعلوها عناوين كبيرة أو صغيرة ، تشير إلى ما تحتها من كنوز ، وما
وراءها من ركاز إسلامي مركوز ، فلا تتعب القارئ الكسول ، ولا تنفر السامع
الملول .
من الدلائل على تقبل جميع المسلمين له بقبول حسن ما أثبتناه في التقاريظ
الملحقة بهذه الطبعة من كتب أئمة الفرق الثلاث الكبرى التي تضم الملايين من أهل
القبلة ، وما يرجى من مساعدتهم لنا على تعميم نشره ، فأما إمام أهل السنة فإنه
أبدى لنا عزمه على ذلك وكانت نسخ الطبعة الأولى قد نفذت ، وأما إمام العترة
والشيعة الزيدية فإنه عندما رآه كتب إلينا يستأذننا بطبعه في اليمن لتعميم نشره فيه
فكتبنا إليه بأننا سنعيد طبعه منقحًا مزيدًا فيه ، فكتب ثانيًا ما يراه القراء في أول
التقاريظ .
وقد كان بادر إلى المساعدة على نشره من أول وهلة صاحب السعادة السريّ
عزيز عزت باشا المصري فتبرع بثلاثين جنيهًا وزعنا بها نسخًا كثيرة في أوربة
وغيرها ، وتبرع صاحب السعادة محمد صادق المجددي وزير الأفغان المفوض في
مصر بمائة نسخة منه للمؤتمر الإسلامي في القدس ليوزعها رئيسه على فروعه في
الأقطار وتبرع آخرون بعشرات من النسخ على من يظنون انتفاعهم بالكتاب . دع
من انتدبوا للترغيب فيه ، وبيعه لمن يشتريه ، احتسابًا لوجه الله عز وجل .
وأما التقاريظ فقد نشرنا طائفة مما حفظناه منها لبيان آراء المسلمين في الكتاب
من الطبقات المختلفة ، وأحسنهم رأيًا مَن بيَّن أنه فيض من عين معين القرآن ،
اشتدت حاجة الناس إليه في هذا الزمان ، وأنه خير ما يدعى به إلى الإسلام ، وما
يدحض شبهات المعطلين الماديين ، والملاحدة المتفرنجين ، وما يفند تضليل دعاة
التنصير ، ويفضح ما يلبسون من شفوف الرياء والتزوير ، وما يلبِّسون على
غيرهم من إفك وتغرير . فقد أقيمت عليهم الحجة في هذا الكتاب بأنه لا يمكن إثبات
أصل دينهم ، ولا معجزات نبيهم ( لا ربهم ) إلا بثبوت هذا القرآن ، وأنه وحي من
الرحمن .
وأما الذين استأذنونا بترجمته باللغات المختلفة فقد أذنا لهم كلهم لأول وهلة ،
ولم نلبث أن علمنا أن أحد مترجميه باللغة الأوردية ( الهندية ) قد أتم عمله ، وهو
تلميذنا الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي مؤسس جريدة ( هند الجديد ) في كلكتة ،
وهو ينتظر صدور الطبعة الثانية ليدخل في ترجمته ما يجده من تنقيح وزيادة ، وإن
مترجمًا آخر بها ينشر ترجمته في بعض الصحف تعجيلاً للفائدة .
وكذلك يترجمه آخران باللغة الصينية ( أحدهما ) الشيخ بدر الدين الصيني
المدرس في دار العلوم الندوية في لكهنؤ ( الهند ) وصاحب المقالات المشهورة في
الصحف العربية .( وثانيهما ) صاحب مجلة ضياء الهلال , وهو يدرس تفسير
المنار في بلده ( قبودان ) وقد كتب إلينا يسألنا عن كلم في الكتابين ، وسنرسل إلى
كل منهما هذه الطبعة الجديدة ليعتمدا عليها .
وقد استأنيت من يريد ترجمته بالفارسية لأجل وزارة المعارف الأفغانية ولا
أدري ما فعل من أذنت له بالترجمة التركية ، ولا مدير المجلة الإسلامية في لندن
(رفيوا سلاميك ) وقد أذنت له بترجمته باللغة الإنكليزية ونشره بها ، بيد أني سأرسل
إليهم هذه الطبعة الثانية وأدع لهم الخيار في إيثارها على الأولى أو الاكتفاء بها .
كنت قبل العلم بخبر هؤلاء المترجمين عازمًا على تغيير وتبديل في تنقيح
مسائل الكتاب وترتيبه وفصوله والزيادة فيه ، ثم خشيت أن يشق عليهم تغيير
الترجمة بالتبع للتغيير في الأصل ، أو الاضطرار إلى استئناف العمل ، ولهذا
وعدت بما وعدت به في بيان امتيازات هذه الطبعة من فاتحتها ( ص21 ) ولكن
رأيتني مضطرًّا إلى إخلاف هذا الموعد من ناحية الزيادة على الأصل في صلب
الكتاب في كثير من المسائل المجملة والموجزة بتفصيلها وإيضاحها .
وأما الزيادات الكبيرة التي وعدت بجعلها علاوات ملحقة بالكتاب فظللت ثابتًا
على وعدي بها ، ولما طال الكتاب بما زدته في هذه الطبعة حتى كاد يربو على
ثلث الأصل ، اخترت أن أجعل الملحقات في جزء مستقل ، وقد ختمت الكتاب
بدونها ، فهو قائم بنفسه مستغن في إثبات الوحي المحمدي وإثبات النبوة به ،
والتحدي بما جاء فيه وبناء الدعوة إلى الإسلام عليه ، وإنما تكون تلك الملحقات
تعزيزًا له ، وهذا بيان لما أشرت ووعدت به منها ، ومع زيادة يجوز أن يتبعها
غيرها .
علاوات كتاب الوحي :
( 1 ) أنباء الغيب في القرآن ، وعلى لسان النبي عليه الصلاة والسلام ، مما
ظهر صدقه في عصره صلى الله عليه وسلم ومن بعده ، ولا يزال يظهر منها ما
يدل على صدقه ، حتى يأتي أمر الله عز وجل .
( 2 ) سنن الله في الخلق ونظام القضاء والقدر ، وقد أتينا في هذه الطبعة
بالأصل فيها .
( 3 ) سنن الله تعالى في نظام الاجتماع ، وقد ألممنا بها بعض الإلمام .
( 4 ) المسائل العلمية والفلكية التي كانت مجهولة في عصر التنزيل وعرفت
بعده بقرون ، وقد نَوهنا بها مرارًا أوضحها ما في خاتمة الكتاب .
( 5 ) الأمور الصحية التي كانت مجهولة في جملتها أو تفصيلها وكشفها
الطب .
( 6 ) أسرار العبادات وحكم التشريع التي لا يعرف قدرها إلا بالنبوغ في
علوم كثيرة منها علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم الطب وعلم الاجتماع .
( 7 ) خلاصة مجملة من سيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه
وشمائله ، الدالة على نبوته .
( 8 ) خلاصة من سيرة الخلفاء الراشدين ، وأمراء الصحابة وقوادهم
الفاتحين ، وهدي السلف الصالحين ، المجلية لإصلاح الدين وتفضيله على غيره .
( 9 ) الدلائل الثمانية التي حذقتها من خاتمة الطبعة الأولى المؤكدة لكون
القرآن من عند الله تعالى مع زيادة عليها .
( 10 ) الكلام في هذيان من عارض القرآن من المتأخرين الذين ادعوا النبوة
والألوهية كالباب والبهاء الإيرانيين وميرزا غلام أحمد القادياني الهندي وإيراد
الشواهد من وحيهم الشيطاني الذي يضحك الثكلى .
( 11 ) شواهد من كلام كبار علماء الإفرنج وكتابهم في مزايا الإسلام التي
فضل بها جميع الأديان بنبيه المرسل وكتابه المنزل .
( 12 ) الشبهات الكبرى للماديين ولخصوم الإسلام من المليين ودحضها
بالبراهين لولا أن أكثر الناس يفهمون من التفصيل بالإسهاب ، ما لا يفهمون من
الإجمال في الإيجاز ، لاكتفوا منا في إثبات الوحي المحمدي بما ذكرناه من المطالب
الأربع الأولى ؛ إذ الغرض من ذكرها الدلالة على أنها مما يعلو علم محمد صلى الله
عليه وسلم الكسبي ، واستعداده العقلي ، ويستحيل أن تكون من وحي إلهامه النفسي ،
ولكنهم طالبونا بها ، وصرَّح بعضهم بأننا أغفلناها .
ولولا أن هذا الكتاب وضع في قالب الاختصار لفصَّلنا فيه هذه المطالب ،
ونظمناه في سلك ما سميناه المقاصد ، ولمددنا تلك المقاصد مدًّا ، وكثَّرناها عدًّا ،
فجعلنا الأول منها ثلاثًا ، والخامس بعدد جمله عشرًا .
وحينئذ يمكن بسط علوم القرآن الدالة على أنه من عند الله في عدة أسفار كما
صرَّحنا بذلك في الصحفة 128 منه .
هذا وإنني قد بيَّنت في آخر مقدمة الطبعة الأولى ( ص 11 ) أنني كتبته في
أوقات متفرقة ، وزمن هم وعسرة ، وأشرت إلى ما أراه يفتقر إلى الإصلاح من
عبارته ، ككثرة الإحالة فيه على تفسير المنار ؛ لأنه كان في الأصل استطرادًا فيه ،
وإلى بعض التكرار فيه .
وقضى الله أن أعيد طبعه في زمن قصير ، وعسير غير يسير ، وقد وفقني
فيه بفضله لحذف كثير من الإحالات غير الضرورية منه ، وجعل أكثر ما بقي منها
في حواشيه حتى لا تشغل قارئه ، وأما أكثر ما يراه في صلبه من الإحالات ، فهو
على ما سبق فيه لا على ما في غيره .
وأما ما في الطبعة الأولى من التكرار فقد أشرت في مقدمتها إلى أن منه ما
هو مقصود لذاته اقتداء بالقرآن ، وهذا الصنف منه قد أبقيته وزدت فيه ، وقد
حذفت من خاتمته مقدمات إثبات الوحي المحمدي الست ، وما يتلوها من الدلائل
الثمانية على كون هذا القرآن من كلام الله ووحيه ، وخلاصة المقاصد العشر من
علومه الإصلاحية ؛ لأن أكثر ما أوردته منها مختصر مما قبله ، وقد أستغني في
هذه الطبعة عن أكثره .
هذا وإنني أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في يوم ذكرى مولد النبي
صلى الله عليه وسلم من هذا العام ( 1352 ) على المشهور بين الناس [1] لتذكيرهم
فيه بأظهر الدلائل على نبوته ودحض أقوى الشبهات على دعوته ، فيكون خير ما
يذكرون من نعمة الله تعالى به . وها أنذا أصدر الطبعة الثانية منه في يوم عرفة
من هذه السنة نفسها ؛ تذكيرًا بما نزل عليه فيه من قول الله عز وجل : { اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 )
لأن موضوع الكتاب بيان إكماله تعالى لهذا الدين ، وإتمام نعمته على العالمين ،
واستمرار حاجة جميع البشر إلى هدايته أبد الآبدين ، والحمد لله رب العالمين .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو الثاني عشر من ربيع الأول ، والأرجح عند المحدثين أنه التاسع أو العاشر منه .
__________
تصدير كتاب الوحي المحمدي
الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله جل ثناؤه أن جعل قبول هذا الكتاب وتأثيره فوق ما كنا نقدر
ونحتسب ، على ما نظن من دقة اختبارنا للعالم الإسلامي ، فإنه لم يكن إلا خلاصة
عامة من تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأكثر المسلمين قد هجروا القرآن هجرًا غير
جميل ؛ إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية ، وقوة
سياسية وحربية ، وثروة وحضارة ونَعمة معيشة ، بله ما يلزم ذلك من الفوائد
السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم ، وصد عدوانهم عن بلادهم وإنقاذهم من
استذلالهم لشعوبهم .
في القرآن كل ما ذكرت وما هو أكثر منه وأكبر ، ولا يطلبونه منه ، ومنهم
من يطلبه من غيره - حتى الحياة الروحية يعتقدون أنه هو ينبوعها الأعظم ، ويوجد
فيهم من يطلبها من غيره ( كالأوراد والأحزاب ) بناء على أنها مستمدة منه ويقل
فيهم من يزيد عليها تلاوة ألفاظه ، وإنما يتلوها تاليها منهم ومن غيرهم ؛ لأن
لقارئها على كل حرف منه عشر حسنات , لا للتدبر والادكار الذي أنزل لأجله
القرآن { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( ص :
29 ) { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ( المؤمنون : 68-69 ) { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } ( محمد : 24-25 ) .
إن أكثر المسلمين يجهلون أن للقرآن تأثيرًا صالحًا ما في حياتهم المعاشية
والمدنية والسياسية وهي أكبر همومهم ولا مرشد لهم فيها ، ويجهلون البرهان العقلي
المقترن بالشعور الوجداني ، على أنه وحي الله لنبيه ورسوله ، وأن في اتباعه
سعادتهم في دينهم ودنياهم ، ولا يجدون أحدًا من الذين يتولون تربيتهم وتعليمهم في
بيوتهم ولا في مدارسهم يقنعهم به ، ويربي فيهم ملكة الوازع النفسي لاتباعه ، لا
يعرفون كتابًا من كتب عقائدهم أو تفاسيره يهديهم إلى هذا ، والمجهول المطلق لا
تتوجه إليه النفس ، فلا عجب إذا هجروا القرآن وأعرضوا عن تدبره .
إن تفسير المنار قد أُلِّفَ لاستدراك هذا التقصير في كتب التفسير ، ولكنه لا
يدرس في المدارس ، ولا يعتمد عليه في التربية ، ولا يخطر في بال من لم يقرأه
أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها ، ولا لدفع الغوائل
عنها ، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من
الإصلاح والهدى ، وتجديد ثورته الأولى ، ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
كل ما يحتاج إليه المسلمون من إصلاح وتجديد حضارة وملك متوقف فيهم
على هداية القرآن وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله
عنهم له ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه
الله ، وكيف السبيل إلى إقناعهم بذلك ونحن ندعوهم إلى هذا منذ ثلث قرن ، وقل
منهم من سمع فاستجاب واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب ، حتى أهابت بهم صيحة
هذا الكتاب باسم الوحي المحمدي ، وإعجاز القرآن للبشر بما تقتضيه حضارة هذا
العصر وعلومه ومشكلاته السياسة والقومية : وتحدي علماء الإفرنج بعلومه
وإصلاحه ، ودعوتهم إلى الإسلام به ؛ لإنقاذ العالم المدني من أخطاره وانتياشهم من
تياره ، فكانت أول صيحة صخت الأسماع ، فأصغت الآذان ، وأشخصت الأبصار ،
وأهطعت الأعناق ، بالقرآن للقرآن ، فبادر أهل الغيرة إلى ترجمته بما اختلف من
اللغات ، وبث دعوته في الأقطار ، فأسر ما سرني من تأثيره إنما هو توجيه القلوب
إلى هداية القرآن ، وروح القرآن ، وإن اشترك فيه العربي والعجمي ، والسني
والشيعي والإباضي ، ولا غرو فالقرآن فوق المذاهب والأجناس والأوطان ، ومن
آياته المحكمات : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ } ( آل عمران : 105 ) ومن خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ( الأنعام : 159 ) .
وإنما مزية هذا الكتاب أنه بيَّن إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية
التي يفهمها كل قارئ ، وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد
مؤيدة بالشواهد ، وذكَّرهم بما كان من إحداثه أعظم ثورة عالمية وانقلاب ديني مدني
في الأرض ، وعرض على أبصارهم ما لا مراء فيه من فساد حال شعوب الحضارة
الغربية ، وعجز علومهم وفنونهم عن تلافي شرها ، وتدارك خطرها بعبارة
مختصرة ، تعلوها عناوين كبيرة أو صغيرة ، تشير إلى ما تحتها من كنوز ، وما
وراءها من ركاز إسلامي مركوز ، فلا تتعب القارئ الكسول ، ولا تنفر السامع
الملول .
من الدلائل على تقبل جميع المسلمين له بقبول حسن ما أثبتناه في التقاريظ
الملحقة بهذه الطبعة من كتب أئمة الفرق الثلاث الكبرى التي تضم الملايين من أهل
القبلة ، وما يرجى من مساعدتهم لنا على تعميم نشره ، فأما إمام أهل السنة فإنه
أبدى لنا عزمه على ذلك وكانت نسخ الطبعة الأولى قد نفذت ، وأما إمام العترة
والشيعة الزيدية فإنه عندما رآه كتب إلينا يستأذننا بطبعه في اليمن لتعميم نشره فيه
فكتبنا إليه بأننا سنعيد طبعه منقحًا مزيدًا فيه ، فكتب ثانيًا ما يراه القراء في أول
التقاريظ .
وقد كان بادر إلى المساعدة على نشره من أول وهلة صاحب السعادة السريّ
عزيز عزت باشا المصري فتبرع بثلاثين جنيهًا وزعنا بها نسخًا كثيرة في أوربة
وغيرها ، وتبرع صاحب السعادة محمد صادق المجددي وزير الأفغان المفوض في
مصر بمائة نسخة منه للمؤتمر الإسلامي في القدس ليوزعها رئيسه على فروعه في
الأقطار وتبرع آخرون بعشرات من النسخ على من يظنون انتفاعهم بالكتاب . دع
من انتدبوا للترغيب فيه ، وبيعه لمن يشتريه ، احتسابًا لوجه الله عز وجل .
وأما التقاريظ فقد نشرنا طائفة مما حفظناه منها لبيان آراء المسلمين في الكتاب
من الطبقات المختلفة ، وأحسنهم رأيًا مَن بيَّن أنه فيض من عين معين القرآن ،
اشتدت حاجة الناس إليه في هذا الزمان ، وأنه خير ما يدعى به إلى الإسلام ، وما
يدحض شبهات المعطلين الماديين ، والملاحدة المتفرنجين ، وما يفند تضليل دعاة
التنصير ، ويفضح ما يلبسون من شفوف الرياء والتزوير ، وما يلبِّسون على
غيرهم من إفك وتغرير . فقد أقيمت عليهم الحجة في هذا الكتاب بأنه لا يمكن إثبات
أصل دينهم ، ولا معجزات نبيهم ( لا ربهم ) إلا بثبوت هذا القرآن ، وأنه وحي من
الرحمن .
وأما الذين استأذنونا بترجمته باللغات المختلفة فقد أذنا لهم كلهم لأول وهلة ،
ولم نلبث أن علمنا أن أحد مترجميه باللغة الأوردية ( الهندية ) قد أتم عمله ، وهو
تلميذنا الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي مؤسس جريدة ( هند الجديد ) في كلكتة ،
وهو ينتظر صدور الطبعة الثانية ليدخل في ترجمته ما يجده من تنقيح وزيادة ، وإن
مترجمًا آخر بها ينشر ترجمته في بعض الصحف تعجيلاً للفائدة .
وكذلك يترجمه آخران باللغة الصينية ( أحدهما ) الشيخ بدر الدين الصيني
المدرس في دار العلوم الندوية في لكهنؤ ( الهند ) وصاحب المقالات المشهورة في
الصحف العربية .( وثانيهما ) صاحب مجلة ضياء الهلال , وهو يدرس تفسير
المنار في بلده ( قبودان ) وقد كتب إلينا يسألنا عن كلم في الكتابين ، وسنرسل إلى
كل منهما هذه الطبعة الجديدة ليعتمدا عليها .
وقد استأنيت من يريد ترجمته بالفارسية لأجل وزارة المعارف الأفغانية ولا
أدري ما فعل من أذنت له بالترجمة التركية ، ولا مدير المجلة الإسلامية في لندن
(رفيوا سلاميك ) وقد أذنت له بترجمته باللغة الإنكليزية ونشره بها ، بيد أني سأرسل
إليهم هذه الطبعة الثانية وأدع لهم الخيار في إيثارها على الأولى أو الاكتفاء بها .
كنت قبل العلم بخبر هؤلاء المترجمين عازمًا على تغيير وتبديل في تنقيح
مسائل الكتاب وترتيبه وفصوله والزيادة فيه ، ثم خشيت أن يشق عليهم تغيير
الترجمة بالتبع للتغيير في الأصل ، أو الاضطرار إلى استئناف العمل ، ولهذا
وعدت بما وعدت به في بيان امتيازات هذه الطبعة من فاتحتها ( ص21 ) ولكن
رأيتني مضطرًّا إلى إخلاف هذا الموعد من ناحية الزيادة على الأصل في صلب
الكتاب في كثير من المسائل المجملة والموجزة بتفصيلها وإيضاحها .
وأما الزيادات الكبيرة التي وعدت بجعلها علاوات ملحقة بالكتاب فظللت ثابتًا
على وعدي بها ، ولما طال الكتاب بما زدته في هذه الطبعة حتى كاد يربو على
ثلث الأصل ، اخترت أن أجعل الملحقات في جزء مستقل ، وقد ختمت الكتاب
بدونها ، فهو قائم بنفسه مستغن في إثبات الوحي المحمدي وإثبات النبوة به ،
والتحدي بما جاء فيه وبناء الدعوة إلى الإسلام عليه ، وإنما تكون تلك الملحقات
تعزيزًا له ، وهذا بيان لما أشرت ووعدت به منها ، ومع زيادة يجوز أن يتبعها
غيرها .
علاوات كتاب الوحي :
( 1 ) أنباء الغيب في القرآن ، وعلى لسان النبي عليه الصلاة والسلام ، مما
ظهر صدقه في عصره صلى الله عليه وسلم ومن بعده ، ولا يزال يظهر منها ما
يدل على صدقه ، حتى يأتي أمر الله عز وجل .
( 2 ) سنن الله في الخلق ونظام القضاء والقدر ، وقد أتينا في هذه الطبعة
بالأصل فيها .
( 3 ) سنن الله تعالى في نظام الاجتماع ، وقد ألممنا بها بعض الإلمام .
( 4 ) المسائل العلمية والفلكية التي كانت مجهولة في عصر التنزيل وعرفت
بعده بقرون ، وقد نَوهنا بها مرارًا أوضحها ما في خاتمة الكتاب .
( 5 ) الأمور الصحية التي كانت مجهولة في جملتها أو تفصيلها وكشفها
الطب .
( 6 ) أسرار العبادات وحكم التشريع التي لا يعرف قدرها إلا بالنبوغ في
علوم كثيرة منها علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم الطب وعلم الاجتماع .
( 7 ) خلاصة مجملة من سيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه
وشمائله ، الدالة على نبوته .
( 8 ) خلاصة من سيرة الخلفاء الراشدين ، وأمراء الصحابة وقوادهم
الفاتحين ، وهدي السلف الصالحين ، المجلية لإصلاح الدين وتفضيله على غيره .
( 9 ) الدلائل الثمانية التي حذقتها من خاتمة الطبعة الأولى المؤكدة لكون
القرآن من عند الله تعالى مع زيادة عليها .
( 10 ) الكلام في هذيان من عارض القرآن من المتأخرين الذين ادعوا النبوة
والألوهية كالباب والبهاء الإيرانيين وميرزا غلام أحمد القادياني الهندي وإيراد
الشواهد من وحيهم الشيطاني الذي يضحك الثكلى .
( 11 ) شواهد من كلام كبار علماء الإفرنج وكتابهم في مزايا الإسلام التي
فضل بها جميع الأديان بنبيه المرسل وكتابه المنزل .
( 12 ) الشبهات الكبرى للماديين ولخصوم الإسلام من المليين ودحضها
بالبراهين لولا أن أكثر الناس يفهمون من التفصيل بالإسهاب ، ما لا يفهمون من
الإجمال في الإيجاز ، لاكتفوا منا في إثبات الوحي المحمدي بما ذكرناه من المطالب
الأربع الأولى ؛ إذ الغرض من ذكرها الدلالة على أنها مما يعلو علم محمد صلى الله
عليه وسلم الكسبي ، واستعداده العقلي ، ويستحيل أن تكون من وحي إلهامه النفسي ،
ولكنهم طالبونا بها ، وصرَّح بعضهم بأننا أغفلناها .
ولولا أن هذا الكتاب وضع في قالب الاختصار لفصَّلنا فيه هذه المطالب ،
ونظمناه في سلك ما سميناه المقاصد ، ولمددنا تلك المقاصد مدًّا ، وكثَّرناها عدًّا ،
فجعلنا الأول منها ثلاثًا ، والخامس بعدد جمله عشرًا .
وحينئذ يمكن بسط علوم القرآن الدالة على أنه من عند الله في عدة أسفار كما
صرَّحنا بذلك في الصحفة 128 منه .
هذا وإنني قد بيَّنت في آخر مقدمة الطبعة الأولى ( ص 11 ) أنني كتبته في
أوقات متفرقة ، وزمن هم وعسرة ، وأشرت إلى ما أراه يفتقر إلى الإصلاح من
عبارته ، ككثرة الإحالة فيه على تفسير المنار ؛ لأنه كان في الأصل استطرادًا فيه ،
وإلى بعض التكرار فيه .
وقضى الله أن أعيد طبعه في زمن قصير ، وعسير غير يسير ، وقد وفقني
فيه بفضله لحذف كثير من الإحالات غير الضرورية منه ، وجعل أكثر ما بقي منها
في حواشيه حتى لا تشغل قارئه ، وأما أكثر ما يراه في صلبه من الإحالات ، فهو
على ما سبق فيه لا على ما في غيره .
وأما ما في الطبعة الأولى من التكرار فقد أشرت في مقدمتها إلى أن منه ما
هو مقصود لذاته اقتداء بالقرآن ، وهذا الصنف منه قد أبقيته وزدت فيه ، وقد
حذفت من خاتمته مقدمات إثبات الوحي المحمدي الست ، وما يتلوها من الدلائل
الثمانية على كون هذا القرآن من كلام الله ووحيه ، وخلاصة المقاصد العشر من
علومه الإصلاحية ؛ لأن أكثر ما أوردته منها مختصر مما قبله ، وقد أستغني في
هذه الطبعة عن أكثره .
هذا وإنني أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في يوم ذكرى مولد النبي
صلى الله عليه وسلم من هذا العام ( 1352 ) على المشهور بين الناس [1] لتذكيرهم
فيه بأظهر الدلائل على نبوته ودحض أقوى الشبهات على دعوته ، فيكون خير ما
يذكرون من نعمة الله تعالى به . وها أنذا أصدر الطبعة الثانية منه في يوم عرفة
من هذه السنة نفسها ؛ تذكيرًا بما نزل عليه فيه من قول الله عز وجل : { اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 )
لأن موضوع الكتاب بيان إكماله تعالى لهذا الدين ، وإتمام نعمته على العالمين ،
واستمرار حاجة جميع البشر إلى هدايته أبد الآبدين ، والحمد لله رب العالمين .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو الثاني عشر من ربيع الأول ، والأرجح عند المحدثين أنه التاسع أو العاشر منه .
(33/753)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
( تابع لما نشر في العدد الماضي )
( 2 )
- 5 -
للعلامة الأستاذ الشيخ سعدي يس الدمشقي
تكرم علامة دمشق الشام الشيخ محمد بهجة البيطار فأهداني كتاب
( الوحي المحمدي ) كما هو شأنه مع أصحابه ومعارفه في كل كتاب نفيس يصدر ،
وذلك خُلُق طبعه الله عليه .
وما أن اطلعت على هذا الكتاب العظيم العديم المثال حتى علمت علم
اليقين أن كتاب الوحي المحمدي هو خير كتاب أخرج للناس في هذا العصر ،
بل لم يؤلف قبله في بابه نظيره ، ولقد ارتفع عن كل مؤلف كما ارتفع مؤلفه
عالم الإسلام الإمام الهمام السيد الشيخ محمد رشيد رضا عن كل عالم ومؤلف
في هذا العصر . ولقد سما به وايم الله لمكان لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه
العقبان .
تأملت شُبَهَ درمنغام التي بسطها المؤلف الإمام قبل الرد عليها فإذا هي
جبال تتصاغر أمامها دوامغ الحجج ، وبحار زاخرة تكاد تغرق الحق في
اللجج ، وتمتلئ منها قلوب المؤمنين رعبًا ، وما إن كرَّ عليها ذلك الغضنفر
الضرغام ، بسيف الحق الصمام ، حتى ذلت بعد جبروتها ، وصغرت بعد
كبريائها ، كما ذل وصغر الثعلب بين يدي القسورة الأغلب ، وإذا بها ريش
وهباء ، أمام زعزع نكباء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } ( الأنبياء : 18 ) .
وكتاب الوحي المحمدي ليس رد مفتريات وإبطال أخطاء فحسب ، بل هو
كتاب جمع فأوعى ، فيه إثبات أن القرآن وحي الله الذي أوحى به لرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي الهاشمي ، وأنه آية الله الكبرى
التي أيد بها دينه ونبيه ، وأنه معجزة باقية ما بقي النيران ، وتعاقب الملوان ،
وأنه أتى بجميع ما يحتاجه البشر لمعادهم ومعاشهم .
وفيه إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بوجه خاص ونبوة جميع
الأنبياء بوجه عام ، أثبت ذلك بأدلة أنصع وأمتع وأرفع من أدلة كتب دلائل
النبوة ، إثباتًا اعتمد على الأدلة العلمية العقلية التي يذعن لها المخالف المنصف
والخصم المعاند . وفيه أصول العقائد الإسلامية بل فيه ملخص الشريعة
الإسلامية : أحكامها وحكمها .
وإنك لتجد أن السيد الإمام ، أمتع الله بطول حياته المسلمين ونصر به
الإسلام ، تجد أنه قد قسم الإصلاح الإلهي للبشر في القرآن إلى عشرة مقاصد ،
لا أحسب أن مخالفًا منصفًا يقرؤها متدبرًا لها ويبقى عنده أدنى ريب أو أقل شبهة في
أن القرآن أعظم كتاب منزل ، على أشرف نبي مرسل ، دعم المؤلف الإمام هذه
المقاصد بشواهد حية ، وآيات ناطقة ، وحجج ليست براهين ساطعة ولكنها شموس
طالعة ، ولئن سمي كتاب فتح البارئ قاموس السنة فكتاب الوحي المحمدي ترجمان
القرآن .
وليس هذا بكثير على سليل بيت النبوة ومن يمت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم بنسب النبوة . ولقد خطر لي وأنا أقرأ كتابه كلمة ذلك الأعرابي
الذي سأل أبا جعفر محمد بن علي ابن سيدنا الحسين إذ سأله فقال : هل رأيت
الله حين عبدته يا أبا جعفر ؟ فقال : لم أكن لأعبد من لم أره . قال فكيف رأيته ؟
قال : لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ورأته القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك
بالحواس ولا يشبه بالناس معروف بالآيات ، منعوت بالعلامات ، لا يجور
في القضيات ، ذلك الله الذي لا إله إلا هو . فقال الأعرابي : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( الأنعام : 124 ) ألا وإن هذا وذاك من ينبوع واحد ، وإن
أقول إلا ما قاله ذلك الأعرابي .
بيروت ... ... ... ... ... ... ... سعدي يس الدمشقي
***
- 6 -
للأديب الفاضل الشيخ محمد نعيم البيطار
ما هذه الأشعة التي انبعثت من غار حراء فأشرقت بنورها الجزيرة
العربية ثم ما لبثت أن ملأت الدنيا بهجة وضياء ؟
من ذلك الرجل الذي ظهر للوجود فأنقذ العالم مما كانوا فيه من البؤس
والشقاء وقادهم جميعًا إلى طريق السعادة والهناء .
ما هذه الدعوة التي لم يمض على ظهورها ربع قرن حتى احتلت قلوب
العالم فكانوا لا يخالفون مبادئها قيد شبر .
ترددت هذه الأسئلة في خواطر المطلعين على أحوال الأمم والمنقبين عن
تواريخ الشعوب لما شاهدوا من آثار تلك المدنية الباهرة التي ما زالت آثارها
موضع الإعجاب رغم مضي مئات السنين على أصحابها .
فشرع كل منهم يضعها بقالب موافق لما يريد ، ويملي على قلمه ما
يوحيه إليه فكره من آرائه التي اكتسبها من البحث والتنقيب ، فكان بينهم
المخطئ والمصيب ، غير أن المخطئ يحتاج إلى تنبيه ؛ لأن خطأه إذا شاع بين
العوام ، كان مدعاة لدفن الحقائق والتمسك بالأوهام .
لذلك الأمر الخطير قام صاحب كتاب الوحي المحمدي السيد الإمام ،
علامة الإسلام ، الأستاذ محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر . فأبان
أغلاطهم التي تطرأ على كل من لم يكن ضليعًا بالأمر الذين يقدم عليه . فكان
من أكبر أغلاطهم أن حسبوا الوحي الإلهي إلهامًا فطريًّا من نفس الرسول
محمد عليه الصلاة والسلام ، بمساعدة البيئة والذكاء والانفراد ، إلى غير ذلك
من الأسباب التي أيدوها بآرائهم الفاسدة فأغوت كثيرًا من المتعلمين الذين لم
يطلعوا على حقائق السيرة النبوية فذكر السيد الإمام مصدر تلك الشبهات
ودحضها بالحجة والبرهان ، وأقام الشواهد الكثيرة على أن الوحي الكافل لإصلاح
جميع البشر لا يمكن إلا أن يكون وحيًا إلهيًّا .
وقد أفاض في ذكر إعجاز القرآن في بلاغته وبيانه وتأثير هدايته
ومقاصده العليا من تنظيم شئون الحياة الاجتماعية ، تنظيمًا يتفق وحاجة بني
الإنسان ، على اختلاف الأزمان والبلدان .
ثم احتج بجميع ما ذكر على أن الدين الذي يكفل ذلك كله هو أحق أن
يتبع فدعا جميع شعوب الأرض إلى التمسك بهدايته والعمل بتعاليمه الربانية ،
ليعرفوا كيف يستفيدون من حضارتهم التي أصبحت مهددة بخطر الزوال ،
فكان كتابه كتابًا قيمًا ، جدير بكل طالب علم أن يطلع عليه ويجعله من مقتنياته
النفيسة التي يرجع إليها وينقل عنها .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نعيم البيطار
***
-7-
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد رشيد ميقاتي مفتي طرابلس الشام
أخي العزيز السيد عاصم آل رضا حفظك الله
سلامًا واحترامًا ( وبعد ) قرأت ( كتاب الوحي المحمدي ) الذي أهديتنيه
فلا تسل يا أخي عما حصل لي من المسرة ، في الحظوى بما هو لعيون
المؤمنين قرة ، ووقفت موقف الحائر ، فيما أقول عن هذا السيف الباهر ، المزري
بالدرر والجواهر ، والسهل الممتنع ، الجامع المانع ، في بيان حقيقة دين الإسلام ،
لكافة الأنام ، فلم يسعني إلا أن أجهر بكلمة الله أكبر ، فتح ونصر ، وشعرت كأن
مناديًا ينادي من علوة يا أمة محمد ، أمة الإجابة والدعوة ، ويا طلاب الحقيقة
والخلاص والإخلاص في هذا العالم ، هاكم كتابًا اقرءوه ، فتعلموا منه بالوجدان
والضمير الحي ، حقيقة الدين الإسلامي بأنه دين الحضارة والعقل ، والترقي
والعدل ، والتسامح والفضل ، والعز والمجد ، والسيادة لكل فرد ، والكفالة
لكل خير في معاشكم ، والسعادة في معادكم ، وإنكم إن علمتم به وعملتم
فزتم بسعادة الدارين ، وإن لم تعملوا ، وعلمتم ظاهرًا من الحياة الدنيا فزتم
بها وحدها ، وإن لم تعلموا ولم تعملوا خسرتم الدنيا والآخرة كحال بعضكم ،
وذلك هو الخسران المبين ، وتعلموا حقيقة الوحي المحمدي أنه من الله رب العالمين ،
نزل به روح القدس جبريل الأمين ، على قلب النبي الأمي محمد ختام المرسلين
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
فمن هذا السرور ، ومن هذا الشعور ، تراني يا أخي داعيًا إلى الله أن
يكافئ مؤلف هذا الكتاب الجليل ، العلامة النبيل ، الفهامة لدين الإسلام ، ابن
عمك الرشيد الإمام ، بخير ما كوفئ محسن بإحسانه من الخير والإنعام آمين ،
راجيًا إبلاغ أزكى سلامي وفائق احترامي لحضرة المشار إليه ، أدام الله فضله
عليه ، والسلام عليكم , ورحمة الله تهدى إليكم
10 رمضان سنة 1352 ... ... ... ... ... مفتي طرابلس
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي
***
طائفة من التقاريظ التي رأيناها في المجلات والجرائد
تقريظ الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
( محرر مجلة الضياء الهندية في لكنهؤ ، ونشر فيها )
هدية ثمينة وتحفة نفيسة وثمرة علمية يانعة ، أنتجها قلم إمام هذا العصر
وحكيمه الأكبر ، مولانا السيد محمد رشيد رضا . لا زال بحر بره زاخرًا
يقذف بالدرر ، ووابل علومه يحيي القلوب الميتة ، وظله الوارف حماية
للإسلام والمسلمين .
هذا الدرة اليتيمة فكرة خطرت لحضرة السيد حين اشتغاله بتفسير كتاب
الله القرآن ، واستخراج نفائس كنوزه ، وأين منها الياقوت والمرجان ، وهي
بلا شك من التحديث الرباني ، والإلهام الرحماني ، قدمها حضرته للعالم
الإنساني ، في شهر ربيع الأول الذي كان فيه مولد المنقذ الأكبر للنوع
الإنساني محمد صلوات الله عليه . فكانت خدمة جليلة وتكريمًا لذلك الجناب
المقدس ، ولعمري إن بمثل هذا العمل المبرور يكون التكريم والتعزيز ، وهو
الآية المحكمة على المحبة العلمية الإيمانية ، لا التمسح على الأحجار أو تعليق
الخرق المزوقة ، وإيقاد الأنوار الكهربائية الملونة ، والفقراء ذات اليمين وذات
الشمال يتضورون جوعًا ويموتون بأمراضهم ولا معالج لهم ولا آس ، وراية
الإسلام منكوسة ، وأحواله معكوسة ، وشرع النبي الأكرم منبوذ ظهريًّا ،
وسنته الشريفة متخذة سخريًّا ، ولا غرو { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ
الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ } ( فاطر : 19-22 ) .
افتتح الإمام الكتاب بمقدمة بيَّن فيها بحكمة عالية واضحة نيرة على ذلك
ارتقاء البشر في الأمور المادية في خدمة هذا الغلاف الجسمي وبلوغهم في
ذلك الغاية التي انعكست وصارت شرًّا على الأجساد التي اخترعت لتنعمها
وتسعدها ، وبيَّن انحطاطهم الروحي ، وإفلاسهم الأدبي وما سبب لهم من
الشقاء والعذاب الجسمي الذي منه يحذرون ويفرون ، وبرهن على أن السعادة
البدنية يستحيل الوصول إليها بدون الكمال الروحي ، والرقي النفسي ببراهين
لا تبقي للشك مجالاً ، وراش سهام التأنيب للدول الآخذة بأزمة الأمم في هذا
الزمان ، وحمل عليها تبعة الخزي والشقاوة الذين تجلبهما على العالم بتكالبها
على المادة ، وتنافسها في التطاول وحب العلو والفساد في الأرض بإهلاك
الحرث والنسل في حروبها المتنوعة من سياسية واقتصادية وأدبية وغيرها .
ثم ذكر اعتراف حكماء الغرب بهذا الفساد وتمنيهم أن يبعث نبي يحدث
انقلابًا روحيًّا ينقذ الإنسانية من نصبها وشرورها ، وإطباقهم على أن أديانهم
لا تنجع في علاج هذا الداء ، بل ربما كانت إحدى عوامله ، فأراد هذا الإمام
الحجة أن يريهم أن الذي يطلبون بين أيديهم ، وأن الدواء الناجع على طرف
الثمام ، ويرفع عنهم حجب الجهل والتعصب التي حرمتهم من اقتباس أنوار
الدين الأصلي الخالد ، دين الفطرة ، ويضع أيديهم على محاسنه وفضائله
ليتفقهوا فيه باتخاذهم ( الوحي المحمدي ) دليلاً وهاديًا ، ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .
ولا جرم أن السيد - أيده الله- جمع ما كتبه الحكماء والأطباء النطاسيون
لأمراض النفوس في هذا العصر وفيما قبله وزاد عليه بأوجز عبارة وأوضحها ،
وفتح بابًا جديدًا للدخول إلى خزانة كنوز القرآن استعصى فتحه على من حاوله
قبله من المصلحين بالنسبة إلى طب أدواء عصرنا هذا ، وأتى في هذا السفر
الصغير الحجم بالأدلة القاطعة عقلاً ونقلاً من الكتب المنزلة والسنن النبوية
التي يتضاءل أمامها كل معاند بما يشفي الغليل ، ويبرئ العليل في أمهات
المسائل التي تشغل أذهان علماء العصر وعامته . فمنها نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم وإثباتها بالحجج التي تجبر مثبتي الوحي ونُفَاته على الإذعان
والبحث الوافي الشافي في الوحي والمعجزات عند النصارى وعند المسلمين
والفلاسفة مما لا تجده في غيره . ومن خواصه أنه أورد في جميع الشبهات
القديمة والجديدة التي وجهت للوحي العام والخاص وأجاب عنها بأحسن
جواب . ثم خرج إلى المقصود بالذات وهو القرآن مبينًا أسلوبه ، وحكمة
تكرار الآيات فيه ، وما أحدثه هذا الكتاب العظيم من تأثير وانقلاب في العالم ،
ثم حصر مقاصده الأصول نذكرها آسفين إجمالاً لضيق المقام .
( وهنا لخص الأستاذ مقاصد القرآن العشرة وخاتمة الكتاب فجزاه الله
عن نفسه ودينه وأخيه المؤلف أفضل الجزاء ) .
***
تقريظ مجلة الشبان المسلمين لكتاب الوحي المحمدي
لرئيس تحريرها الأستاذ النحرير الدكتور يحيى الدرديري
الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا ليس بغريب على القارئ حتى نقدمه
إليه بمقدمة تشرح تاريخه وماضيه في الجهاد القلمي للإسلام . وبحسب القارئ
أنه يعلم أنه منشئ مجلة المنار ، وأنه وارث علم الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده ، ومذيعه على الناس إذاعة لولاها ما كتب له هذا الذكر الخالد العريض .
وقد أخرج للمكتبة الإسلامية العربية في هذا العام كتابًا قيمًا في إثبات الوحي
المحمدي بالقرآن ، ودعوة شعوب المدنِيَّة إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية
والسلام .
وقد تعرض فيه للشبهات التي تحوم حول نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم وردها وبين رأي الكنيسة المسيحية في النبوة وتعرض لبيان المعجزة
والكرامة والخوارق وتأثيرها في الأفراد والأمم ، وبيَّن أن الوحي المحمدي ليس
وحيًا نفسيًّا كما يعتقد بعض علماء الفرنجة ، وبين قيمة القرآن في إثبات معجزات
الأنبياء وتفرد الإسلام بنوع من الإعجاز ليس في غيره من الأديان إلى غير ذلك من
المباحث والقضايا الدينية التي قد لا يُعْثَرُ على حل لها إلا في منتوج قلم الأستاذ الشيخ
رشيد .
ويقع الكتاب في مائتي صفحة وهو مطبوع طبعًا جيدًا في مطبعة المنار
فنحث القراء على اقتنائه .
***
تقريظ
( بقلم الأديب الكبير الكاتب النحرير الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري )
نشر في جريدة البلاغ الغراء
شغلتي أشغال عن مطالعة هذا الكتاب أول مظهره . حتى إذا تفرغت وتهيأت
لي الأسباب تجردت في قراءته وتدبره . ولقد تناولته والظن معقود بأنه من جنس ما
خرج من الكتب في بابه ، على أنني ما كدت أسترسل فيه حتى جعل يتعاظمني
شأنه ، ويتكاثرني خطبه ، وكلما أمعنت فيه زادني إعجابًا به ، وإجلالاً لموضعه ،
حتى خرجت منه ولا يكاد كتاب في بابه يبلغ مداه ، أو ينتهي منتهاه .
ولقد يتداخلك العجب من أن أطلق أنا مثل هذه الشهادة في كتاب يخرجه
السيد رشيد رضا ، وبيننا ما أعلم ويعلم ، وما الله تعالى به أعلم ، فإن للدين
والعلم حقًّا يجب أن تكبح له الشكائم ، وتسل دونه السخائم ، وللحساب الغليظ
مقام آخر إن شاء الله [1] .
كتاب الوحي المحمدي يرجع موضوعه أو موضوعاته في الجملة إلى
إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها خاتمة رسالات الرسل عليهم
الصلاة والسلام . وأن شريعته هي الشريعة الجامعة لكل ما فيه صلاح العالم
وحضارته ويسره وأمنه وسعادته في كل مكان ، وإلى غاية الزمان ، وإن
شأنه عليه السلام مع شأن من تقدمه من الرسل الكرام لعلى حد قول المتنبي :
نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرًا
ولقد اتكأ المؤلف في تدليله أكثر ما اتكأ على القرآن الكريم ، وفي إحسان
وإبداع أثبت السيد أنه لولا القرآن ما انتهضت حجة قاطعة على نبوة من تقدم
من الأنبياء .
ولقد جعل المؤلف كلما تحول إلى باب أو انحرف إلى مطلب في أسباب
الموضوع يتقرى فِرَى عدو الإسلام من الداعين إلى حربه ، ومن الملحدين
عامة ، وشبه الشاكين من أهله ، ومن المتطرفين منهم بالتشكيك في بعض
قضاياه ، فيفريها بالحجة فريًا ، ويضغمها بالدليل الحاسم ضغمًا ! فما يدع
لأصحابها متنفسًا ، ولا يجيز لمتنزي الإلحاد مضطربًا .
ولقد قال الكتاب في محمد صلى الله عليه وسلم وفي الوحي وفي القرآن
وفي أثره في العالم . وفي معجزات الأنبياء وفي حاجة العلم إلى الدين . وفي
كثير غير ذلك مما ينسق للغرض ، ويتجلى به وجه الحجة ، فكفى وشفى ،
وبلغ من الإحسان والإجمال غاية المدى .
وليس من شأن هذا المقال أن يدل على مواضع الإجادة في أبواب الكتاب ،
بله كل فصل من كل باب . فذلك مما يخرج عن طوق سابغ المقالات ، على
أن في الكتاب مقامات صلصل فيها البيان الديني أي مصلصل ، ولقد يكاد
يتحول حسك وأنت تطالعها من البصر إلى السمع ، حتى يخيل إليك أنك تسمع
صرير القلم . ويحضرك في هذا المعنى قول المتنبي أيضًا :
كالحظ يملأ مسمعي من أبصرا
ولا شك في أن من هذه المقامات الرائعة قول الكتاب في أسلوب القرآن
الخاص وإعجازه به ، وحكمة التكرار فيه . ولقد وقع في هذا الغرض على
حِكَمٍ لم أقع عليها في كتب من تقدمه . على أن المؤلف على عادته . لقد أسرع
فَكَاثَرَ بهذا في الفهرس ؛ إذ قال عند الإشارة إلى هذا الفصل ( وهو ما لم يسبق
لأحد بيانه ) .
ومن المقامات البارعة في الكتاب القول في معجزات الأنبياء ، والفرق
بينها وبين كرامات الأولياء ، والحد بينهما وبين شعوذة المشعوذين ، وآثار
رياضة المرتاضين ، فلقد جمع في هذا الباب بين ما أثر في الشرع وما يجري
به سنن الكون ، في لباقة وحسن تعليل ، وجودة تفسير وبراعة وتأويل .
ومن هذه المقامات التي تخلب وتروع ما أقام هذا الكتاب من ناصع الحجة
على إيفاء الشرع المحمدي على الغاية في تقرير أعلى القواعد وأضبطها للإصلاح
الاجتماعي والمالي والسياسي . ويدخل في هذا الباب العلاقات الدولية ، ونظم
الحروب وغير ذلك مما يكفل صلاح البشر كافة ، ويتضمن رقي المجتمع الإنساني
وبلوغه في أسباب الحضارة تلك المنزلة التي تخيلها أئمة الحكماء ودعاة الإصلاح
من قديم الزمان .
ولقد عرض الكتاب غير هذا لمزايا الإسلام وحكم أحكامه سواء في
العبادات أو في الأسباب الدائرة بين الناس ، وبين جهة ارتفاعها على أن تكون
من شرع البشر ، وأنها أجمع وأكفى ، وأكمل وأوفى من كل ما سن الخلق من
النظم . بل من كل ما تنزل من الشرائع على جميع الرسل السابقين ، عليهم
صلوات الله أجمعين .
وكل ذلك أجراه المؤلف على أسلوب منطقي سليم خال من الإسراف ومن
الشعر والتخييل .
ومما يزيد من قدر هذا الكتاب أن كثيرًا مما جلا واستظهر من القضايا مبتكر
لم يسبق . على أنه لم يكن أقل براعة فيما نقل أو اقتبس . فلقد كان حق لبق في
إلحاق كل شيء ببابه ، وإقرار كل أمر في نصابه ، إلى حضور الشاهد من كتاب
الله تعالى وما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وما أثر عن الثقات من
أئمة الإسلام ومن شهادات علماء الإفرنج أيضًا . ومهما يكن من شيء فالكتاب في
الجملة مما لا يطاول في بابه ، بل لا أحسبني مسرفًا إذا زعمت أنه يمكن أن يعد
بحق من إحدى حجج الإسلام .
ولقد بدت لي وأنا في بعض الكتاب طائفة من الملاحظات يرجع بعضها إلى
الطبع ، وبعض إلى شيء من الغموض في قليل من المواضع ، ويرجع بعض إلى
كثرة الإحالات إلى المراجع المختلفة ونحو ذلك ، على أنها كلها ثانوي لا يحط من
شأن الكتاب ولا يغض من قدره ، على أن من دلائل التوفيق أن التقيت مصادفة
بالأستاذ السيد رشيد ، وأفضيت إليه بهذا الذي عددت على كتابه ، فوعدني راضيًا
مغتبطًا بأنه مستدرك كل ما يجمل استدراكه إن شاء الله في الطبعة الثانية [2]
ولعلها قائمة الآن فليس لي إلا أن أشكره . وإلا ( سقط ههنا بعض حروف
الأصل المطبوع ) أن أري من التجني المحقور بعد ذلك بسط ما بدا لى من تلك
المآخذ المبينة في مقال منشور .
وبعد : فليس يعني أن أختم هذا الكلام دون أن أبادي المؤلف الفاضل
وجمهرة قارئي الوحي المحمدي بأمرين : الأول أنني أتحفظ عن إبداء الرأي -
إذا صح هذا التعبير - عما أصاب في الكتاب من حديث الاجتهاد والتقليد ، ولو
قد فصَّل الكلام في هذا الباب لما تعذر عليَّ إبداء الرأي بمشايعته أو إظهار
الخلاف له فيما عسى أن يذهب إليه من الأحكام .
أما الثاني فلقد هتف المؤلف في بعض الكتاب بالعلماء ( الرسميين ) وغلا في
الزراية عليهم . ومن الواضح أنه يريد ( بالعلماء الرسميين ) علماء الأزهر . وإني
لأكره هذا من أي كان في رجال الدين ، هذا إلى أنهم قومي ومعشري وهم الذين
أعتز بهم ، وأدين بكل ما أفاء الله عليَّ من النعم لهم . وإن أنس لا أَنْسَى أن ممن
أصحر لهم السيد رشيد بالخصومة من جلست بين أيديهم ، وأخذت عنهم . وتخرجت
في التعليم عليهم . فأصبح لهم بهذا حق في دمي فإذا اعتذر السيد الفاضل بأنهم
يقارضونه هذا الأذى فما أجدر علماء الدين جميعًا بغير هذا اللون من الحوار
ففي الجدال بالحسنى كفاية ، وفي الحجة وحدها المقنع ، ما دامت غاية الجميع
إفشاء حكم الله وإعلاء كلمة الإسلام ا هـ .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز البشري
( المنار )
أما الأمر الأول مما بادأني وقراء الوحي به وهو حكم الاجتهاد والتقليد فإن
شاء أن يعرف رأيي التفصيلي فيه فإن لي فيه كتابًا مدونًا طبع المرة بعد المرة ،
وبحثًا فياضًا في مقدمة طبع كتاب المغني الكبير فليرجع إليهما ، وليقل فيه ما يشاء
فإني أنشره له إن أحب ، وما كتبته في كتاب الوحي المحمدي كاف فيه ؛ لأنه مبني
على الاختصار ، ولم ينكر عليَّ أحد من كبار علماء الأزهر الرسميين ولا من
غيرهم ممن ذكروا لي رأيهم في الكتاب كلمة منه .
وأما الأمر الثاني[3] وهو ما عبر عنه بالهتاف بالعلماء الرسميين والغلو في
الزراية عليهم فقد ظلم علماء الأزهر - وهم قومه ومعشره - به ، فلفظ العلماء
الرسميين لا يدل على علماء الأزهر ، ولا أنا بالذي عنيتهم به ، وإنما عنيت به ما
كان يعنيه الإمام الغزالي وغيره بعلماء الرسوم ، وما يعنيه أهل هذا العصر بعلم
حملة الشهادات التي عبر عنها بعضهم بجلد الحمار ، وهم يوجدون في جميع
الأمصار ، وكذلك استعماله مادتي الوضوح والإصحار بالخصومة فقد وضعهما في
غير موضعهما على ما أعهد من حسن فهمه للغة وحسن أدائه فيها ، فكتاب الوحي
المحمدي بمعزل من الإصحار بالخصومة أو إسرارها لطائفة من العلماء بأعيانهم أو
صفاتهم أو مكانهم ، وإنما تلك صيحة تنبيه لمن يصدون المسلمين عن هداية
القرآن ، زاعمين أنه لم يبق له من الفائدة إلا التبرك به والتعبد بألفاظه من
غير فهم ولا تدبر ولا اتعاظ ، فهل يعد الكاتب شيوخه منهم ؟ إن كان كذلك فهو
أشد مني زراية عليهم ، وإذن لا يغني عنهم دفاعه عنهم ولا اعتزازه بهم ، ولا
منتهم عليه .
وإني على كل حال أحمد الله أن كان نظره إليَّ بعين السخط قد انقلب خاسئًا
وهو حسير دون رؤية شيء من المساوئ في كتاب الوحي المحمدي يمكن جعله
تشويهًا لجمال تقريظه ، إلا هذه الكلمة التي كان فيها من الخاطئين ، فكانت هذه
الواحدة كواحدة أبي سفيان في حديثه مع هرقل ، وقد كاشفته بخطئه في سوء ظنه
مشافهة فسره أن كان نفيي للزراية على شيوخه والإزراء بهم خيرًا لهم من إثباته
ودفاعه عنهم ، وإنني وإياه لنقسم شرف تقريظه في سخطه فهو بيننا شق الأبلمة .
* * *
تقريظ الكاتب الكبير
عباس محمود العقاد
نشر في جريدة الجهاد
أكثر من قرأت لهم من كتاب المباحث الدينية الأحياء اثنان : هما السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار والأستاذ محمد فريد وجدي صاحب التواليف
والتصانيف الكثيرة المعروفة باسمه .
فأما السيد رشيد فهو أوفر نصيبًا من الفقه [4] والشريعة والدراسات الموروثة
ومزيته على الكتاب الدينيين في العصر الحاضر أنه خلا من الجمود الذي يصرفهم
عن لباب الفقه إلى قشوره ، وسلم من تلك العفونات النفسية التي تعيب أخلاقهم
وتشوه مقاصدهم ، فهو أدنى إلى الصواب وأنأى عن العوج وسوء النية .
وأما الأستاذ وجدي فهو أوفر نصيبًا من الحرية والعلم العصري والأذواق
المدنية للتأويلات والتماسه في الدين مستمد من شعوره باللياقة ، أو بما يخالفها
كما يشعر الرجل الذي يعيش في بيئة الحضارة من المصريين المثقفين [5].
قرأت المنار ومباحث السيد رشيد ؛ لأنني كنت أقرأ كل ما كتب الأستاذ الإمام
محمد عبده ، وكل ما أوصى بقراءته مما تتناوله طاقتي في سني الدراسة .
وقرأت الأستاذ وجدي ؛ لأنني اتجهت إلى هذه الوجهة فأحببت المزيد
فيها وكان أول ما وصل إليَّ من كتبه ( الإسلام في عصر العلم ) فكانت أدلته
عندي كافية للإقناع في سن النشأة الأولى .
ولا أزال كلما احتجت إلى بحث مستنير في الفقه والشريعة رجعت إلى كتب
السيد رشيد ، وكلما احتجت إلى تفسير مثقف لعقدة من العقد الدينية رجعت إلى رأي
الأستاذ وجدي فيها ، وقد أجد في كليهما معًا ما ينفعني في كلا الأمرين .
وكتاب ( الوحي المحمدي ) الذي أظهره صاحب المنار في الأشهر
الأخيرة هو من أفضل ما كتب في مباحثه الدينية : توخى فيه كما قال : ( أن
يكون أمضى مُدْيَة لقطع ألسنة الطاعنين في الإسلام من دعاة الأديان الأخرى )
وأراد به أن يكون كتابًا ( يصلح لدعوة شعوب المدنية الحاضرة إلى الإسلام
ببيان البراهين العقلية والتاريخية على كون القرآن وحيًا من الله تعالى لا وحيًا
نفسيًّا نابعًا من استعداد محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم بعض المتأولين
لإعجازه منهم ، وبيان ما فيه من الأصول والقواعد الدينية والاجتماعية
والسياسية والمالية والدفاعية السلمية التي يتوقف على اتباعها صلاح البشر
وعلاج المفاسد المادية وفوضى الإباحة وخطر الحرب العامة التي استهدفت
لها جميع الدول والشعوب في هذا العهد ) .
وعندنا أن الأستاذ يستجمع الكثير من أسباب الكفاءة الضرورية بتأليف كتاب
في هذه الموضوع للغرض الذي أبانه ، فهو يعلم من أسرار الأصول الإسلامية ما لم
يتيسر في العصر الحاضر إلا للقليلين بين علماء المسلمين ، وهو مسموع الرأي في
العالم الشرقي ، كثير القراء والمريدين في بلاد الإسلام ، وهو أسلم فطرة من جميع
من سمعنا بهم من المتصدين لهذه المباحث بين الشيوخ والفقهاء .
وقد درست بعض فصول الكتاب وتصفحت بعضها فبدا لي أنه ينهج في
الاستدلال العقلي منهجًا كفيلاًَ بإقناع العدد الأكبر من قراء هذه المباحث ولا
سيما المسلمين ، ولا أشك في سعة انتشاره وفلاحه في تفنيد المزاعم والريب
التي قد تساور الأذهان بين أولئك القراء ، فإن لم يبلغ الكتاب كل غرضه
المفصل في فاتحته فهو بالغ من ذلك الغرض ما يستحق تأليف كتب شتى لا
تأليف كتاب واحد ، وحسب المؤلف أن يظفر بهذا ليظفر بشيء كثير .
إلا أننا نأخذ على المؤلف نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في مثل هذا
المبحث إلى جانب المزايا التي توجب عليه طرقه وترجيحه على غيره ، وقد
يتلخص النقصان في نقص واحد وهو قلة البصر بأصول ( المنطق النفسي ) أو
منطق الدراسات النفسية الذي هو وحده عدة البحث في جميع الحقائق العالية
دون المنطق الدارج المألوف في المناقشات اليومية والوقائع الصغيرة .
فالأستاذ رشيد يحسب أن إثبات المسائل التي تناط بالضمير والفكر
وأطوار النفوس والشعوب هو من قبيل إثبات الأشياء المادية التي لها حجم
ووزن ولون ومكان ، وقل أن يختلف في مقياسها شاهدان ، وعنده أنه يستطيع
أن يبت بجواز حالة في النفس أو استحالتها كما يبت بوجود كرسي أمامه أو
عدم وجوده ، فيجزم حيث لا يستطاع الجزم ، ويخيل إليه أن قد انتهى من
الرأي وهو لا يزال فيه على عتبة البداية .
هذا من جانب . وأما الجانب الآخر فهو ضيق ملكة ( الاحتمال والفرض )
عنده ، وهي في باطن الأمر لباب المنطق كله ؛ إذ ليس التفكير الصحيح إلا أن
تحتمل الفروض الجائزة ثم تمنعها بالأدلة القاطعة . والأستاذ رشيد يدع نصف
الاحتمالات مغلقًا لا يقترب منه ثم يغلق النصف الآخر بأدلة ضعيفة تدع الباب
في معظم الأحيان مفتوحًا على مصراعيه .
فلقد كان الواجب الأول على الأستاذ رشيد في كتاب ( الوحي المحمدي )
أن يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه
من الوجوه الإنسانية المعهودة ، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا
بإقامة ذلك الحد على أساس مكين .
مثال ذلك : إذا قام رجل فقال للناس : إن الألمان انتصروا على الفرنسيين
ولكنهم سينهزمون بعد زمن قريب فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى
يترجح أحدهما على الآخر .
فإذا كان صاحبه صادقًا فربما هداه إليه الوحي والإلهام ، وربما هداه إليه
الحساب الدقيق والتقدير الصحيح ، وربما هداه إليه العلم من المطلعين على
أسرار الدول العارفين بما تستطيعه وما تنويه ، وربما هداه إليه التمني
والرغبة كما يتمنى المرء النجاح فيعتقد أنه سينجح ويأبى أن يصدق ما عدا
هذه الأمنية .
وربما كان صدقه مصادفة لا أثر فيها للإلهام أو للحساب أو للعلم أو
للتمني والرغبة وربما ظهر صدقه للناس ؛ لأن عبارته تقبل التأويل ، فيفسر
بعضهم المقصود من النصر والمقصود من الهزيمة والمقصود من المنتصرين
والمنهزمين على تفسيرات يجوز فيها الخلاف .
أما إن كان الخبر كاذبًا ففي العلم بكذبه مجال للاحتمال يشبه هذا المجال
فإذا جعل الباحث كل خبر صادق دليلاً على نبوءة فهو لا يخدم النبوءة بهذا
البرهان ، ولكنه يفتح الباب لمن يخبرون ببعض الأشياء فيصدق خبرهم من
طرق المصادفة او من طريق آخر غير طريق الوحي والإلهام .
وإنما السداد في الأمر أن ينفي الكتاب كل احتمال غير احتمال الوحي ،
وأن يكون نفيه مدعومًا بالبرهان الذي لا شبهة فيه عند المصدقين وغير
المصدقين ، ومن ثم يقيم الحد بين الحقيقة والدعوى وبين الإيمان والإنكار .
والشيخ رشيد قد فاته أن يصنع هذا في مواضع كثيرة ، فليته يعقد العزيمة على
تدارك ما فاته في طبعة ثانية ، ولو استعان عليه بمن يقدرون على عونه ،
وليس اقتراحًا أن يتدارك النقص يمانع شكره على ما بلغ من تمام وأسدى من
فائدة .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عباس محمود العقاد
***
الرد على العقاد
( المنار )
إن الأستاذ العقاد ، كاتب أديب سياسي نقاد ، غلبته على العلم ملكة الخيال
الشعري والجدل السياسي ، وعلمه بالدين ضعيف ، واطلاعه فيه قليل جدا كأمثاله
ممن تعلموا في المدارس العصرية كفريد أفندي وجدي ، بل هو يستمد من هذا على
ما حكم به على مبلغ علمه ، وهو على هذا لم يقرأ كتاب ( الوحي المحمدي ) كله ،
ولو قرأه بدقة وتأمل لكان حكمه عليه أصح مما كتبه أو لما انتقص مؤلفه بغير علم ،
وإن كان قوي الجرأة على النقد بمجرد الشبهة ، والحكم بغير حجة ، والاستدلال
بالقضايا الجزئية والمهملة التي لا يصح تأليف البراهين المنطقية منها على الكليات ،
كما فعل في انتقاده لكتاب ( تاريخ الأستاذ الإمام ) وقد بينت هذا في مقال حللت فيه
علمه وآراءه وأخلاقه تحليلاً أصح وأعدل مما حكم به عليَّ في نقده هذا وفي نقده
لتاريخ الأستاذ الإمام ، وسأنشره في جزءٍ آخر إن اقتضت الحال .
لو أنه قرأ الكتاب كله قراءة إمعان لعلم أنه ليس من موضوعه بسط كل
مسألة تذكر فيه ، ولا شرح كل شاهد من شواهده وجعلهما غرضًا للنضال ،
والدفاع عنهما بفرض الفروض الجدلية وضروب الاحتمال ، وإنما موضوعه إثبات
النبوة بالقرآن ودفع ما زعمه بعض منكري عالم الغيب من أنه وحي فائض من
النفس لا من الله تعالى .
وخلاصته أن القرآن فاق كلام العرب وأعجز البشر بمزايا لفظية ومعنوية
يستحيل أن تكون من مقدور محمد الأمي بعد استكمال الأربعين كديوان ( وحي
الأربعين ) الذي هجس به شيطان الشعر للأستاذ العقاد بعد استكمال هذه السن ، وسائر
ما نظم الشعراء وألف العلماء فيها ، فإن العقاد ( مثلاً ) تعلم مبادئ علوم العصر
ودرس الأدب وظهر فيه الاستعداد للشعر ، وكذا النثر في سن الصبا ، وقويت ملكته
فيه نظمًا ونقدًا في سن الشباب ، وكان يعدو في أثر شوقي حتى خرج من الإهاب ،
وماذا فعل في وحي الأربعين ؟ إنه لم يأت بمعجز لم يسبق إلى مثله ، ولم يحدث أدنى
تأثير صالح في قومه ولا في أمته ، ولم يقل المعتدلون فيه : إنه لحق شوقي ولا حافظًا
فيه .
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتعلم شيئًا ولم يحاول بيانًا ولم ينتحل
علمًا ، حتى جاء بهذا القرآن في سن الكهولة وهو ما وصفنا في كتاب الوحي
في إعجازه العلمي والبياني وفي تشريعه ، ولا في التأثير الذي قلب نظام العالم ،
وما ذكرته فيه من آياته العلمية الدالة على أنه من عند الله لا من علم محمد
صلى الله عليه وسلم قسمان : ( أحدهما ) المقاصد العشر التي جعلتها من
موضوع التحدي ( وثانيهما ) ما جاء في عرض الكلام كأنباء الغيب المستقبلة
في بحث امتياز نبوة محمد على نبوة أنبياء بني إسرائيل ، فهي لم تكن
موضوعًا مستقلاًّ سيق لإثباته بالدلائل ، والرد على ما يرد عليه من منكر أو
مجادل ، والأستاذ العقاد لم يفرق بين القسمين ، ولم يتذكر ما لا يخفى عليه من
أن الشواهد والأمثال لا تقرن بالاستدلال عليها ، والرد على ما يحتمل من
وقوع الشك فيها ، بل اشتهر عند علماء المناظرة وآداب البحث قولهم : ( البحث في
المثل ليس من دأب المحصلين ) .
ولكن كبر عليه أن يكتب عن هذا الكتاب شيئًا ويتركه بدون انتقاد ، وأن
يكون انتقاده خلوًّا من الانتقاص والاستعلاء ، كدأبه في انتقاد الشعراء
والأحزاب ، أو كل من لم يأخذ علمه عن الفرنجة حتى علم القرآن ، الذي يعلو
على علومهم بما يقاس بسنيِّ النور لا بالأمتار أو الأميال .
نظر إلى كتاب الوحي المحمدي ومؤلفه بالعين التي نظر بها إلى أحمد
شوقي وشعره من قبل ، وأين أودية الشعر من سماء الوحي ؟ وأين تشميره في
قرض الشعر من تقصيره في علوم الوحي ؟ نظر بتلك العين الخاسئة فرأى فيه
نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في هذه البحث ، قال : وقد يتخلصان في
نقص واحد وهو قلة البصر بالمنطق النفسي ، ونقول : إنما صوَّره أو سوَّله له
حسر بصره بالمنطق العقلي .
إن اختراع النقائص وقَذْف الناس بها أمر سهل على الشعراء وكتاب
السياسة ، ولكن إقامة الدليل المنطقي عليها حَزَن أي حَزَن إلا أن يكون كدليلي
الأستاذ العقاد على ما أنكر في تاريخ الأستاذ الإمام أعني عليه لا له [6] وانظر
ماذا قال في بيان نقيصتيه اللتين تجرم علينا فقذفنا بهما :
قال : ( كان الواجب على الأستاذ رشيد في كتاب ( الوحي المحمدي ) أن
يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه من
الوجوه الإنسانية المعهودة ، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا بإقامة
ذلك الحد على أساس مكين ) .
إن هذه العبارة مبهمة مجملة تحتمل عدة تأويلات أقربها أن عقيدة كاتبها
أو فهمه للنبوة والوحي وعلم الغيب غير عقيدة الموجهة إليه ، ولا يتسع هذا
النقد الوجيز لتفصيل هذا ، فننتقل منه إلى المثال الذي فسره به ، وخلاصته أنه
إذا قام رجل فقال للناس : إن الألمان انتصروا على الفرنسيس ولكنهم
سينهزمون بعد زمن قريب ، فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى يترجح
أحدهما على الآخر ، وذكر لاحتماله للصدق وجوهًا أولها الوحي والإلهام ( ؟ )
وآخرها المصادفة .
ونحن نقول ( أولا ) : كان يجب على الأستاذ عباس أن يطلع قبل هذا الحكم
على ما كتبه محمد رشيد في تفسيره ومناره وغيرهما في مباحث علم الغيب
وتقسيمه إلى غيب حقيقي وغيب إضافي ، وحكمه بأن من الثاني ما يمكن أن يعرفه
بعض البشر بالطرق العلمية والتجارب ومنها التنويم المغناطيسي أو الرياضة
النفسية كمكاشفات الصوفية إلخ ، ومنها ما يمكن تأويله من أخبار القرآن الغيبية وما
لا يمكن تأويله كالذي تراه في تفسير سورة التوبة في بيان أحوال المنافقين . وإذن
لعلم أن ما عده عليه من الجهل هو عنده من البديهيات .
و ( ثانيًا ) إن الخبر الذي قال العلماء : إنه يحتمل الصدق والكذب قد قيدوه
بقولهم : ( لذاته ) أي بصرف النظر عما يقترن به من الدليل على أحدهما ، فخبر
الأنبياء عند المؤمنين بهم لا يحتمل إلا الصدق ، وقد أقمنا الدليل على نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بغير إخباره بالغيب فوجب حمل خبره به الثابت عنه على
الصدق فقط ، على أن أصل كلامنا في أخبار الغيب في كتاب الوحي المحمدي
خاص بما جاء منه في القرار ، وهو كلام الله تعالى وأقمنا الدلائل على كونه كلامه
عز وجل من عدة وجوه غير إخبار الغيب فلا يصح أن يقال بها مصادرة لأن إثبات
كل منهما متوقف على الآخر .
( وثالثًا ) إذا كان الأستاذ العقاد يرى أن مثل قوله تعالى : { غُلِبَتِ الرُّومُ *
فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ } ( الروم : 2-
4 ) يحتمل مثل ما ذكر من الفروض والشكوك عند غير المؤمن بالقرآن ، فسيعلم
أن من أخبار الغيب فيه ما لا يحتمل مثل ذلك إلا بضرب من مكابرة العقل أو
الوجدان ومنها زعم المادي أن كل ما وراء المادة لا يدخل في حدود الإمكان ، فكل
ما يعجز عن تعليله بالفروض المادية والاحتمالات المخترعة ، فعليه أن يرضى
بعجزه عن فهمه ، لا يجوز له أن يؤمن بأنه من الله عز وجل .
ومهما يكن من شيء بعد ، فإن من الغريب من مثله أن يطالب مؤمنًا بالغيب
والأنبياء أن يقيم حدًّا فاصلاً بين علم الأنبياء وعلم غيرهم أو علم الخالق وعلم
المخلوق بالصفة التي وصفها ، وهو ما يعجز عن مثله الفلاسفة وعلماء المادة في
علمهم الذي لا قنون بشيء منه .
وأما الممكن من ذلك فقد بينته في مواضعه بما قضته المناسبة ووسعه السياق ،
وقد وعدت بعقد فصل خاص في الشواهد عليه من الآيات والأحاديث النبوية في
الجزء الثاني من كتاب الوحي المحمدي ؛ إذ عجز الجزء الأول عن العلاوت التي
كلفته حملها .
* * *
كلمة للأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي
الكاتب الخطيب المصنف الشهير
نشرت في جريدة البلاغ في23 جمادى الأولى سنة 1352 الموافق 13
سبتمبر سنة 1933 .
الوحي المحمدي كتاب من تأليف العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ
المنار الأغر ، وغاية المؤلف ثبوت النبوة بالقرآن ، ودعوة شعوب المدنية إلى
الإسلام .
وقد صدرت الطبعة الأولى منه في يوم المولد النبوي الشريف سنة 1352
الموافق يوليو ( تموز ) سنة 1933 م وهو في مئتي صفحة من القطع الكبير .
وفي الحق أنه كتاب جليل يلفت الأنظار بما أورده الأستاذ مؤلفه من الأدلة
العقلية والحجج النقلية بوضوح وجلاء على طريقة حديثة لم تسبق للمؤلفين في
المسائل الدينية إلا للأستاذ العلامة محمد فريد وجدي مما دلنا على تطورٍ مُبارك في
أسلوب السيد رشيد الذي كان يجاري المؤلفين القدماء كنقله قول أحد علماء
النصارى للمؤلف :
( أنت تعجب بمحمد وتعتقد بأنه نبي مرسل ، وأنا أعجب به وأعتقد أنه
رجل عظيم فتقديري له أعظم من تقديرك )
وقد حاول الأستاذ الفاضل إثبات الوحي بالمعجزات بأدلة منطقية فجاء موفقًا
في كثير من بحوثه وتكلم في درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه
ونفي شبهة منكري عالم الغيب على الوحي ، وأظهر أن نبوة محمد ورسالته قائمتان
على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وموضوعها ؛ لأن البشر في عهد النبي قد بدءوا
يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع
من تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون ، بل لا يكمل
ارتقاؤهم واستعدادهم بذلك بل هو من موانعه ، فجعل حجة نبوة خاتم الأنبياء عين
موضوع نبوته وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وعلومه وإعجازه اللفظي والمعنوي ،
ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال .
ثم خلص الأستاذ إلى الكلام على القرآن فتكلم عن إصلاح أركان الدين التي
أفسدها الغير ، وهي الإيمان بالله وعقيدة البعث والجزاء والعمل الصالح . ثم جعل
لبحوث القرآن عشرة مقاصد كلها منطبقة على المنطق والعقل وحسن التعليل
وسلامة التدليل مما يجعل الكتاب مقبولاً لدى الشبان المنورين والميالين لحرية الفكر .
ويقول الأستاذ : إن الكتاب يشمل دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام ولم يقل لنا
أية مدنية يريد ففهمنا أنه يقصد إلى أوربا وأمريكا وليسمح لي أن أقول : إنه جاء
متأخرًا جدًّا وكان يجب عليه أن يؤلف هذا الكتاب من عشرات السنين ، وأن ينقله
إلى لغات أوربا ، وأن يطبعه بالملايين ويوزعه مجانًا ، لأنه لا ينتظر أن أهل لندن
و نيويورك و برلين يشترون الكتاب من مطبعة المنار . ونحن نعلم أن هذا العمل
يتطلب مالا كثيرًا ووقتًا أكثر فينبغي للسيد رشيد أن يدعو إلى هذا ، لا أن يكتفي
بالتأليف العربي وحده ، يدعو إلى نقل الكتاب إلى اللغات وترجمته وإلا فإن مجرد
الكتابة على الغلاف أنه دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لا تكفي ) .
( المنار ) كان كل ما انتقده الكاتب بقوله : ويقول الأستاذ إلخ ما نشرناه وما
لم ننشره مثارًا للعجب من مثله سببه أنه انتقد ما لو قرأه لم ينتقده ، وقد بينت خطأه
فيه في مقالتين نشرتا في البلاغ فلم ينكر منهما شيئًا وهو من محرريه .
* * *
تقريظ الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبو ريه
من العلماء في المنصورة
( نشره في المقطم )
كنت أحسب يوم أن قرأت في الصحف نبأ كتاب ( الوحي المحمدي ) أنه
رسالة صغيرة وضعها الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا ليمحص فيها أمر
الوحي ، وحقيقته بعدما كثرت فيه أقوال بعض علماء الوحي وأنكروا إمكانه بما
يعرف المسلمون كما يفعل في مسائل كثيرة مما يثور حولها الجدل فيضع فيها
رسائل خاصة تطلع من قلمه منيرة كفلق الصبح فتكون الحكمة وفصل الخطاب .
كنت أحسب الأمر كذلك حتى أتيح لي الاطلاع على هذا الكتاب فإذا بي أجد
الأمر أكبر مما حسبت وأعظم مما توهمت وإذا أنا بإزاء كتاب متعدد النواحي متسع
الأرجاء لا يقف عند الكلام على الوحي ، وإنما يمتد فيحيط بكل ما أوحي به إلى
النبي صلى الله عليه وسلم .
ونحن لا نحاول هنا أن نظهر للقارئ الكريم ما بين دفتي هذا الكتاب من
بحوث ؛ لأن ذلك يحتاج إلى مقالات طويلة ، وإنما نشير إلى بعضها وحسبنا ذلك .
تكلم الأستاذ الكبير عن الوحي وفنَّد بأدلة قوية مسددة ما يزعمه الذين يقولون : إن
الوحي المحمدي إنما كان وحيًا نفسيًّا ولم يكن وحيًا إلهيًّا .
وعقد فصلاً رائعًا عن آية الله الكبرى ( القرآن الكريم ) وعن أسلوبه وإعجازه
جاء ولا ريب آية في البلاغة والتحقيق العلمي وقد كشف فيه عن معنى دقيق في
حكمة التكرار في الكتاب العزيز فأبان أنه لم يأت عبثًا وإنما هو أسلوب عجيب من
أساليب القرآن العجيبة المعجزة في تربية الشعوب بحيث لو خلا كتاب الله منه لما
بلغ في نفوس العرب ما بلغ من غرس تعاليمه القويمة وحكمه العالية وأغراضه النبيلة
في نفوسهم واجتثاث ما في هذه النفوس من عقائد باطلة وعادات فاسدة .
وقفَّى على ذلك ببحث قيم عن الثورة والانقلاب الذي أحدثه القرآن الكريم في
العالم وكيف فعل في نفوس العرب مشركين ومؤمنين .
وأنشأ بعد ذلك يتحدث عن مقاصد القرآن الكريم فجعلها عشرة مقاصد وجعل
تحت كل مقصد مسائل كثيرة ، وقد شاء له حبه للتحميص أن يمسك بطرفي التحقيق
في كلامه عن هذه المقاصد فلم يقف عند إثباتها بالأدلة النقلية بل ظاهرها بالبراهين
العقلية .
وختم هذه المقاصد بخلاصة وافية في مسألة الوحي وجعل خاتمة الكتاب في
دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لإنقاذ البشر وإصلاح فسادهم .
هذا بعض ما جاء في كتاب ( الوحي المحمدي ) ولا غرو فإن مؤلفه هو
الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا الذي قال فيه بحق زعيم الإسلام الكبير
ومجدده العظيم شيخ البيان الأمير شكيب أرسلان في معلمته الإسلامية الكبرى
(حاضر العالم الإسلامي ) .
( قد انتهت إليه الرياسة في الجمع بين المعقول والمنقول والفتيا الصحيحة
والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة مع الرسوخ العظيم في اللغة ... إلى أن
قال : وهو الرجل الذي إذا دعا كل مسلم بإطالة حياته لكان بذلك جديرًا ) .
وإذا كان لنا من كلمة عامة في هذا الكتاب نختم بها هذه الكلمة الصغيرة ، فإنا
نقول : إنه كتاب لا يستغني عنه مسلم ويجب على كل من يريد من أهل الأديان
الأخرى معرفة أمور الإسلام على حقيقتها أن يقرأه ويتدبره .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود أبو رية
* * *
تقريظ الأستاذ عبد السميع البطل
المدرس بمدرسة رقي المعارف الثانوية
ونشر في جريدة الجهاد مختصرًا
استهدف الإسلام منذ فجر التاريخ ، لكثير من الشبهات التي كان يصوبها نحوه
خصومه من الملاحدة ، وأعداؤه من السياسيين ، وكان العلماء في كل عصر
يتصدون للرد على هذه الشبهات ويجدعون أنوفها ، فيظل واضح الطريق ، نيِّر
الدليل ، ثم يسير الزمن بالناس ، وتتلقح أفكارهم بعلوم ومعارف جديدة فتتجدد لهم
شبهات ، وتعصف بهم أعاصير ، فإذا بالعلماء المستقلين يكرون على المهاجمين ،
يجدلونهم بشباة أقلامهم ، وقواطع حججهم ، فما هو إلا أن نرى الباطل منكسرًا ،
والحق منتصرًا .
وقد تجددت في العصر الحاضر شبهات على الإسلام كثيرة ، وهُوجِمَ من
أعدائه في إحكام وقوة ، ولم يدعوا منفذًا يأتي على بنيانه من القواعد إلا سلكوه ،
ولا سلاحًا يجهز عليه إلا صوَّبوه ، ولولا حصانة الإسلام الطبيعية ومنعته الذاتية ،
لَخَرَّ مضرجًا بدمائه ، ولأصبح أثرًا بعد عين .
ذلك أن علماء الإسلام وهم ورثة النبوة ، والقوامون على حراسة الدين ، قد
شغلتهم المناصب الدنيوية فأعطوها كل أنفسهم ، ومكنوا لها من قلوبهم ، وانصرفوا
عن النظر في القرآن وعلومه ، مخلدين إلى أرض التقليد ، عاكفين عليه ، فلم
يسايروا الزمن ، ولم يتمشوا من الرقي الفكري ، وأصبحوا يعيشون في عالم وحدهم ،
لا يدرون ماذا يقال عن الإسلام ، ولا بم يهاجم وكيف يهاجم ، ولئن سألتهم ليقولن :
( إن الإسلام بخير ، وله رب يحميه ) وهو جواب العجزة ومن لا حيلة لهم .
ولكن الله لا يذر الإسلام بغير سيف يحميه ، ولم تخل الأرض من قائم لله
بحجة ، فهذا معقل الدين وسنده عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا قد أخرج لنا في
هذا العام كتابه ( الوحي المحمدي ) يثبت فيه النبوة بالقرآن ، ويدعو شعوب المدنية
إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية والسلام فكان خير كتاب أخرج للناس في بابه .
افتتحه المؤلف الكبير بمقدمة فياضة في بيان موضوع الكتاب ، وحاجة البشر
إلى الإسلام ، وبيان الحجب التي تحول بين الإسلام والإفرنج ، ثم أفاض في
الموضوع بما أفاء الله عليه من علم غزير ، وعقل منير .
والسيد رشيد دائرة معارف إسلامية واسعة ، وهو حين يكتب في الإسلام ، لا
يدع قولاً لقائل ، ولا يترك استدراكًا لمستدرك ، وأشهد لقد كنت أقرأ مقالات ( الوحي
وهي لا تزال تنشر تباعًا في ( المنار ) فيأخذ مني الإعجاب بها كل مأخذ ويسبق
لساني بالدعاء لصاحبها بطول العمر والسلامة كفاء خدمته للإسلام .
بل أشهد ويشهد معي جميع الذين اطلعوا على كتاب ( الوحي المحمدي ) أنه
لم يكتب مثله كاتب في الإسلام ، وأنه خير كتاب في الدعوة إلى الإسلام وبيان
مزاياه ، لا يستغني عنه مسلم ، ولا يسد غيره مسده في هذا العصر ولا أستثني
رسالة التوحيد للأستاذ الإمام ، فإنها على طرافتها ، وقوة حجتها ، وبلاغة عبارتها ،
قد يقال فيها : إنها رأي لصاحبها وصل إليه بعد دراسة للإسلام عميقة ، بل قيل :
( إن رسالة التوحيد فلسفة لا دين ) ذلك أن الآيات التي استشهد بها المؤلف رحمه الله
كانت قليلة جدًّا ، اكتفاء بالإحالة على الحجج العقلية ، ووقائع التاريخ الصادق ، أما
( الوحي المحمدي ) فإنه يثبت كل شيء بالقرآن ، ويضع يد القراء على موضعه من
السور ، في سيل أتي ، ونور محمدي .
وجملة ما يقال في الكتاب أنه أحسن ما ألف في العقيدة الإسلامية في هذا
العصر ، وأنفع كتاب في الدعوة إلى الإسلام وصد غارات المبشرين ، وأقرب إلى
عقول المتعلمين المدنيين ، وإني لأرجو أن يترجم إلى اللغات الحية ، وحينئذ أرتقب
أن تقوم ثورة فكرية في العالم الغربي تتكشف عن فوز الإسلام ورجحان كفته ،
جزى الله المؤلف خير الجزاء .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ذنبي عند الكاتب أنني هضمت حق والده الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رحمه الله في تاريخ الأستاذ الإمام ، بلغه هذا من كاشح فصدقه وأحفظه ، وهو منكر من القول وزور ، فالكتاب لم يغمط حق والده في شيء مما اشتهر به من سعة العلم ، وقوة الفهم ، وحسن الإلقاء ، وإنما بيَّن ما يجب بيانه من وقوفه موقف المعارض لما سعى إليه الأستاذ الإمام من الإصلاح ، والشيخ عبد العزيز يعرف هذا كما نعرفه ، فإن استطاع إقناعنا بخطأ في شيء منه رجعنا عنه شاكرين .
(2) يعني بهذا ما أشرنا إليه في آخر مقدمة الكتاب ، ومنه أن سبب ما كان من كثرة الإحالة على تفسير المنار أن مباحث الوحي كانت فصلاً فيه وأكثر المسائل المحالة عليه مقتبسة منه ، وقد اجتنبنا هذا في الطبعة الثانية إلا قليلاً مما وضعناه في الحواشي .
(3) الصواب في أما الثانية هذه أن تعطف على الأولى المقابلة لها كما فعلنا ، وهو ما يغفل عنه جمهور الكتاب حتى المتأنقين المدققين في هذا العصر .
(4) المنار : الفقه الشرعي خاص بأحكام الشرع العملية من العبادات والمعاملات المدنية والعقوبات ، فلا يدخل في مفهومه العقائد وما عدا الأحكام والحلال والحرام من علوم التفسير والحديث ، ولعل الكاتب يعني ما هو أعم من المعنى الشرعي .
(5) وصفه هذا للأستاذ وجدي من أدق تحريره للمعاني فهو صريح في أن كلام وجدي في المسائل الدينية غير مستمد من القرآن ولا من السنة ولا من العلوم الإسلامية المدونة بل من شعوره المدني العصري ، فهو كذلك لا يعرف أصول الإسلام بأدلتها ، ولا بمدارك أئمتها ، وقلما انفرد بمسألة إلا هو مخطئ فيها .
(6) استدل هنالك بالاشتباه في اسم رجل من رجال الحملة الفرنسية على أن مؤلفه لم يعرف من تاريخ مصر الحديثة شيئًا ما ! ! على أن المؤلف قد صحح هذا الاسم في الصحيفة التي صوب فيها الخطأ ، وفي فهرس الأعلام - واستدل بنقله مسألة انتقدها بعض الناس على الأستاذ الإمام على أن هذا المؤلف لم يفهم سياسة أستاذه ولا نفسه ، وهو الذي أرخه ونشر آراءه وإصلاحه وكان رحمه الله يصرح بأنه ترجمان أفكاره على أنه قد بيَّن حقيقة نفسية الأستاذ وسياسته في هذه المسألة بما لا ينتقده الأستاذ العقاد لو رآه .
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
( تابع لما نشر في العدد الماضي )
( 2 )
- 5 -
للعلامة الأستاذ الشيخ سعدي يس الدمشقي
تكرم علامة دمشق الشام الشيخ محمد بهجة البيطار فأهداني كتاب
( الوحي المحمدي ) كما هو شأنه مع أصحابه ومعارفه في كل كتاب نفيس يصدر ،
وذلك خُلُق طبعه الله عليه .
وما أن اطلعت على هذا الكتاب العظيم العديم المثال حتى علمت علم
اليقين أن كتاب الوحي المحمدي هو خير كتاب أخرج للناس في هذا العصر ،
بل لم يؤلف قبله في بابه نظيره ، ولقد ارتفع عن كل مؤلف كما ارتفع مؤلفه
عالم الإسلام الإمام الهمام السيد الشيخ محمد رشيد رضا عن كل عالم ومؤلف
في هذا العصر . ولقد سما به وايم الله لمكان لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه
العقبان .
تأملت شُبَهَ درمنغام التي بسطها المؤلف الإمام قبل الرد عليها فإذا هي
جبال تتصاغر أمامها دوامغ الحجج ، وبحار زاخرة تكاد تغرق الحق في
اللجج ، وتمتلئ منها قلوب المؤمنين رعبًا ، وما إن كرَّ عليها ذلك الغضنفر
الضرغام ، بسيف الحق الصمام ، حتى ذلت بعد جبروتها ، وصغرت بعد
كبريائها ، كما ذل وصغر الثعلب بين يدي القسورة الأغلب ، وإذا بها ريش
وهباء ، أمام زعزع نكباء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } ( الأنبياء : 18 ) .
وكتاب الوحي المحمدي ليس رد مفتريات وإبطال أخطاء فحسب ، بل هو
كتاب جمع فأوعى ، فيه إثبات أن القرآن وحي الله الذي أوحى به لرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي الهاشمي ، وأنه آية الله الكبرى
التي أيد بها دينه ونبيه ، وأنه معجزة باقية ما بقي النيران ، وتعاقب الملوان ،
وأنه أتى بجميع ما يحتاجه البشر لمعادهم ومعاشهم .
وفيه إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بوجه خاص ونبوة جميع
الأنبياء بوجه عام ، أثبت ذلك بأدلة أنصع وأمتع وأرفع من أدلة كتب دلائل
النبوة ، إثباتًا اعتمد على الأدلة العلمية العقلية التي يذعن لها المخالف المنصف
والخصم المعاند . وفيه أصول العقائد الإسلامية بل فيه ملخص الشريعة
الإسلامية : أحكامها وحكمها .
وإنك لتجد أن السيد الإمام ، أمتع الله بطول حياته المسلمين ونصر به
الإسلام ، تجد أنه قد قسم الإصلاح الإلهي للبشر في القرآن إلى عشرة مقاصد ،
لا أحسب أن مخالفًا منصفًا يقرؤها متدبرًا لها ويبقى عنده أدنى ريب أو أقل شبهة في
أن القرآن أعظم كتاب منزل ، على أشرف نبي مرسل ، دعم المؤلف الإمام هذه
المقاصد بشواهد حية ، وآيات ناطقة ، وحجج ليست براهين ساطعة ولكنها شموس
طالعة ، ولئن سمي كتاب فتح البارئ قاموس السنة فكتاب الوحي المحمدي ترجمان
القرآن .
وليس هذا بكثير على سليل بيت النبوة ومن يمت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم بنسب النبوة . ولقد خطر لي وأنا أقرأ كتابه كلمة ذلك الأعرابي
الذي سأل أبا جعفر محمد بن علي ابن سيدنا الحسين إذ سأله فقال : هل رأيت
الله حين عبدته يا أبا جعفر ؟ فقال : لم أكن لأعبد من لم أره . قال فكيف رأيته ؟
قال : لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ورأته القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك
بالحواس ولا يشبه بالناس معروف بالآيات ، منعوت بالعلامات ، لا يجور
في القضيات ، ذلك الله الذي لا إله إلا هو . فقال الأعرابي : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( الأنعام : 124 ) ألا وإن هذا وذاك من ينبوع واحد ، وإن
أقول إلا ما قاله ذلك الأعرابي .
بيروت ... ... ... ... ... ... ... سعدي يس الدمشقي
***
- 6 -
للأديب الفاضل الشيخ محمد نعيم البيطار
ما هذه الأشعة التي انبعثت من غار حراء فأشرقت بنورها الجزيرة
العربية ثم ما لبثت أن ملأت الدنيا بهجة وضياء ؟
من ذلك الرجل الذي ظهر للوجود فأنقذ العالم مما كانوا فيه من البؤس
والشقاء وقادهم جميعًا إلى طريق السعادة والهناء .
ما هذه الدعوة التي لم يمض على ظهورها ربع قرن حتى احتلت قلوب
العالم فكانوا لا يخالفون مبادئها قيد شبر .
ترددت هذه الأسئلة في خواطر المطلعين على أحوال الأمم والمنقبين عن
تواريخ الشعوب لما شاهدوا من آثار تلك المدنية الباهرة التي ما زالت آثارها
موضع الإعجاب رغم مضي مئات السنين على أصحابها .
فشرع كل منهم يضعها بقالب موافق لما يريد ، ويملي على قلمه ما
يوحيه إليه فكره من آرائه التي اكتسبها من البحث والتنقيب ، فكان بينهم
المخطئ والمصيب ، غير أن المخطئ يحتاج إلى تنبيه ؛ لأن خطأه إذا شاع بين
العوام ، كان مدعاة لدفن الحقائق والتمسك بالأوهام .
لذلك الأمر الخطير قام صاحب كتاب الوحي المحمدي السيد الإمام ،
علامة الإسلام ، الأستاذ محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر . فأبان
أغلاطهم التي تطرأ على كل من لم يكن ضليعًا بالأمر الذين يقدم عليه . فكان
من أكبر أغلاطهم أن حسبوا الوحي الإلهي إلهامًا فطريًّا من نفس الرسول
محمد عليه الصلاة والسلام ، بمساعدة البيئة والذكاء والانفراد ، إلى غير ذلك
من الأسباب التي أيدوها بآرائهم الفاسدة فأغوت كثيرًا من المتعلمين الذين لم
يطلعوا على حقائق السيرة النبوية فذكر السيد الإمام مصدر تلك الشبهات
ودحضها بالحجة والبرهان ، وأقام الشواهد الكثيرة على أن الوحي الكافل لإصلاح
جميع البشر لا يمكن إلا أن يكون وحيًا إلهيًّا .
وقد أفاض في ذكر إعجاز القرآن في بلاغته وبيانه وتأثير هدايته
ومقاصده العليا من تنظيم شئون الحياة الاجتماعية ، تنظيمًا يتفق وحاجة بني
الإنسان ، على اختلاف الأزمان والبلدان .
ثم احتج بجميع ما ذكر على أن الدين الذي يكفل ذلك كله هو أحق أن
يتبع فدعا جميع شعوب الأرض إلى التمسك بهدايته والعمل بتعاليمه الربانية ،
ليعرفوا كيف يستفيدون من حضارتهم التي أصبحت مهددة بخطر الزوال ،
فكان كتابه كتابًا قيمًا ، جدير بكل طالب علم أن يطلع عليه ويجعله من مقتنياته
النفيسة التي يرجع إليها وينقل عنها .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نعيم البيطار
***
-7-
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد رشيد ميقاتي مفتي طرابلس الشام
أخي العزيز السيد عاصم آل رضا حفظك الله
سلامًا واحترامًا ( وبعد ) قرأت ( كتاب الوحي المحمدي ) الذي أهديتنيه
فلا تسل يا أخي عما حصل لي من المسرة ، في الحظوى بما هو لعيون
المؤمنين قرة ، ووقفت موقف الحائر ، فيما أقول عن هذا السيف الباهر ، المزري
بالدرر والجواهر ، والسهل الممتنع ، الجامع المانع ، في بيان حقيقة دين الإسلام ،
لكافة الأنام ، فلم يسعني إلا أن أجهر بكلمة الله أكبر ، فتح ونصر ، وشعرت كأن
مناديًا ينادي من علوة يا أمة محمد ، أمة الإجابة والدعوة ، ويا طلاب الحقيقة
والخلاص والإخلاص في هذا العالم ، هاكم كتابًا اقرءوه ، فتعلموا منه بالوجدان
والضمير الحي ، حقيقة الدين الإسلامي بأنه دين الحضارة والعقل ، والترقي
والعدل ، والتسامح والفضل ، والعز والمجد ، والسيادة لكل فرد ، والكفالة
لكل خير في معاشكم ، والسعادة في معادكم ، وإنكم إن علمتم به وعملتم
فزتم بسعادة الدارين ، وإن لم تعملوا ، وعلمتم ظاهرًا من الحياة الدنيا فزتم
بها وحدها ، وإن لم تعلموا ولم تعملوا خسرتم الدنيا والآخرة كحال بعضكم ،
وذلك هو الخسران المبين ، وتعلموا حقيقة الوحي المحمدي أنه من الله رب العالمين ،
نزل به روح القدس جبريل الأمين ، على قلب النبي الأمي محمد ختام المرسلين
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
فمن هذا السرور ، ومن هذا الشعور ، تراني يا أخي داعيًا إلى الله أن
يكافئ مؤلف هذا الكتاب الجليل ، العلامة النبيل ، الفهامة لدين الإسلام ، ابن
عمك الرشيد الإمام ، بخير ما كوفئ محسن بإحسانه من الخير والإنعام آمين ،
راجيًا إبلاغ أزكى سلامي وفائق احترامي لحضرة المشار إليه ، أدام الله فضله
عليه ، والسلام عليكم , ورحمة الله تهدى إليكم
10 رمضان سنة 1352 ... ... ... ... ... مفتي طرابلس
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي
***
طائفة من التقاريظ التي رأيناها في المجلات والجرائد
تقريظ الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
( محرر مجلة الضياء الهندية في لكنهؤ ، ونشر فيها )
هدية ثمينة وتحفة نفيسة وثمرة علمية يانعة ، أنتجها قلم إمام هذا العصر
وحكيمه الأكبر ، مولانا السيد محمد رشيد رضا . لا زال بحر بره زاخرًا
يقذف بالدرر ، ووابل علومه يحيي القلوب الميتة ، وظله الوارف حماية
للإسلام والمسلمين .
هذا الدرة اليتيمة فكرة خطرت لحضرة السيد حين اشتغاله بتفسير كتاب
الله القرآن ، واستخراج نفائس كنوزه ، وأين منها الياقوت والمرجان ، وهي
بلا شك من التحديث الرباني ، والإلهام الرحماني ، قدمها حضرته للعالم
الإنساني ، في شهر ربيع الأول الذي كان فيه مولد المنقذ الأكبر للنوع
الإنساني محمد صلوات الله عليه . فكانت خدمة جليلة وتكريمًا لذلك الجناب
المقدس ، ولعمري إن بمثل هذا العمل المبرور يكون التكريم والتعزيز ، وهو
الآية المحكمة على المحبة العلمية الإيمانية ، لا التمسح على الأحجار أو تعليق
الخرق المزوقة ، وإيقاد الأنوار الكهربائية الملونة ، والفقراء ذات اليمين وذات
الشمال يتضورون جوعًا ويموتون بأمراضهم ولا معالج لهم ولا آس ، وراية
الإسلام منكوسة ، وأحواله معكوسة ، وشرع النبي الأكرم منبوذ ظهريًّا ،
وسنته الشريفة متخذة سخريًّا ، ولا غرو { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ
الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ } ( فاطر : 19-22 ) .
افتتح الإمام الكتاب بمقدمة بيَّن فيها بحكمة عالية واضحة نيرة على ذلك
ارتقاء البشر في الأمور المادية في خدمة هذا الغلاف الجسمي وبلوغهم في
ذلك الغاية التي انعكست وصارت شرًّا على الأجساد التي اخترعت لتنعمها
وتسعدها ، وبيَّن انحطاطهم الروحي ، وإفلاسهم الأدبي وما سبب لهم من
الشقاء والعذاب الجسمي الذي منه يحذرون ويفرون ، وبرهن على أن السعادة
البدنية يستحيل الوصول إليها بدون الكمال الروحي ، والرقي النفسي ببراهين
لا تبقي للشك مجالاً ، وراش سهام التأنيب للدول الآخذة بأزمة الأمم في هذا
الزمان ، وحمل عليها تبعة الخزي والشقاوة الذين تجلبهما على العالم بتكالبها
على المادة ، وتنافسها في التطاول وحب العلو والفساد في الأرض بإهلاك
الحرث والنسل في حروبها المتنوعة من سياسية واقتصادية وأدبية وغيرها .
ثم ذكر اعتراف حكماء الغرب بهذا الفساد وتمنيهم أن يبعث نبي يحدث
انقلابًا روحيًّا ينقذ الإنسانية من نصبها وشرورها ، وإطباقهم على أن أديانهم
لا تنجع في علاج هذا الداء ، بل ربما كانت إحدى عوامله ، فأراد هذا الإمام
الحجة أن يريهم أن الذي يطلبون بين أيديهم ، وأن الدواء الناجع على طرف
الثمام ، ويرفع عنهم حجب الجهل والتعصب التي حرمتهم من اقتباس أنوار
الدين الأصلي الخالد ، دين الفطرة ، ويضع أيديهم على محاسنه وفضائله
ليتفقهوا فيه باتخاذهم ( الوحي المحمدي ) دليلاً وهاديًا ، ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .
ولا جرم أن السيد - أيده الله- جمع ما كتبه الحكماء والأطباء النطاسيون
لأمراض النفوس في هذا العصر وفيما قبله وزاد عليه بأوجز عبارة وأوضحها ،
وفتح بابًا جديدًا للدخول إلى خزانة كنوز القرآن استعصى فتحه على من حاوله
قبله من المصلحين بالنسبة إلى طب أدواء عصرنا هذا ، وأتى في هذا السفر
الصغير الحجم بالأدلة القاطعة عقلاً ونقلاً من الكتب المنزلة والسنن النبوية
التي يتضاءل أمامها كل معاند بما يشفي الغليل ، ويبرئ العليل في أمهات
المسائل التي تشغل أذهان علماء العصر وعامته . فمنها نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم وإثباتها بالحجج التي تجبر مثبتي الوحي ونُفَاته على الإذعان
والبحث الوافي الشافي في الوحي والمعجزات عند النصارى وعند المسلمين
والفلاسفة مما لا تجده في غيره . ومن خواصه أنه أورد في جميع الشبهات
القديمة والجديدة التي وجهت للوحي العام والخاص وأجاب عنها بأحسن
جواب . ثم خرج إلى المقصود بالذات وهو القرآن مبينًا أسلوبه ، وحكمة
تكرار الآيات فيه ، وما أحدثه هذا الكتاب العظيم من تأثير وانقلاب في العالم ،
ثم حصر مقاصده الأصول نذكرها آسفين إجمالاً لضيق المقام .
( وهنا لخص الأستاذ مقاصد القرآن العشرة وخاتمة الكتاب فجزاه الله
عن نفسه ودينه وأخيه المؤلف أفضل الجزاء ) .
***
تقريظ مجلة الشبان المسلمين لكتاب الوحي المحمدي
لرئيس تحريرها الأستاذ النحرير الدكتور يحيى الدرديري
الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا ليس بغريب على القارئ حتى نقدمه
إليه بمقدمة تشرح تاريخه وماضيه في الجهاد القلمي للإسلام . وبحسب القارئ
أنه يعلم أنه منشئ مجلة المنار ، وأنه وارث علم الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده ، ومذيعه على الناس إذاعة لولاها ما كتب له هذا الذكر الخالد العريض .
وقد أخرج للمكتبة الإسلامية العربية في هذا العام كتابًا قيمًا في إثبات الوحي
المحمدي بالقرآن ، ودعوة شعوب المدنِيَّة إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية
والسلام .
وقد تعرض فيه للشبهات التي تحوم حول نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم وردها وبين رأي الكنيسة المسيحية في النبوة وتعرض لبيان المعجزة
والكرامة والخوارق وتأثيرها في الأفراد والأمم ، وبيَّن أن الوحي المحمدي ليس
وحيًا نفسيًّا كما يعتقد بعض علماء الفرنجة ، وبين قيمة القرآن في إثبات معجزات
الأنبياء وتفرد الإسلام بنوع من الإعجاز ليس في غيره من الأديان إلى غير ذلك من
المباحث والقضايا الدينية التي قد لا يُعْثَرُ على حل لها إلا في منتوج قلم الأستاذ الشيخ
رشيد .
ويقع الكتاب في مائتي صفحة وهو مطبوع طبعًا جيدًا في مطبعة المنار
فنحث القراء على اقتنائه .
***
تقريظ
( بقلم الأديب الكبير الكاتب النحرير الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري )
نشر في جريدة البلاغ الغراء
شغلتي أشغال عن مطالعة هذا الكتاب أول مظهره . حتى إذا تفرغت وتهيأت
لي الأسباب تجردت في قراءته وتدبره . ولقد تناولته والظن معقود بأنه من جنس ما
خرج من الكتب في بابه ، على أنني ما كدت أسترسل فيه حتى جعل يتعاظمني
شأنه ، ويتكاثرني خطبه ، وكلما أمعنت فيه زادني إعجابًا به ، وإجلالاً لموضعه ،
حتى خرجت منه ولا يكاد كتاب في بابه يبلغ مداه ، أو ينتهي منتهاه .
ولقد يتداخلك العجب من أن أطلق أنا مثل هذه الشهادة في كتاب يخرجه
السيد رشيد رضا ، وبيننا ما أعلم ويعلم ، وما الله تعالى به أعلم ، فإن للدين
والعلم حقًّا يجب أن تكبح له الشكائم ، وتسل دونه السخائم ، وللحساب الغليظ
مقام آخر إن شاء الله [1] .
كتاب الوحي المحمدي يرجع موضوعه أو موضوعاته في الجملة إلى
إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها خاتمة رسالات الرسل عليهم
الصلاة والسلام . وأن شريعته هي الشريعة الجامعة لكل ما فيه صلاح العالم
وحضارته ويسره وأمنه وسعادته في كل مكان ، وإلى غاية الزمان ، وإن
شأنه عليه السلام مع شأن من تقدمه من الرسل الكرام لعلى حد قول المتنبي :
نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرًا
ولقد اتكأ المؤلف في تدليله أكثر ما اتكأ على القرآن الكريم ، وفي إحسان
وإبداع أثبت السيد أنه لولا القرآن ما انتهضت حجة قاطعة على نبوة من تقدم
من الأنبياء .
ولقد جعل المؤلف كلما تحول إلى باب أو انحرف إلى مطلب في أسباب
الموضوع يتقرى فِرَى عدو الإسلام من الداعين إلى حربه ، ومن الملحدين
عامة ، وشبه الشاكين من أهله ، ومن المتطرفين منهم بالتشكيك في بعض
قضاياه ، فيفريها بالحجة فريًا ، ويضغمها بالدليل الحاسم ضغمًا ! فما يدع
لأصحابها متنفسًا ، ولا يجيز لمتنزي الإلحاد مضطربًا .
ولقد قال الكتاب في محمد صلى الله عليه وسلم وفي الوحي وفي القرآن
وفي أثره في العالم . وفي معجزات الأنبياء وفي حاجة العلم إلى الدين . وفي
كثير غير ذلك مما ينسق للغرض ، ويتجلى به وجه الحجة ، فكفى وشفى ،
وبلغ من الإحسان والإجمال غاية المدى .
وليس من شأن هذا المقال أن يدل على مواضع الإجادة في أبواب الكتاب ،
بله كل فصل من كل باب . فذلك مما يخرج عن طوق سابغ المقالات ، على
أن في الكتاب مقامات صلصل فيها البيان الديني أي مصلصل ، ولقد يكاد
يتحول حسك وأنت تطالعها من البصر إلى السمع ، حتى يخيل إليك أنك تسمع
صرير القلم . ويحضرك في هذا المعنى قول المتنبي أيضًا :
كالحظ يملأ مسمعي من أبصرا
ولا شك في أن من هذه المقامات الرائعة قول الكتاب في أسلوب القرآن
الخاص وإعجازه به ، وحكمة التكرار فيه . ولقد وقع في هذا الغرض على
حِكَمٍ لم أقع عليها في كتب من تقدمه . على أن المؤلف على عادته . لقد أسرع
فَكَاثَرَ بهذا في الفهرس ؛ إذ قال عند الإشارة إلى هذا الفصل ( وهو ما لم يسبق
لأحد بيانه ) .
ومن المقامات البارعة في الكتاب القول في معجزات الأنبياء ، والفرق
بينها وبين كرامات الأولياء ، والحد بينهما وبين شعوذة المشعوذين ، وآثار
رياضة المرتاضين ، فلقد جمع في هذا الباب بين ما أثر في الشرع وما يجري
به سنن الكون ، في لباقة وحسن تعليل ، وجودة تفسير وبراعة وتأويل .
ومن هذه المقامات التي تخلب وتروع ما أقام هذا الكتاب من ناصع الحجة
على إيفاء الشرع المحمدي على الغاية في تقرير أعلى القواعد وأضبطها للإصلاح
الاجتماعي والمالي والسياسي . ويدخل في هذا الباب العلاقات الدولية ، ونظم
الحروب وغير ذلك مما يكفل صلاح البشر كافة ، ويتضمن رقي المجتمع الإنساني
وبلوغه في أسباب الحضارة تلك المنزلة التي تخيلها أئمة الحكماء ودعاة الإصلاح
من قديم الزمان .
ولقد عرض الكتاب غير هذا لمزايا الإسلام وحكم أحكامه سواء في
العبادات أو في الأسباب الدائرة بين الناس ، وبين جهة ارتفاعها على أن تكون
من شرع البشر ، وأنها أجمع وأكفى ، وأكمل وأوفى من كل ما سن الخلق من
النظم . بل من كل ما تنزل من الشرائع على جميع الرسل السابقين ، عليهم
صلوات الله أجمعين .
وكل ذلك أجراه المؤلف على أسلوب منطقي سليم خال من الإسراف ومن
الشعر والتخييل .
ومما يزيد من قدر هذا الكتاب أن كثيرًا مما جلا واستظهر من القضايا مبتكر
لم يسبق . على أنه لم يكن أقل براعة فيما نقل أو اقتبس . فلقد كان حق لبق في
إلحاق كل شيء ببابه ، وإقرار كل أمر في نصابه ، إلى حضور الشاهد من كتاب
الله تعالى وما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وما أثر عن الثقات من
أئمة الإسلام ومن شهادات علماء الإفرنج أيضًا . ومهما يكن من شيء فالكتاب في
الجملة مما لا يطاول في بابه ، بل لا أحسبني مسرفًا إذا زعمت أنه يمكن أن يعد
بحق من إحدى حجج الإسلام .
ولقد بدت لي وأنا في بعض الكتاب طائفة من الملاحظات يرجع بعضها إلى
الطبع ، وبعض إلى شيء من الغموض في قليل من المواضع ، ويرجع بعض إلى
كثرة الإحالات إلى المراجع المختلفة ونحو ذلك ، على أنها كلها ثانوي لا يحط من
شأن الكتاب ولا يغض من قدره ، على أن من دلائل التوفيق أن التقيت مصادفة
بالأستاذ السيد رشيد ، وأفضيت إليه بهذا الذي عددت على كتابه ، فوعدني راضيًا
مغتبطًا بأنه مستدرك كل ما يجمل استدراكه إن شاء الله في الطبعة الثانية [2]
ولعلها قائمة الآن فليس لي إلا أن أشكره . وإلا ( سقط ههنا بعض حروف
الأصل المطبوع ) أن أري من التجني المحقور بعد ذلك بسط ما بدا لى من تلك
المآخذ المبينة في مقال منشور .
وبعد : فليس يعني أن أختم هذا الكلام دون أن أبادي المؤلف الفاضل
وجمهرة قارئي الوحي المحمدي بأمرين : الأول أنني أتحفظ عن إبداء الرأي -
إذا صح هذا التعبير - عما أصاب في الكتاب من حديث الاجتهاد والتقليد ، ولو
قد فصَّل الكلام في هذا الباب لما تعذر عليَّ إبداء الرأي بمشايعته أو إظهار
الخلاف له فيما عسى أن يذهب إليه من الأحكام .
أما الثاني فلقد هتف المؤلف في بعض الكتاب بالعلماء ( الرسميين ) وغلا في
الزراية عليهم . ومن الواضح أنه يريد ( بالعلماء الرسميين ) علماء الأزهر . وإني
لأكره هذا من أي كان في رجال الدين ، هذا إلى أنهم قومي ومعشري وهم الذين
أعتز بهم ، وأدين بكل ما أفاء الله عليَّ من النعم لهم . وإن أنس لا أَنْسَى أن ممن
أصحر لهم السيد رشيد بالخصومة من جلست بين أيديهم ، وأخذت عنهم . وتخرجت
في التعليم عليهم . فأصبح لهم بهذا حق في دمي فإذا اعتذر السيد الفاضل بأنهم
يقارضونه هذا الأذى فما أجدر علماء الدين جميعًا بغير هذا اللون من الحوار
ففي الجدال بالحسنى كفاية ، وفي الحجة وحدها المقنع ، ما دامت غاية الجميع
إفشاء حكم الله وإعلاء كلمة الإسلام ا هـ .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز البشري
( المنار )
أما الأمر الأول مما بادأني وقراء الوحي به وهو حكم الاجتهاد والتقليد فإن
شاء أن يعرف رأيي التفصيلي فيه فإن لي فيه كتابًا مدونًا طبع المرة بعد المرة ،
وبحثًا فياضًا في مقدمة طبع كتاب المغني الكبير فليرجع إليهما ، وليقل فيه ما يشاء
فإني أنشره له إن أحب ، وما كتبته في كتاب الوحي المحمدي كاف فيه ؛ لأنه مبني
على الاختصار ، ولم ينكر عليَّ أحد من كبار علماء الأزهر الرسميين ولا من
غيرهم ممن ذكروا لي رأيهم في الكتاب كلمة منه .
وأما الأمر الثاني[3] وهو ما عبر عنه بالهتاف بالعلماء الرسميين والغلو في
الزراية عليهم فقد ظلم علماء الأزهر - وهم قومه ومعشره - به ، فلفظ العلماء
الرسميين لا يدل على علماء الأزهر ، ولا أنا بالذي عنيتهم به ، وإنما عنيت به ما
كان يعنيه الإمام الغزالي وغيره بعلماء الرسوم ، وما يعنيه أهل هذا العصر بعلم
حملة الشهادات التي عبر عنها بعضهم بجلد الحمار ، وهم يوجدون في جميع
الأمصار ، وكذلك استعماله مادتي الوضوح والإصحار بالخصومة فقد وضعهما في
غير موضعهما على ما أعهد من حسن فهمه للغة وحسن أدائه فيها ، فكتاب الوحي
المحمدي بمعزل من الإصحار بالخصومة أو إسرارها لطائفة من العلماء بأعيانهم أو
صفاتهم أو مكانهم ، وإنما تلك صيحة تنبيه لمن يصدون المسلمين عن هداية
القرآن ، زاعمين أنه لم يبق له من الفائدة إلا التبرك به والتعبد بألفاظه من
غير فهم ولا تدبر ولا اتعاظ ، فهل يعد الكاتب شيوخه منهم ؟ إن كان كذلك فهو
أشد مني زراية عليهم ، وإذن لا يغني عنهم دفاعه عنهم ولا اعتزازه بهم ، ولا
منتهم عليه .
وإني على كل حال أحمد الله أن كان نظره إليَّ بعين السخط قد انقلب خاسئًا
وهو حسير دون رؤية شيء من المساوئ في كتاب الوحي المحمدي يمكن جعله
تشويهًا لجمال تقريظه ، إلا هذه الكلمة التي كان فيها من الخاطئين ، فكانت هذه
الواحدة كواحدة أبي سفيان في حديثه مع هرقل ، وقد كاشفته بخطئه في سوء ظنه
مشافهة فسره أن كان نفيي للزراية على شيوخه والإزراء بهم خيرًا لهم من إثباته
ودفاعه عنهم ، وإنني وإياه لنقسم شرف تقريظه في سخطه فهو بيننا شق الأبلمة .
* * *
تقريظ الكاتب الكبير
عباس محمود العقاد
نشر في جريدة الجهاد
أكثر من قرأت لهم من كتاب المباحث الدينية الأحياء اثنان : هما السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار والأستاذ محمد فريد وجدي صاحب التواليف
والتصانيف الكثيرة المعروفة باسمه .
فأما السيد رشيد فهو أوفر نصيبًا من الفقه [4] والشريعة والدراسات الموروثة
ومزيته على الكتاب الدينيين في العصر الحاضر أنه خلا من الجمود الذي يصرفهم
عن لباب الفقه إلى قشوره ، وسلم من تلك العفونات النفسية التي تعيب أخلاقهم
وتشوه مقاصدهم ، فهو أدنى إلى الصواب وأنأى عن العوج وسوء النية .
وأما الأستاذ وجدي فهو أوفر نصيبًا من الحرية والعلم العصري والأذواق
المدنية للتأويلات والتماسه في الدين مستمد من شعوره باللياقة ، أو بما يخالفها
كما يشعر الرجل الذي يعيش في بيئة الحضارة من المصريين المثقفين [5].
قرأت المنار ومباحث السيد رشيد ؛ لأنني كنت أقرأ كل ما كتب الأستاذ الإمام
محمد عبده ، وكل ما أوصى بقراءته مما تتناوله طاقتي في سني الدراسة .
وقرأت الأستاذ وجدي ؛ لأنني اتجهت إلى هذه الوجهة فأحببت المزيد
فيها وكان أول ما وصل إليَّ من كتبه ( الإسلام في عصر العلم ) فكانت أدلته
عندي كافية للإقناع في سن النشأة الأولى .
ولا أزال كلما احتجت إلى بحث مستنير في الفقه والشريعة رجعت إلى كتب
السيد رشيد ، وكلما احتجت إلى تفسير مثقف لعقدة من العقد الدينية رجعت إلى رأي
الأستاذ وجدي فيها ، وقد أجد في كليهما معًا ما ينفعني في كلا الأمرين .
وكتاب ( الوحي المحمدي ) الذي أظهره صاحب المنار في الأشهر
الأخيرة هو من أفضل ما كتب في مباحثه الدينية : توخى فيه كما قال : ( أن
يكون أمضى مُدْيَة لقطع ألسنة الطاعنين في الإسلام من دعاة الأديان الأخرى )
وأراد به أن يكون كتابًا ( يصلح لدعوة شعوب المدنية الحاضرة إلى الإسلام
ببيان البراهين العقلية والتاريخية على كون القرآن وحيًا من الله تعالى لا وحيًا
نفسيًّا نابعًا من استعداد محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم بعض المتأولين
لإعجازه منهم ، وبيان ما فيه من الأصول والقواعد الدينية والاجتماعية
والسياسية والمالية والدفاعية السلمية التي يتوقف على اتباعها صلاح البشر
وعلاج المفاسد المادية وفوضى الإباحة وخطر الحرب العامة التي استهدفت
لها جميع الدول والشعوب في هذا العهد ) .
وعندنا أن الأستاذ يستجمع الكثير من أسباب الكفاءة الضرورية بتأليف كتاب
في هذه الموضوع للغرض الذي أبانه ، فهو يعلم من أسرار الأصول الإسلامية ما لم
يتيسر في العصر الحاضر إلا للقليلين بين علماء المسلمين ، وهو مسموع الرأي في
العالم الشرقي ، كثير القراء والمريدين في بلاد الإسلام ، وهو أسلم فطرة من جميع
من سمعنا بهم من المتصدين لهذه المباحث بين الشيوخ والفقهاء .
وقد درست بعض فصول الكتاب وتصفحت بعضها فبدا لي أنه ينهج في
الاستدلال العقلي منهجًا كفيلاًَ بإقناع العدد الأكبر من قراء هذه المباحث ولا
سيما المسلمين ، ولا أشك في سعة انتشاره وفلاحه في تفنيد المزاعم والريب
التي قد تساور الأذهان بين أولئك القراء ، فإن لم يبلغ الكتاب كل غرضه
المفصل في فاتحته فهو بالغ من ذلك الغرض ما يستحق تأليف كتب شتى لا
تأليف كتاب واحد ، وحسب المؤلف أن يظفر بهذا ليظفر بشيء كثير .
إلا أننا نأخذ على المؤلف نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في مثل هذا
المبحث إلى جانب المزايا التي توجب عليه طرقه وترجيحه على غيره ، وقد
يتلخص النقصان في نقص واحد وهو قلة البصر بأصول ( المنطق النفسي ) أو
منطق الدراسات النفسية الذي هو وحده عدة البحث في جميع الحقائق العالية
دون المنطق الدارج المألوف في المناقشات اليومية والوقائع الصغيرة .
فالأستاذ رشيد يحسب أن إثبات المسائل التي تناط بالضمير والفكر
وأطوار النفوس والشعوب هو من قبيل إثبات الأشياء المادية التي لها حجم
ووزن ولون ومكان ، وقل أن يختلف في مقياسها شاهدان ، وعنده أنه يستطيع
أن يبت بجواز حالة في النفس أو استحالتها كما يبت بوجود كرسي أمامه أو
عدم وجوده ، فيجزم حيث لا يستطاع الجزم ، ويخيل إليه أن قد انتهى من
الرأي وهو لا يزال فيه على عتبة البداية .
هذا من جانب . وأما الجانب الآخر فهو ضيق ملكة ( الاحتمال والفرض )
عنده ، وهي في باطن الأمر لباب المنطق كله ؛ إذ ليس التفكير الصحيح إلا أن
تحتمل الفروض الجائزة ثم تمنعها بالأدلة القاطعة . والأستاذ رشيد يدع نصف
الاحتمالات مغلقًا لا يقترب منه ثم يغلق النصف الآخر بأدلة ضعيفة تدع الباب
في معظم الأحيان مفتوحًا على مصراعيه .
فلقد كان الواجب الأول على الأستاذ رشيد في كتاب ( الوحي المحمدي )
أن يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه
من الوجوه الإنسانية المعهودة ، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا
بإقامة ذلك الحد على أساس مكين .
مثال ذلك : إذا قام رجل فقال للناس : إن الألمان انتصروا على الفرنسيين
ولكنهم سينهزمون بعد زمن قريب فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى
يترجح أحدهما على الآخر .
فإذا كان صاحبه صادقًا فربما هداه إليه الوحي والإلهام ، وربما هداه إليه
الحساب الدقيق والتقدير الصحيح ، وربما هداه إليه العلم من المطلعين على
أسرار الدول العارفين بما تستطيعه وما تنويه ، وربما هداه إليه التمني
والرغبة كما يتمنى المرء النجاح فيعتقد أنه سينجح ويأبى أن يصدق ما عدا
هذه الأمنية .
وربما كان صدقه مصادفة لا أثر فيها للإلهام أو للحساب أو للعلم أو
للتمني والرغبة وربما ظهر صدقه للناس ؛ لأن عبارته تقبل التأويل ، فيفسر
بعضهم المقصود من النصر والمقصود من الهزيمة والمقصود من المنتصرين
والمنهزمين على تفسيرات يجوز فيها الخلاف .
أما إن كان الخبر كاذبًا ففي العلم بكذبه مجال للاحتمال يشبه هذا المجال
فإذا جعل الباحث كل خبر صادق دليلاً على نبوءة فهو لا يخدم النبوءة بهذا
البرهان ، ولكنه يفتح الباب لمن يخبرون ببعض الأشياء فيصدق خبرهم من
طرق المصادفة او من طريق آخر غير طريق الوحي والإلهام .
وإنما السداد في الأمر أن ينفي الكتاب كل احتمال غير احتمال الوحي ،
وأن يكون نفيه مدعومًا بالبرهان الذي لا شبهة فيه عند المصدقين وغير
المصدقين ، ومن ثم يقيم الحد بين الحقيقة والدعوى وبين الإيمان والإنكار .
والشيخ رشيد قد فاته أن يصنع هذا في مواضع كثيرة ، فليته يعقد العزيمة على
تدارك ما فاته في طبعة ثانية ، ولو استعان عليه بمن يقدرون على عونه ،
وليس اقتراحًا أن يتدارك النقص يمانع شكره على ما بلغ من تمام وأسدى من
فائدة .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عباس محمود العقاد
***
الرد على العقاد
( المنار )
إن الأستاذ العقاد ، كاتب أديب سياسي نقاد ، غلبته على العلم ملكة الخيال
الشعري والجدل السياسي ، وعلمه بالدين ضعيف ، واطلاعه فيه قليل جدا كأمثاله
ممن تعلموا في المدارس العصرية كفريد أفندي وجدي ، بل هو يستمد من هذا على
ما حكم به على مبلغ علمه ، وهو على هذا لم يقرأ كتاب ( الوحي المحمدي ) كله ،
ولو قرأه بدقة وتأمل لكان حكمه عليه أصح مما كتبه أو لما انتقص مؤلفه بغير علم ،
وإن كان قوي الجرأة على النقد بمجرد الشبهة ، والحكم بغير حجة ، والاستدلال
بالقضايا الجزئية والمهملة التي لا يصح تأليف البراهين المنطقية منها على الكليات ،
كما فعل في انتقاده لكتاب ( تاريخ الأستاذ الإمام ) وقد بينت هذا في مقال حللت فيه
علمه وآراءه وأخلاقه تحليلاً أصح وأعدل مما حكم به عليَّ في نقده هذا وفي نقده
لتاريخ الأستاذ الإمام ، وسأنشره في جزءٍ آخر إن اقتضت الحال .
لو أنه قرأ الكتاب كله قراءة إمعان لعلم أنه ليس من موضوعه بسط كل
مسألة تذكر فيه ، ولا شرح كل شاهد من شواهده وجعلهما غرضًا للنضال ،
والدفاع عنهما بفرض الفروض الجدلية وضروب الاحتمال ، وإنما موضوعه إثبات
النبوة بالقرآن ودفع ما زعمه بعض منكري عالم الغيب من أنه وحي فائض من
النفس لا من الله تعالى .
وخلاصته أن القرآن فاق كلام العرب وأعجز البشر بمزايا لفظية ومعنوية
يستحيل أن تكون من مقدور محمد الأمي بعد استكمال الأربعين كديوان ( وحي
الأربعين ) الذي هجس به شيطان الشعر للأستاذ العقاد بعد استكمال هذه السن ، وسائر
ما نظم الشعراء وألف العلماء فيها ، فإن العقاد ( مثلاً ) تعلم مبادئ علوم العصر
ودرس الأدب وظهر فيه الاستعداد للشعر ، وكذا النثر في سن الصبا ، وقويت ملكته
فيه نظمًا ونقدًا في سن الشباب ، وكان يعدو في أثر شوقي حتى خرج من الإهاب ،
وماذا فعل في وحي الأربعين ؟ إنه لم يأت بمعجز لم يسبق إلى مثله ، ولم يحدث أدنى
تأثير صالح في قومه ولا في أمته ، ولم يقل المعتدلون فيه : إنه لحق شوقي ولا حافظًا
فيه .
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتعلم شيئًا ولم يحاول بيانًا ولم ينتحل
علمًا ، حتى جاء بهذا القرآن في سن الكهولة وهو ما وصفنا في كتاب الوحي
في إعجازه العلمي والبياني وفي تشريعه ، ولا في التأثير الذي قلب نظام العالم ،
وما ذكرته فيه من آياته العلمية الدالة على أنه من عند الله لا من علم محمد
صلى الله عليه وسلم قسمان : ( أحدهما ) المقاصد العشر التي جعلتها من
موضوع التحدي ( وثانيهما ) ما جاء في عرض الكلام كأنباء الغيب المستقبلة
في بحث امتياز نبوة محمد على نبوة أنبياء بني إسرائيل ، فهي لم تكن
موضوعًا مستقلاًّ سيق لإثباته بالدلائل ، والرد على ما يرد عليه من منكر أو
مجادل ، والأستاذ العقاد لم يفرق بين القسمين ، ولم يتذكر ما لا يخفى عليه من
أن الشواهد والأمثال لا تقرن بالاستدلال عليها ، والرد على ما يحتمل من
وقوع الشك فيها ، بل اشتهر عند علماء المناظرة وآداب البحث قولهم : ( البحث في
المثل ليس من دأب المحصلين ) .
ولكن كبر عليه أن يكتب عن هذا الكتاب شيئًا ويتركه بدون انتقاد ، وأن
يكون انتقاده خلوًّا من الانتقاص والاستعلاء ، كدأبه في انتقاد الشعراء
والأحزاب ، أو كل من لم يأخذ علمه عن الفرنجة حتى علم القرآن ، الذي يعلو
على علومهم بما يقاس بسنيِّ النور لا بالأمتار أو الأميال .
نظر إلى كتاب الوحي المحمدي ومؤلفه بالعين التي نظر بها إلى أحمد
شوقي وشعره من قبل ، وأين أودية الشعر من سماء الوحي ؟ وأين تشميره في
قرض الشعر من تقصيره في علوم الوحي ؟ نظر بتلك العين الخاسئة فرأى فيه
نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في هذه البحث ، قال : وقد يتخلصان في
نقص واحد وهو قلة البصر بالمنطق النفسي ، ونقول : إنما صوَّره أو سوَّله له
حسر بصره بالمنطق العقلي .
إن اختراع النقائص وقَذْف الناس بها أمر سهل على الشعراء وكتاب
السياسة ، ولكن إقامة الدليل المنطقي عليها حَزَن أي حَزَن إلا أن يكون كدليلي
الأستاذ العقاد على ما أنكر في تاريخ الأستاذ الإمام أعني عليه لا له [6] وانظر
ماذا قال في بيان نقيصتيه اللتين تجرم علينا فقذفنا بهما :
قال : ( كان الواجب على الأستاذ رشيد في كتاب ( الوحي المحمدي ) أن
يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه من
الوجوه الإنسانية المعهودة ، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا بإقامة
ذلك الحد على أساس مكين ) .
إن هذه العبارة مبهمة مجملة تحتمل عدة تأويلات أقربها أن عقيدة كاتبها
أو فهمه للنبوة والوحي وعلم الغيب غير عقيدة الموجهة إليه ، ولا يتسع هذا
النقد الوجيز لتفصيل هذا ، فننتقل منه إلى المثال الذي فسره به ، وخلاصته أنه
إذا قام رجل فقال للناس : إن الألمان انتصروا على الفرنسيس ولكنهم
سينهزمون بعد زمن قريب ، فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى يترجح
أحدهما على الآخر ، وذكر لاحتماله للصدق وجوهًا أولها الوحي والإلهام ( ؟ )
وآخرها المصادفة .
ونحن نقول ( أولا ) : كان يجب على الأستاذ عباس أن يطلع قبل هذا الحكم
على ما كتبه محمد رشيد في تفسيره ومناره وغيرهما في مباحث علم الغيب
وتقسيمه إلى غيب حقيقي وغيب إضافي ، وحكمه بأن من الثاني ما يمكن أن يعرفه
بعض البشر بالطرق العلمية والتجارب ومنها التنويم المغناطيسي أو الرياضة
النفسية كمكاشفات الصوفية إلخ ، ومنها ما يمكن تأويله من أخبار القرآن الغيبية وما
لا يمكن تأويله كالذي تراه في تفسير سورة التوبة في بيان أحوال المنافقين . وإذن
لعلم أن ما عده عليه من الجهل هو عنده من البديهيات .
و ( ثانيًا ) إن الخبر الذي قال العلماء : إنه يحتمل الصدق والكذب قد قيدوه
بقولهم : ( لذاته ) أي بصرف النظر عما يقترن به من الدليل على أحدهما ، فخبر
الأنبياء عند المؤمنين بهم لا يحتمل إلا الصدق ، وقد أقمنا الدليل على نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بغير إخباره بالغيب فوجب حمل خبره به الثابت عنه على
الصدق فقط ، على أن أصل كلامنا في أخبار الغيب في كتاب الوحي المحمدي
خاص بما جاء منه في القرار ، وهو كلام الله تعالى وأقمنا الدلائل على كونه كلامه
عز وجل من عدة وجوه غير إخبار الغيب فلا يصح أن يقال بها مصادرة لأن إثبات
كل منهما متوقف على الآخر .
( وثالثًا ) إذا كان الأستاذ العقاد يرى أن مثل قوله تعالى : { غُلِبَتِ الرُّومُ *
فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ } ( الروم : 2-
4 ) يحتمل مثل ما ذكر من الفروض والشكوك عند غير المؤمن بالقرآن ، فسيعلم
أن من أخبار الغيب فيه ما لا يحتمل مثل ذلك إلا بضرب من مكابرة العقل أو
الوجدان ومنها زعم المادي أن كل ما وراء المادة لا يدخل في حدود الإمكان ، فكل
ما يعجز عن تعليله بالفروض المادية والاحتمالات المخترعة ، فعليه أن يرضى
بعجزه عن فهمه ، لا يجوز له أن يؤمن بأنه من الله عز وجل .
ومهما يكن من شيء بعد ، فإن من الغريب من مثله أن يطالب مؤمنًا بالغيب
والأنبياء أن يقيم حدًّا فاصلاً بين علم الأنبياء وعلم غيرهم أو علم الخالق وعلم
المخلوق بالصفة التي وصفها ، وهو ما يعجز عن مثله الفلاسفة وعلماء المادة في
علمهم الذي لا قنون بشيء منه .
وأما الممكن من ذلك فقد بينته في مواضعه بما قضته المناسبة ووسعه السياق ،
وقد وعدت بعقد فصل خاص في الشواهد عليه من الآيات والأحاديث النبوية في
الجزء الثاني من كتاب الوحي المحمدي ؛ إذ عجز الجزء الأول عن العلاوت التي
كلفته حملها .
* * *
كلمة للأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي
الكاتب الخطيب المصنف الشهير
نشرت في جريدة البلاغ في23 جمادى الأولى سنة 1352 الموافق 13
سبتمبر سنة 1933 .
الوحي المحمدي كتاب من تأليف العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ
المنار الأغر ، وغاية المؤلف ثبوت النبوة بالقرآن ، ودعوة شعوب المدنية إلى
الإسلام .
وقد صدرت الطبعة الأولى منه في يوم المولد النبوي الشريف سنة 1352
الموافق يوليو ( تموز ) سنة 1933 م وهو في مئتي صفحة من القطع الكبير .
وفي الحق أنه كتاب جليل يلفت الأنظار بما أورده الأستاذ مؤلفه من الأدلة
العقلية والحجج النقلية بوضوح وجلاء على طريقة حديثة لم تسبق للمؤلفين في
المسائل الدينية إلا للأستاذ العلامة محمد فريد وجدي مما دلنا على تطورٍ مُبارك في
أسلوب السيد رشيد الذي كان يجاري المؤلفين القدماء كنقله قول أحد علماء
النصارى للمؤلف :
( أنت تعجب بمحمد وتعتقد بأنه نبي مرسل ، وأنا أعجب به وأعتقد أنه
رجل عظيم فتقديري له أعظم من تقديرك )
وقد حاول الأستاذ الفاضل إثبات الوحي بالمعجزات بأدلة منطقية فجاء موفقًا
في كثير من بحوثه وتكلم في درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه
ونفي شبهة منكري عالم الغيب على الوحي ، وأظهر أن نبوة محمد ورسالته قائمتان
على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وموضوعها ؛ لأن البشر في عهد النبي قد بدءوا
يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع
من تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون ، بل لا يكمل
ارتقاؤهم واستعدادهم بذلك بل هو من موانعه ، فجعل حجة نبوة خاتم الأنبياء عين
موضوع نبوته وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وعلومه وإعجازه اللفظي والمعنوي ،
ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال .
ثم خلص الأستاذ إلى الكلام على القرآن فتكلم عن إصلاح أركان الدين التي
أفسدها الغير ، وهي الإيمان بالله وعقيدة البعث والجزاء والعمل الصالح . ثم جعل
لبحوث القرآن عشرة مقاصد كلها منطبقة على المنطق والعقل وحسن التعليل
وسلامة التدليل مما يجعل الكتاب مقبولاً لدى الشبان المنورين والميالين لحرية الفكر .
ويقول الأستاذ : إن الكتاب يشمل دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام ولم يقل لنا
أية مدنية يريد ففهمنا أنه يقصد إلى أوربا وأمريكا وليسمح لي أن أقول : إنه جاء
متأخرًا جدًّا وكان يجب عليه أن يؤلف هذا الكتاب من عشرات السنين ، وأن ينقله
إلى لغات أوربا ، وأن يطبعه بالملايين ويوزعه مجانًا ، لأنه لا ينتظر أن أهل لندن
و نيويورك و برلين يشترون الكتاب من مطبعة المنار . ونحن نعلم أن هذا العمل
يتطلب مالا كثيرًا ووقتًا أكثر فينبغي للسيد رشيد أن يدعو إلى هذا ، لا أن يكتفي
بالتأليف العربي وحده ، يدعو إلى نقل الكتاب إلى اللغات وترجمته وإلا فإن مجرد
الكتابة على الغلاف أنه دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لا تكفي ) .
( المنار ) كان كل ما انتقده الكاتب بقوله : ويقول الأستاذ إلخ ما نشرناه وما
لم ننشره مثارًا للعجب من مثله سببه أنه انتقد ما لو قرأه لم ينتقده ، وقد بينت خطأه
فيه في مقالتين نشرتا في البلاغ فلم ينكر منهما شيئًا وهو من محرريه .
* * *
تقريظ الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبو ريه
من العلماء في المنصورة
( نشره في المقطم )
كنت أحسب يوم أن قرأت في الصحف نبأ كتاب ( الوحي المحمدي ) أنه
رسالة صغيرة وضعها الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا ليمحص فيها أمر
الوحي ، وحقيقته بعدما كثرت فيه أقوال بعض علماء الوحي وأنكروا إمكانه بما
يعرف المسلمون كما يفعل في مسائل كثيرة مما يثور حولها الجدل فيضع فيها
رسائل خاصة تطلع من قلمه منيرة كفلق الصبح فتكون الحكمة وفصل الخطاب .
كنت أحسب الأمر كذلك حتى أتيح لي الاطلاع على هذا الكتاب فإذا بي أجد
الأمر أكبر مما حسبت وأعظم مما توهمت وإذا أنا بإزاء كتاب متعدد النواحي متسع
الأرجاء لا يقف عند الكلام على الوحي ، وإنما يمتد فيحيط بكل ما أوحي به إلى
النبي صلى الله عليه وسلم .
ونحن لا نحاول هنا أن نظهر للقارئ الكريم ما بين دفتي هذا الكتاب من
بحوث ؛ لأن ذلك يحتاج إلى مقالات طويلة ، وإنما نشير إلى بعضها وحسبنا ذلك .
تكلم الأستاذ الكبير عن الوحي وفنَّد بأدلة قوية مسددة ما يزعمه الذين يقولون : إن
الوحي المحمدي إنما كان وحيًا نفسيًّا ولم يكن وحيًا إلهيًّا .
وعقد فصلاً رائعًا عن آية الله الكبرى ( القرآن الكريم ) وعن أسلوبه وإعجازه
جاء ولا ريب آية في البلاغة والتحقيق العلمي وقد كشف فيه عن معنى دقيق في
حكمة التكرار في الكتاب العزيز فأبان أنه لم يأت عبثًا وإنما هو أسلوب عجيب من
أساليب القرآن العجيبة المعجزة في تربية الشعوب بحيث لو خلا كتاب الله منه لما
بلغ في نفوس العرب ما بلغ من غرس تعاليمه القويمة وحكمه العالية وأغراضه النبيلة
في نفوسهم واجتثاث ما في هذه النفوس من عقائد باطلة وعادات فاسدة .
وقفَّى على ذلك ببحث قيم عن الثورة والانقلاب الذي أحدثه القرآن الكريم في
العالم وكيف فعل في نفوس العرب مشركين ومؤمنين .
وأنشأ بعد ذلك يتحدث عن مقاصد القرآن الكريم فجعلها عشرة مقاصد وجعل
تحت كل مقصد مسائل كثيرة ، وقد شاء له حبه للتحميص أن يمسك بطرفي التحقيق
في كلامه عن هذه المقاصد فلم يقف عند إثباتها بالأدلة النقلية بل ظاهرها بالبراهين
العقلية .
وختم هذه المقاصد بخلاصة وافية في مسألة الوحي وجعل خاتمة الكتاب في
دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لإنقاذ البشر وإصلاح فسادهم .
هذا بعض ما جاء في كتاب ( الوحي المحمدي ) ولا غرو فإن مؤلفه هو
الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا الذي قال فيه بحق زعيم الإسلام الكبير
ومجدده العظيم شيخ البيان الأمير شكيب أرسلان في معلمته الإسلامية الكبرى
(حاضر العالم الإسلامي ) .
( قد انتهت إليه الرياسة في الجمع بين المعقول والمنقول والفتيا الصحيحة
والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة مع الرسوخ العظيم في اللغة ... إلى أن
قال : وهو الرجل الذي إذا دعا كل مسلم بإطالة حياته لكان بذلك جديرًا ) .
وإذا كان لنا من كلمة عامة في هذا الكتاب نختم بها هذه الكلمة الصغيرة ، فإنا
نقول : إنه كتاب لا يستغني عنه مسلم ويجب على كل من يريد من أهل الأديان
الأخرى معرفة أمور الإسلام على حقيقتها أن يقرأه ويتدبره .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود أبو رية
* * *
تقريظ الأستاذ عبد السميع البطل
المدرس بمدرسة رقي المعارف الثانوية
ونشر في جريدة الجهاد مختصرًا
استهدف الإسلام منذ فجر التاريخ ، لكثير من الشبهات التي كان يصوبها نحوه
خصومه من الملاحدة ، وأعداؤه من السياسيين ، وكان العلماء في كل عصر
يتصدون للرد على هذه الشبهات ويجدعون أنوفها ، فيظل واضح الطريق ، نيِّر
الدليل ، ثم يسير الزمن بالناس ، وتتلقح أفكارهم بعلوم ومعارف جديدة فتتجدد لهم
شبهات ، وتعصف بهم أعاصير ، فإذا بالعلماء المستقلين يكرون على المهاجمين ،
يجدلونهم بشباة أقلامهم ، وقواطع حججهم ، فما هو إلا أن نرى الباطل منكسرًا ،
والحق منتصرًا .
وقد تجددت في العصر الحاضر شبهات على الإسلام كثيرة ، وهُوجِمَ من
أعدائه في إحكام وقوة ، ولم يدعوا منفذًا يأتي على بنيانه من القواعد إلا سلكوه ،
ولا سلاحًا يجهز عليه إلا صوَّبوه ، ولولا حصانة الإسلام الطبيعية ومنعته الذاتية ،
لَخَرَّ مضرجًا بدمائه ، ولأصبح أثرًا بعد عين .
ذلك أن علماء الإسلام وهم ورثة النبوة ، والقوامون على حراسة الدين ، قد
شغلتهم المناصب الدنيوية فأعطوها كل أنفسهم ، ومكنوا لها من قلوبهم ، وانصرفوا
عن النظر في القرآن وعلومه ، مخلدين إلى أرض التقليد ، عاكفين عليه ، فلم
يسايروا الزمن ، ولم يتمشوا من الرقي الفكري ، وأصبحوا يعيشون في عالم وحدهم ،
لا يدرون ماذا يقال عن الإسلام ، ولا بم يهاجم وكيف يهاجم ، ولئن سألتهم ليقولن :
( إن الإسلام بخير ، وله رب يحميه ) وهو جواب العجزة ومن لا حيلة لهم .
ولكن الله لا يذر الإسلام بغير سيف يحميه ، ولم تخل الأرض من قائم لله
بحجة ، فهذا معقل الدين وسنده عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا قد أخرج لنا في
هذا العام كتابه ( الوحي المحمدي ) يثبت فيه النبوة بالقرآن ، ويدعو شعوب المدنية
إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية والسلام فكان خير كتاب أخرج للناس في بابه .
افتتحه المؤلف الكبير بمقدمة فياضة في بيان موضوع الكتاب ، وحاجة البشر
إلى الإسلام ، وبيان الحجب التي تحول بين الإسلام والإفرنج ، ثم أفاض في
الموضوع بما أفاء الله عليه من علم غزير ، وعقل منير .
والسيد رشيد دائرة معارف إسلامية واسعة ، وهو حين يكتب في الإسلام ، لا
يدع قولاً لقائل ، ولا يترك استدراكًا لمستدرك ، وأشهد لقد كنت أقرأ مقالات ( الوحي
وهي لا تزال تنشر تباعًا في ( المنار ) فيأخذ مني الإعجاب بها كل مأخذ ويسبق
لساني بالدعاء لصاحبها بطول العمر والسلامة كفاء خدمته للإسلام .
بل أشهد ويشهد معي جميع الذين اطلعوا على كتاب ( الوحي المحمدي ) أنه
لم يكتب مثله كاتب في الإسلام ، وأنه خير كتاب في الدعوة إلى الإسلام وبيان
مزاياه ، لا يستغني عنه مسلم ، ولا يسد غيره مسده في هذا العصر ولا أستثني
رسالة التوحيد للأستاذ الإمام ، فإنها على طرافتها ، وقوة حجتها ، وبلاغة عبارتها ،
قد يقال فيها : إنها رأي لصاحبها وصل إليه بعد دراسة للإسلام عميقة ، بل قيل :
( إن رسالة التوحيد فلسفة لا دين ) ذلك أن الآيات التي استشهد بها المؤلف رحمه الله
كانت قليلة جدًّا ، اكتفاء بالإحالة على الحجج العقلية ، ووقائع التاريخ الصادق ، أما
( الوحي المحمدي ) فإنه يثبت كل شيء بالقرآن ، ويضع يد القراء على موضعه من
السور ، في سيل أتي ، ونور محمدي .
وجملة ما يقال في الكتاب أنه أحسن ما ألف في العقيدة الإسلامية في هذا
العصر ، وأنفع كتاب في الدعوة إلى الإسلام وصد غارات المبشرين ، وأقرب إلى
عقول المتعلمين المدنيين ، وإني لأرجو أن يترجم إلى اللغات الحية ، وحينئذ أرتقب
أن تقوم ثورة فكرية في العالم الغربي تتكشف عن فوز الإسلام ورجحان كفته ،
جزى الله المؤلف خير الجزاء .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ذنبي عند الكاتب أنني هضمت حق والده الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رحمه الله في تاريخ الأستاذ الإمام ، بلغه هذا من كاشح فصدقه وأحفظه ، وهو منكر من القول وزور ، فالكتاب لم يغمط حق والده في شيء مما اشتهر به من سعة العلم ، وقوة الفهم ، وحسن الإلقاء ، وإنما بيَّن ما يجب بيانه من وقوفه موقف المعارض لما سعى إليه الأستاذ الإمام من الإصلاح ، والشيخ عبد العزيز يعرف هذا كما نعرفه ، فإن استطاع إقناعنا بخطأ في شيء منه رجعنا عنه شاكرين .
(2) يعني بهذا ما أشرنا إليه في آخر مقدمة الكتاب ، ومنه أن سبب ما كان من كثرة الإحالة على تفسير المنار أن مباحث الوحي كانت فصلاً فيه وأكثر المسائل المحالة عليه مقتبسة منه ، وقد اجتنبنا هذا في الطبعة الثانية إلا قليلاً مما وضعناه في الحواشي .
(3) الصواب في أما الثانية هذه أن تعطف على الأولى المقابلة لها كما فعلنا ، وهو ما يغفل عنه جمهور الكتاب حتى المتأنقين المدققين في هذا العصر .
(4) المنار : الفقه الشرعي خاص بأحكام الشرع العملية من العبادات والمعاملات المدنية والعقوبات ، فلا يدخل في مفهومه العقائد وما عدا الأحكام والحلال والحرام من علوم التفسير والحديث ، ولعل الكاتب يعني ما هو أعم من المعنى الشرعي .
(5) وصفه هذا للأستاذ وجدي من أدق تحريره للمعاني فهو صريح في أن كلام وجدي في المسائل الدينية غير مستمد من القرآن ولا من السنة ولا من العلوم الإسلامية المدونة بل من شعوره المدني العصري ، فهو كذلك لا يعرف أصول الإسلام بأدلتها ، ولا بمدارك أئمتها ، وقلما انفرد بمسألة إلا هو مخطئ فيها .
(6) استدل هنالك بالاشتباه في اسم رجل من رجال الحملة الفرنسية على أن مؤلفه لم يعرف من تاريخ مصر الحديثة شيئًا ما ! ! على أن المؤلف قد صحح هذا الاسم في الصحيفة التي صوب فيها الخطأ ، وفي فهرس الأعلام - واستدل بنقله مسألة انتقدها بعض الناس على الأستاذ الإمام على أن هذا المؤلف لم يفهم سياسة أستاذه ولا نفسه ، وهو الذي أرخه ونشر آراءه وإصلاحه وكان رحمه الله يصرح بأنه ترجمان أفكاره على أنه قد بيَّن حقيقة نفسية الأستاذ وسياسته في هذه المسألة بما لا ينتقده الأستاذ العقاد لو رآه .
(33/768
المحرم - 1353هـ
مايو - 1934م
مايو - 1934م
الكاتب : شكيب أرسلان
__________
تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان
إن المسلمين على بينة من أمرهم ، لا يحتاجون إلى دعاية ، ولا إلى التماس
الأدلة حتى يعتقدوا بوجود واجب الوجود الذي لا يمكن العقل البشري أن يتصور
هذا الكون بدونه ، وكذلك لا يفتقرون إلى الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم بعد أن تلقوا خلفًا عن سلف النور الذي أُنزل عليه ، والذي ما زال
ينيرهم من العهد المصطفوي إلى الآن ، فكتاب الوحي المحمدي للأستاذ العلامة
حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا لم يُكتب في الحقيقة للمسلمين ؛
لأنه كتاب يقيم الأدلة على صحة أمر يحيا المسلمون ويموتون عليه ، ويرون جميع
براهينه من قبيل البديهيات التي لا تحتاج عندهم إلى برهان كما يحتاج النهار إلى
دليل ، وإنما وضع الأستاذ هذا الكتاب للأوروبيين الذين يريدون أن يعلموا ما عند
الإسلام من الأدلة على صحة الوحي المحمدي ، والذين منهم من إذا أنار لهم الدليل
لم يكابروا فيه تعصبًا وعدوانًا وصدودًا عن رؤيته ، وقد كتبه أيضًا لكل من نشأ
نشأة أوربية ؛ أي : خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها
مبادئ الإسلام مع لبن أمه ، فيقال : إنها رسخت فيه من الصغر . ولما كان جميع من
يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية
الحاضرة ، هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسبًا ، كان هذا
الكتاب موجهًا أيضًا إليهم ؛ لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية ،
أو على ما يقرب من ذلك .
فلهذا كنا ندعو لقراءة هذا المؤلف ليس الأوربيين فحسب بل ناشئة المسلمين
أيضًا ، ولا سيما الناشئة التي أبت الحكومات الإسلامية إلا أن تطبعها بالطابع
الأوربي ؛ لأننا في هذا العصر مغلوبون وأوربة هي الغالبة ، والمغلوب مولع
بتقليد الغالب حتى في الخطأ كما قال ابن خلدون . فالأستاذ الحجة يسر للمرتابين
الأسباب التي تحمل المسلم على أن لا يرتاب بصحة الوحي النازل على محمد عليه
السلام يقول :
إن محمدًا كان أميًّا ، لم يقرأ سفرًا ، ولم يكتب سطرًا ، وهذا القرآن العظيم
بفصاحته وبلاغته وإشارته إلى جميع مناحي الاجتماع بأرشق إشارة ، وأوجز عبارة ،
لو لم يكن من عند الله لا يعقل أن يقوم به رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يحصل
علمًا من قبل ، بل قضى طفولته في البادية عند بني سعد بن بكر يرعى الغنم مع
إخوته في الرضاع ، ثم إنه نشأ يتيمًا ، وكان مع يتمه المثل الأعلى في حسن التربية ،
واستقامة الأخلاق حتى لُقِّبَ بالأمين ، ولم يكن أحد يماري في استقامته ، وكانوا
لنزاهته يختارونه ليقوم بما يختلفون فيه فيما بينهم ، فيستحيل أن يكون رجلاً
موصوفًا بالصدق والأمانة إلى هذا الحد من أول نشأته إلى أن يبلغ سن الأربعين ،
ثم يتحول دفعة واحدة فيصير كاذبًا مفتريًا ، ويضع من عنده أشياء يدعو الناس إليها ،
ويقول : إنه سمع صوتًا ، ولو لم يسمع صوتًا ، وشاهد ملكًا ، ولو لم يشاهد ملكًا ،
إن هذا من الأمور المستحيلة عرفًا ، ثم إنه لم يكن طالبًا شيئًا من وراء ما قام به من
الدعوة لنقول : إنه كذب على الناس ؛ لينال حظًا من حظوظ هذه الدنيا ، فكل أحد يعلم
أنه لم يكن ينشد ملكًا ، ولا مالاً ، ولا ثروة ، ولا جاهًا . فلأي شيء يقوم بدعاية
غير صحيحة ، ويضع أشياء من عند نفسه ، ويتحمل عليها الهزؤ والسخرية ، ثم
البغضاء والشنآن ، ثم الاضطهاد والانتقام ، ويتعرض لخطر القتل ، وهو لا يريد
رياسة ولا نعمة دنيوية من جميع هذه النعم ، بل كل ما يريده أن يترك قومه عبادة
هذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان ، والرجوع إلى عبادة الواحد الأحد
مبدع هذا الكون لا إله إلا هو .
قد كان محمد عليه السلام مؤثرًا العزلة ، لا يخالط أبناء عصره في مجامعهم ،
ولا يشاركهم في عباداتهم الوثنية ، ونشأ من صغره لا يعبد إلا الله تعالى ، وكان من
مزاياه أنه لا يقول الشعر ، ولا يخطب في الأندية ، ولا يتصدى لشيء من مظاهر
الرياسة ولا الشهرة ، فكيف يمكن أن ينقلب دفعة واحدة ؛ فيخالط الناس يدعوهم إلى
التوحيد وإلى مكارم الأخلاق ، ويقوم فيهم بشيرًا ونذيرًا ، ويتجشم من العذاب ما
يتجشم ، ويتعرض لآلام أمر من العلقم ، لو لم يكن هناك باعث فوق العادة حافز له
على الخروج من عزلته التي بلغ الأربعين وهو عاكف عليها .
يقول السيد رشيد : إنه من المقرر عند علماء النفس ، وعلماء الاجتماع أن من
بلغ سن الخامسة والثلاثين ، ولم ينبغ في علم أو عمل عالمي عظيم لا يمكنه بعد
ذلك أن يقوم بشيء منها أُنُفا ( بضمتين ) أي : جديدًا ليسبق إليه فضلاً عن الجمع
بينهما ، والحال أن محمدًا ظهر بهذا الأمر العظيم ، وبهذا البيان الإلهي الذي لم يعهد
العرب مثله وذلك بعد الأربعين ، فلم يكن قبل هذا التاريخ استعد له بشيء ، ولا
وجد ما يدل عليه من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل .
قلت : وقد يقول بعض الناس أن محمدًا كان يظن في نفسه أنه يوحى إليه فهو
لم يتعمد الكذب تعمدًا ، وإنما بلغ به التأمل أنه كان يسمع تلك الأصوات ، ويرى
تلك الخيالات ، فيظن ما سمعه وحيًا ، وما رآه ملكًا ، والجواب على ذلك أن هذا
الوحي كان قولاً ثقيلاً خارقًا للعادة ، وكان يؤخذ به أخذًا شديدًا حتى كان يخاف على
نفسه ، وطالما خاف[1] أن يكون به جنون ، وهذا من جملة الأدلة على صدقه وكونه
لم يتعمد النبوة تعمدًا ، ولا استشرف لها بشيء من الأشياء ، وأنه قد فاجأه الوحي
مفاجأة لم يتقدمه عنده سوى الرؤيا الصادقة ، وأنه جاء وحيًا فيه من العلوم العالية
كما يقول السيد رشيد ، والأعمال العظيمة ما كان قلبًا للأحوال والأوضاع الدينية
والمدنية والاجتماعية ، بل انقلابًا لا يماثله انقلاب معروف في التاريخ .
ثم إن هذا الكلام الذي نفث في روع محمد[2] ليس من نسق كلامه الذي يعرفه
الناس له ، فقد تكلم محمد عليه السلام قبل البعثة ، وتكلم بعد البعثة ، ولا شك أنه
كان من أفصح البشر وأبلغهم ، وقد نطق بجوامع من الكلم تحار لها العقول ؛ ولكنه
لا يزال بين كلامه الخاص وبين القرآن الموحَى إليه بون بعيد ، فلا كلامه الخاص
ولا كلام أحد من الأنبياء يسامت درجة القرآن في كثير ولا قليل ، وكل من تأمل في
القرآن العظيم ، وكان بصيرًا بالبلاغة ، وقابله بكلام البشر يدرك هذا الفرق الكبير .
لا جرم أن القرآن يعلو في بلاغته وفصاحته وأسلوبه ، وشدة تأثيره علوًّا
كبيرًا عن جميع كلام العالمين ، وكيف يكون ذلك إن لم يكن القرآن وحيًا إلهيًّا ؟
فقول بعض الناس : إن محمدًا عليه السلام كانت تعروه نوبة عصبية فيظن نفسه
يوحى إليه . ليس مما يعلل هذا العلو الذي يعلوه القرآن الذي أوحي إليه على الكلام
الذي كان يقوله من نفسه بدون أن يوحى إليه ، فإن النوبة العصبية التي يزعمونها
ليس من شأنها أن تأتي بهذا الإعجاز كله ، وأن تجعل هذا الفرق البعيد في كلام
إنسان واحد .
ثم إننا لا نفهم لماذا يأبون أن يعتقدوا بكون تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا
عند نزول الوحي عليه هي من شدة وطأة الوحي ، وكونه قولاً ثقيلاً ؟ ولماذا يأبون
إلا أن يسموا هذه الحالة التي كانت تعروه نوبة عصبية ناشئة عن مرض من
أمراض الجسم ، ولو لم يقم على وجود هذا المرض دليل ؟ فأي استحالة في كون
بارئ الوجود يوحي إلى أحد عباده الذين اصطفى قولاً يحدث نزوله عليه نوبة
عصبية يضطرب لها ، ويتفصد جسده عرقًا كما كان يعتري محمدًا عليه السلام ،
وأيضًا فالنوبة العصبية الناشئة عن علة بدنية تقتضي أن يكون صاحبها مصابًا بداء
الصرع ، أو بمرض عصبي آخر تحدث منه هذه النوبات ، والحال أن النبي عليه
السلام كان سليم الجسم ، ولم يكن مريضًا ، ولم يقل أحد من أهل عصره لا من
أعدائه ، ولا من أصحابه : إنه كان يصيبه شيء من أعراض مرض آخر مزمن ،
والذين ذهبوا إلى ذلك لم يستندوا على أدنى دليل ، وإنما هي افتراضات مبنية على
غير أساس ، وتخرصات بغير الواقع ، وبمجرد التخيل كما هو شأن كثير من
الأوربيين ، أو هي فرار من التسليم أن تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند
نزول الوحي عليه هي حالة خاصة بنزول الوحي ، لم تكن لتحدث لولا ذلك ، ولكن
محاولة هذا الفرار لا تغني هؤلاء الفارين من الحقيقة شيئًا ؛ إذ قد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مزاجه عقلاً وبدنًا بغاية الاعتدال حتى إن المستشرق
الإفرنسي ماسينيون نفسه برغم صبغته الكاثوليكية الشديدة يعترف بأن مزاج محمد
كان موزونًا لا شائبة فيه ، إذًا فافتراض النوبة العصبية بغير تأثير الوحي لم يبق له
مجال إلا التعنت .
وقد أشار السيد رشيد إلى هذا الموضوع فقال : إن أعداء الرسول من الإفرنج
وتلاميذهم تأولوا هذه الحالة التي كانت تحدث له بأنه كان يعرض له نوبات عصبية ،
وتشنجات هيستيرية ، وما أبعد الفرق بين حالته تلك ، وحالة أولي الأمراض
العصبية في المزاج ، فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً ، ولعله إلى
الدموي العضلي أقرب ، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف
والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو الشامت ، وأما صاحب تلك الحالة
الروحانية العليا فكان يتلو عقب فصمها ، وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من
القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه إعجازه اللفظي والمعنوي ... إلخ .
قد اهتممنا بهذه النقطة دون سواها من هذا المعترك ؛ لأنه لا يكاد يوجد أحد
اليوم في أوربة من العلماء المحققين إلا وهو معترف بأن محمدًا لم يتعمد ادِّعاء
النبوة تعمدًا لينال بها رياسة أو مجدًا أو مالاً أو حظًّا من حظوظ الدنيا ، وإنه إنما
أراد صلاح عقائد بني عصره من نقلهم عن عبادة الوثن إلى عبادة الحق ، فهذا أمر
قد اتفقوا عليه تقريبًا ؛ ولكنه لا يزال يصعب عليهم التسليم أنه كان نبيًّا يوحى إليه ،
ولما كانوا لا يقدرون أن ينكروا الحالة التي كانت تصيبه قبل أن ينطق بالقرآن ،
وأنها حالة لم يكن يتعمدها ، ولم يكن يمكنه لو أراد أن يتعمدها ويتظاهر بها - لجأ
بعضهم لتعليل هذه الحالة إلى قضية النوبة العصبية ، وذهب آخرون أنه من قبيل
الوله بالله تعالى الذي يُخْرِج الإنسان عن الطور المعتاد ، وعلى كل حال قد اجتاز
الأوربيون المرحلة الأولى من مراحل الاعتقاد بصحة دعوة محمد ، فقد لبثوا طوال
القرون الوسطى يزعمون بتأثير كلام رهبانهم أن محمدًا كان كاذبًا ، فرجعوا الآن
عن هذا القول إلى القول بأنه كان صادقًا معتقدًا ما يقوله حقًّا ، وإن هذا القرآن كان
ينزل عليه ، وكان يعتقد هو أنه من عند الله ، وكان يرى المَلَك ماثلاً أمامه ، ولكن
هذا كان نتيجة المرض بقول بعضهم ، أو التخيل بقول الآخرين ، فادِّعاء الكذب
على محمد قد سقط اليوم في أكثر بلاد النصرانية ، وقد اجتيزت المرحلة الأولى
فبقيت المرحلة الثانية ، وهي تصديق كون محمد عليه السلام إنما كانت تحدث له
الحالة غير المعتادة لسبب وحي كان يأتيه من قبل الله تعالى ، لا بمجرد التخيل ولا
من قبل المرض ، وليس بعجيب أن يتأول أهل عصر مادي كهذا العصر يصعب
عليهم الاعتقاد بالغيب ، وتعليل الأمور بغير ما يقع تحت الحس ؛ ولكنهم لو تأملوا
لوجدوا أنفسهم عاجزين عجزًا تامًّا بإزاء الأسرار الكونية لا يحلون منها مشكلاً ، إلا
وصلوا إلى سد واقف في وجههم لا يقدرون أن يجتازوه إلا بعد التسليم أن هناك قوة
خارقة للعادة ، وأن القول بوجوده أقرب إلى العقل وإلى العلم من هذه التحملات
الواهية التي يحاولون بها تعليل الحوادث كلها بالأسباب المادية ، ويلجئهم الأمر في
أكثر الأحيان إلى تلمس الافتراضات المبنية على غير أساس .
إن كتاب الوحي المحمدي الذي جاء به الأستاذ السيد رشيد رضا في هذه الأيام
قد أتى عصره على قَدَر ؛ لأنه زمن صار يجب فيه التعليل حتى في الأمور التي
هي معدودة إلى اليوم من البديهيات ، وما دمنا نقفو الأوربيين صاعدًا ، ونازلاً ، ولا
مناص لنا من هذا الاقتداء ، كان لابد لعلماء المسلمين من إعداد الأسلحة العقلية
اللازمة لمكافحة الشبهات التي هي من أصل أوربي ، فكتاب الأستاذ وافٍ بهذا الغرض
لا يخطر في البال معنى من المعاني التي يقتنع بها القارئ بعلو مزايا الإسلام ، إلا وقد
أشار إليه .
نعم قد فات هذا الكتاب موضوع جليل ، ربما كان أدل على إعجاز القرآن
وعلى صحة الوحي به ، وكونه من عند الله حقًّا من سائر الموضوعات ، وهذا هو
ما في القرآن من الآيات المطابقة للقواعد العلمية التي انتهى إليها تحقيق الأوربيين
في هذا العصر من جهة التحولات الكونية ، فمن المعلوم أن محمدًا عليه السلام
فضلاً عن أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب ، قد نشأ في مكة حيث لم تكن علوم ، ولا
معارف ، ولا جامعات ، ولا مدارس ، وكذلك لم يكن في المدينة ، وإن قلنا : إنه كانت
علوم ، ومعارف ، ومدارس تقرأ فيها العلوم الكونية ، وذلك في غير جزيرة العرب
كالشام أو كالإسكندرية أو كأثينة أو كرومية مثلاً ؛ فإن محمدًا كان بعيدًا عن ذلك
المحيط العلمي كله ، لا صلة له به ، ثم إن العلوم الكونية التي كانت في ذلك العصر
لم تكن فيها هذه النظريات الحديثة كالرأي السديمي مثلاً ، الذي يقتضي أن تكون
الأجرام السماوية كلها في الأصل دخانًا ، ثم تتجمد كتلة واحدة ، ثم ينفصل بعضها
عن بعض أجرامًا متفرقة ، وإنك لتجد هذا في القرآن صريحًا { أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ( الأنبياء : 30 ) فلو لم يكن القرآن وحيًا ، ما كان يمكن محمدًا أن ينطق بحقيقة
علمية لم تتقرر فعلاً إلا في هذا العصر ، وكذلك كون مبدأ الحياة في الماء ، قيل : إنه
قال به بعض فلاسفة اليونان ، ولكنه لم يكن قاعدة علمية كما هي اليوم ، وكذلك
كون الزوجية منبثة في الممالك الثلاث الكونية ، الحيوان ، والنبات ، والجماد ، لم
يكن ذلك معروفًا في عصر محمد عليه السلام ، وإنما كانوا يعرفونه في المملكة
الحيوانية ، وشيء من المملكة النباتية المشابهة للحيوانية ، والحال أن القرآن جعل
هذا المبدأ عامًّا { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ( الذاريات : 49 ) وغير ذلك من
الآيات التي جاء فيها مثل { مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } ( الحج : 5 ) ، و { مِن كُلِّ
زَوْجٍ كَرِيمٍ } ( الشعراء : 7 ) ، وكذلك حركة الأجرام الفلكية ، فقد كان الفلكيون
في القديم يعتقدون بوجود سيارات وثوابت ، ولم يتغير هذا الاعتقاد إلا بحسب علم
الهيئة الجديد ، والحال أن في القرآن ما يدل على أنه ليس من جرم غير متحرك
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ( يس : 40 ) وغير ذلك مما أحصاه المرحوم الغازي أحمد
مختار باشا نحوًا من تسعين آية فيما أتذكر ، وفسره تفسيرًا علميًّا ، أثبت ما فيه من
المطابقة للنظريات العلمية الحديثة ، وكان مختار باشا من أفذاذ الدهر في علم الهيئة
والرياضيات والطبيعيات ، فلا يقدر أحد أن ينكر ضلاعته في هذه العلوم ، ولقد
أشرت على الأستاذ الحجة السيد رشيد بأن يلحق بكتابه هذا ليكون مستوفيًا جميع
شروط الإفادة خلاصة كتاب مختار باشا الغازي المسمى ( سرائر القرآن ) ؛ لأن
الذي يؤثر في عقول الأوربيين ، وعقول النشء الجديد في الشرق من مطابقة
القرآن للنظريات العلمية الحديثة ، هو أعظم مما تؤثره البراهين العقلية والأدبية
والاجتماعية .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
( المنار )
كتب أمير البيان هذا التقريظ بعد قراءته لكتاب الوحي المحمدي ببضعة أشهر
وكان قد نسي - على ما يظهر - أن الموضوع الذي قال هنا : إنه قد فاتنا - لم يفتنا ؛
فإننا قد أشرنا إليه في مواضع ، كان آخرها ما يراه القارئ في آخر صفحة من
خاتمة الكتاب ، وفيها ذكر هذه المسائل التي مثل بها ، لما في القرآن من المسائل
العلمية التي في القرآن وزيادة عليها ، وقد وعدنا في هذه الخاتمة ، كما وعدنا في
تصدير هذه الطبعة بأننا سنعقد لها فصولاً في ملحقات الكتاب التي ستكون في الجزء
الثاني منه ، مع أمثال لها في سنن الكون الاجتماعية ، والأخبار الغيبية ، والوصايا
الصحية .
وفات الأمير - حفظه الله تعالى - ما كنا اقترحناه عليه عندما كتب إلينا أنه
سيكتب تقريظًا للكتاب بأن يجعله استدراكًا على كلام له في كتاب ( حاضر العالم
الإسلامي ) النفيس مضمونه أنه لم يوجد في هذا العصر كتاب يصلح لدعوة الإفرنج
إلى الإسلام .
وأما ما ذكره في أول التقريظ من استغناء المسلمين الصادقين عن هذا الكتاب
أو كونه غير موجه إليهم ؛ فغرضه خاص بصحة عقيدتهم في أصل الإسلام ؛ ولكن
السواد الأعظم منهم عرضة للتشكيك بالشبهات العلمية العصرية ، أو دعاة التنصير :
لأنهم أسرى التقليد ، وأشرنا إلى حاجتهم إلى براهينه على إعجاز القرآن ، والنبوة
في مقدمة التصدير لهذه الطبعة .
وقد وصل هذا التقريظ إلينا في 2 من ذي الحجة سنة 1352 بعد طبع ما
اخترناه من التقاريظ ، فجعلناه مسك الختام .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الصواب أن يقال : وربما خاف أولاً إلخ فإن الخوف على نفسه إنما عرض له صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي .
(2) الرُّوع بالضم : الخاطر والخلد ، والنفث فيه عبارة عن إلهام يلقى فيه ، وهو دون وحي القرآن .
__________
تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان
إن المسلمين على بينة من أمرهم ، لا يحتاجون إلى دعاية ، ولا إلى التماس
الأدلة حتى يعتقدوا بوجود واجب الوجود الذي لا يمكن العقل البشري أن يتصور
هذا الكون بدونه ، وكذلك لا يفتقرون إلى الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم بعد أن تلقوا خلفًا عن سلف النور الذي أُنزل عليه ، والذي ما زال
ينيرهم من العهد المصطفوي إلى الآن ، فكتاب الوحي المحمدي للأستاذ العلامة
حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا لم يُكتب في الحقيقة للمسلمين ؛
لأنه كتاب يقيم الأدلة على صحة أمر يحيا المسلمون ويموتون عليه ، ويرون جميع
براهينه من قبيل البديهيات التي لا تحتاج عندهم إلى برهان كما يحتاج النهار إلى
دليل ، وإنما وضع الأستاذ هذا الكتاب للأوروبيين الذين يريدون أن يعلموا ما عند
الإسلام من الأدلة على صحة الوحي المحمدي ، والذين منهم من إذا أنار لهم الدليل
لم يكابروا فيه تعصبًا وعدوانًا وصدودًا عن رؤيته ، وقد كتبه أيضًا لكل من نشأ
نشأة أوربية ؛ أي : خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها
مبادئ الإسلام مع لبن أمه ، فيقال : إنها رسخت فيه من الصغر . ولما كان جميع من
يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية
الحاضرة ، هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسبًا ، كان هذا
الكتاب موجهًا أيضًا إليهم ؛ لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية ،
أو على ما يقرب من ذلك .
فلهذا كنا ندعو لقراءة هذا المؤلف ليس الأوربيين فحسب بل ناشئة المسلمين
أيضًا ، ولا سيما الناشئة التي أبت الحكومات الإسلامية إلا أن تطبعها بالطابع
الأوربي ؛ لأننا في هذا العصر مغلوبون وأوربة هي الغالبة ، والمغلوب مولع
بتقليد الغالب حتى في الخطأ كما قال ابن خلدون . فالأستاذ الحجة يسر للمرتابين
الأسباب التي تحمل المسلم على أن لا يرتاب بصحة الوحي النازل على محمد عليه
السلام يقول :
إن محمدًا كان أميًّا ، لم يقرأ سفرًا ، ولم يكتب سطرًا ، وهذا القرآن العظيم
بفصاحته وبلاغته وإشارته إلى جميع مناحي الاجتماع بأرشق إشارة ، وأوجز عبارة ،
لو لم يكن من عند الله لا يعقل أن يقوم به رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يحصل
علمًا من قبل ، بل قضى طفولته في البادية عند بني سعد بن بكر يرعى الغنم مع
إخوته في الرضاع ، ثم إنه نشأ يتيمًا ، وكان مع يتمه المثل الأعلى في حسن التربية ،
واستقامة الأخلاق حتى لُقِّبَ بالأمين ، ولم يكن أحد يماري في استقامته ، وكانوا
لنزاهته يختارونه ليقوم بما يختلفون فيه فيما بينهم ، فيستحيل أن يكون رجلاً
موصوفًا بالصدق والأمانة إلى هذا الحد من أول نشأته إلى أن يبلغ سن الأربعين ،
ثم يتحول دفعة واحدة فيصير كاذبًا مفتريًا ، ويضع من عنده أشياء يدعو الناس إليها ،
ويقول : إنه سمع صوتًا ، ولو لم يسمع صوتًا ، وشاهد ملكًا ، ولو لم يشاهد ملكًا ،
إن هذا من الأمور المستحيلة عرفًا ، ثم إنه لم يكن طالبًا شيئًا من وراء ما قام به من
الدعوة لنقول : إنه كذب على الناس ؛ لينال حظًا من حظوظ هذه الدنيا ، فكل أحد يعلم
أنه لم يكن ينشد ملكًا ، ولا مالاً ، ولا ثروة ، ولا جاهًا . فلأي شيء يقوم بدعاية
غير صحيحة ، ويضع أشياء من عند نفسه ، ويتحمل عليها الهزؤ والسخرية ، ثم
البغضاء والشنآن ، ثم الاضطهاد والانتقام ، ويتعرض لخطر القتل ، وهو لا يريد
رياسة ولا نعمة دنيوية من جميع هذه النعم ، بل كل ما يريده أن يترك قومه عبادة
هذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان ، والرجوع إلى عبادة الواحد الأحد
مبدع هذا الكون لا إله إلا هو .
قد كان محمد عليه السلام مؤثرًا العزلة ، لا يخالط أبناء عصره في مجامعهم ،
ولا يشاركهم في عباداتهم الوثنية ، ونشأ من صغره لا يعبد إلا الله تعالى ، وكان من
مزاياه أنه لا يقول الشعر ، ولا يخطب في الأندية ، ولا يتصدى لشيء من مظاهر
الرياسة ولا الشهرة ، فكيف يمكن أن ينقلب دفعة واحدة ؛ فيخالط الناس يدعوهم إلى
التوحيد وإلى مكارم الأخلاق ، ويقوم فيهم بشيرًا ونذيرًا ، ويتجشم من العذاب ما
يتجشم ، ويتعرض لآلام أمر من العلقم ، لو لم يكن هناك باعث فوق العادة حافز له
على الخروج من عزلته التي بلغ الأربعين وهو عاكف عليها .
يقول السيد رشيد : إنه من المقرر عند علماء النفس ، وعلماء الاجتماع أن من
بلغ سن الخامسة والثلاثين ، ولم ينبغ في علم أو عمل عالمي عظيم لا يمكنه بعد
ذلك أن يقوم بشيء منها أُنُفا ( بضمتين ) أي : جديدًا ليسبق إليه فضلاً عن الجمع
بينهما ، والحال أن محمدًا ظهر بهذا الأمر العظيم ، وبهذا البيان الإلهي الذي لم يعهد
العرب مثله وذلك بعد الأربعين ، فلم يكن قبل هذا التاريخ استعد له بشيء ، ولا
وجد ما يدل عليه من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل .
قلت : وقد يقول بعض الناس أن محمدًا كان يظن في نفسه أنه يوحى إليه فهو
لم يتعمد الكذب تعمدًا ، وإنما بلغ به التأمل أنه كان يسمع تلك الأصوات ، ويرى
تلك الخيالات ، فيظن ما سمعه وحيًا ، وما رآه ملكًا ، والجواب على ذلك أن هذا
الوحي كان قولاً ثقيلاً خارقًا للعادة ، وكان يؤخذ به أخذًا شديدًا حتى كان يخاف على
نفسه ، وطالما خاف[1] أن يكون به جنون ، وهذا من جملة الأدلة على صدقه وكونه
لم يتعمد النبوة تعمدًا ، ولا استشرف لها بشيء من الأشياء ، وأنه قد فاجأه الوحي
مفاجأة لم يتقدمه عنده سوى الرؤيا الصادقة ، وأنه جاء وحيًا فيه من العلوم العالية
كما يقول السيد رشيد ، والأعمال العظيمة ما كان قلبًا للأحوال والأوضاع الدينية
والمدنية والاجتماعية ، بل انقلابًا لا يماثله انقلاب معروف في التاريخ .
ثم إن هذا الكلام الذي نفث في روع محمد[2] ليس من نسق كلامه الذي يعرفه
الناس له ، فقد تكلم محمد عليه السلام قبل البعثة ، وتكلم بعد البعثة ، ولا شك أنه
كان من أفصح البشر وأبلغهم ، وقد نطق بجوامع من الكلم تحار لها العقول ؛ ولكنه
لا يزال بين كلامه الخاص وبين القرآن الموحَى إليه بون بعيد ، فلا كلامه الخاص
ولا كلام أحد من الأنبياء يسامت درجة القرآن في كثير ولا قليل ، وكل من تأمل في
القرآن العظيم ، وكان بصيرًا بالبلاغة ، وقابله بكلام البشر يدرك هذا الفرق الكبير .
لا جرم أن القرآن يعلو في بلاغته وفصاحته وأسلوبه ، وشدة تأثيره علوًّا
كبيرًا عن جميع كلام العالمين ، وكيف يكون ذلك إن لم يكن القرآن وحيًا إلهيًّا ؟
فقول بعض الناس : إن محمدًا عليه السلام كانت تعروه نوبة عصبية فيظن نفسه
يوحى إليه . ليس مما يعلل هذا العلو الذي يعلوه القرآن الذي أوحي إليه على الكلام
الذي كان يقوله من نفسه بدون أن يوحى إليه ، فإن النوبة العصبية التي يزعمونها
ليس من شأنها أن تأتي بهذا الإعجاز كله ، وأن تجعل هذا الفرق البعيد في كلام
إنسان واحد .
ثم إننا لا نفهم لماذا يأبون أن يعتقدوا بكون تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا
عند نزول الوحي عليه هي من شدة وطأة الوحي ، وكونه قولاً ثقيلاً ؟ ولماذا يأبون
إلا أن يسموا هذه الحالة التي كانت تعروه نوبة عصبية ناشئة عن مرض من
أمراض الجسم ، ولو لم يقم على وجود هذا المرض دليل ؟ فأي استحالة في كون
بارئ الوجود يوحي إلى أحد عباده الذين اصطفى قولاً يحدث نزوله عليه نوبة
عصبية يضطرب لها ، ويتفصد جسده عرقًا كما كان يعتري محمدًا عليه السلام ،
وأيضًا فالنوبة العصبية الناشئة عن علة بدنية تقتضي أن يكون صاحبها مصابًا بداء
الصرع ، أو بمرض عصبي آخر تحدث منه هذه النوبات ، والحال أن النبي عليه
السلام كان سليم الجسم ، ولم يكن مريضًا ، ولم يقل أحد من أهل عصره لا من
أعدائه ، ولا من أصحابه : إنه كان يصيبه شيء من أعراض مرض آخر مزمن ،
والذين ذهبوا إلى ذلك لم يستندوا على أدنى دليل ، وإنما هي افتراضات مبنية على
غير أساس ، وتخرصات بغير الواقع ، وبمجرد التخيل كما هو شأن كثير من
الأوربيين ، أو هي فرار من التسليم أن تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند
نزول الوحي عليه هي حالة خاصة بنزول الوحي ، لم تكن لتحدث لولا ذلك ، ولكن
محاولة هذا الفرار لا تغني هؤلاء الفارين من الحقيقة شيئًا ؛ إذ قد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مزاجه عقلاً وبدنًا بغاية الاعتدال حتى إن المستشرق
الإفرنسي ماسينيون نفسه برغم صبغته الكاثوليكية الشديدة يعترف بأن مزاج محمد
كان موزونًا لا شائبة فيه ، إذًا فافتراض النوبة العصبية بغير تأثير الوحي لم يبق له
مجال إلا التعنت .
وقد أشار السيد رشيد إلى هذا الموضوع فقال : إن أعداء الرسول من الإفرنج
وتلاميذهم تأولوا هذه الحالة التي كانت تحدث له بأنه كان يعرض له نوبات عصبية ،
وتشنجات هيستيرية ، وما أبعد الفرق بين حالته تلك ، وحالة أولي الأمراض
العصبية في المزاج ، فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً ، ولعله إلى
الدموي العضلي أقرب ، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف
والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو الشامت ، وأما صاحب تلك الحالة
الروحانية العليا فكان يتلو عقب فصمها ، وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من
القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه إعجازه اللفظي والمعنوي ... إلخ .
قد اهتممنا بهذه النقطة دون سواها من هذا المعترك ؛ لأنه لا يكاد يوجد أحد
اليوم في أوربة من العلماء المحققين إلا وهو معترف بأن محمدًا لم يتعمد ادِّعاء
النبوة تعمدًا لينال بها رياسة أو مجدًا أو مالاً أو حظًّا من حظوظ الدنيا ، وإنه إنما
أراد صلاح عقائد بني عصره من نقلهم عن عبادة الوثن إلى عبادة الحق ، فهذا أمر
قد اتفقوا عليه تقريبًا ؛ ولكنه لا يزال يصعب عليهم التسليم أنه كان نبيًّا يوحى إليه ،
ولما كانوا لا يقدرون أن ينكروا الحالة التي كانت تصيبه قبل أن ينطق بالقرآن ،
وأنها حالة لم يكن يتعمدها ، ولم يكن يمكنه لو أراد أن يتعمدها ويتظاهر بها - لجأ
بعضهم لتعليل هذه الحالة إلى قضية النوبة العصبية ، وذهب آخرون أنه من قبيل
الوله بالله تعالى الذي يُخْرِج الإنسان عن الطور المعتاد ، وعلى كل حال قد اجتاز
الأوربيون المرحلة الأولى من مراحل الاعتقاد بصحة دعوة محمد ، فقد لبثوا طوال
القرون الوسطى يزعمون بتأثير كلام رهبانهم أن محمدًا كان كاذبًا ، فرجعوا الآن
عن هذا القول إلى القول بأنه كان صادقًا معتقدًا ما يقوله حقًّا ، وإن هذا القرآن كان
ينزل عليه ، وكان يعتقد هو أنه من عند الله ، وكان يرى المَلَك ماثلاً أمامه ، ولكن
هذا كان نتيجة المرض بقول بعضهم ، أو التخيل بقول الآخرين ، فادِّعاء الكذب
على محمد قد سقط اليوم في أكثر بلاد النصرانية ، وقد اجتيزت المرحلة الأولى
فبقيت المرحلة الثانية ، وهي تصديق كون محمد عليه السلام إنما كانت تحدث له
الحالة غير المعتادة لسبب وحي كان يأتيه من قبل الله تعالى ، لا بمجرد التخيل ولا
من قبل المرض ، وليس بعجيب أن يتأول أهل عصر مادي كهذا العصر يصعب
عليهم الاعتقاد بالغيب ، وتعليل الأمور بغير ما يقع تحت الحس ؛ ولكنهم لو تأملوا
لوجدوا أنفسهم عاجزين عجزًا تامًّا بإزاء الأسرار الكونية لا يحلون منها مشكلاً ، إلا
وصلوا إلى سد واقف في وجههم لا يقدرون أن يجتازوه إلا بعد التسليم أن هناك قوة
خارقة للعادة ، وأن القول بوجوده أقرب إلى العقل وإلى العلم من هذه التحملات
الواهية التي يحاولون بها تعليل الحوادث كلها بالأسباب المادية ، ويلجئهم الأمر في
أكثر الأحيان إلى تلمس الافتراضات المبنية على غير أساس .
إن كتاب الوحي المحمدي الذي جاء به الأستاذ السيد رشيد رضا في هذه الأيام
قد أتى عصره على قَدَر ؛ لأنه زمن صار يجب فيه التعليل حتى في الأمور التي
هي معدودة إلى اليوم من البديهيات ، وما دمنا نقفو الأوربيين صاعدًا ، ونازلاً ، ولا
مناص لنا من هذا الاقتداء ، كان لابد لعلماء المسلمين من إعداد الأسلحة العقلية
اللازمة لمكافحة الشبهات التي هي من أصل أوربي ، فكتاب الأستاذ وافٍ بهذا الغرض
لا يخطر في البال معنى من المعاني التي يقتنع بها القارئ بعلو مزايا الإسلام ، إلا وقد
أشار إليه .
نعم قد فات هذا الكتاب موضوع جليل ، ربما كان أدل على إعجاز القرآن
وعلى صحة الوحي به ، وكونه من عند الله حقًّا من سائر الموضوعات ، وهذا هو
ما في القرآن من الآيات المطابقة للقواعد العلمية التي انتهى إليها تحقيق الأوربيين
في هذا العصر من جهة التحولات الكونية ، فمن المعلوم أن محمدًا عليه السلام
فضلاً عن أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب ، قد نشأ في مكة حيث لم تكن علوم ، ولا
معارف ، ولا جامعات ، ولا مدارس ، وكذلك لم يكن في المدينة ، وإن قلنا : إنه كانت
علوم ، ومعارف ، ومدارس تقرأ فيها العلوم الكونية ، وذلك في غير جزيرة العرب
كالشام أو كالإسكندرية أو كأثينة أو كرومية مثلاً ؛ فإن محمدًا كان بعيدًا عن ذلك
المحيط العلمي كله ، لا صلة له به ، ثم إن العلوم الكونية التي كانت في ذلك العصر
لم تكن فيها هذه النظريات الحديثة كالرأي السديمي مثلاً ، الذي يقتضي أن تكون
الأجرام السماوية كلها في الأصل دخانًا ، ثم تتجمد كتلة واحدة ، ثم ينفصل بعضها
عن بعض أجرامًا متفرقة ، وإنك لتجد هذا في القرآن صريحًا { أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ( الأنبياء : 30 ) فلو لم يكن القرآن وحيًا ، ما كان يمكن محمدًا أن ينطق بحقيقة
علمية لم تتقرر فعلاً إلا في هذا العصر ، وكذلك كون مبدأ الحياة في الماء ، قيل : إنه
قال به بعض فلاسفة اليونان ، ولكنه لم يكن قاعدة علمية كما هي اليوم ، وكذلك
كون الزوجية منبثة في الممالك الثلاث الكونية ، الحيوان ، والنبات ، والجماد ، لم
يكن ذلك معروفًا في عصر محمد عليه السلام ، وإنما كانوا يعرفونه في المملكة
الحيوانية ، وشيء من المملكة النباتية المشابهة للحيوانية ، والحال أن القرآن جعل
هذا المبدأ عامًّا { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ( الذاريات : 49 ) وغير ذلك من
الآيات التي جاء فيها مثل { مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } ( الحج : 5 ) ، و { مِن كُلِّ
زَوْجٍ كَرِيمٍ } ( الشعراء : 7 ) ، وكذلك حركة الأجرام الفلكية ، فقد كان الفلكيون
في القديم يعتقدون بوجود سيارات وثوابت ، ولم يتغير هذا الاعتقاد إلا بحسب علم
الهيئة الجديد ، والحال أن في القرآن ما يدل على أنه ليس من جرم غير متحرك
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ( يس : 40 ) وغير ذلك مما أحصاه المرحوم الغازي أحمد
مختار باشا نحوًا من تسعين آية فيما أتذكر ، وفسره تفسيرًا علميًّا ، أثبت ما فيه من
المطابقة للنظريات العلمية الحديثة ، وكان مختار باشا من أفذاذ الدهر في علم الهيئة
والرياضيات والطبيعيات ، فلا يقدر أحد أن ينكر ضلاعته في هذه العلوم ، ولقد
أشرت على الأستاذ الحجة السيد رشيد بأن يلحق بكتابه هذا ليكون مستوفيًا جميع
شروط الإفادة خلاصة كتاب مختار باشا الغازي المسمى ( سرائر القرآن ) ؛ لأن
الذي يؤثر في عقول الأوربيين ، وعقول النشء الجديد في الشرق من مطابقة
القرآن للنظريات العلمية الحديثة ، هو أعظم مما تؤثره البراهين العقلية والأدبية
والاجتماعية .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
( المنار )
كتب أمير البيان هذا التقريظ بعد قراءته لكتاب الوحي المحمدي ببضعة أشهر
وكان قد نسي - على ما يظهر - أن الموضوع الذي قال هنا : إنه قد فاتنا - لم يفتنا ؛
فإننا قد أشرنا إليه في مواضع ، كان آخرها ما يراه القارئ في آخر صفحة من
خاتمة الكتاب ، وفيها ذكر هذه المسائل التي مثل بها ، لما في القرآن من المسائل
العلمية التي في القرآن وزيادة عليها ، وقد وعدنا في هذه الخاتمة ، كما وعدنا في
تصدير هذه الطبعة بأننا سنعقد لها فصولاً في ملحقات الكتاب التي ستكون في الجزء
الثاني منه ، مع أمثال لها في سنن الكون الاجتماعية ، والأخبار الغيبية ، والوصايا
الصحية .
وفات الأمير - حفظه الله تعالى - ما كنا اقترحناه عليه عندما كتب إلينا أنه
سيكتب تقريظًا للكتاب بأن يجعله استدراكًا على كلام له في كتاب ( حاضر العالم
الإسلامي ) النفيس مضمونه أنه لم يوجد في هذا العصر كتاب يصلح لدعوة الإفرنج
إلى الإسلام .
وأما ما ذكره في أول التقريظ من استغناء المسلمين الصادقين عن هذا الكتاب
أو كونه غير موجه إليهم ؛ فغرضه خاص بصحة عقيدتهم في أصل الإسلام ؛ ولكن
السواد الأعظم منهم عرضة للتشكيك بالشبهات العلمية العصرية ، أو دعاة التنصير :
لأنهم أسرى التقليد ، وأشرنا إلى حاجتهم إلى براهينه على إعجاز القرآن ، والنبوة
في مقدمة التصدير لهذه الطبعة .
وقد وصل هذا التقريظ إلينا في 2 من ذي الحجة سنة 1352 بعد طبع ما
اخترناه من التقاريظ ، فجعلناه مسك الختام .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الصواب أن يقال : وربما خاف أولاً إلخ فإن الخوف على نفسه إنما عرض له صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي .
(2) الرُّوع بالضم : الخاطر والخلد ، والنفث فيه عبارة عن إلهام يلقى فيه ، وهو دون وحي القرآن .
(34/56)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
كتاب الوحي المحمدي
نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن
[*]
سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي
عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد ، فيشيرون إلى مباحثه بين
تقريظ وانتقاد ، وأخذ ورد ، ويكشفون عن محاسن الكتاب ، وعن المآخذ التي
يرونها فيه .
وهذه الطريقة قديمة ، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين :
إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب ، وإما تنفيرًا منه ، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ
مظلومًا .
وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ ، فليس من شأني أن أجامل
المؤلفين ، أو أخدع القارئين ، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي
يحدثه في نفسي ذلك المؤلف ، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة .
ولعل أصوب طريق للنقد في نظري ، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له
موضوعًا لتبدي رأيك ، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب .
ولعلي لا أجامل إذا قلت : إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده ، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً
للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي ، إن لم يكن في العالم أجمع .
فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي ، وبحث علمي في المعجزات
والدعوة إلى الإسلام .
أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة
فيها نظر ؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته ،
ولكن المسألة ليست مسألة إثبات ، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة
من المستشرقين والمبشرين ، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة
بالحجة ، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق ، وكبله حتى تلاشت تلك
العواصف التي أثارها هذا المستشرق ، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين
واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين ، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة
إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم .
ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات
التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي .
غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا
آية الإعجاز في القرآن ، فأسلوب القرآن البياني ، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل
هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين ، إلا
أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن
القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } ( فصلت : 53 ) فأشار إلى العلم وأنه
سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن[1] .
فالذي يقرأ مثلاً الآية { أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ( القيامة : 3-4 ) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي ،
إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام ، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع .
ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي
تحدد شخصيته ، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية
وأنه تقام لها الإدارات الخاصة ، وتعتمدها المحاكم ، كل هذا يجعلك تدهش لسر
إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا ، ويكون تفسير الآية أنه
سيجمع عظام الإنسان ، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية .
هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن ، وما زال محتاجًا إلى
الدراسة والتفسير ؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر
ودراسة القرآن من هذه الوجهة[2] .
وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن ، فلا يصير ذلك كتاب
الأستاذ رشيد ؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم
والعلم للطعن في الإسلام ؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ
رشيد للمقارنة بين الأديان .
أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام ، وذم
التقليد ، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل ، تلك الفصول التي دمجها
الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث .
والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين ، ولقد أتى على المسلمين
حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية ، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون
المذاهب لأغراض سياسية ، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية ، ولا زلنا
نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم ، ويفرضون على أتباعهم زنات من
الذهب كل عام ؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا
مشرفًا ، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع
ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو ، لا كما صوره الواهمون المغرضون ،
وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم ، فالناس في البلاد
الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام ، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب
الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام ، وعدَّدها واحدًا واحدًا ، ولكنه لم يذكر
المستشرقين في فصل خاص ، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام ، ولم يفرد في
كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده ، وإن كان
لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .
ونحن لا زلنا نقول : إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير
حقيقته ، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق ، ومهما
تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه
أحلامهم .
أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات ، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين
باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من
الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق ، والإسلام الصميم الذي
لا يُستغل لمآرب دنيوية ، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك
المسألة الجوهرية ، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى
الأمة في عهد النور والعرفان .
والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة ، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة
للعادة موضوع بحث ، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا ، ولكن على أي حال لا
صلة بين هذه الأعمال وبين الدين ؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان
المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن ، وحتى في الأديان
التي لا زالت تعبد الأصنام ، وتقدس الإنسان .
على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة ( جان دارك ) وكتب عنها بما وسعه
علمه الواسع ؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو
سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية ، وأن شاراتها كانت
تمتاز بالشعار الملكي .
والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث ،
وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع .
وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن
نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين ، واستنتجت
من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده ، ولعل الأستاذ السيد
رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه
المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير
الإسلامي .
وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب ، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى
ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية ، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ
ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية ، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور
الكتاب ، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين .
اهـ .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر ، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا ، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي .
(1) المنار : قد بينا هذا في كتاب الوحي ، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته .
(2) إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه ، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث .
(3) إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح .
__________
كتاب الوحي المحمدي
نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن
[*]
سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي
عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد ، فيشيرون إلى مباحثه بين
تقريظ وانتقاد ، وأخذ ورد ، ويكشفون عن محاسن الكتاب ، وعن المآخذ التي
يرونها فيه .
وهذه الطريقة قديمة ، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين :
إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب ، وإما تنفيرًا منه ، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ
مظلومًا .
وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ ، فليس من شأني أن أجامل
المؤلفين ، أو أخدع القارئين ، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي
يحدثه في نفسي ذلك المؤلف ، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة .
ولعل أصوب طريق للنقد في نظري ، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له
موضوعًا لتبدي رأيك ، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب .
ولعلي لا أجامل إذا قلت : إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده ، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً
للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي ، إن لم يكن في العالم أجمع .
فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي ، وبحث علمي في المعجزات
والدعوة إلى الإسلام .
أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة
فيها نظر ؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته ،
ولكن المسألة ليست مسألة إثبات ، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة
من المستشرقين والمبشرين ، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة
بالحجة ، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق ، وكبله حتى تلاشت تلك
العواصف التي أثارها هذا المستشرق ، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين
واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين ، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة
إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم .
ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات
التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي .
غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا
آية الإعجاز في القرآن ، فأسلوب القرآن البياني ، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل
هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين ، إلا
أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن
القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } ( فصلت : 53 ) فأشار إلى العلم وأنه
سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن[1] .
فالذي يقرأ مثلاً الآية { أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ( القيامة : 3-4 ) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي ،
إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام ، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع .
ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي
تحدد شخصيته ، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية
وأنه تقام لها الإدارات الخاصة ، وتعتمدها المحاكم ، كل هذا يجعلك تدهش لسر
إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا ، ويكون تفسير الآية أنه
سيجمع عظام الإنسان ، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية .
هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن ، وما زال محتاجًا إلى
الدراسة والتفسير ؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر
ودراسة القرآن من هذه الوجهة[2] .
وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن ، فلا يصير ذلك كتاب
الأستاذ رشيد ؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم
والعلم للطعن في الإسلام ؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ
رشيد للمقارنة بين الأديان .
أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام ، وذم
التقليد ، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل ، تلك الفصول التي دمجها
الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث .
والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين ، ولقد أتى على المسلمين
حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية ، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون
المذاهب لأغراض سياسية ، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية ، ولا زلنا
نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم ، ويفرضون على أتباعهم زنات من
الذهب كل عام ؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا
مشرفًا ، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع
ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو ، لا كما صوره الواهمون المغرضون ،
وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم ، فالناس في البلاد
الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام ، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب
الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام ، وعدَّدها واحدًا واحدًا ، ولكنه لم يذكر
المستشرقين في فصل خاص ، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام ، ولم يفرد في
كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده ، وإن كان
لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .
ونحن لا زلنا نقول : إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير
حقيقته ، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق ، ومهما
تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه
أحلامهم .
أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات ، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين
باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من
الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق ، والإسلام الصميم الذي
لا يُستغل لمآرب دنيوية ، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك
المسألة الجوهرية ، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى
الأمة في عهد النور والعرفان .
والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة ، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة
للعادة موضوع بحث ، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا ، ولكن على أي حال لا
صلة بين هذه الأعمال وبين الدين ؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان
المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن ، وحتى في الأديان
التي لا زالت تعبد الأصنام ، وتقدس الإنسان .
على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة ( جان دارك ) وكتب عنها بما وسعه
علمه الواسع ؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو
سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية ، وأن شاراتها كانت
تمتاز بالشعار الملكي .
والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث ،
وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع .
وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن
نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين ، واستنتجت
من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده ، ولعل الأستاذ السيد
رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه
المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير
الإسلامي .
وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب ، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى
ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية ، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ
ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية ، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور
الكتاب ، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين .
اهـ .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر ، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا ، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي .
(1) المنار : قد بينا هذا في كتاب الوحي ، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته .
(2) إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه ، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث .
(3) إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح .
(34/64
صفر - 1353هـ
يونيه - 1934م
يونيه - 1934م
الكاتب : عبد الله بن علي بن يابس
__________
تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده
( لمّا صدر كتاب الوحي المحمدي أهديته إلى كثير من العلماء والأدباء
وغيرهم ، وسألت من ألقى منهم هنا أن ينتقدوه ، ومنهم أكبر علماء مصر الأستاذ
الشيخ محمد مصطفى المراغي ، والأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار
المصرية ، وكتبت إلى بعض من في الأقطار البعيدة بذلك ، ومنهم إمام اليمن وإمام
عمان فلم ينتقد أحد منهم شيئًا من مسائله ، ولكن جاءنا الكتاب الآتي من الأستاذ
صاحب الإمضاء وهو من علماء نجد ومقيم في القاهرة قبيل الفراغ من طبعة الكتاب
الثانية ؛ فسررنا به ، وإننا ننشره ونقفي عليه ببيان رأينا فيه ، وهذا نصه :
( بسم الله الرحمن الرحيم )
إلى حضرة الأخ المحترم والعلامة الفاضل محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد فإني قرأت كتاب الوحي الذي
ألفتموه فألفيته أولاً في بابه ، بديعًا في خطابه ، أبان بأن الدين ضرورة لازمة ،
وحجة قائمة ، أقام الحجة على صحة الإسلام ، عند مثبت النبوة ومصدق الرسالة .
بأوضح برهان وأجلى تبيان ، وأظهر زيف الاعتراضات الصليبية ، والتشكيكات .
الإلحادية ، والمغالطات الإيهامية ، التي أرصدها دعاة الفتنة ، وأعدها رؤوس
الضلالة حرابًا للدين ، وغوثًا للشياطين ، وإنه لكتاب جلي من دقائق الحكم ، وأسرار
التشريع ما سطر التنزيل بيانه ، وأجمل تبيانه ، ومع ذلك فهو سهل المتناول ، قريب
إلى الفهم ، يشوق قراءه إلى تفهم كتاب الله ، ويوقف المنصفين على الإيمان بالله .
وبما أن مسائل العلم معترك العلماء ، ومجال الأذكياء ، وساحة الميدان ،
وحلبة الرهان ، والجواد قد يكبو ، والسيف قد ينبو ، والخطأ لم يعصم منه إلا
الشارع ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ؛ فإن لي في كتابكم
ملاحظات سأبديها ، ومواضع سأتكلم فيها ، لمعرفتي أنكم ممن ينشد الحق ويتحراه ،
ويُغَلِّب مرضاة خالقه على اتباع هواه ، والشاهد لي على ذلك أنكم الذين تنازلتم
لمنازلة الانتقاد ، وتواضعتم لهذا المراد ، وتلك خلة العلماء السابقين ، وطريقة القادة
المهديين .
( 1 ) قلتم في صفحة 163 : قد شرع الله لإبطال الرق طريقين : عدم تجديد
الاسترقاق في المستقبل . وإني أرى أن هذا القول مُعَارَض بالكتاب والسنة
والإجماع ، أما الكتاب فإن فيه كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي هو نتيجة
الاسترقاق ، والكتاب كتاب لكل زمان ومكان ، فلا يصح أن يبني شرائعه على شيء
قد أبطل أساسه ، وحرم تجديد أصله ، وقد ندب الكتاب إلى العتق في مواضع كثيرة ،
وجعل العتق الذي لا يوجد إلا بالرق عملاً من أعمال الخير التي توصل إلى الجنة ،
فهل تقولون : إن تلك الآيات المذكورة في الكتاب إنما محل العمل بها في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم أما بعده فلا يصح ؛ لأن تجديد الرق قد مُنع ؟ فإن قلتم بهذا فما
رأيكم في الدليل الثاني ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق بالفعل ، وجوَّز
بالقول والتقرير ، وما أرى أنكم تنكرون هذا ؛ لأن كل من يعرف النبي صلى الله
عليه وسلم وسيرته يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أنه لم يغز طوائف العرب إلا واسترق
من استولى عليهم من نسائهم وأولادهم .
وأما الإجماع فإن الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان ما استولوا على
شيء من نساء الكفار وأولادهم إلا استرقوه ، حتى إنه ليوجد عند بعضهم المئون ،
بل آلاف من الرقيق ، وكان عثمان بن عفان و العباس من أكثرهم رقيقًا ، ولعمر
رقيق ، ولأبي بكر رقيق ، وهذا ما لا ينكره أحد ، وإذا كان القتال ماضيًا إلى قيام
الساعة والكفار موجودين في كل زمن ، فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا
عليه بطريق الحرب .
( 2 ) قلتم في صفحة 149 على قوله : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) : إن حروب النبي
للكفار كانت كلها دفاعًا ، ومعنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز
إلا إذا قاتلونا ، والكلام عليه من وجوه :
( أولاً ) : إنا لا نُسَلِّم أن قتال المسلمين في سبيل الله للكفار الذين لم يقاتلوهم
اعتداءً ؛ إذ الاعتداء تجاوز بغير حق ، وقتال المسلمين للكفار إنما هو بحق وهو
إدخال الإصلاح عليهم ، وحملهم على الطريق القويم ، وإنقاذهم من نار الجحيم .
( ثانيًا ) : غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا ، والكف
عمن لم يقاتل مفهومًا ، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء إذا لم يخالف ؛ فكيف
إذا عارض منطوقًا صريحًا ؟
( ثالثًا ) : إن الآية { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (البقرة : 193 ) ، وآية { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ } ( التوبة : 5 ) ،
والآية { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } ( التوبة : 29 ) وما
يشابههن ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله ) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة ، كل ذلك عام شامل لمن قاتل ومن
لم يقاتل .
( رابعًا ) إن آية { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ( البقرة : 190 ) ، { وَجَاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ } ( المائدة : 35 ) ومعنى كلمة القتال في سبيل الله لا يفهم من ذلك الدفاع
عن النفس فحسب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له : الرجل يقاتل
شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) فبين أن المراد من القتال في سبيل الله
القتال لعلو الإسلام ورضوخ الكفر له .
( خامسًا ) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمنعه من الإغارة على قوم
إلا سماع الأذان ، فإن سمع أذانًا أمسك ، وإلا أغار .
( سادسًا ) إنه قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم أنه لم يثبت أن كل
من قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وغيرهم من
أئمة المسلمين ، قاتلوا قبل أن يقاتلوا ، وأن مقام المسلمين معهم مقام دفاع عن النفس ،
وإن كان ذلك حصل من بعضهم في بعض الأحيان فلا يسلم حصوله في الكل .
( سابعًا ) إن سنته في بعثه للسرايا والجيوش أن يقول لهم : اغزوا في سبيل
الله ، قاتلوا من كفر بالله ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال .
وهو معلوم من حديث بريدة الطويل عند مسلم ، وأما آية الإكراه في الدين فلا تمنع
من قتالهم حتى يكون الدين عاليًا عليهم ، وآية الجزية مبينة للإكراه ، وأما تعليل
الإذن بالقتال بظلم الكفار إياهم ، فغايته أنه ذكر علة ولم ينف سواها ، وأما { َ وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } ( ق : 45 ) وما في معناها ، فتلك آيات مكيات أتت بعدهن
المدنيات .
( 3 ) قلتم في صفحة 162 : على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط
جعل عصمتها بيدها ؛ فتطلق نفسها إذا شاءت . قول الشريعة هي الكتاب والسنة
والإجماع ، فإن رأيتم هذا القول فيها فهاتوا دليله مأجورين ، والمنار معروف أنه
يدلل على ما يذهب إليه ، والذي أعرفه أنه رأي لأبي حنيفة ، وأنا لا أعتقد أنكم
تقلدونه ، وأبو حنيفة الذي رأى هذا الرأي هو الذي رأى لو أن رجلاً في المشرق
تزوج بامرأة في المغرب ؛ فولدت أن الولد يلحق به ، وإن لم يثبت عنده اجتماعهما .
فهل تقولون : إن الشرع ألحق الولد به . وأنتم وفقنا الله وإياكم ذكرتم هذا القول في
الوحي المحمدي ، فلا يفهم إلا أنكم وجدتم ذلك في القرآن أو الحديث ، فإن لم يكن
إلا في رأي أبي حنيفة ، فهو شرط ليس في كتاب الله ، ومن اشترط شرطًا ليس في
كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، وهو قول ليس عليه أمر الشارع ، ومن
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ، مع أنه رأي يجعل للمرأة الناقصة عقلاً ودينًا
ولاية على أمر الرجل ( ولن يُفْلِح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ) فيكف تُوَلَّى تفكيك روابط
الأسر وتفريق الجماعات ، وهي التي تغضب للكلمة ، وتطيش للصدة ، وتتميز
للإعراضة .
( 4 ) قلتم في صفحة 187 : فكلام الله عندنا شأن من شؤونه ، وصفة من
صفات كماله كعلمه ، إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات له بدون سبق خفاء
ووظيفة الكلام كشفه ما شاء من المعلومات لمن شاء بما شاء . هذا التعريف لا
يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار كمالك ، والسفيانين ، وأحمد ، وإسحاق ،
ويحيى بن معين ، والبخاري ولا كالزهري ، وأيوب ، وابن سيرين ولا عن
أحد من الصحابة ، فإن كان معروفًا لديكم فأزيلوا عنا اللبس ، وما رأيكم لو كشف
الله لعبد بإزالة الحجب ، فهل يقال : إنه كلمه ؛ فإن تعريفكم صادق على هذا ؟ وهلا
يجوز عندكم أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قرب ؟ وهل
تعريفكم هذا لكلام الله الذي هو القرآن فحسب ، أو لما هو أعم ؟ وهل أنتم تعتقدون
أن القرآن كلام الله أم هو عبارة عنه ؟
( 5 ) وقلتم في صفحة 8 : وحررت هذه المقدمة في ليلة المولد ؟ فهل عندكم
خبر صحيح يعين ليلة المولد ، مع أن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تُعْرَف ،
وفيها أقوال متعارضة متضاربة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض ، ولا أظن
أنكم تتابعون الناس على ما درجوا عليه من الباطل ، على أني اختصرت خوف
الإطالة والملل ، وتركت مواضع بغير تعليق لباعث العجل ، والله يوفقنا جميعًا إلى
سبيل الرشاد .
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن علي بن يابس
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
__________
تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده
( لمّا صدر كتاب الوحي المحمدي أهديته إلى كثير من العلماء والأدباء
وغيرهم ، وسألت من ألقى منهم هنا أن ينتقدوه ، ومنهم أكبر علماء مصر الأستاذ
الشيخ محمد مصطفى المراغي ، والأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار
المصرية ، وكتبت إلى بعض من في الأقطار البعيدة بذلك ، ومنهم إمام اليمن وإمام
عمان فلم ينتقد أحد منهم شيئًا من مسائله ، ولكن جاءنا الكتاب الآتي من الأستاذ
صاحب الإمضاء وهو من علماء نجد ومقيم في القاهرة قبيل الفراغ من طبعة الكتاب
الثانية ؛ فسررنا به ، وإننا ننشره ونقفي عليه ببيان رأينا فيه ، وهذا نصه :
( بسم الله الرحمن الرحيم )
إلى حضرة الأخ المحترم والعلامة الفاضل محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد فإني قرأت كتاب الوحي الذي
ألفتموه فألفيته أولاً في بابه ، بديعًا في خطابه ، أبان بأن الدين ضرورة لازمة ،
وحجة قائمة ، أقام الحجة على صحة الإسلام ، عند مثبت النبوة ومصدق الرسالة .
بأوضح برهان وأجلى تبيان ، وأظهر زيف الاعتراضات الصليبية ، والتشكيكات .
الإلحادية ، والمغالطات الإيهامية ، التي أرصدها دعاة الفتنة ، وأعدها رؤوس
الضلالة حرابًا للدين ، وغوثًا للشياطين ، وإنه لكتاب جلي من دقائق الحكم ، وأسرار
التشريع ما سطر التنزيل بيانه ، وأجمل تبيانه ، ومع ذلك فهو سهل المتناول ، قريب
إلى الفهم ، يشوق قراءه إلى تفهم كتاب الله ، ويوقف المنصفين على الإيمان بالله .
وبما أن مسائل العلم معترك العلماء ، ومجال الأذكياء ، وساحة الميدان ،
وحلبة الرهان ، والجواد قد يكبو ، والسيف قد ينبو ، والخطأ لم يعصم منه إلا
الشارع ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ؛ فإن لي في كتابكم
ملاحظات سأبديها ، ومواضع سأتكلم فيها ، لمعرفتي أنكم ممن ينشد الحق ويتحراه ،
ويُغَلِّب مرضاة خالقه على اتباع هواه ، والشاهد لي على ذلك أنكم الذين تنازلتم
لمنازلة الانتقاد ، وتواضعتم لهذا المراد ، وتلك خلة العلماء السابقين ، وطريقة القادة
المهديين .
( 1 ) قلتم في صفحة 163 : قد شرع الله لإبطال الرق طريقين : عدم تجديد
الاسترقاق في المستقبل . وإني أرى أن هذا القول مُعَارَض بالكتاب والسنة
والإجماع ، أما الكتاب فإن فيه كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي هو نتيجة
الاسترقاق ، والكتاب كتاب لكل زمان ومكان ، فلا يصح أن يبني شرائعه على شيء
قد أبطل أساسه ، وحرم تجديد أصله ، وقد ندب الكتاب إلى العتق في مواضع كثيرة ،
وجعل العتق الذي لا يوجد إلا بالرق عملاً من أعمال الخير التي توصل إلى الجنة ،
فهل تقولون : إن تلك الآيات المذكورة في الكتاب إنما محل العمل بها في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم أما بعده فلا يصح ؛ لأن تجديد الرق قد مُنع ؟ فإن قلتم بهذا فما
رأيكم في الدليل الثاني ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق بالفعل ، وجوَّز
بالقول والتقرير ، وما أرى أنكم تنكرون هذا ؛ لأن كل من يعرف النبي صلى الله
عليه وسلم وسيرته يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أنه لم يغز طوائف العرب إلا واسترق
من استولى عليهم من نسائهم وأولادهم .
وأما الإجماع فإن الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان ما استولوا على
شيء من نساء الكفار وأولادهم إلا استرقوه ، حتى إنه ليوجد عند بعضهم المئون ،
بل آلاف من الرقيق ، وكان عثمان بن عفان و العباس من أكثرهم رقيقًا ، ولعمر
رقيق ، ولأبي بكر رقيق ، وهذا ما لا ينكره أحد ، وإذا كان القتال ماضيًا إلى قيام
الساعة والكفار موجودين في كل زمن ، فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا
عليه بطريق الحرب .
( 2 ) قلتم في صفحة 149 على قوله : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) : إن حروب النبي
للكفار كانت كلها دفاعًا ، ومعنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز
إلا إذا قاتلونا ، والكلام عليه من وجوه :
( أولاً ) : إنا لا نُسَلِّم أن قتال المسلمين في سبيل الله للكفار الذين لم يقاتلوهم
اعتداءً ؛ إذ الاعتداء تجاوز بغير حق ، وقتال المسلمين للكفار إنما هو بحق وهو
إدخال الإصلاح عليهم ، وحملهم على الطريق القويم ، وإنقاذهم من نار الجحيم .
( ثانيًا ) : غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا ، والكف
عمن لم يقاتل مفهومًا ، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء إذا لم يخالف ؛ فكيف
إذا عارض منطوقًا صريحًا ؟
( ثالثًا ) : إن الآية { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (البقرة : 193 ) ، وآية { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ } ( التوبة : 5 ) ،
والآية { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } ( التوبة : 29 ) وما
يشابههن ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله ) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة ، كل ذلك عام شامل لمن قاتل ومن
لم يقاتل .
( رابعًا ) إن آية { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ( البقرة : 190 ) ، { وَجَاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ } ( المائدة : 35 ) ومعنى كلمة القتال في سبيل الله لا يفهم من ذلك الدفاع
عن النفس فحسب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له : الرجل يقاتل
شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) فبين أن المراد من القتال في سبيل الله
القتال لعلو الإسلام ورضوخ الكفر له .
( خامسًا ) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمنعه من الإغارة على قوم
إلا سماع الأذان ، فإن سمع أذانًا أمسك ، وإلا أغار .
( سادسًا ) إنه قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم أنه لم يثبت أن كل
من قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وغيرهم من
أئمة المسلمين ، قاتلوا قبل أن يقاتلوا ، وأن مقام المسلمين معهم مقام دفاع عن النفس ،
وإن كان ذلك حصل من بعضهم في بعض الأحيان فلا يسلم حصوله في الكل .
( سابعًا ) إن سنته في بعثه للسرايا والجيوش أن يقول لهم : اغزوا في سبيل
الله ، قاتلوا من كفر بالله ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال .
وهو معلوم من حديث بريدة الطويل عند مسلم ، وأما آية الإكراه في الدين فلا تمنع
من قتالهم حتى يكون الدين عاليًا عليهم ، وآية الجزية مبينة للإكراه ، وأما تعليل
الإذن بالقتال بظلم الكفار إياهم ، فغايته أنه ذكر علة ولم ينف سواها ، وأما { َ وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } ( ق : 45 ) وما في معناها ، فتلك آيات مكيات أتت بعدهن
المدنيات .
( 3 ) قلتم في صفحة 162 : على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط
جعل عصمتها بيدها ؛ فتطلق نفسها إذا شاءت . قول الشريعة هي الكتاب والسنة
والإجماع ، فإن رأيتم هذا القول فيها فهاتوا دليله مأجورين ، والمنار معروف أنه
يدلل على ما يذهب إليه ، والذي أعرفه أنه رأي لأبي حنيفة ، وأنا لا أعتقد أنكم
تقلدونه ، وأبو حنيفة الذي رأى هذا الرأي هو الذي رأى لو أن رجلاً في المشرق
تزوج بامرأة في المغرب ؛ فولدت أن الولد يلحق به ، وإن لم يثبت عنده اجتماعهما .
فهل تقولون : إن الشرع ألحق الولد به . وأنتم وفقنا الله وإياكم ذكرتم هذا القول في
الوحي المحمدي ، فلا يفهم إلا أنكم وجدتم ذلك في القرآن أو الحديث ، فإن لم يكن
إلا في رأي أبي حنيفة ، فهو شرط ليس في كتاب الله ، ومن اشترط شرطًا ليس في
كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، وهو قول ليس عليه أمر الشارع ، ومن
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ، مع أنه رأي يجعل للمرأة الناقصة عقلاً ودينًا
ولاية على أمر الرجل ( ولن يُفْلِح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ) فيكف تُوَلَّى تفكيك روابط
الأسر وتفريق الجماعات ، وهي التي تغضب للكلمة ، وتطيش للصدة ، وتتميز
للإعراضة .
( 4 ) قلتم في صفحة 187 : فكلام الله عندنا شأن من شؤونه ، وصفة من
صفات كماله كعلمه ، إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات له بدون سبق خفاء
ووظيفة الكلام كشفه ما شاء من المعلومات لمن شاء بما شاء . هذا التعريف لا
يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار كمالك ، والسفيانين ، وأحمد ، وإسحاق ،
ويحيى بن معين ، والبخاري ولا كالزهري ، وأيوب ، وابن سيرين ولا عن
أحد من الصحابة ، فإن كان معروفًا لديكم فأزيلوا عنا اللبس ، وما رأيكم لو كشف
الله لعبد بإزالة الحجب ، فهل يقال : إنه كلمه ؛ فإن تعريفكم صادق على هذا ؟ وهلا
يجوز عندكم أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قرب ؟ وهل
تعريفكم هذا لكلام الله الذي هو القرآن فحسب ، أو لما هو أعم ؟ وهل أنتم تعتقدون
أن القرآن كلام الله أم هو عبارة عنه ؟
( 5 ) وقلتم في صفحة 8 : وحررت هذه المقدمة في ليلة المولد ؟ فهل عندكم
خبر صحيح يعين ليلة المولد ، مع أن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تُعْرَف ،
وفيها أقوال متعارضة متضاربة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض ، ولا أظن
أنكم تتابعون الناس على ما درجوا عليه من الباطل ، على أني اختصرت خوف
الإطالة والملل ، وتركت مواضع بغير تعليق لباعث العجل ، والله يوفقنا جميعًا إلى
سبيل الرشاد .
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن علي بن يابس
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(34/140
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تفنيد اعتراض كاتب جزويتي
على كتاب الوحي المحمدي
( نشره في مجلة المشرق الكاثوليكية في بيروت
فألخص مسائله فيما يأتي وأرد عليها )
( 1 ) تعريفه الموهم بالمؤلف صاحب المنار :
افتتح الكاتب كلامه بأنه ( لا حاجة إلى تعريف القراء بالسيد محمد رضا [1]
منشئ مجلة المنار الإسلامية ومحررها المجاهد ) ولكنه عرفه أو وصفه بقوله
( والشيخ محمد عَلَم من أعلام الأدب الديني الإسلامي المحافظ في مصر ، وصديق
ابن سعود الوهابي ، وأحد دعاة المسلمين إلى التمسك بالقديم ، ونبذ ما يستحدثه
المحدثون ، مخالفًا لتقاليد السلف ) .
فهذا التعريف بمن هو غني بشهرته عنه باعترافه يفهم منه قراء المشرق
خلاف الحقيقة يفهمون من كلمة ( المحافظ ) ، وكلمة ( نبذ ما يستحدثه المحدثون )
... إلخ ما يشمل الأمور الدينية والعلمية والفنية والصناعات ، وإنما أنا محافظ على
القرآن والسنة النبوية وإجماع السلف وسيرتهم الصالحة في هداية الدين فقط ، وداعٍ
للمسلمين إلى الأخذ بكل نافع من مستحدثات العلم والفنون والنظم المدنية والعسكرية
التي لا تخالف تلك الأصول ، ولا الهداية الدينية التي أكمل الله بها الدين ، وأتم
نعمته على العالمين ، وإن خالفت بعض تقاليد المتقدمين ، التي مناطها اجتهاد
المجتهدين ، ولينظر ماذا يعني بصداقة ابن سعود الوهابي في التعريف بعالم مؤلف ؟
( 2 ) وصفه للكتاب كما رآه :
قال : ( إنه ليس كتاب الوحي المحمدي ما يزيدهم معرفة بالمشاكل الجوهرية
التي يدور الجدال حولها بين المسيحيين والمسلمين ) وإنه ( ليس مستنفد المواد
متناسب الأجزاء ، متسلسل القضايا ، فيغور فيه فكر المفكرين ، بل هو مجموعة
عجالات ظهرت أولاً في المنار ، ثم برزت بكتاب مستقل ، على أن سهولة مطالعتها
لما فيها من العناوين والفهارس ، ووقع المواضيع التي عالجها ردًّا على مسائل
تجددت ، ومسها الدين المسيحي تحول دون الإغضاء عنها ، من غير إعادة النظر
فيها ) . اهـ .
( أقول ) إن كتاب الوحي المحمدي لم يوضع للجدال بين المسلمين
والنصارى ؛ فتجعل مواده مناسبة لما بينهما من الخلاف ، متسلسل القضايا فيها ،
وإنما ذكر فيه بعض هذه المسائل بالقصد الثانوي ، والمناسبات الاستطرادية ، ولو
وُضع للرد على النصارى كالكتب التي ذكر بعضها لرآه في نسقه وترتيبه وتسلسله
ونظامه بحيث يغور فيه فكره ، فيقع في غور أو تيهور لا يجد له منه مخرجًا إلى
بقاع يرى فيه النور إلا أن يهتدي به إلى الإسلام ، وإنما وُضع الكتاب لإثبات
الوحي المحمدي بالقرآن فشهد له نقاد الكتاب بأنه خير ما كتب فيه حجة ونظامًا ،
بل اضطر هو على نظره إليه بعين السخط من وراء زجاجة يسوعية سوداء أن
يصفه أخيرًا بما وصفه من السهولة وحسن التقسيم ، والرد على المسائل التي
تجددت في هذا العصر ، وهو الذي حمله على الرد عليه .
* * *
( 3 ) فساد الأخلاق والآداب الروحية على نسبة ارتقاء العلوم والأفكار
المادية :
خالفنا الكاتب الكاثوليكي الجزويتي في هذه الحقيقة التي بيناها في مقدمة كتاب
الوحي ، فذهب إلى أن كفة ميزان الفضائل والآداب والخير في هذا العصر أرجح
مما كانت عليه في جميع العصور السابقة في الشرق والغرب ، بفضل التمدن
الأوربي ! ! !
يا سبحان الله ! أكاتب ينتمي إلى الديانة المسيحية يقول هذا ؟ نعم وإنه قد كتبه
ونشره في مجلة المشرق اليسوعية ، وما كان هذا ليخطر في قلب بشر .
إن هذه الحقيقة التي بينتها بالإجمال ليست رأيًا افتحرته افتحارًا من تلقاء
نفسي ، وإنما سبقني إليه حكماء أوربة وكُتَّاب الغرب والشرق فنقلته مقتنعًا به .
وقول المنتقد : إنني أحكم به حكمًا عامًّا على جميع الشعوب . هو صحيح في
الجملة لا التفصيل ، فأنا أحكم به على شعوب الإفرنج أولاً وبالذات ، وعلى
المفتونين بمدنيتهم المادية الإباحية من سائر شعوب العالم ، وإني لأنعي على
الإفرنج انسلاخهم من بقايا ما حفظه نظام التربية فيهم من الفضائل المسيحية ، لا
جهلهم بالفضائل الإسلامية فقط .
وإن أول حكم سجلته على أوربة في هذا الموضوع ، هو ما رواه لنا شيخنا
الأستاذ الإمام عن شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر الإنكليزي من حكمه على قومه ،
وعلى أوربة كلها ، ومثله من ينظر إلى لُبَاب الحقائق الواقعة ، ويتخذ منها القياس
المنطقي على نتائجها المستقبلة .
وإنني أنقل من الصفحة 868 من تاريخ الأستاذ الإمام نص ما رواه لنا من
حديثه مع الفيلسوف في مصطافه في ( برايتون ) من جنوب إنكلترة في 10
أغسطس سنة 1903 ، أي : منذ ثلث قرن مشيرًا إلى الفيلسوف بحرف ( ف ) وإلى
الأستاذ الإمام بحرف ( م ) وهو :
( ف ) هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة ؟ ( م ) نعم زرتها منذ عشرين سنة .
( ف ) كيف وجدت الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة ؟
( م ) إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص ، وهو
البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني ،
وأقمت أيامًا قليلة لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله ، وقد ألممت بها الآن منذ أيام ،
فلم أدرس حالة الناس ، إنما يجب أن آخذ عنكم ذلك .
( ف ) إن الإنكليز يرجعون القهقرى ، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ
عشرين سنة .
( م ) فيم هذه القهقرى ؟ وما سببها ؟
( ف ) يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة ، وسببه تقدم الأفكار المادية
التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا ، ثم سرت إلينا عدواها ، فهي تفسد أخلاق
قومنا ، وهكذا سائر شعوب أوربة .
( م ) الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء ، واجتهادهم أن ينصروا الحق
والفضيلة على الأفكار المادية .
( ف ) إنه لا أمل لي في ذلك ؛ لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مده غاية
حده في أوربة ، إن الحق عند أهل أوربة الآن للقوة .
( م ) هكذا يعتقد الشرقيون ، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على
تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها .
( ف ) مُحِيَ الحق من عقول أهل أوربة بالمرة ، وسترى الأمم يختبط
بعضها ببعض ( ولعله ذكر الحرب ) ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم ، أو فيكون
سلطان العالم . اهـ .
وقد كتب الأستاذ في مذكرته تعليقًا على هذا الحديث ، ونشرناه في ص 751
من مجلد المنار 18 ، ثم في ص 869 من تاريخه وهو :
( ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف ( الحق للقوة ) ... إلخ ؟ جاءت منه
مصحوبة بشعاع الدليل ، فأثارت حرارة ، وهاجت فكرًا ، ولو جاءت من ثرثار
غيره كانت تأتي مقتولة ببرد التقليد ، فكانت ( تكون ) جيفة تعافها النفس فلا تحرك
إلا اشمئزازًا وغثيانًا
هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان
وتوفير راحته ، وتعزيز نعمته أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها
على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها ، هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من
الحديد ( المظلم ) اللامعُ المضيءُ ، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي
الفطرة الإنسانية ، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني ؟ حار
الفيلسوف في حال أوربة وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء ؟ الرجوع إلى
الدين ... إلخ ، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل
زمان لكنهم يعودون فيجهلونها ) . اهـ .
ولقد رأى أهل البصيرة بعد الحرب الأوربية الكبرى ما رآه شيخ الفلاسفة
قبلها ، كما سمعنا بآذاننا فيها ، ثم ما صرنا نقرؤه عنها ، إلى أن بلغ في هاتين
السنتين درجة الخطر عليها من استعداد جميع دولها للحرب الآتية الحالقة الساحقة
الماحقة ، ومن انغماس شعوبها في حمأة الإباحة ، وانحلال عرى الزوجية المقدسة
فيها ، ولا أقول وعبادة المال ، فإن الجزويت أشد إسرافًا وغلوًّا في عبادة المال من
اليهود وغيرهم من الرأسماليين ، وعندي قانونهم السرى في ذلك ، فهو مما يخالفون
فيه وصايا الإنجيل بقاعدتهم ( الغاية تبرر الواسطة ) ، وأما إباحة أعراض النساء
بالسفاح واتخاذ الأخدان وما سمي الرقيق الأبيض ، وإباحة هذه الضراوة بالحرب
بهذه الدركة من الغلو المنذر للشعوب بالهلاك الذريع الذي تنقله البرقيات عن أوربة
كل يوم ، فما كنت أظن أنه ما يدخل في عموم تلك القاعدة عندهم .
أين الدين في أوربة ، وهذه أكبر دولة فيها ( الروسية ) تبذل كل قواها في
محوه من بلادها الواسعة ، بل من جميع الأرض ، ودعايتها قد تغلغلت في سائر
شعوبها الغربية ، ولولا النظام العسكري الخاضع لحكوماتها المالية خضوع العبيد ،
بل المستعمل بأيديها كاستعمال آلات الحديد ، لقضي عليها كلها ، وها هي ذي
فرنسة تتفق معها لأجل التعاون على الحرب القاضية التي تستعد لها ؟
أين الدين في أوربة ، وهذه الدولة الجرمانية التي تلي الروسية في كبرها
وعظمتها ، وتفوقها في علومها وفنونها ، تبتدع في مسيحيتها على علاتها فيها ما
تراه الكنيسة الكاثوليكية وثنية محضة ، وهي لا تزال في أول حجلها في مرقصها
هذا ؟
بل أين النصرانية في أوربة ، وقد صرح بعض أساقفة إنكلترة بأن المسيح
ليس أبًا ولا إلهًا ، واستفتى الشعب في اعتقاده بعصمة الكتب المقدسة ، فأفتى
الألوف بعدم عصمتها ، كما نشرنا ذلك في المنار .
ظن الكاتب أنني أشكو من ضعف الدين الإسلامي فأجعل الشكوى عامة ! كلا ،
إن الدين الإسلامي يجدد هدايته وعلمه ونوره في كل قطر من أقطار الأرض ،
وإنما يعارضه فساد أوربة الإباحي المادي ، وظلمها الاستعماري ، ولكنهما سيزيدانه
حياة وقوة ، ونورًا وظهورًا ، كما يزيدان الإباحيين الظالمين خزيًا وضعفًا .
حتى إذا ما بلغ فسادها غايته في شعوبها علمت هذه الشعوب أنه لا منقذ لها
غير الاهتداء به ؛ لأنه هو الدين الوحيد الوسط بين أطراف الغلو من إفراط وتفريط
في العقل والوجدان ومصالح الروح والجسد ، وأنه الحلال لمشاكل الاجتماع المالية
والحربية والنسائية الموصل لسعادة الدنيا والآخرة ، كما بيناه في ( كتاب الوحي
المحمدي )
( للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الكاتب يسميني تارة السيد محمد رضا ، وتارة الشيخ محمد ، أو الشيخ رضا ، وتارة السيد رشيد رضا إلخ ، والأمر سهل .
(34/147__________
تفنيد اعتراض كاتب جزويتي
على كتاب الوحي المحمدي
( نشره في مجلة المشرق الكاثوليكية في بيروت
فألخص مسائله فيما يأتي وأرد عليها )
( 1 ) تعريفه الموهم بالمؤلف صاحب المنار :
افتتح الكاتب كلامه بأنه ( لا حاجة إلى تعريف القراء بالسيد محمد رضا [1]
منشئ مجلة المنار الإسلامية ومحررها المجاهد ) ولكنه عرفه أو وصفه بقوله
( والشيخ محمد عَلَم من أعلام الأدب الديني الإسلامي المحافظ في مصر ، وصديق
ابن سعود الوهابي ، وأحد دعاة المسلمين إلى التمسك بالقديم ، ونبذ ما يستحدثه
المحدثون ، مخالفًا لتقاليد السلف ) .
فهذا التعريف بمن هو غني بشهرته عنه باعترافه يفهم منه قراء المشرق
خلاف الحقيقة يفهمون من كلمة ( المحافظ ) ، وكلمة ( نبذ ما يستحدثه المحدثون )
... إلخ ما يشمل الأمور الدينية والعلمية والفنية والصناعات ، وإنما أنا محافظ على
القرآن والسنة النبوية وإجماع السلف وسيرتهم الصالحة في هداية الدين فقط ، وداعٍ
للمسلمين إلى الأخذ بكل نافع من مستحدثات العلم والفنون والنظم المدنية والعسكرية
التي لا تخالف تلك الأصول ، ولا الهداية الدينية التي أكمل الله بها الدين ، وأتم
نعمته على العالمين ، وإن خالفت بعض تقاليد المتقدمين ، التي مناطها اجتهاد
المجتهدين ، ولينظر ماذا يعني بصداقة ابن سعود الوهابي في التعريف بعالم مؤلف ؟
( 2 ) وصفه للكتاب كما رآه :
قال : ( إنه ليس كتاب الوحي المحمدي ما يزيدهم معرفة بالمشاكل الجوهرية
التي يدور الجدال حولها بين المسيحيين والمسلمين ) وإنه ( ليس مستنفد المواد
متناسب الأجزاء ، متسلسل القضايا ، فيغور فيه فكر المفكرين ، بل هو مجموعة
عجالات ظهرت أولاً في المنار ، ثم برزت بكتاب مستقل ، على أن سهولة مطالعتها
لما فيها من العناوين والفهارس ، ووقع المواضيع التي عالجها ردًّا على مسائل
تجددت ، ومسها الدين المسيحي تحول دون الإغضاء عنها ، من غير إعادة النظر
فيها ) . اهـ .
( أقول ) إن كتاب الوحي المحمدي لم يوضع للجدال بين المسلمين
والنصارى ؛ فتجعل مواده مناسبة لما بينهما من الخلاف ، متسلسل القضايا فيها ،
وإنما ذكر فيه بعض هذه المسائل بالقصد الثانوي ، والمناسبات الاستطرادية ، ولو
وُضع للرد على النصارى كالكتب التي ذكر بعضها لرآه في نسقه وترتيبه وتسلسله
ونظامه بحيث يغور فيه فكره ، فيقع في غور أو تيهور لا يجد له منه مخرجًا إلى
بقاع يرى فيه النور إلا أن يهتدي به إلى الإسلام ، وإنما وُضع الكتاب لإثبات
الوحي المحمدي بالقرآن فشهد له نقاد الكتاب بأنه خير ما كتب فيه حجة ونظامًا ،
بل اضطر هو على نظره إليه بعين السخط من وراء زجاجة يسوعية سوداء أن
يصفه أخيرًا بما وصفه من السهولة وحسن التقسيم ، والرد على المسائل التي
تجددت في هذا العصر ، وهو الذي حمله على الرد عليه .
* * *
( 3 ) فساد الأخلاق والآداب الروحية على نسبة ارتقاء العلوم والأفكار
المادية :
خالفنا الكاتب الكاثوليكي الجزويتي في هذه الحقيقة التي بيناها في مقدمة كتاب
الوحي ، فذهب إلى أن كفة ميزان الفضائل والآداب والخير في هذا العصر أرجح
مما كانت عليه في جميع العصور السابقة في الشرق والغرب ، بفضل التمدن
الأوربي ! ! !
يا سبحان الله ! أكاتب ينتمي إلى الديانة المسيحية يقول هذا ؟ نعم وإنه قد كتبه
ونشره في مجلة المشرق اليسوعية ، وما كان هذا ليخطر في قلب بشر .
إن هذه الحقيقة التي بينتها بالإجمال ليست رأيًا افتحرته افتحارًا من تلقاء
نفسي ، وإنما سبقني إليه حكماء أوربة وكُتَّاب الغرب والشرق فنقلته مقتنعًا به .
وقول المنتقد : إنني أحكم به حكمًا عامًّا على جميع الشعوب . هو صحيح في
الجملة لا التفصيل ، فأنا أحكم به على شعوب الإفرنج أولاً وبالذات ، وعلى
المفتونين بمدنيتهم المادية الإباحية من سائر شعوب العالم ، وإني لأنعي على
الإفرنج انسلاخهم من بقايا ما حفظه نظام التربية فيهم من الفضائل المسيحية ، لا
جهلهم بالفضائل الإسلامية فقط .
وإن أول حكم سجلته على أوربة في هذا الموضوع ، هو ما رواه لنا شيخنا
الأستاذ الإمام عن شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر الإنكليزي من حكمه على قومه ،
وعلى أوربة كلها ، ومثله من ينظر إلى لُبَاب الحقائق الواقعة ، ويتخذ منها القياس
المنطقي على نتائجها المستقبلة .
وإنني أنقل من الصفحة 868 من تاريخ الأستاذ الإمام نص ما رواه لنا من
حديثه مع الفيلسوف في مصطافه في ( برايتون ) من جنوب إنكلترة في 10
أغسطس سنة 1903 ، أي : منذ ثلث قرن مشيرًا إلى الفيلسوف بحرف ( ف ) وإلى
الأستاذ الإمام بحرف ( م ) وهو :
( ف ) هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة ؟ ( م ) نعم زرتها منذ عشرين سنة .
( ف ) كيف وجدت الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة ؟
( م ) إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص ، وهو
البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني ،
وأقمت أيامًا قليلة لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله ، وقد ألممت بها الآن منذ أيام ،
فلم أدرس حالة الناس ، إنما يجب أن آخذ عنكم ذلك .
( ف ) إن الإنكليز يرجعون القهقرى ، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ
عشرين سنة .
( م ) فيم هذه القهقرى ؟ وما سببها ؟
( ف ) يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة ، وسببه تقدم الأفكار المادية
التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا ، ثم سرت إلينا عدواها ، فهي تفسد أخلاق
قومنا ، وهكذا سائر شعوب أوربة .
( م ) الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء ، واجتهادهم أن ينصروا الحق
والفضيلة على الأفكار المادية .
( ف ) إنه لا أمل لي في ذلك ؛ لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مده غاية
حده في أوربة ، إن الحق عند أهل أوربة الآن للقوة .
( م ) هكذا يعتقد الشرقيون ، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على
تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها .
( ف ) مُحِيَ الحق من عقول أهل أوربة بالمرة ، وسترى الأمم يختبط
بعضها ببعض ( ولعله ذكر الحرب ) ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم ، أو فيكون
سلطان العالم . اهـ .
وقد كتب الأستاذ في مذكرته تعليقًا على هذا الحديث ، ونشرناه في ص 751
من مجلد المنار 18 ، ثم في ص 869 من تاريخه وهو :
( ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف ( الحق للقوة ) ... إلخ ؟ جاءت منه
مصحوبة بشعاع الدليل ، فأثارت حرارة ، وهاجت فكرًا ، ولو جاءت من ثرثار
غيره كانت تأتي مقتولة ببرد التقليد ، فكانت ( تكون ) جيفة تعافها النفس فلا تحرك
إلا اشمئزازًا وغثيانًا
هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان
وتوفير راحته ، وتعزيز نعمته أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها
على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها ، هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من
الحديد ( المظلم ) اللامعُ المضيءُ ، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي
الفطرة الإنسانية ، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني ؟ حار
الفيلسوف في حال أوربة وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء ؟ الرجوع إلى
الدين ... إلخ ، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل
زمان لكنهم يعودون فيجهلونها ) . اهـ .
ولقد رأى أهل البصيرة بعد الحرب الأوربية الكبرى ما رآه شيخ الفلاسفة
قبلها ، كما سمعنا بآذاننا فيها ، ثم ما صرنا نقرؤه عنها ، إلى أن بلغ في هاتين
السنتين درجة الخطر عليها من استعداد جميع دولها للحرب الآتية الحالقة الساحقة
الماحقة ، ومن انغماس شعوبها في حمأة الإباحة ، وانحلال عرى الزوجية المقدسة
فيها ، ولا أقول وعبادة المال ، فإن الجزويت أشد إسرافًا وغلوًّا في عبادة المال من
اليهود وغيرهم من الرأسماليين ، وعندي قانونهم السرى في ذلك ، فهو مما يخالفون
فيه وصايا الإنجيل بقاعدتهم ( الغاية تبرر الواسطة ) ، وأما إباحة أعراض النساء
بالسفاح واتخاذ الأخدان وما سمي الرقيق الأبيض ، وإباحة هذه الضراوة بالحرب
بهذه الدركة من الغلو المنذر للشعوب بالهلاك الذريع الذي تنقله البرقيات عن أوربة
كل يوم ، فما كنت أظن أنه ما يدخل في عموم تلك القاعدة عندهم .
أين الدين في أوربة ، وهذه أكبر دولة فيها ( الروسية ) تبذل كل قواها في
محوه من بلادها الواسعة ، بل من جميع الأرض ، ودعايتها قد تغلغلت في سائر
شعوبها الغربية ، ولولا النظام العسكري الخاضع لحكوماتها المالية خضوع العبيد ،
بل المستعمل بأيديها كاستعمال آلات الحديد ، لقضي عليها كلها ، وها هي ذي
فرنسة تتفق معها لأجل التعاون على الحرب القاضية التي تستعد لها ؟
أين الدين في أوربة ، وهذه الدولة الجرمانية التي تلي الروسية في كبرها
وعظمتها ، وتفوقها في علومها وفنونها ، تبتدع في مسيحيتها على علاتها فيها ما
تراه الكنيسة الكاثوليكية وثنية محضة ، وهي لا تزال في أول حجلها في مرقصها
هذا ؟
بل أين النصرانية في أوربة ، وقد صرح بعض أساقفة إنكلترة بأن المسيح
ليس أبًا ولا إلهًا ، واستفتى الشعب في اعتقاده بعصمة الكتب المقدسة ، فأفتى
الألوف بعدم عصمتها ، كما نشرنا ذلك في المنار .
ظن الكاتب أنني أشكو من ضعف الدين الإسلامي فأجعل الشكوى عامة ! كلا ،
إن الدين الإسلامي يجدد هدايته وعلمه ونوره في كل قطر من أقطار الأرض ،
وإنما يعارضه فساد أوربة الإباحي المادي ، وظلمها الاستعماري ، ولكنهما سيزيدانه
حياة وقوة ، ونورًا وظهورًا ، كما يزيدان الإباحيين الظالمين خزيًا وضعفًا .
حتى إذا ما بلغ فسادها غايته في شعوبها علمت هذه الشعوب أنه لا منقذ لها
غير الاهتداء به ؛ لأنه هو الدين الوحيد الوسط بين أطراف الغلو من إفراط وتفريط
في العقل والوجدان ومصالح الروح والجسد ، وأنه الحلال لمشاكل الاجتماع المالية
والحربية والنسائية الموصل لسعادة الدنيا والآخرة ، كما بيناه في ( كتاب الوحي
المحمدي )
( للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الكاتب يسميني تارة السيد محمد رضا ، وتارة الشيخ محمد ، أو الشيخ رضا ، وتارة السيد رشيد رضا إلخ ، والأمر سهل .