طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,331
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
فائدة هذا النقل للكتاب أنه ملف ورد جمعته أثناء بحثي في المجلة (ملفات ورد) ومرفق مع تقاريظ العلماء والمفكرين ، وتعليق المنار عليها، وهو مالاتجده في الكتاب المطبوع.
وقد جمعت ذلك لنفسي حتى أطلع على كل ماتعلق بالكتاب ,واسباب صدوره في وقته وغير ذلك مما لانعدم فوائده
قد يكون الكتاب نفسه ناقص الصفحات الا اني نقلت لكم مااستطعت الوصول اليه
وقد وضعت الملف( في المداخلة رقم5)
مقدمة كتاب الوحي المحمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
العَزِيزُ الحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * فَإِنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } ( آل
عمران : 18-20 )
ارتقاء البشر المادي وهبوطهم الأدبي
وحاجتهم إلى الدين
إن من المعلوم اليقيني الثابت بالحواس أن علوم الكون المادية تَثِبُ في هذا
العصر وُثُوبًا يشبه الطفور ، وتؤتي من الثمار اليانعة بتسخير الطبيعة للإنسان ما
صارت به الدنيا كلها كأنها مدينة واحدة ، وكأن أقطارها بيوت لهذه المدينة ، وكأن
شعوبها أسر ( عائلات ) لأمة واحدة في هذه البيوت ( الأقطار ) يمكنهم أن يعيشوا
فيها إخوانًا متعاونين ، سعداء متحابين ، لو اهتدوا بالدين .
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن البشر يرجعون القهقرى في الآداب
والفضائل على نسبة عكسية مُطَّرِدَة لارتقائهم في العلوم المادية واستمتاعهم بثمراتها ،
فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل ، وجرأة على اقتراف الجرائم ، وافتنانًا في
الشهوات البهيمية ، ونقض ميثاق الزوجية ، وقطيعة وشائج الأرحام ، ونبذ هداية
الأديان ، حتى كادوا يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوات من دين
وأدب وعرف وعقل ، بل رجع بعضهم إلى عيشة العري في أرقى ممالك أوربة
علمًا وحضارة ، كما يعيش بعض بقايا الهَمَج السُّذَّج في غابات أفريقية وبعض
جزائر البحار النائية عن العمران .
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد
جناية عليهم وعلى الإنسانية - من جنايتهم على أنفسهم - بإغرائها أضغان التنافس
بينهم ، وباستعمالها جميع ثمرات العلوم ومنافع الفنون في الاستعداد للحرب العامة
التي تدمر صروح العمران التي شيدتها العصور الكثيرة ، في أَشْهُرٍ أو أيام معدودة ،
وتفني الملايين فيها من غير المحاربين كالنساء والأطفال ، وبصرفها معظم
ثروات شعوبها في هذه السبيل وفي سبيل ظلمها للشعوب الضعيفة التي ابتليت
بسلطانها ، وسلبها لثروتهم وحريتهم في دينهم ودنياهم ، فالعالم البشري كله في شقاء
من سياسة هذه الدولة الباغية الخبيثة الطوية ، وكل ما عقد من المؤتمرات لدرء
أخطارها لم يزد نارها إلا استعارًا ، ولو حسنت نياتها وأنفقت هذه الملايين التي
تسلبها من مكاسب شعوبها وغيرهم في سبيل الإصلاح الإنساني العام لبلغ البشر بها
أعلى درجات الثراء والرخاء .
كل ما ذكر معلوم باليقين ، فهو حق واقع ما له من دافع ، ومن المعلوم من
استقراء تاريخ هذه الحضارة المادية أن هذه الشرور كانت لازمة لها ، ونمت بنمائها ،
فكان هذا برهانًا على أن العلوم والفنون البشرية المحض غير كافية لجعل البشر
سعداء في حياتهم الدنيا ، فضلا عن سعادتهم في الحياة الآخرة ، وإنما تتم السعادتان
لهم بهداية الدين ، فالإنسان مدني بالطبع ، أو بالفطرة كما يقول الإسلام .
من أجل ذلك فكر بعض عقلاء أوربة وغيرهم في اللجوء إلى هداية الدين ،
وأنه هو العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها ، وتمنوا لو يبعث
في الغرب أو في الشرق نبي جديد بدين جديد يصلح الله بهدايته فسادها ، ويقوِّمُ بها
منئادها ؛ لأن الأديان المعروفة لهم لا تصلح لهذا العصر ، وقد فسد حال جميع أهلها ،
وكان ما يسمونه دين المحبة مِصْداقًا لآية : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ } ( المائدة : 14 ) .
الحجب بين الإفرنج وحقيقة الإسلام :
بيد أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة دين القرآن ، وهو الدين الإلهي العام ، والمانع
لهم من معرفته ثلاثة حُجُب تحول دون النظر الصحيح فيه ، وعدم فهمهم للقرآن كما
يجب أن يُفْهَم ، فأما الحجب دونه فهذا بيانها بالإيجاز :
( الحجاب الأول ) الكنيسة أو الكنائس التي عادته منذ بلغتها دعوته ،
وطفقت تصوره بصور مشوهة باطلة بدعاية عامة فيها من افتراء الكذب وأقوال
الزور والبهتان ، ما لم يعهد مثله في أهل ملة من البشر في زمن من الأزمان ،
وألَّفَت في ذلك من الكتب والرسائل والأغاني والأناشيد والقصائد ، ما يعرف بطلانه
كل مؤرخ مطلع على الحقائق ، ثم إنها جعلت تشويهه ووجوب معاداته من أركان
التربية والتعليم في جميع المدارس التي يتولى أتباعها تعليم الناس فيها ، فما من أحد
يتعلم فيها من أتباعها إلا وهو يعتقد أن جميع المسلمين أعداء للمسيح وللمسيحيين
كافة فيجب عليه عدواتهم ما استطاع ، والحق الواقع أن الإسلام هو صديق
المسيحية المتمم لهدايتها ، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الفارقليط روح الحق
الذي بشَّر به المسيح عليه السلام
( الحجاب الثاني ) رجال السياسة الأوربية ، فإنهم ورثوا عداوة الإسلام من
الكنيسة ، وتلقوا مفترياتها في الطعن عليه بالقبول ، وضاعف هذه العداوة له
والضراوة بحربه ، طمعهم في استعباد شعوبه واستعمار ممالكهم .
وإذا كان رجال الدين قد ملئوا الدنيا كذبًا وافتراء على الإسلام - ومن أسس
الدين الصدق وقول الحق والحب والرحمة والعدل والإيثار - فأي شيء يكثر فعله
على رجال السياسة ، وأساس بنائها الكذب وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان
والقسوة والأثرة والخداع ، وهو ما نراه بأعيننا ونسمع أخباره بآذاننا كل يوم في
المستعمرات الأوربية ؟ بل نحن نعلم أن سبب افتراء رجال الدين على الإسلام هو
السياسة لا الدين نفسه ، وإن قاعدتهم المشهورة ( الغاية تبرر الواسطة ) سياسية لا
إنجيلية ، فما كان لدين أن يبيح الجرائم والرذائل باتخاذها وسيلة لمنفعة أهله ، وإن
دينية .
( الحجاب الثالث ) سوء حال المسلمين في هذه القرون الأخيرة ، فقد فسدت
حكوماتهم وشعوبهم ، واستحوذ عليهم الجهل بحقيقة دينهم ومصالح دنياهم ، حتى
صاروا حجة لأعدائهم فيهما على أنه لا خير فيهم ولا في دينهم ، وأمكن لهؤلاء
الأعداء أن يقنعوا بهذه الحجة الداحضة أكثر من يتخرج في مدارسهم السياسية
والتبشيرية من ملتهم ، حتى نابتة المسلمين أنفسهم ، وهم يختارون من هذه النابتة
الأفراد التي تتولى أعمال الحكومة والتعليم في مدارسها في كل قطر خاضع لنفوذ
دولهم الفعلي ، بأي اسم من أسمائه من فتح وامتلاك وحماية واحتلال وانتداب ، أو
لنفوذهم السياسي والتعليمي كما فعلوا في بلاد الترك و إيران ، لتساعدهم على هدم
كل شيء إسلامي فيها من اعتقاد وأدب وتشريع ، وقد كان السيد جمال الدين
الأفغاني حكيم الإٍسلام موقظ الشرق يرى أن هذا الحجاب أكثف الحُجُب الحائلة بين
شعوب أوربة والإسلام ، ونقل لي الثقة عنه أنه قال : إذا أردنا أن ندعو أوربة إلى
ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين ، فإنهم ينظرون إلينا من خلال
القرآن هكذا : - ورفع كفيه وفرَّج بين أصابعهما - فيرون وراءه أقوامًا فشا فيهم
الجهل والتخاذل والتواكل فيقولون : لو كان هذا الكتاب حقًّا مصلحًا لما كان أتباعه
كما نرى .
لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر
المسلمين فأنصفوه فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة ، ومن مباحث عامة في العلم
والدين ، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة ، ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم
يكن مُبَيِّنًا لحقيقته كلها ، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم ، وكان جُلُّ تأثيره في
أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا في بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم
آخرون ، فهي لم تهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام .
وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب ، وأعني به الفهم الذي تعرف به حقيقة
إعجازه وتشريعه ، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذي لا يحتاج البشر معه إلى
كتاب آخر ولا إلى نبي آخر - فله أسباب .
الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن :
( أولهما ) جهل بلاغة اللغة العربية التي بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز في
أسلوبه ونظمه وتأثيره في أنفس المؤمنين والكافرين به جميعًا ، فأحدث بذلك ما
أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية في العرب والانقلاب العام في البشر ، كما
شرحناه في هذا الكتاب ، وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها علماء
المسلمين موضوع تحدي البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه ، وجعلوا
عجز العرب الخُلَّص عن معارضته بها ، ثم عجز المولَّدين الذين جمعوا بين ملكة
العربية العلمية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان ، هو الحجة الكبرى على نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادًا
متفرقين منهم - فما القول في غيرهم ؟ فعلماء المسلمين في هذه القرون يحتجون بعجز
أولئك ولا يدعون أنهم يدركون سر هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه ، بل قال بعض
علماء النظر المتقدمين منهم : إن الإعجاز واقع غير معقول السبب ، فما هو إلا أن
الله تعالى صرف الناس عن معارضته بقدرته والصواب أن منهم من حاول المعارضة
فعجزوا ؛ إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التي تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا ،
ومن متأخري هؤلاء من ادعى النبوة كمسيح الهند القادياني الدجال ، ومن ادعى
الألوهية ( كالبهاء ) وقد أخفى أتباع هذا كتابه الملقب بالأقدس ؛ لئلا يفتضحوا به بين
الناس .
( ثانيها ) أن ترجمات القرآن التي يعتمد عليها علماء الإفرنج في فهم القرآن
كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر ،
وإنما تؤدي بعض ما يفهمه المترجم له منهم ، وقلما يكون فهمه تامًّا صحيحًا ،
ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا ، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما : قصور
فهمه وقصور لغته ، وقد اعترف لي ولغيري بهذا مستر ( محمد ) مارما ديوك بكتل
الذي ترجمه بالإنكليزية وجاء مصر منذ 3 سنوات فعرض على بعض علماء
العربية المتقنين للغة الإنكليزية ما رأى أنه عجز عن أداء معناه منه ، وصحح
بمساعدتهم ما ذاكرهم فيه .
واعترف بذلك الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي الذي كلفته وزارتا
الخارجية والمعارف الفرنسية لدولته بترجمة 62 سورة من السور الطول والمئين
والمفصل التي لا تكرار فيها ففعل . وقد قال في مقدمة ترجمته التي صدرت سنة
1926 ما معناه :
( أما أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق جل وعلا ، فإن الأسلوب الذي
ينطوي على كُنْه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيًّا . والحق
الواقع أن أكثر الكُتاب ارتيابًا وشكًّا قد خضعوا لسلطان تأثيره ( في الأصل : لتأثير
سحره ، يعني تأثيره الذي يشبه السحر في كونه لا يعرف له سبب عادي ) وإن
سلطانه على الثلاثمائة الملايين من المسلمين المنتشرين على سطح المعمور لبالغ
الحد الذي جعل أجانب المبشرين يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة
محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن .
( ذلك أن هذا الأسلوب الذي طرق في أول عهده آذان البدو [1] كان نثرًا جد
طريف ، يفيض جزالة في اتساق نسق ، متجانسًا مسجعًا ، لفعله أثر عميق في نفس
كل سامع يفقه العربية ( لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان
أداء تأثير هذا النثر البديع ( الذي لم يسمع بمثله ) بلغة أخرى ، وخاصة اللغة
الفرنسية الضيقة ( التي لا سعة فيها للتعبير عن الشعور ) المرنة ( التي لا تتنازل
عن حقوقها ) والقاسية ، وزد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات
العصرية ليست لغة دينية وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية ) ا هـ .
ثم تكلم عن عنايته هو مدة تسع سنوات متواليات بمحاولة نقل شيء من
القرآن إلى اللغة الفرنسية على شرط المحافظة على بلاغة الأصل ( وتساءل هل
أمكنه التغلب على هذه الصعوبة أم لا ؟ يعني أنه يشك في ذلك ) .
( ثالثها ) أن أسلوب القرآن الغريب المخالف لجميع أساليب الكلام العربي ،
وطريقته في مزج العقائد والمواعظ والحكم والأحكام والآداب بعضها ببعض في
الآيات المتفرقة في السور - وهو ما بينا سببه وحكمته في هذا الكتاب - قد كان
حائلاً دون جمع كبار علماء المسلمين من المفسرين وغيرهم لكل نوع من أنواع
علومه ومقاصده في باب خاص به ، كما فعلوا في آيات الأحكام العملية من العبادات
والمعاملات ، دون القواعد والأصول الاجتماعية والسياسية والمالية التي يرى
القارئ نموذجها في هذا الكتاب ؛ إذ لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها كما نشعر في
هذا العصر .
وقد عني بعض الإفرنج بوضع كتاب باللغة الفرنسية جمع فيه آيات القرآن
بحسب معانيها ، ووَضْع كل منها في باب أو أبواب خاصة بقدر فهمه ، ولكنه أخطأ
في كثير من هذه المعاني وقصَّر في بعض ، على أن أخذ القواعد والأصول العامة
من هذه الآيات يتوقف على العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في بيان
القرآن وتنفيذه لشرعه ، وآثار خلفائه وعلماء أصحابه من بعده ، كما يعلم من يراجع
في ذلك الكتاب الآيات الدالة على ما بيناه في كتابنا هذا من مقاصد القرآن
بالاختصار ، وما فصلناه منها في تفسير المنار .
( رابعها ) أن الإسلام ليس له دولة تقيم القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه
وسلم بالحكم وتتولى نشره بالعلم ، ولا جمعيات دينية تتولى بحمايتها الدعوة إليه
بالحجة ، وليس لأهله مجمع ديني علمي يُرْجَعُ إليه في بيان معاني القرآن وهدايته
في سياسة البشر ومصالحهم العامة التي تتجدد لهم بتجدد الحوادث ومخترعات
العلوم والفنون ، وفيما يتعارض من العلوم ونصوص الدين فيرجع إليها علماء
الإفرنج في استبانة ما خفي عليهم من نصوصها .
وأعجب من هذا وأغرب أن المسلمين أنفسهم قد تركوا من بعد خير القرون
الأولى أخذ دينهم من القرآن المنزل ومن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم له كما
أمره الله تعالى فيه بقوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ } ( النحل : 44 ) وما زالوا يهجرون الاهتداء بهما حتى استغنوا عنها
استغناء تامًّا بأخذ عقائدهم عن كتب المتكلمين ، وأخذ أحكام عباداتهم ومعاملاتهم عن
كتب علماء المذاهب غير المجتهدين ، وهذه الكتب لا تقوم بها حجة الله تعالى على
البشر ، ولا سيما أهل هذا العصر الذي ارتقت فيه جميع العلوم العقلية والتشريعية ،
حتى صار المسلمون منا ، يأخذون عنهم ما كانوا يأخذون عنا ، بل فيها من آراء
المتكلمين والفقهاء ، وروايات الكذابين والضعفاء ما قد يعد حجة على الإسلام وأهله ،
كما أن سوء حال المسلمين في فُشُوِّ الجهل في شعوبهم والفساد والانحلال في
حكوماتهم قد اتُّخِذَ حجة على دينهم ، فصاروا فتنة للذين كفروا به .
وإذا كان هذا حال المسلمين في فهم القرآن وهدايته ، فيكف يكون حال
الشعوب التي نشأت على أديان أخرى ألفتها ، ولها رؤساء يربونهم عليها ويصدونهم
عن غيرها ، ودول حربية قد عادوا الإسلام منذ بضع قرون ، بما لو وجهوه إلى
الجبال لاندكت وزالت من الوجود ، ولكنه دين الله الحي القيوم فهو باقٍ ما دام البشر
في الأرض لا يزول أو تزول .
هذه أظهر الأسباب لخفاء حقيقة الإسلام الكاملة على علماء الحضارة العصرية
من الأجانب ومن المسلمين أيضًا وتمنيهم لو يبعث نبي جديد بهداية إلهية عامة كافية
لإصلاحهم .
ولما كان الإسلام هو دين الإنسانية العام الدائم الجامع لكل ما تحتاج إليه جميع
الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية وجب على العقلاء الأحرار والعلماء المستقلين
الذين يتألمون من المفاسد المادية التي تفاقم شرها في هذا العهد أن يعنوا بهتك تلك
الحجب التي تحجبهم عن النظر فيه ، وإزالة الموانع التي تعوقهم عن فهم حقيقته .
***
بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام
بما تقوم به الحجة على جميع الأنام
أما بعد فإنني أقدم لهم هذا الكتاب الذي صنفته في إثبات ( الوحي المحمدي )
وكون القرآن كلام الله عز وجل ، وكونه مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه البشر من
الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي . وقد أطلت في بيان هذه
المقاصد الأساسية بعض الإطالة ؛ لأنها مثار جميع الفتن والمفاسد التي يشكو منها
عقلاء هذا العصر ، وأما توفية هذا الموضوع حقه فلا يكون إلا في سِفْرٍ كبير يجمع
مقاصد القرآن كلها مع بيان حاجة البشر إليها في أمور معاشهم ومعادهم ، وهو ما
أبينه في تفسير المنار بالتفصيل في شرح آياتها ، وبإجمال قواعد كل سورة
وأصولها في آخر تفسيرها .
على أنني لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض ، وإنما بدأت منه
بفصل استطرادي لتفسير آية : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) إلخ من أول سورة يونس بينت به الدلائل القطعية على أن القرآن
وحي من الله تعالى كان محمد صلى الله عليه وسلم يَعْجَزُ كغيره عن مثله بعلمه
ولغته ، وأنه أعم وأكمل وأثبت من كل وحي كان قبله ، وأن حجته قائمة على
المؤمنين بالوحي وغيرهم ، ثم بدا لي في أثناء كتابته أن أجرده في كتاب خاص
أدعو به شعوب الحضارة المادية من الإفرنج و اليابان إلى الإسلام ، بتوجيهه أولا
إلى علمائهم الأحرار ، حتى إذا ما اهتدوا به تولوا دعوة شعوبهم ودولهم إليه بلغاتهم ،
ولهذا زدت فيه على ما كتبته في التفسير ، ووضعت له الخاتمة التي صرحت فيها
بالدعوة وجعلتها هي المقصودة بالذات منه .
ولو أنني قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار بتحقيق كل مسألة في موضعها ، على أن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار متعمد فيها . ولكنني كتبته في أوقات متفرقة ،
وحالات بؤس وعسرة ، لا أراجع عند موضوع منها ما قبله ، ولا أعتمد إلا على ما
أتذكره من القرآن نفسه ، على صعوبة استحضار المعاني المتفرقة في سوره ، وإلا
بعض الأحاديث في مواضعها من كتبها لتخريجها والثقة بصحتها ، وإني أحيل
القارئ له في كل إجمال على مراجعة تفسير المنار في تفصيله ، وفي كل إشكال
على مراجعة محرره : محمد رشيد رضا
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يعني العرب الذين تغلب عليهم البداوة حتى في حواضرهم كمكة و يثرب .
وقد جمعت ذلك لنفسي حتى أطلع على كل ماتعلق بالكتاب ,واسباب صدوره في وقته وغير ذلك مما لانعدم فوائده
قد يكون الكتاب نفسه ناقص الصفحات الا اني نقلت لكم مااستطعت الوصول اليه
وقد وضعت الملف( في المداخلة رقم5)
الكاتب : محمد رشيد رضا
ربيع الأول - 1352هـ
يونيه - 1933م
ربيع الأول - 1352هـ
يونيه - 1933م
مقدمة كتاب الوحي المحمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
العَزِيزُ الحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * فَإِنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } ( آل
عمران : 18-20 )
ارتقاء البشر المادي وهبوطهم الأدبي
وحاجتهم إلى الدين
إن من المعلوم اليقيني الثابت بالحواس أن علوم الكون المادية تَثِبُ في هذا
العصر وُثُوبًا يشبه الطفور ، وتؤتي من الثمار اليانعة بتسخير الطبيعة للإنسان ما
صارت به الدنيا كلها كأنها مدينة واحدة ، وكأن أقطارها بيوت لهذه المدينة ، وكأن
شعوبها أسر ( عائلات ) لأمة واحدة في هذه البيوت ( الأقطار ) يمكنهم أن يعيشوا
فيها إخوانًا متعاونين ، سعداء متحابين ، لو اهتدوا بالدين .
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن البشر يرجعون القهقرى في الآداب
والفضائل على نسبة عكسية مُطَّرِدَة لارتقائهم في العلوم المادية واستمتاعهم بثمراتها ،
فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل ، وجرأة على اقتراف الجرائم ، وافتنانًا في
الشهوات البهيمية ، ونقض ميثاق الزوجية ، وقطيعة وشائج الأرحام ، ونبذ هداية
الأديان ، حتى كادوا يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوات من دين
وأدب وعرف وعقل ، بل رجع بعضهم إلى عيشة العري في أرقى ممالك أوربة
علمًا وحضارة ، كما يعيش بعض بقايا الهَمَج السُّذَّج في غابات أفريقية وبعض
جزائر البحار النائية عن العمران .
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد
جناية عليهم وعلى الإنسانية - من جنايتهم على أنفسهم - بإغرائها أضغان التنافس
بينهم ، وباستعمالها جميع ثمرات العلوم ومنافع الفنون في الاستعداد للحرب العامة
التي تدمر صروح العمران التي شيدتها العصور الكثيرة ، في أَشْهُرٍ أو أيام معدودة ،
وتفني الملايين فيها من غير المحاربين كالنساء والأطفال ، وبصرفها معظم
ثروات شعوبها في هذه السبيل وفي سبيل ظلمها للشعوب الضعيفة التي ابتليت
بسلطانها ، وسلبها لثروتهم وحريتهم في دينهم ودنياهم ، فالعالم البشري كله في شقاء
من سياسة هذه الدولة الباغية الخبيثة الطوية ، وكل ما عقد من المؤتمرات لدرء
أخطارها لم يزد نارها إلا استعارًا ، ولو حسنت نياتها وأنفقت هذه الملايين التي
تسلبها من مكاسب شعوبها وغيرهم في سبيل الإصلاح الإنساني العام لبلغ البشر بها
أعلى درجات الثراء والرخاء .
كل ما ذكر معلوم باليقين ، فهو حق واقع ما له من دافع ، ومن المعلوم من
استقراء تاريخ هذه الحضارة المادية أن هذه الشرور كانت لازمة لها ، ونمت بنمائها ،
فكان هذا برهانًا على أن العلوم والفنون البشرية المحض غير كافية لجعل البشر
سعداء في حياتهم الدنيا ، فضلا عن سعادتهم في الحياة الآخرة ، وإنما تتم السعادتان
لهم بهداية الدين ، فالإنسان مدني بالطبع ، أو بالفطرة كما يقول الإسلام .
من أجل ذلك فكر بعض عقلاء أوربة وغيرهم في اللجوء إلى هداية الدين ،
وأنه هو العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها ، وتمنوا لو يبعث
في الغرب أو في الشرق نبي جديد بدين جديد يصلح الله بهدايته فسادها ، ويقوِّمُ بها
منئادها ؛ لأن الأديان المعروفة لهم لا تصلح لهذا العصر ، وقد فسد حال جميع أهلها ،
وكان ما يسمونه دين المحبة مِصْداقًا لآية : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ } ( المائدة : 14 ) .
الحجب بين الإفرنج وحقيقة الإسلام :
بيد أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة دين القرآن ، وهو الدين الإلهي العام ، والمانع
لهم من معرفته ثلاثة حُجُب تحول دون النظر الصحيح فيه ، وعدم فهمهم للقرآن كما
يجب أن يُفْهَم ، فأما الحجب دونه فهذا بيانها بالإيجاز :
( الحجاب الأول ) الكنيسة أو الكنائس التي عادته منذ بلغتها دعوته ،
وطفقت تصوره بصور مشوهة باطلة بدعاية عامة فيها من افتراء الكذب وأقوال
الزور والبهتان ، ما لم يعهد مثله في أهل ملة من البشر في زمن من الأزمان ،
وألَّفَت في ذلك من الكتب والرسائل والأغاني والأناشيد والقصائد ، ما يعرف بطلانه
كل مؤرخ مطلع على الحقائق ، ثم إنها جعلت تشويهه ووجوب معاداته من أركان
التربية والتعليم في جميع المدارس التي يتولى أتباعها تعليم الناس فيها ، فما من أحد
يتعلم فيها من أتباعها إلا وهو يعتقد أن جميع المسلمين أعداء للمسيح وللمسيحيين
كافة فيجب عليه عدواتهم ما استطاع ، والحق الواقع أن الإسلام هو صديق
المسيحية المتمم لهدايتها ، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الفارقليط روح الحق
الذي بشَّر به المسيح عليه السلام
( الحجاب الثاني ) رجال السياسة الأوربية ، فإنهم ورثوا عداوة الإسلام من
الكنيسة ، وتلقوا مفترياتها في الطعن عليه بالقبول ، وضاعف هذه العداوة له
والضراوة بحربه ، طمعهم في استعباد شعوبه واستعمار ممالكهم .
وإذا كان رجال الدين قد ملئوا الدنيا كذبًا وافتراء على الإسلام - ومن أسس
الدين الصدق وقول الحق والحب والرحمة والعدل والإيثار - فأي شيء يكثر فعله
على رجال السياسة ، وأساس بنائها الكذب وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان
والقسوة والأثرة والخداع ، وهو ما نراه بأعيننا ونسمع أخباره بآذاننا كل يوم في
المستعمرات الأوربية ؟ بل نحن نعلم أن سبب افتراء رجال الدين على الإسلام هو
السياسة لا الدين نفسه ، وإن قاعدتهم المشهورة ( الغاية تبرر الواسطة ) سياسية لا
إنجيلية ، فما كان لدين أن يبيح الجرائم والرذائل باتخاذها وسيلة لمنفعة أهله ، وإن
دينية .
( الحجاب الثالث ) سوء حال المسلمين في هذه القرون الأخيرة ، فقد فسدت
حكوماتهم وشعوبهم ، واستحوذ عليهم الجهل بحقيقة دينهم ومصالح دنياهم ، حتى
صاروا حجة لأعدائهم فيهما على أنه لا خير فيهم ولا في دينهم ، وأمكن لهؤلاء
الأعداء أن يقنعوا بهذه الحجة الداحضة أكثر من يتخرج في مدارسهم السياسية
والتبشيرية من ملتهم ، حتى نابتة المسلمين أنفسهم ، وهم يختارون من هذه النابتة
الأفراد التي تتولى أعمال الحكومة والتعليم في مدارسها في كل قطر خاضع لنفوذ
دولهم الفعلي ، بأي اسم من أسمائه من فتح وامتلاك وحماية واحتلال وانتداب ، أو
لنفوذهم السياسي والتعليمي كما فعلوا في بلاد الترك و إيران ، لتساعدهم على هدم
كل شيء إسلامي فيها من اعتقاد وأدب وتشريع ، وقد كان السيد جمال الدين
الأفغاني حكيم الإٍسلام موقظ الشرق يرى أن هذا الحجاب أكثف الحُجُب الحائلة بين
شعوب أوربة والإسلام ، ونقل لي الثقة عنه أنه قال : إذا أردنا أن ندعو أوربة إلى
ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين ، فإنهم ينظرون إلينا من خلال
القرآن هكذا : - ورفع كفيه وفرَّج بين أصابعهما - فيرون وراءه أقوامًا فشا فيهم
الجهل والتخاذل والتواكل فيقولون : لو كان هذا الكتاب حقًّا مصلحًا لما كان أتباعه
كما نرى .
لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر
المسلمين فأنصفوه فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة ، ومن مباحث عامة في العلم
والدين ، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة ، ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم
يكن مُبَيِّنًا لحقيقته كلها ، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم ، وكان جُلُّ تأثيره في
أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا في بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم
آخرون ، فهي لم تهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام .
وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب ، وأعني به الفهم الذي تعرف به حقيقة
إعجازه وتشريعه ، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذي لا يحتاج البشر معه إلى
كتاب آخر ولا إلى نبي آخر - فله أسباب .
الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن :
( أولهما ) جهل بلاغة اللغة العربية التي بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز في
أسلوبه ونظمه وتأثيره في أنفس المؤمنين والكافرين به جميعًا ، فأحدث بذلك ما
أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية في العرب والانقلاب العام في البشر ، كما
شرحناه في هذا الكتاب ، وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها علماء
المسلمين موضوع تحدي البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه ، وجعلوا
عجز العرب الخُلَّص عن معارضته بها ، ثم عجز المولَّدين الذين جمعوا بين ملكة
العربية العلمية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان ، هو الحجة الكبرى على نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادًا
متفرقين منهم - فما القول في غيرهم ؟ فعلماء المسلمين في هذه القرون يحتجون بعجز
أولئك ولا يدعون أنهم يدركون سر هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه ، بل قال بعض
علماء النظر المتقدمين منهم : إن الإعجاز واقع غير معقول السبب ، فما هو إلا أن
الله تعالى صرف الناس عن معارضته بقدرته والصواب أن منهم من حاول المعارضة
فعجزوا ؛ إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التي تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا ،
ومن متأخري هؤلاء من ادعى النبوة كمسيح الهند القادياني الدجال ، ومن ادعى
الألوهية ( كالبهاء ) وقد أخفى أتباع هذا كتابه الملقب بالأقدس ؛ لئلا يفتضحوا به بين
الناس .
( ثانيها ) أن ترجمات القرآن التي يعتمد عليها علماء الإفرنج في فهم القرآن
كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر ،
وإنما تؤدي بعض ما يفهمه المترجم له منهم ، وقلما يكون فهمه تامًّا صحيحًا ،
ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا ، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما : قصور
فهمه وقصور لغته ، وقد اعترف لي ولغيري بهذا مستر ( محمد ) مارما ديوك بكتل
الذي ترجمه بالإنكليزية وجاء مصر منذ 3 سنوات فعرض على بعض علماء
العربية المتقنين للغة الإنكليزية ما رأى أنه عجز عن أداء معناه منه ، وصحح
بمساعدتهم ما ذاكرهم فيه .
واعترف بذلك الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي الذي كلفته وزارتا
الخارجية والمعارف الفرنسية لدولته بترجمة 62 سورة من السور الطول والمئين
والمفصل التي لا تكرار فيها ففعل . وقد قال في مقدمة ترجمته التي صدرت سنة
1926 ما معناه :
( أما أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق جل وعلا ، فإن الأسلوب الذي
ينطوي على كُنْه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيًّا . والحق
الواقع أن أكثر الكُتاب ارتيابًا وشكًّا قد خضعوا لسلطان تأثيره ( في الأصل : لتأثير
سحره ، يعني تأثيره الذي يشبه السحر في كونه لا يعرف له سبب عادي ) وإن
سلطانه على الثلاثمائة الملايين من المسلمين المنتشرين على سطح المعمور لبالغ
الحد الذي جعل أجانب المبشرين يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة
محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن .
( ذلك أن هذا الأسلوب الذي طرق في أول عهده آذان البدو [1] كان نثرًا جد
طريف ، يفيض جزالة في اتساق نسق ، متجانسًا مسجعًا ، لفعله أثر عميق في نفس
كل سامع يفقه العربية ( لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان
أداء تأثير هذا النثر البديع ( الذي لم يسمع بمثله ) بلغة أخرى ، وخاصة اللغة
الفرنسية الضيقة ( التي لا سعة فيها للتعبير عن الشعور ) المرنة ( التي لا تتنازل
عن حقوقها ) والقاسية ، وزد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات
العصرية ليست لغة دينية وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية ) ا هـ .
ثم تكلم عن عنايته هو مدة تسع سنوات متواليات بمحاولة نقل شيء من
القرآن إلى اللغة الفرنسية على شرط المحافظة على بلاغة الأصل ( وتساءل هل
أمكنه التغلب على هذه الصعوبة أم لا ؟ يعني أنه يشك في ذلك ) .
( ثالثها ) أن أسلوب القرآن الغريب المخالف لجميع أساليب الكلام العربي ،
وطريقته في مزج العقائد والمواعظ والحكم والأحكام والآداب بعضها ببعض في
الآيات المتفرقة في السور - وهو ما بينا سببه وحكمته في هذا الكتاب - قد كان
حائلاً دون جمع كبار علماء المسلمين من المفسرين وغيرهم لكل نوع من أنواع
علومه ومقاصده في باب خاص به ، كما فعلوا في آيات الأحكام العملية من العبادات
والمعاملات ، دون القواعد والأصول الاجتماعية والسياسية والمالية التي يرى
القارئ نموذجها في هذا الكتاب ؛ إذ لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها كما نشعر في
هذا العصر .
وقد عني بعض الإفرنج بوضع كتاب باللغة الفرنسية جمع فيه آيات القرآن
بحسب معانيها ، ووَضْع كل منها في باب أو أبواب خاصة بقدر فهمه ، ولكنه أخطأ
في كثير من هذه المعاني وقصَّر في بعض ، على أن أخذ القواعد والأصول العامة
من هذه الآيات يتوقف على العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في بيان
القرآن وتنفيذه لشرعه ، وآثار خلفائه وعلماء أصحابه من بعده ، كما يعلم من يراجع
في ذلك الكتاب الآيات الدالة على ما بيناه في كتابنا هذا من مقاصد القرآن
بالاختصار ، وما فصلناه منها في تفسير المنار .
( رابعها ) أن الإسلام ليس له دولة تقيم القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه
وسلم بالحكم وتتولى نشره بالعلم ، ولا جمعيات دينية تتولى بحمايتها الدعوة إليه
بالحجة ، وليس لأهله مجمع ديني علمي يُرْجَعُ إليه في بيان معاني القرآن وهدايته
في سياسة البشر ومصالحهم العامة التي تتجدد لهم بتجدد الحوادث ومخترعات
العلوم والفنون ، وفيما يتعارض من العلوم ونصوص الدين فيرجع إليها علماء
الإفرنج في استبانة ما خفي عليهم من نصوصها .
وأعجب من هذا وأغرب أن المسلمين أنفسهم قد تركوا من بعد خير القرون
الأولى أخذ دينهم من القرآن المنزل ومن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم له كما
أمره الله تعالى فيه بقوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ } ( النحل : 44 ) وما زالوا يهجرون الاهتداء بهما حتى استغنوا عنها
استغناء تامًّا بأخذ عقائدهم عن كتب المتكلمين ، وأخذ أحكام عباداتهم ومعاملاتهم عن
كتب علماء المذاهب غير المجتهدين ، وهذه الكتب لا تقوم بها حجة الله تعالى على
البشر ، ولا سيما أهل هذا العصر الذي ارتقت فيه جميع العلوم العقلية والتشريعية ،
حتى صار المسلمون منا ، يأخذون عنهم ما كانوا يأخذون عنا ، بل فيها من آراء
المتكلمين والفقهاء ، وروايات الكذابين والضعفاء ما قد يعد حجة على الإسلام وأهله ،
كما أن سوء حال المسلمين في فُشُوِّ الجهل في شعوبهم والفساد والانحلال في
حكوماتهم قد اتُّخِذَ حجة على دينهم ، فصاروا فتنة للذين كفروا به .
وإذا كان هذا حال المسلمين في فهم القرآن وهدايته ، فيكف يكون حال
الشعوب التي نشأت على أديان أخرى ألفتها ، ولها رؤساء يربونهم عليها ويصدونهم
عن غيرها ، ودول حربية قد عادوا الإسلام منذ بضع قرون ، بما لو وجهوه إلى
الجبال لاندكت وزالت من الوجود ، ولكنه دين الله الحي القيوم فهو باقٍ ما دام البشر
في الأرض لا يزول أو تزول .
هذه أظهر الأسباب لخفاء حقيقة الإسلام الكاملة على علماء الحضارة العصرية
من الأجانب ومن المسلمين أيضًا وتمنيهم لو يبعث نبي جديد بهداية إلهية عامة كافية
لإصلاحهم .
ولما كان الإسلام هو دين الإنسانية العام الدائم الجامع لكل ما تحتاج إليه جميع
الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية وجب على العقلاء الأحرار والعلماء المستقلين
الذين يتألمون من المفاسد المادية التي تفاقم شرها في هذا العهد أن يعنوا بهتك تلك
الحجب التي تحجبهم عن النظر فيه ، وإزالة الموانع التي تعوقهم عن فهم حقيقته .
***
بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام
بما تقوم به الحجة على جميع الأنام
أما بعد فإنني أقدم لهم هذا الكتاب الذي صنفته في إثبات ( الوحي المحمدي )
وكون القرآن كلام الله عز وجل ، وكونه مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه البشر من
الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي . وقد أطلت في بيان هذه
المقاصد الأساسية بعض الإطالة ؛ لأنها مثار جميع الفتن والمفاسد التي يشكو منها
عقلاء هذا العصر ، وأما توفية هذا الموضوع حقه فلا يكون إلا في سِفْرٍ كبير يجمع
مقاصد القرآن كلها مع بيان حاجة البشر إليها في أمور معاشهم ومعادهم ، وهو ما
أبينه في تفسير المنار بالتفصيل في شرح آياتها ، وبإجمال قواعد كل سورة
وأصولها في آخر تفسيرها .
على أنني لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض ، وإنما بدأت منه
بفصل استطرادي لتفسير آية : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) إلخ من أول سورة يونس بينت به الدلائل القطعية على أن القرآن
وحي من الله تعالى كان محمد صلى الله عليه وسلم يَعْجَزُ كغيره عن مثله بعلمه
ولغته ، وأنه أعم وأكمل وأثبت من كل وحي كان قبله ، وأن حجته قائمة على
المؤمنين بالوحي وغيرهم ، ثم بدا لي في أثناء كتابته أن أجرده في كتاب خاص
أدعو به شعوب الحضارة المادية من الإفرنج و اليابان إلى الإسلام ، بتوجيهه أولا
إلى علمائهم الأحرار ، حتى إذا ما اهتدوا به تولوا دعوة شعوبهم ودولهم إليه بلغاتهم ،
ولهذا زدت فيه على ما كتبته في التفسير ، ووضعت له الخاتمة التي صرحت فيها
بالدعوة وجعلتها هي المقصودة بالذات منه .
ولو أنني قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار بتحقيق كل مسألة في موضعها ، على أن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار متعمد فيها . ولكنني كتبته في أوقات متفرقة ،
وحالات بؤس وعسرة ، لا أراجع عند موضوع منها ما قبله ، ولا أعتمد إلا على ما
أتذكره من القرآن نفسه ، على صعوبة استحضار المعاني المتفرقة في سوره ، وإلا
بعض الأحاديث في مواضعها من كتبها لتخريجها والثقة بصحتها ، وإني أحيل
القارئ له في كل إجمال على مراجعة تفسير المنار في تفصيله ، وفي كل إشكال
على مراجعة محرره : محمد رشيد رضا
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يعني العرب الذين تغلب عليهم البداوة حتى في حواضرهم كمكة و يثرب .
(33/282)
ذو القعدة - 1352هـ
فبراير - 1933م
فبراير - 1933م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
قد حبَّذ الفضلاء هذا الكتاب أحسن التحبيذ ، وقرَّظوه بالممتاز من التقريظ ،
وشكروا لنا ودعوا ، فمن الشكر لله تعالى وللمحسنين من الناس ، والتعاون على
إذاعة دعوة الإسلام ، أن ننشر أهم ما حفظناه مما كتب إلينا ، ومما نشر في
الصحف التي اطلعنا عليها .
ونبدأ بكتابين كريمين ، لملكي الإسلام الكبيرين ، الإمامين الجليلين :
إمام العترة الزيدية يحيى بن حميد الدين ملك اليمن الميمون ، وإمام أهل السنة
والجماعة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك المملكة العربية السعودية ،
وخادم الحرمين الشريفين ، أدام الله توفيقهما ، وأعز العرب والإسلام باتفاقهما
وتعاونهما ، وإننا ننشرهما بحسب تاريخ ورودهما .
كتاب الإمام يحيى
( بسم الله الرحمن الرحيم )
الختم
( أمير المؤمنين ، المتوكل على الله رب العالمين ، الإمام يحيى حميد الدين )
إلى السيد العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار حفظه الله .
لقد ظفرت العيون بما تشتهيه ، وحظيت من الأماني بما تبتغيه ، بعد إرسال
رائدِ لحظها ، وتمتعها بالوموق على تلك الرياض الأنيقة ، وينابيع التحقيق الغزيرة ،
التي أودعتموها ذلك المجموع النفيس المطبوع المسمى ( بالوحي المحمدي ) فإنه -
والحق يقال - وحيد في بابه موضوعًا وتنسيقًا ، واستدلالاً وسياقًا ، يهدي إلى القلوب
ما يرفع عنها الرين والكروب ، ويتحف المُطَالع بما تستلذه المسامع ، ويستطيبه
القارئ والسامع ، وتثلج له الصدور ، وتنبعث من حقائقه أشعة النور ، فجزاك الله
خيرًا على هذه الخدمة الدينية التي نراها من العلم الصالح ، والمتجر الرابح ، والقصد
الناجح ، وإنا لتعميم الانتفاع به نطلب منكم أن ترسلوا إلينا من نسخه المصححة أخيرًا
مائة نسخة على حسابنا ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
... ... ... ... ... ... في 21 جمادى الآخرة سنة 1352
كتاب جلالة الملك عبد العزيز
( بسم الله الرحمن الرحيم )
من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل
إلى حضرة الأخ المكرم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى ، السلام
عليكم ورحمة الله ، أما بعد فقد تلقينا كتابكم الكريم ، المؤرخ في 23 رمضان سنة
1352 وأحطنا علمًا بما ذكرتم بارك الله فيكم . لقد اطلعنا على كتابكم ( الوحي
المحمدي ) فَسَرَّنَا اهتمامكم بإخراجه للناس ، وقيامكم بما فرض الله من الدعوة إلى
سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة في زمن تكاثرت فيه الشبهات ممن ران الشيطان
على قلوبهم فصدهم عن سبيل الله حتى ضلوا وأضلوا . فكان كتابكم من أبلغ القول
في إظهار حجة الله القائمة على عباده ، يدعو من كان له قلب إلى دين الحق ،
ويبين للجاحد الملحد بطلان حجته ، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا . وأخذ
بيدكم في تأييد الدعوة الإسلامية ، ونشر عقائد السلف الصالح ، ووفقنا وإياكم لما فيه
نصر لدينه ، وإعلاء لكلمته ، إنه على كل شيء قدير . والسلام .
في 4 من ذي القعدة سنة 1352 ... ... ... ... ... ( الختم )
***
كلمة من كتاب لإمام
طائفة الإباضية الهمام
كنا أهدينا نسخة من كتاب الوحي المحمدي إلى هذا الإمام الجليل مع كتاب
خاص فجاءنا كتاب منه ( من نزوى - عمان ) بعد جمع ما تقدم وما بعده قبل طبعه
قال في أوله بعد البسملة :
من إمام المسلمين محمد بن عبد الله الخليلي إلى حضرة العلامة المحقق أخينا
السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فإن رأيتم في إبطائنا في الرد على كتابكم الكريم المرسل معه مؤلفكم
فذاك لا عن إهمال وعدم تقدير ، وإن لكم ولأمثالكم من إخواننا علماء الدين الحنيف
منزلة كبرى في القلب لا يحلها سواهم … ( ثم قال بعد بيان العذر )
( أما مؤلفكم العظيم فهو في غنى عن التقريظ والمدح ، وإعجابنا به لا
يحد ، ولا شك أنه الحجة الدامغة والقول المتين لمن لا يدين بهذا الدين القويم ،
وفقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين ، وبارك الله فيما تنوون وتقصدون ، وسلام الله
عليكم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء )
كتاب صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر بالأمس ورئيس المحكمة الشرعية من قبل
ورئيس جامعة الدفاع عن الإسلام اليوم
صديقي السيد الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا :
أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم ( الوحي المحمدي ) أن أقول : إنكم
وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم ، فقد عرضتم خلاصته من
ينابيعه الصافية عرضًا قلَّ أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة ،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون ،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون ، ولكم مني تحية الإخاء
والسلام عليكم ورحمة الله .
... ... ... ... ... ... ... محمد مصطفى المراغي
تقريظ الأستاذ الفاضل صاحب المصنفات المفيدة
الشيخ محمد أحمد العدوي من نابغي علماء الأزهر
كتاب جديد أخرجه الأستاذ الكبير صاحب المنار ، وآية كبرى من آيات الله
في التأليف ، وحسنة من حسنات صاحب المنار ( وحسناته كثيرة ) تقرأ هذا السفر
فترى فيه حججًا دامغة ، وإحاطة بمقاصد الإسلام ، ودفعًا لشُبَهٍ يوردها أعداء الحق ،
ولقد يخيل إليك أثناء دراستك للكتاب أن صاحبه لمس أمراض النفوس فوضع لها
علاجها ، كما تراه قد أقام الحجة من العقل والنقل على الملحدين من رجال العلم ولا
سيما الماديين منهم ، وإنه لكتاب تحتاجه جميع الطبقات ، وحاجة الذين يهمهم نشر
الدين والدعوة إليه أشد ، أفاض في مباحث الوحي ، وأقام الأدلة على أن ذلك الوحي
لم يكن نابعًا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم كما زعم المسيو درمنغام في كتابه
( حياة محمد ) وغيره ، وإنما هو نازل من السماء .
ليس بالعجيب أن نرى لصاحب المنار هذه المعجزة العلمية فإن البحوث
الدينية والتحقيقات العلمية قد امتزجت بلحمه ودمه ، حتى أصبحت الكتابة فيها هينة
عليه لينة له ، ويأخذ منك العجب منتهاه حيث تجلس إليه فيحادثك وتحادثه وقلمه
يسيل بتحرير مسائل في الدين أقل ما يحتاج الكاتب إليه فيها أن ينقطع عن العالم
ليجمع شتات فكره رجاء أن يلم بأطراف مسألة منها .
وهذه آثاره في تفسير كتاب الله تعالى ناطقة بنبوغه وتفوقه ، وأنه بَزَّ علماء
التفسير جميعهم في إبراز القرآن الكريم للناس معجزة دائمة ، وهداية عامة شاملة ،
وسعادة لهم في دينهم ودنياهم ، تقرأ طائفة من التفسير فتحس في خلال القراءة أن
من ورائك سوطًا من أسواط الحق يسوقك إلى الفضيلة ويردعك عن الرذيلة وأن
صلتك بكتاب الله تعالى وتعلقك في هدايته وفقه معانيه هي أغلى شيء في هذه
الحياة ، وأعظم رزق ساقه الله إليك ، كما تحس في ذلك التفسير أنك في دائرة من
دوائر المعارف الإلهية الكبرى .
وجدير بأستاذ له هذا الأثر أن يطلع على الناس بأمثال الوحي المحمدي مما
يغذي أرواحهم ، وينمي معارفهم ، دع ما وراء ذلك كله من قوة في البيان ، ورواء
في الأسلوب ، وتنسيق لطرق الاستدلال ، ودقة في المأخذ ؛ كل ذلك تجده في
مؤلفات صاحب المنار ، وتراه أوضح وأجلى في ( كتاب الوحي المحمدي ) وما
سبقه من كتاب ( نداء للجنس اللطيف وحقوق المرأة في الإسلام ) .
وكل ما نتمناه أن يُلْهَم الناس رشدهم ، ويعرفوا للعاملين قدرهم ، فيكافئوهم
على هذه المجهودات بمطالعة كتبهم ، وأن ينسأ الله في أجل صاحب المنار حتى يتم
تفسيره الذي خدم فيه أحد عشر جزءًا من أجزاء القرآن الكريم ، وأن يمده بروح
منه ويبعد عنه مشاغل الحياة حتى يعيش موفور الصحة هادئ البال .
وأن يستجيب فيه دعاء الأستاذ الإمام وهو يقول في آخر حياته :
فيا رب إن قدرت رُجْعَى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... من الرأي والتأويل يَهْدِي ويلهم
... ... ... ... ... ... محمد أحمد العدوي من العلماء
كلمة من كتاب للأستاذ الكريم صاحب الإمضاء
لئن اجتمع علماؤنا الرسميون على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
أطال الله حياتك يا مرشد الحيران ، ويا خليفة حكيم الإسلام . حتى تصير
الأمة الإسلامية ( رشيدية ) اسمًا ولحمًا ودمًا إن شاء الله ، رغم أنف الحاسدين أمثال
صاحب سجود الشمس تحت العرش ، وأعوذ بك ربي أن أكون من الجاهلين .
يا صاحب الفضيلة :
قرأت كتابكم ( الوحي المحمدي ) إلى آخره فإذا به فيض من نور الله ، وقبس
من ضيائه ، يجب على كل مسلم متدين أن يقرأه ؛ إذ إنه خير كتاب من نوعه ألف
في هذا الموضوع ، بل يجب على كل مسلم غيور أن يعمل على ذيوعه وانتشاره
بين طبقات الأمة حتى يعم نفعه ، وهذا ما عاهدت الله عليه خدمة للدين وابتغاء
وجهه الكريم .
... ... ... ... ... ... ... ... ( أحمد أحمد القصير )
... ... ... ... ... في كَفْر المندرة
طائفة مما كتبه إلينا علماء ديار الشام الأعلام
أيد الله بهم الإسلام
-1-
للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار [1]
إذا أردت أن تعرف قيمة تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأن تتحقق أنه أفضل
تفسير للمسلمين في هذا العصر يقوم به أقدرهم عليه ، وأولاهم به ، وأنه لا يسد
مسده تفسير آخر ؛ لأنه يستمد من قوى هذا العصر وحقائقه ، ويدفع ما تجدد من
الشبهات والشكوك ، ويقيم الأدلة القاطعة ، ويورد الشواهد الحسية والتاريخية على
أن الحكومة الإسلامية هي أفضل حكومة في العالم كله .
إذا شاقك ذلك وأردت أن تعرفه يقينًا ، فاقرأ كتاب ( الوحي المحمدي ) للسيد
الإمام علامة العصر الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومؤلف تفسيره ،
فهو نموذج من ذلك التفسير العجيب الذي صدر منه عشرة مجلدات ضخمة إلى الآن ،
فسَّر بها ثلث القرآن الحكيم ، وكتاب ( الوحي المحمدي ) منها هو تفسير لقوله
تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) في أول
يونس من الجزء الحادي عشر [2] .
ولعمر الحق إنه أتى في هذا الكتاب بالعجب العجاب ، فقد أثبت نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بالبراهين العقلية والعلمية القاهرة ، وأورد الشواهد التاريخية
الحسية الكثيرة ورد جميع ضلالات بني آدم عنها ، لا سيما شبهات فلاسفة الإفرنج ،
ومطاعن الملحدين وخرافات المشعوذين .
وقد كان بعض فلاسفة الغرب كتوماس ورينيه ودرمنغام وأمثالهم كتبوا في
السيرة النبوية شيئًا حسنًا ، وبسطوا لأممهم حقائق منها ، لولاهم لطمسها الجهل
والتعصب غير أن هؤلاء قد عرضت لهم شبهات وأوهام ، فحسبوا الوحي الإلهي
النبوي عمومًا والمحمدي منه خصوصًا ، ضربًا من الاستعداد النفسي ، والفيض
الذاتي ، أي أنه نابع من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم غير نازل من عند الله .
وقد بسط السيد الإمام شبهتهم هذه ، وأبرزها بأوسع معانيها ، وصورها بأجلى
صورها ، ثم كر عليها بالنقض والإبطال ، وبين فسادها واستحالتها من عشرة وجوه
لا تحتمل الرد ولا المراء .
ثم عقد فصولاً في إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته . وقوة تأثيره وهدايته . بما
لم يؤثر مثله أي كتاب آخر . ثم أفرد مقاصد القرآن الدينية والمدنية لرفع مستوى
الإنسانية . فشرح أصول السعادة الخالدة . ومطالب الحياة الراقية . ودل على
مقاصد الإسلام العالية التي لا يطمح العقل البشري ولا الارتقاء المدني إلى أسمى
منها أبدًا .
ولقد شرح السيد الإمام معجزات الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام شرحًا
بليغًا يوقف من تدبيره على سر اصطفائهم واجتبائهم ، وكونهم صفوة البشر وأكملهم
وأفضلهم وأولاهم بحمل أمانة التشريع ، والقيام بعهدة التبليغ { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( الأنعام : 124 ) .
ثم إن من أمعن النظر فيما كتبه عن المعجزات نفسها ، وما أقامه من ميزان
العدل والنصفة بينها ، أدرك أن ليس فيما ظهر على يد المسيح عيسى بن مريم منها
ما يعلو به عن مقام النبوة والرسالة أبدًا { مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } ( المائدة : 75 ) ثم أدرك أن
القرآن هو الآية الإلهية الكبرى ، والمعجزة الدينية العظمى ، بل هو معجزة
المعجزات ، وآية الآيات ، ولولاه لانمحى رسم تلك الخوارق من الأذهان .
ألا ليت دعاة النصرانية المبشرين الذين يسعون لتنصير مسلمي الأرض وهم
مئات الملايين ، ويبغون زوال القرآن ( وقد تولى الله حفظه ) من الوجود ، ليتهم
يعلمون أن أمة القرآن التي دانت به وأذعنت لحكمه ، ولم تلتفت إلى شيء غيره ، قد
شهدت ببراءة العذراء البتول ، وابنها المسيح الرسول ، من مفتريات أعدائهم اليهود ،
وآمنت عن طريق القرآن وحده بكل ما ورد من معجزات الرسل وآياتهم ، وأن
القرآن لو زال لا قدر الله تعالى من الأرض فإن أمة القرآن لا تؤمن لأحد بعد
(الوحي المحمدي ) بنبوة ولا رسالة ، ولا تعتقد بنزول وحي من السماء على أحد من
الأنبياء ، فإيمانهم بالقرآن إيمان بسائر كتب الله ، وتصديقهم بخاتم النبيين تصديق
بسائر رسل الله ، وكفرهم بالقرآن كفر بجميع الكتب والرسل ، فأي الفريقين من
المؤمنين والكافرين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ( الأنعام : 82 ) .
وإنك لتجد هذه الحقائق كلها وأضعافها واضحة في كتاب ( الوحي المحمدي )
وإني لمعترف بأني عاجز عن وصفه ، وبأني لم أحط علمًا بكنهه ، ولكني أختم
كلمتي بما قاله أحد خطباء الشرق الأستاذ يوسف اصطفان الشهير في المؤلف نفسه
على إثر محاضرة كان ألقاها السيد الإمام بدمشق الشام في عهد الحكومة العربية قال
لا فض فوه : إن كان لهذا الرجل ( يعني السيد الإمام ) نظير في رجال الدين في
الغرب ، فنحن لا نستحق الحياة أو قال الاستقلال في الشرق .
ثم ختم الكتاب بدعوة الشعوب المتمدنة إلى ما ينجيهم من غوائل المدنية
الفاسدة ، ويمتعهم في ظلال الإسلام والسلام .
والكتاب قد ترجم إلى لغات كثيرة شرقية وغربية وتقرر تدريسه في بعض
الممالك الإسلامية ، أفليس العرب وفيهم أنزل القرآن ، ومنهم أرسل الرسول صلى
الله عليه وسلم أولى بذلك ؟ بلى ، وإن قلمي ليعجز عن الإحاطة بوصف كتاب
( الوحي المحمدي )
وحسبي أن أوجه نظر كل من يهمه أمر دينه ولا سيما شبابنا المثقف وطلاب
المدارس العالية أن يجعلوه عمدتهم في دراستهم ودروس قراءتهم ، فهو يغني عن
كل كتاب في موضوعه ، ولا يغني عنه غيره .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
-2-
للعلامة الأستاذ الشيخ محمد ظبيان الكيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مستوجب الحمد ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى
الخير الهادي إلى الرشد ، وآله وصحبه وتابعيه وحزبه ، أما بعد فقد مَنَّ الله تعالى
عليَّ بالاطلاع على كتاب الوحي المحمدي الذي أخرجه للناس العلامة الكبير
والأستاذ الشهير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر فأدهشني ما رأيت من
بدائع ذلك البناء الشامخ ، والطود الراسخ ، وما حواه من الآيات البينات ،
ومعجزات العلم الباهرات ، وإني لا أريد أن أتوسع في تقريظ هذا الكتاب ، وأن
أبالغ في مدحه كما يفعله كثير من العلماء والكتاب ، ولكني أريد أن أقول كلمتي عما
حواه من الحقائق التي أتى بها المؤلف حفظه الله على ضوء العلم فأقول :
إنه لما أخبرني أخي وصديقي العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار أحد
علماء دمشق بصدور هذا الكتاب ، وأخذ يصف لي ما اشتمل عليه من الحقائق
العلمية والأسلوب الجذاب ، داخلني الريب فيما قال ، وعددت ذلك غلوًّا في الدعاية
أو ضربًا من الخيال ، ولكني ما كدت أتناوله وأتصفح عباراته ، وأتذوق طلاوة
أسلوبه الحكيم ، حتى انقلب ذلك الريب يقينًا ، وأصبح عندي ذلك الخيال حقيقة
ملموسة ، وإذا بهذا السفر يتدفق حججًا استمدها المؤلف ( أدام الله إرشاده ) من نور
القرآن ، واقتبسها من مشكاة العرفان ، فكأنه وحي من الوحي ، فقلت : { ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } ( المائدة : 54 ) .
جاء هذا الكتاب في وقت اشتدت الحاجة إلى مثله ، وتطاولت الأعناق إلى
وجود مُؤَلَّف جامع على شكله ؛ إذ نشأ اليوم الجهل وكثر الفساد ، وهجمت على
المؤمنين جيوش الزيغ والإلحاد ، فكادت تجتاح الفضيلة ، وتقضي على البشرية
بسموم الرذيلة ، وتجتث الاعتقاد بوجود الخالق ، وتقذفه من حالق .
فجاء الأستاذ المؤلف يدعو الأمم أجمع إلى هداية القرآن بالحكمة والموعظة
الحسنة ، يخاطب كل أمة على قدر عقولها ، وينوع الأساليب الحكيمة بتقريب الحق
إلى أفهامها ، ليمحو ظلمة شكوكها وأوهامها ، وليكون ذلك أوقع في النفوس وأبلغ
في تأثير الحجة .
إننا اليوم في عصر كَثُرَ فيه طلاب العلوم الكونية ، فلا يذعنون إلا لما كان
مؤسسًا على الحقائق العلمية ، فها هم اليوم قد وجدوا ضالتهم المنشودة ، وبغيتهم
المقصودة ، فهو كترجمان حكيم يخاطب كل واحد منهم بلغته ، ويناجي كل فريق
على قدر عقله ودرجة استعداده ومعرفته ، فما أجدر طلاب العلوم الكونية ، وعشاق
الحقائق في كل أمة أن يعكفوا على اقتنائه ، ودراسته وتدبر آياته ، ليستضيئوا بنور
مشكاته ، فينالوا السعادتين ، ويفوزوا بالنعمتين .
أما علماء الإسلام فإنهم إذا ولوا وجوههم شطره ، وقرءوه لإخوانهم ، ازدادوا
إيمانًا مع إيمانهم ، وكان لهم منه سلاح جديد يدفعون به هجمات أعداء الإسلام من
المبشرين والملحدين ، ويدحضون به دعاويهم الباطلة ، وكان لهم منه أيضًا مادة
غزيرة يستعينون بها على الدعوة إلى الله .
وأنا أرجو من الأستاذ ( أدام الله نفعه ) أن يسعى في ترجمة هذا الكتاب القيم
إلى اللغات الأجنبية ، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية ؛ لأنها أكثر انتشارًا في الأرض ،
وليطلع عليه الأمم التي لم تقف على حقيقة الإسلام حتى اليوم كالأمتين اليابانية
والأميركية ، وليكون عونًا لجمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية في طوكيو عاصمة
اليابان ؛ لتفهيم القوم حقيقة الإسلام ، وأنه لم يكن دينًا تعبديًّا فحسب ، بل هو دين
اجتماعي ، جاء لسعادة البشر ، جمع بين خيري الدنيا والآخرة والله يهدي من يشاء
إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
دمشق ... ... ... ... محمد علي ظبيان الكيلاني
-3-
( للعلامة الأستاذ الشيخ محمد مسلم الغنيمي الميداني )
نور سطع في سماء جزيرة العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا فأضاء الكون لجدير
بأن يكون موضع الإعجاب وتوجه الأنظار ، وإن جزيرة العرب في ذلك الزمن
كانت مجدبة من كل علم وفن لا يرى في سمائها بارقة نور .
أخذ هذا النور يتلألأ في سماء الجزيرة وما تزيده الأيام إلا ضياء وامتدادًا ،
والمعلوم أن مصدر هذا النور العظيم هو ذلك القرآن الحكيم ، والنبي الكريم ،
العربي الصميم ، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
ولقد شهد عظماء الإفرنجية وفلاسفتهم كدروي وإبرفنج وسديو وإسحاق طيلر
وغوستاف وتولستوي وتومس كارليل وهنري كاستري وغيرهم أن المدنية الغربية
مقتبسة من الحضارة الإسلامية ، ولو أخذنا نبسط أقوالهم لطال بنا المقام وخرجنا
عن الموضوع .
وممن كتب في السيرة النبوية من مفكري الغرب درمنغام و منتيه وغيرهما
فوصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان للخلاء والعزلة يفكر في طريق النجاة
من هذه المخازي والضلالات التي عم ظلامها البشر ، ولكنهم حسبوا الكتاب الذي
أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي النفسي والإلهام الذاتي : أي أنه عليه
الصلاة والسلام صفت سريرته على رءوس الهضاب وبين الشعاب في غار حراء ،
فأوحت إليه نفسه كتابًا أرشد الأمم وجميع الشعوب بتعاليمه كما ذكر مونتيه في
مقدمة ترجمته للقرآن الكريم بعد ذكره لأنبياء بني إسرائيل فقال : فتحدث فيه ( أي
الفكرة الدينية ) كما كانت تحدث فيهم ذلك الإلهام النفسي .
فهذا أقصى ما وصلت إليه أفكار فلاسفة الغرب في الوحي الإلهي ، لذلك قام
علامة الإسلام السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر ، فكشف اللثام
عن حقيقة الوحي وماهيته وكيفيته ، وأبطل مزاعمهم ورد شبهاتهم بأدلة عقلية
وبراهين حسية مفسرًا قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 )
كتاب لم يُنْسَج على منواله ، ولم يُسْبَق المؤلف لمثله ، فهو كتاب لا يستغني
عنه المسلم ولا غير المسلم ، فالمسلم يعلم كيف يقيم الحجة على صحة دينه ، ونبوة
نبيه وكتاب ربه ، وغير المسلمين يرون الفرق واضحًا بين الوحي السماوي والإلهام
النفسي ، فجزى الله السيد المؤلف خيرًا ، وأدامه للمسلمين ذخرًا ، آمين .
دمشق ... محمد مسلم الغنيمي الميداني
-4-
للطبيب النطاسي والعالم العصري الدكتور سعد عيد عرابي
لقد تقهقر البشر في هذا العصر في الأخلاق والآداب ، ومحقت الفضيلة ،
وحلت مكانها الرذيلة ، التي انحطت به إلى أقصى درجات البهيمية ، وما ذلك إلا
لأن تقدم الحضارة والعلوم الكونية كان ماديًّا ، وكان البشر آليًّا متجردًا عن الروح
في كل حركاته وسكناته ، ومتى سلب الشيء روحه كان باهتًا لا لذة فيه ولا طعم ،
هذا ما دعاهم أن يسرفوا في ألوان الرذائل وأشكالها علهم يجدون بها متعة جديدة
تنسيهم آلام هذه الحياة ، وهذه الحضارة الزائفة ، وما كان ذلك إلا ليزيدهم شقاء
وبلاء .
لئن فكّر بعض عقلاء أوربا وغيرهم في اللجوء إلى الدين ، وبأنه العلاج
الوحيد لأدواء هذه الحضارة ، وتمنوا لو يبعث في الشرق أو في الغرب نبي جديد
يصلح بهدايته فسادها ، فقد نادى منادي ( الوحي المحمدي ) بأن حي على الفلاح ها
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وها إن الإسلام دين البشرية والسلام
كفيل إن اتبعتموه أن يهديكم صراطًا مستقيمًا ، وأبان فضائل الدين الإسلامي ومزاياه
على ما جاء في الأديان الأخرى ، وما حواه من التشريع الديني والمدني ، وأماط
اللثام عن الحجب التي بين الإفرنج وحقيقة الإسلام وعددها : فمن عداوة الكنيسة
وتداعياتها المشوهة الباطلة ، إلى كذب رجال السياسة وطمعهم في استعباد الشعوب
شعوب الإسلام إلى سوء حال هؤلاء في القرون الأخيرة وجهلهم حقيقة دينهم وأمور
دنياهم .
مع أن الغاية الأساسية لهذا الكتاب دحض مزاعم درمنغام وغيره من الإفرنج
الذين يدعون أن الوحي المحمدي وحي نفسي لا إلهي ، ومع أنه أفاض في
الموضوع ، وأيد بالبراهين العقلية والأدلة القطعية وبمعجزة القرآن المجيد فساد
مزعمهم هذا ، وأن الوحي المحمدي أثبت وأكمل وأعم من كل وحي جاء قبله فقد
جاء هذا الكتاب من مقدمته إلى خاتمته جامعًا شاملاً لم يترك شاردة أو واردة تعلي
كلمة الله تعالى وتنصر الحق المبين إلا وذكرها ، كما وأن هذا السفر النفيس يروي
غليل من كان للحقيقة من المستطلعين ، فقد عرَّف النبوة وأبان الفوارق بين
المعجزات والكرامات ، وشرح مقاصد القرآن المجيد شرحًا دقيقًا : من دينية
واجتماعية وسياسية ومالية ( وأستأذن أن أذكِّرَه بالقواعد الصحية وهي كثيرة )
والخلاصة أن هذا الكتاب قد جمع شمل ما في الإسلام من حكم ، وقد وفَّى
الموضوع حقه ، بأن قدمه للجمعيات الإسلامية في العالم داعيًا رجالاتها إلى ترجمته
إلى لغاتهم لتكون فائدته أعم ، وقد دعا في خاتمته شعوب المدنية إلى الإسلام ، دين
الإنسانية والسلام ؛ لإنقاذ البشر من هذا الشقاء العام .
ومن جمل ما قال لهم في دعوته هذه : ( قد بينا لكم أيها العلماء الأحرار
بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلل
والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي الأعلى ، والتشريع المدني الأسمى ،
والحكمة الأدبية المثلى ، نابعًا من استعداده الشخصي ، وما اقتبسه من بيئته ومن
أسفاره ، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً ، وعلمتم أن بعض ما قالوه
افتراء على التاريخ وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه ، وعلمتم أنه في جملته
مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر ، وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ ، ونحن
نتحداكم الآن بالإتيان بعلل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي الله تعالى
وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه : علل يقبلها ميزان العقل
المسمى بعلم المنطق ، فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول ،
وتؤيدها النقول ، فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته ، وبكاتبه المُنَزَّل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر ، وأن تتولوا
الدعوة إلى هذا الإيمان ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به )
ومما قاله حفظه الله : ( أما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار فالمرجو
منكم أن تسمعوا وتبصروا ، وأن تعلموا فتعملوا ، فإن كانت دعوة القرآن لم تبلغكم
حقيقتها الكافلة لإصلاح البشر على الوجه الصحيح الذي يحرك إلى النظر لأنكم لم
تبحثوا عنها بالإخلاص مع التجرد من التقاليد المسلمة عندكم والأهواء ؛ ولأن
الإسلام ليس له زعامة ولا جماعات تبث دعوته ، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ
حضارته ، بل صار المسلمون في جملتهم حجة على الإسلام وحجابًا دون نوره ،
فأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في إبلاغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا
العصر ، فإن ظهر لكم الحق فذلك ما نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها ، وإن
عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم للعلم ، وحرصكم على استبانة الحق أن
تشرحوها لنعرض عليكم جوابنا عنها ، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون ) .
حقًّا قليلون وقليلون جدًّا ( كذا ) العلماء الذين يحذون حذو صاحب الفضيلة
العالم العلامة حجة الإسلام الأستاذ السيد رشيد رضا في إظهار الإسلام في صورته
الحقيقية العلمية العقلية ، وقد أظهر في دعوته شعوبَ المدنية إلى الإسلام ، كما
أثبت في مقاصد القرآن المجيد ، أن الإسلام دين البشرية والسلام ، دين العقل
والفكر ، دين العلم والحكمة ، دين الحجة والبرهان .
إن ظهور السفر النفيس ( الوحي المحمدي ) خدمة جلى أسداها للدين وللبشر
وللحقيقة وللتاريخ ، جديرة بأن تسطر له بأحرف من نور على صفحات الفخار
وليتفضل المؤلف الإمام بقبول شكري
دمشق ... ... ... ... ... ... ... الدكتور سعد عيد عرابي
... ... ... ... ... ... ... خريج جامعتي باريز وبرلين
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الأستاذ جامع بين العلم الصحيح والعمل به والدعوة إليه قولاً وكتابة وخطابة ومناظرة وبذلاً مما يملك من مال قليل فقد علمنا أنه اشترى من كتاب الوحي المحمدي نسخًا كثيرة من دمشق ووزعها على مَن يظن بهم الفهم والانتفاع ، حتى من ملاحدة الأغنياء ، فنسأل الله أن يخلفه عليه ويجزيه خير الجزاء .
(2) سيصدر الجزء الحادي عشر في المحرم سنة 1353 إن شاء الله تعالى .
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
قد حبَّذ الفضلاء هذا الكتاب أحسن التحبيذ ، وقرَّظوه بالممتاز من التقريظ ،
وشكروا لنا ودعوا ، فمن الشكر لله تعالى وللمحسنين من الناس ، والتعاون على
إذاعة دعوة الإسلام ، أن ننشر أهم ما حفظناه مما كتب إلينا ، ومما نشر في
الصحف التي اطلعنا عليها .
ونبدأ بكتابين كريمين ، لملكي الإسلام الكبيرين ، الإمامين الجليلين :
إمام العترة الزيدية يحيى بن حميد الدين ملك اليمن الميمون ، وإمام أهل السنة
والجماعة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك المملكة العربية السعودية ،
وخادم الحرمين الشريفين ، أدام الله توفيقهما ، وأعز العرب والإسلام باتفاقهما
وتعاونهما ، وإننا ننشرهما بحسب تاريخ ورودهما .
كتاب الإمام يحيى
( بسم الله الرحمن الرحيم )
الختم
( أمير المؤمنين ، المتوكل على الله رب العالمين ، الإمام يحيى حميد الدين )
إلى السيد العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار حفظه الله .
لقد ظفرت العيون بما تشتهيه ، وحظيت من الأماني بما تبتغيه ، بعد إرسال
رائدِ لحظها ، وتمتعها بالوموق على تلك الرياض الأنيقة ، وينابيع التحقيق الغزيرة ،
التي أودعتموها ذلك المجموع النفيس المطبوع المسمى ( بالوحي المحمدي ) فإنه -
والحق يقال - وحيد في بابه موضوعًا وتنسيقًا ، واستدلالاً وسياقًا ، يهدي إلى القلوب
ما يرفع عنها الرين والكروب ، ويتحف المُطَالع بما تستلذه المسامع ، ويستطيبه
القارئ والسامع ، وتثلج له الصدور ، وتنبعث من حقائقه أشعة النور ، فجزاك الله
خيرًا على هذه الخدمة الدينية التي نراها من العلم الصالح ، والمتجر الرابح ، والقصد
الناجح ، وإنا لتعميم الانتفاع به نطلب منكم أن ترسلوا إلينا من نسخه المصححة أخيرًا
مائة نسخة على حسابنا ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
... ... ... ... ... ... في 21 جمادى الآخرة سنة 1352
كتاب جلالة الملك عبد العزيز
( بسم الله الرحمن الرحيم )
من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل
إلى حضرة الأخ المكرم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى ، السلام
عليكم ورحمة الله ، أما بعد فقد تلقينا كتابكم الكريم ، المؤرخ في 23 رمضان سنة
1352 وأحطنا علمًا بما ذكرتم بارك الله فيكم . لقد اطلعنا على كتابكم ( الوحي
المحمدي ) فَسَرَّنَا اهتمامكم بإخراجه للناس ، وقيامكم بما فرض الله من الدعوة إلى
سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة في زمن تكاثرت فيه الشبهات ممن ران الشيطان
على قلوبهم فصدهم عن سبيل الله حتى ضلوا وأضلوا . فكان كتابكم من أبلغ القول
في إظهار حجة الله القائمة على عباده ، يدعو من كان له قلب إلى دين الحق ،
ويبين للجاحد الملحد بطلان حجته ، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا . وأخذ
بيدكم في تأييد الدعوة الإسلامية ، ونشر عقائد السلف الصالح ، ووفقنا وإياكم لما فيه
نصر لدينه ، وإعلاء لكلمته ، إنه على كل شيء قدير . والسلام .
في 4 من ذي القعدة سنة 1352 ... ... ... ... ... ( الختم )
***
كلمة من كتاب لإمام
طائفة الإباضية الهمام
كنا أهدينا نسخة من كتاب الوحي المحمدي إلى هذا الإمام الجليل مع كتاب
خاص فجاءنا كتاب منه ( من نزوى - عمان ) بعد جمع ما تقدم وما بعده قبل طبعه
قال في أوله بعد البسملة :
من إمام المسلمين محمد بن عبد الله الخليلي إلى حضرة العلامة المحقق أخينا
السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فإن رأيتم في إبطائنا في الرد على كتابكم الكريم المرسل معه مؤلفكم
فذاك لا عن إهمال وعدم تقدير ، وإن لكم ولأمثالكم من إخواننا علماء الدين الحنيف
منزلة كبرى في القلب لا يحلها سواهم … ( ثم قال بعد بيان العذر )
( أما مؤلفكم العظيم فهو في غنى عن التقريظ والمدح ، وإعجابنا به لا
يحد ، ولا شك أنه الحجة الدامغة والقول المتين لمن لا يدين بهذا الدين القويم ،
وفقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين ، وبارك الله فيما تنوون وتقصدون ، وسلام الله
عليكم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء )
كتاب صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر بالأمس ورئيس المحكمة الشرعية من قبل
ورئيس جامعة الدفاع عن الإسلام اليوم
صديقي السيد الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا :
أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم ( الوحي المحمدي ) أن أقول : إنكم
وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم ، فقد عرضتم خلاصته من
ينابيعه الصافية عرضًا قلَّ أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة ،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون ،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون ، ولكم مني تحية الإخاء
والسلام عليكم ورحمة الله .
... ... ... ... ... ... ... محمد مصطفى المراغي
تقريظ الأستاذ الفاضل صاحب المصنفات المفيدة
الشيخ محمد أحمد العدوي من نابغي علماء الأزهر
كتاب جديد أخرجه الأستاذ الكبير صاحب المنار ، وآية كبرى من آيات الله
في التأليف ، وحسنة من حسنات صاحب المنار ( وحسناته كثيرة ) تقرأ هذا السفر
فترى فيه حججًا دامغة ، وإحاطة بمقاصد الإسلام ، ودفعًا لشُبَهٍ يوردها أعداء الحق ،
ولقد يخيل إليك أثناء دراستك للكتاب أن صاحبه لمس أمراض النفوس فوضع لها
علاجها ، كما تراه قد أقام الحجة من العقل والنقل على الملحدين من رجال العلم ولا
سيما الماديين منهم ، وإنه لكتاب تحتاجه جميع الطبقات ، وحاجة الذين يهمهم نشر
الدين والدعوة إليه أشد ، أفاض في مباحث الوحي ، وأقام الأدلة على أن ذلك الوحي
لم يكن نابعًا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم كما زعم المسيو درمنغام في كتابه
( حياة محمد ) وغيره ، وإنما هو نازل من السماء .
ليس بالعجيب أن نرى لصاحب المنار هذه المعجزة العلمية فإن البحوث
الدينية والتحقيقات العلمية قد امتزجت بلحمه ودمه ، حتى أصبحت الكتابة فيها هينة
عليه لينة له ، ويأخذ منك العجب منتهاه حيث تجلس إليه فيحادثك وتحادثه وقلمه
يسيل بتحرير مسائل في الدين أقل ما يحتاج الكاتب إليه فيها أن ينقطع عن العالم
ليجمع شتات فكره رجاء أن يلم بأطراف مسألة منها .
وهذه آثاره في تفسير كتاب الله تعالى ناطقة بنبوغه وتفوقه ، وأنه بَزَّ علماء
التفسير جميعهم في إبراز القرآن الكريم للناس معجزة دائمة ، وهداية عامة شاملة ،
وسعادة لهم في دينهم ودنياهم ، تقرأ طائفة من التفسير فتحس في خلال القراءة أن
من ورائك سوطًا من أسواط الحق يسوقك إلى الفضيلة ويردعك عن الرذيلة وأن
صلتك بكتاب الله تعالى وتعلقك في هدايته وفقه معانيه هي أغلى شيء في هذه
الحياة ، وأعظم رزق ساقه الله إليك ، كما تحس في ذلك التفسير أنك في دائرة من
دوائر المعارف الإلهية الكبرى .
وجدير بأستاذ له هذا الأثر أن يطلع على الناس بأمثال الوحي المحمدي مما
يغذي أرواحهم ، وينمي معارفهم ، دع ما وراء ذلك كله من قوة في البيان ، ورواء
في الأسلوب ، وتنسيق لطرق الاستدلال ، ودقة في المأخذ ؛ كل ذلك تجده في
مؤلفات صاحب المنار ، وتراه أوضح وأجلى في ( كتاب الوحي المحمدي ) وما
سبقه من كتاب ( نداء للجنس اللطيف وحقوق المرأة في الإسلام ) .
وكل ما نتمناه أن يُلْهَم الناس رشدهم ، ويعرفوا للعاملين قدرهم ، فيكافئوهم
على هذه المجهودات بمطالعة كتبهم ، وأن ينسأ الله في أجل صاحب المنار حتى يتم
تفسيره الذي خدم فيه أحد عشر جزءًا من أجزاء القرآن الكريم ، وأن يمده بروح
منه ويبعد عنه مشاغل الحياة حتى يعيش موفور الصحة هادئ البال .
وأن يستجيب فيه دعاء الأستاذ الإمام وهو يقول في آخر حياته :
فيا رب إن قدرت رُجْعَى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... من الرأي والتأويل يَهْدِي ويلهم
... ... ... ... ... ... محمد أحمد العدوي من العلماء
كلمة من كتاب للأستاذ الكريم صاحب الإمضاء
لئن اجتمع علماؤنا الرسميون على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
أطال الله حياتك يا مرشد الحيران ، ويا خليفة حكيم الإسلام . حتى تصير
الأمة الإسلامية ( رشيدية ) اسمًا ولحمًا ودمًا إن شاء الله ، رغم أنف الحاسدين أمثال
صاحب سجود الشمس تحت العرش ، وأعوذ بك ربي أن أكون من الجاهلين .
يا صاحب الفضيلة :
قرأت كتابكم ( الوحي المحمدي ) إلى آخره فإذا به فيض من نور الله ، وقبس
من ضيائه ، يجب على كل مسلم متدين أن يقرأه ؛ إذ إنه خير كتاب من نوعه ألف
في هذا الموضوع ، بل يجب على كل مسلم غيور أن يعمل على ذيوعه وانتشاره
بين طبقات الأمة حتى يعم نفعه ، وهذا ما عاهدت الله عليه خدمة للدين وابتغاء
وجهه الكريم .
... ... ... ... ... ... ... ... ( أحمد أحمد القصير )
... ... ... ... ... في كَفْر المندرة
طائفة مما كتبه إلينا علماء ديار الشام الأعلام
أيد الله بهم الإسلام
-1-
للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار [1]
إذا أردت أن تعرف قيمة تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأن تتحقق أنه أفضل
تفسير للمسلمين في هذا العصر يقوم به أقدرهم عليه ، وأولاهم به ، وأنه لا يسد
مسده تفسير آخر ؛ لأنه يستمد من قوى هذا العصر وحقائقه ، ويدفع ما تجدد من
الشبهات والشكوك ، ويقيم الأدلة القاطعة ، ويورد الشواهد الحسية والتاريخية على
أن الحكومة الإسلامية هي أفضل حكومة في العالم كله .
إذا شاقك ذلك وأردت أن تعرفه يقينًا ، فاقرأ كتاب ( الوحي المحمدي ) للسيد
الإمام علامة العصر الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومؤلف تفسيره ،
فهو نموذج من ذلك التفسير العجيب الذي صدر منه عشرة مجلدات ضخمة إلى الآن ،
فسَّر بها ثلث القرآن الحكيم ، وكتاب ( الوحي المحمدي ) منها هو تفسير لقوله
تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) في أول
يونس من الجزء الحادي عشر [2] .
ولعمر الحق إنه أتى في هذا الكتاب بالعجب العجاب ، فقد أثبت نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بالبراهين العقلية والعلمية القاهرة ، وأورد الشواهد التاريخية
الحسية الكثيرة ورد جميع ضلالات بني آدم عنها ، لا سيما شبهات فلاسفة الإفرنج ،
ومطاعن الملحدين وخرافات المشعوذين .
وقد كان بعض فلاسفة الغرب كتوماس ورينيه ودرمنغام وأمثالهم كتبوا في
السيرة النبوية شيئًا حسنًا ، وبسطوا لأممهم حقائق منها ، لولاهم لطمسها الجهل
والتعصب غير أن هؤلاء قد عرضت لهم شبهات وأوهام ، فحسبوا الوحي الإلهي
النبوي عمومًا والمحمدي منه خصوصًا ، ضربًا من الاستعداد النفسي ، والفيض
الذاتي ، أي أنه نابع من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم غير نازل من عند الله .
وقد بسط السيد الإمام شبهتهم هذه ، وأبرزها بأوسع معانيها ، وصورها بأجلى
صورها ، ثم كر عليها بالنقض والإبطال ، وبين فسادها واستحالتها من عشرة وجوه
لا تحتمل الرد ولا المراء .
ثم عقد فصولاً في إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته . وقوة تأثيره وهدايته . بما
لم يؤثر مثله أي كتاب آخر . ثم أفرد مقاصد القرآن الدينية والمدنية لرفع مستوى
الإنسانية . فشرح أصول السعادة الخالدة . ومطالب الحياة الراقية . ودل على
مقاصد الإسلام العالية التي لا يطمح العقل البشري ولا الارتقاء المدني إلى أسمى
منها أبدًا .
ولقد شرح السيد الإمام معجزات الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام شرحًا
بليغًا يوقف من تدبيره على سر اصطفائهم واجتبائهم ، وكونهم صفوة البشر وأكملهم
وأفضلهم وأولاهم بحمل أمانة التشريع ، والقيام بعهدة التبليغ { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( الأنعام : 124 ) .
ثم إن من أمعن النظر فيما كتبه عن المعجزات نفسها ، وما أقامه من ميزان
العدل والنصفة بينها ، أدرك أن ليس فيما ظهر على يد المسيح عيسى بن مريم منها
ما يعلو به عن مقام النبوة والرسالة أبدًا { مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } ( المائدة : 75 ) ثم أدرك أن
القرآن هو الآية الإلهية الكبرى ، والمعجزة الدينية العظمى ، بل هو معجزة
المعجزات ، وآية الآيات ، ولولاه لانمحى رسم تلك الخوارق من الأذهان .
ألا ليت دعاة النصرانية المبشرين الذين يسعون لتنصير مسلمي الأرض وهم
مئات الملايين ، ويبغون زوال القرآن ( وقد تولى الله حفظه ) من الوجود ، ليتهم
يعلمون أن أمة القرآن التي دانت به وأذعنت لحكمه ، ولم تلتفت إلى شيء غيره ، قد
شهدت ببراءة العذراء البتول ، وابنها المسيح الرسول ، من مفتريات أعدائهم اليهود ،
وآمنت عن طريق القرآن وحده بكل ما ورد من معجزات الرسل وآياتهم ، وأن
القرآن لو زال لا قدر الله تعالى من الأرض فإن أمة القرآن لا تؤمن لأحد بعد
(الوحي المحمدي ) بنبوة ولا رسالة ، ولا تعتقد بنزول وحي من السماء على أحد من
الأنبياء ، فإيمانهم بالقرآن إيمان بسائر كتب الله ، وتصديقهم بخاتم النبيين تصديق
بسائر رسل الله ، وكفرهم بالقرآن كفر بجميع الكتب والرسل ، فأي الفريقين من
المؤمنين والكافرين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ( الأنعام : 82 ) .
وإنك لتجد هذه الحقائق كلها وأضعافها واضحة في كتاب ( الوحي المحمدي )
وإني لمعترف بأني عاجز عن وصفه ، وبأني لم أحط علمًا بكنهه ، ولكني أختم
كلمتي بما قاله أحد خطباء الشرق الأستاذ يوسف اصطفان الشهير في المؤلف نفسه
على إثر محاضرة كان ألقاها السيد الإمام بدمشق الشام في عهد الحكومة العربية قال
لا فض فوه : إن كان لهذا الرجل ( يعني السيد الإمام ) نظير في رجال الدين في
الغرب ، فنحن لا نستحق الحياة أو قال الاستقلال في الشرق .
ثم ختم الكتاب بدعوة الشعوب المتمدنة إلى ما ينجيهم من غوائل المدنية
الفاسدة ، ويمتعهم في ظلال الإسلام والسلام .
والكتاب قد ترجم إلى لغات كثيرة شرقية وغربية وتقرر تدريسه في بعض
الممالك الإسلامية ، أفليس العرب وفيهم أنزل القرآن ، ومنهم أرسل الرسول صلى
الله عليه وسلم أولى بذلك ؟ بلى ، وإن قلمي ليعجز عن الإحاطة بوصف كتاب
( الوحي المحمدي )
وحسبي أن أوجه نظر كل من يهمه أمر دينه ولا سيما شبابنا المثقف وطلاب
المدارس العالية أن يجعلوه عمدتهم في دراستهم ودروس قراءتهم ، فهو يغني عن
كل كتاب في موضوعه ، ولا يغني عنه غيره .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
-2-
للعلامة الأستاذ الشيخ محمد ظبيان الكيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مستوجب الحمد ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى
الخير الهادي إلى الرشد ، وآله وصحبه وتابعيه وحزبه ، أما بعد فقد مَنَّ الله تعالى
عليَّ بالاطلاع على كتاب الوحي المحمدي الذي أخرجه للناس العلامة الكبير
والأستاذ الشهير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر فأدهشني ما رأيت من
بدائع ذلك البناء الشامخ ، والطود الراسخ ، وما حواه من الآيات البينات ،
ومعجزات العلم الباهرات ، وإني لا أريد أن أتوسع في تقريظ هذا الكتاب ، وأن
أبالغ في مدحه كما يفعله كثير من العلماء والكتاب ، ولكني أريد أن أقول كلمتي عما
حواه من الحقائق التي أتى بها المؤلف حفظه الله على ضوء العلم فأقول :
إنه لما أخبرني أخي وصديقي العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار أحد
علماء دمشق بصدور هذا الكتاب ، وأخذ يصف لي ما اشتمل عليه من الحقائق
العلمية والأسلوب الجذاب ، داخلني الريب فيما قال ، وعددت ذلك غلوًّا في الدعاية
أو ضربًا من الخيال ، ولكني ما كدت أتناوله وأتصفح عباراته ، وأتذوق طلاوة
أسلوبه الحكيم ، حتى انقلب ذلك الريب يقينًا ، وأصبح عندي ذلك الخيال حقيقة
ملموسة ، وإذا بهذا السفر يتدفق حججًا استمدها المؤلف ( أدام الله إرشاده ) من نور
القرآن ، واقتبسها من مشكاة العرفان ، فكأنه وحي من الوحي ، فقلت : { ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } ( المائدة : 54 ) .
جاء هذا الكتاب في وقت اشتدت الحاجة إلى مثله ، وتطاولت الأعناق إلى
وجود مُؤَلَّف جامع على شكله ؛ إذ نشأ اليوم الجهل وكثر الفساد ، وهجمت على
المؤمنين جيوش الزيغ والإلحاد ، فكادت تجتاح الفضيلة ، وتقضي على البشرية
بسموم الرذيلة ، وتجتث الاعتقاد بوجود الخالق ، وتقذفه من حالق .
فجاء الأستاذ المؤلف يدعو الأمم أجمع إلى هداية القرآن بالحكمة والموعظة
الحسنة ، يخاطب كل أمة على قدر عقولها ، وينوع الأساليب الحكيمة بتقريب الحق
إلى أفهامها ، ليمحو ظلمة شكوكها وأوهامها ، وليكون ذلك أوقع في النفوس وأبلغ
في تأثير الحجة .
إننا اليوم في عصر كَثُرَ فيه طلاب العلوم الكونية ، فلا يذعنون إلا لما كان
مؤسسًا على الحقائق العلمية ، فها هم اليوم قد وجدوا ضالتهم المنشودة ، وبغيتهم
المقصودة ، فهو كترجمان حكيم يخاطب كل واحد منهم بلغته ، ويناجي كل فريق
على قدر عقله ودرجة استعداده ومعرفته ، فما أجدر طلاب العلوم الكونية ، وعشاق
الحقائق في كل أمة أن يعكفوا على اقتنائه ، ودراسته وتدبر آياته ، ليستضيئوا بنور
مشكاته ، فينالوا السعادتين ، ويفوزوا بالنعمتين .
أما علماء الإسلام فإنهم إذا ولوا وجوههم شطره ، وقرءوه لإخوانهم ، ازدادوا
إيمانًا مع إيمانهم ، وكان لهم منه سلاح جديد يدفعون به هجمات أعداء الإسلام من
المبشرين والملحدين ، ويدحضون به دعاويهم الباطلة ، وكان لهم منه أيضًا مادة
غزيرة يستعينون بها على الدعوة إلى الله .
وأنا أرجو من الأستاذ ( أدام الله نفعه ) أن يسعى في ترجمة هذا الكتاب القيم
إلى اللغات الأجنبية ، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية ؛ لأنها أكثر انتشارًا في الأرض ،
وليطلع عليه الأمم التي لم تقف على حقيقة الإسلام حتى اليوم كالأمتين اليابانية
والأميركية ، وليكون عونًا لجمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية في طوكيو عاصمة
اليابان ؛ لتفهيم القوم حقيقة الإسلام ، وأنه لم يكن دينًا تعبديًّا فحسب ، بل هو دين
اجتماعي ، جاء لسعادة البشر ، جمع بين خيري الدنيا والآخرة والله يهدي من يشاء
إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
دمشق ... ... ... ... محمد علي ظبيان الكيلاني
-3-
( للعلامة الأستاذ الشيخ محمد مسلم الغنيمي الميداني )
نور سطع في سماء جزيرة العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا فأضاء الكون لجدير
بأن يكون موضع الإعجاب وتوجه الأنظار ، وإن جزيرة العرب في ذلك الزمن
كانت مجدبة من كل علم وفن لا يرى في سمائها بارقة نور .
أخذ هذا النور يتلألأ في سماء الجزيرة وما تزيده الأيام إلا ضياء وامتدادًا ،
والمعلوم أن مصدر هذا النور العظيم هو ذلك القرآن الحكيم ، والنبي الكريم ،
العربي الصميم ، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
ولقد شهد عظماء الإفرنجية وفلاسفتهم كدروي وإبرفنج وسديو وإسحاق طيلر
وغوستاف وتولستوي وتومس كارليل وهنري كاستري وغيرهم أن المدنية الغربية
مقتبسة من الحضارة الإسلامية ، ولو أخذنا نبسط أقوالهم لطال بنا المقام وخرجنا
عن الموضوع .
وممن كتب في السيرة النبوية من مفكري الغرب درمنغام و منتيه وغيرهما
فوصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان للخلاء والعزلة يفكر في طريق النجاة
من هذه المخازي والضلالات التي عم ظلامها البشر ، ولكنهم حسبوا الكتاب الذي
أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي النفسي والإلهام الذاتي : أي أنه عليه
الصلاة والسلام صفت سريرته على رءوس الهضاب وبين الشعاب في غار حراء ،
فأوحت إليه نفسه كتابًا أرشد الأمم وجميع الشعوب بتعاليمه كما ذكر مونتيه في
مقدمة ترجمته للقرآن الكريم بعد ذكره لأنبياء بني إسرائيل فقال : فتحدث فيه ( أي
الفكرة الدينية ) كما كانت تحدث فيهم ذلك الإلهام النفسي .
فهذا أقصى ما وصلت إليه أفكار فلاسفة الغرب في الوحي الإلهي ، لذلك قام
علامة الإسلام السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر ، فكشف اللثام
عن حقيقة الوحي وماهيته وكيفيته ، وأبطل مزاعمهم ورد شبهاتهم بأدلة عقلية
وبراهين حسية مفسرًا قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 )
كتاب لم يُنْسَج على منواله ، ولم يُسْبَق المؤلف لمثله ، فهو كتاب لا يستغني
عنه المسلم ولا غير المسلم ، فالمسلم يعلم كيف يقيم الحجة على صحة دينه ، ونبوة
نبيه وكتاب ربه ، وغير المسلمين يرون الفرق واضحًا بين الوحي السماوي والإلهام
النفسي ، فجزى الله السيد المؤلف خيرًا ، وأدامه للمسلمين ذخرًا ، آمين .
دمشق ... محمد مسلم الغنيمي الميداني
-4-
للطبيب النطاسي والعالم العصري الدكتور سعد عيد عرابي
لقد تقهقر البشر في هذا العصر في الأخلاق والآداب ، ومحقت الفضيلة ،
وحلت مكانها الرذيلة ، التي انحطت به إلى أقصى درجات البهيمية ، وما ذلك إلا
لأن تقدم الحضارة والعلوم الكونية كان ماديًّا ، وكان البشر آليًّا متجردًا عن الروح
في كل حركاته وسكناته ، ومتى سلب الشيء روحه كان باهتًا لا لذة فيه ولا طعم ،
هذا ما دعاهم أن يسرفوا في ألوان الرذائل وأشكالها علهم يجدون بها متعة جديدة
تنسيهم آلام هذه الحياة ، وهذه الحضارة الزائفة ، وما كان ذلك إلا ليزيدهم شقاء
وبلاء .
لئن فكّر بعض عقلاء أوربا وغيرهم في اللجوء إلى الدين ، وبأنه العلاج
الوحيد لأدواء هذه الحضارة ، وتمنوا لو يبعث في الشرق أو في الغرب نبي جديد
يصلح بهدايته فسادها ، فقد نادى منادي ( الوحي المحمدي ) بأن حي على الفلاح ها
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وها إن الإسلام دين البشرية والسلام
كفيل إن اتبعتموه أن يهديكم صراطًا مستقيمًا ، وأبان فضائل الدين الإسلامي ومزاياه
على ما جاء في الأديان الأخرى ، وما حواه من التشريع الديني والمدني ، وأماط
اللثام عن الحجب التي بين الإفرنج وحقيقة الإسلام وعددها : فمن عداوة الكنيسة
وتداعياتها المشوهة الباطلة ، إلى كذب رجال السياسة وطمعهم في استعباد الشعوب
شعوب الإسلام إلى سوء حال هؤلاء في القرون الأخيرة وجهلهم حقيقة دينهم وأمور
دنياهم .
مع أن الغاية الأساسية لهذا الكتاب دحض مزاعم درمنغام وغيره من الإفرنج
الذين يدعون أن الوحي المحمدي وحي نفسي لا إلهي ، ومع أنه أفاض في
الموضوع ، وأيد بالبراهين العقلية والأدلة القطعية وبمعجزة القرآن المجيد فساد
مزعمهم هذا ، وأن الوحي المحمدي أثبت وأكمل وأعم من كل وحي جاء قبله فقد
جاء هذا الكتاب من مقدمته إلى خاتمته جامعًا شاملاً لم يترك شاردة أو واردة تعلي
كلمة الله تعالى وتنصر الحق المبين إلا وذكرها ، كما وأن هذا السفر النفيس يروي
غليل من كان للحقيقة من المستطلعين ، فقد عرَّف النبوة وأبان الفوارق بين
المعجزات والكرامات ، وشرح مقاصد القرآن المجيد شرحًا دقيقًا : من دينية
واجتماعية وسياسية ومالية ( وأستأذن أن أذكِّرَه بالقواعد الصحية وهي كثيرة )
والخلاصة أن هذا الكتاب قد جمع شمل ما في الإسلام من حكم ، وقد وفَّى
الموضوع حقه ، بأن قدمه للجمعيات الإسلامية في العالم داعيًا رجالاتها إلى ترجمته
إلى لغاتهم لتكون فائدته أعم ، وقد دعا في خاتمته شعوب المدنية إلى الإسلام ، دين
الإنسانية والسلام ؛ لإنقاذ البشر من هذا الشقاء العام .
ومن جمل ما قال لهم في دعوته هذه : ( قد بينا لكم أيها العلماء الأحرار
بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلل
والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي الأعلى ، والتشريع المدني الأسمى ،
والحكمة الأدبية المثلى ، نابعًا من استعداده الشخصي ، وما اقتبسه من بيئته ومن
أسفاره ، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً ، وعلمتم أن بعض ما قالوه
افتراء على التاريخ وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه ، وعلمتم أنه في جملته
مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر ، وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ ، ونحن
نتحداكم الآن بالإتيان بعلل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي الله تعالى
وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه : علل يقبلها ميزان العقل
المسمى بعلم المنطق ، فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول ،
وتؤيدها النقول ، فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته ، وبكاتبه المُنَزَّل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر ، وأن تتولوا
الدعوة إلى هذا الإيمان ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به )
ومما قاله حفظه الله : ( أما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار فالمرجو
منكم أن تسمعوا وتبصروا ، وأن تعلموا فتعملوا ، فإن كانت دعوة القرآن لم تبلغكم
حقيقتها الكافلة لإصلاح البشر على الوجه الصحيح الذي يحرك إلى النظر لأنكم لم
تبحثوا عنها بالإخلاص مع التجرد من التقاليد المسلمة عندكم والأهواء ؛ ولأن
الإسلام ليس له زعامة ولا جماعات تبث دعوته ، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ
حضارته ، بل صار المسلمون في جملتهم حجة على الإسلام وحجابًا دون نوره ،
فأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في إبلاغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا
العصر ، فإن ظهر لكم الحق فذلك ما نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها ، وإن
عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم للعلم ، وحرصكم على استبانة الحق أن
تشرحوها لنعرض عليكم جوابنا عنها ، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون ) .
حقًّا قليلون وقليلون جدًّا ( كذا ) العلماء الذين يحذون حذو صاحب الفضيلة
العالم العلامة حجة الإسلام الأستاذ السيد رشيد رضا في إظهار الإسلام في صورته
الحقيقية العلمية العقلية ، وقد أظهر في دعوته شعوبَ المدنية إلى الإسلام ، كما
أثبت في مقاصد القرآن المجيد ، أن الإسلام دين البشرية والسلام ، دين العقل
والفكر ، دين العلم والحكمة ، دين الحجة والبرهان .
إن ظهور السفر النفيس ( الوحي المحمدي ) خدمة جلى أسداها للدين وللبشر
وللحقيقة وللتاريخ ، جديرة بأن تسطر له بأحرف من نور على صفحات الفخار
وليتفضل المؤلف الإمام بقبول شكري
دمشق ... ... ... ... ... ... ... الدكتور سعد عيد عرابي
... ... ... ... ... ... ... خريج جامعتي باريز وبرلين
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الأستاذ جامع بين العلم الصحيح والعمل به والدعوة إليه قولاً وكتابة وخطابة ومناظرة وبذلاً مما يملك من مال قليل فقد علمنا أنه اشترى من كتاب الوحي المحمدي نسخًا كثيرة من دمشق ووزعها على مَن يظن بهم الفهم والانتفاع ، حتى من ملاحدة الأغنياء ، فنسأل الله أن يخلفه عليه ويجزيه خير الجزاء .
(2) سيصدر الجزء الحادي عشر في المحرم سنة 1353 إن شاء الله تعالى .
(33/697)
ذو الحجة - 1352هـ
أبريل - 1934م
أبريل - 1934م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تصدير كتاب الوحي المحمدي
الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله جل ثناؤه أن جعل قبول هذا الكتاب وتأثيره فوق ما كنا نقدر
ونحتسب ، على ما نظن من دقة اختبارنا للعالم الإسلامي ، فإنه لم يكن إلا خلاصة
عامة من تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأكثر المسلمين قد هجروا القرآن هجرًا غير
جميل ؛ إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية ، وقوة
سياسية وحربية ، وثروة وحضارة ونَعمة معيشة ، بله ما يلزم ذلك من الفوائد
السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم ، وصد عدوانهم عن بلادهم وإنقاذهم من
استذلالهم لشعوبهم .
في القرآن كل ما ذكرت وما هو أكثر منه وأكبر ، ولا يطلبونه منه ، ومنهم
من يطلبه من غيره - حتى الحياة الروحية يعتقدون أنه هو ينبوعها الأعظم ، ويوجد
فيهم من يطلبها من غيره ( كالأوراد والأحزاب ) بناء على أنها مستمدة منه ويقل
فيهم من يزيد عليها تلاوة ألفاظه ، وإنما يتلوها تاليها منهم ومن غيرهم ؛ لأن
لقارئها على كل حرف منه عشر حسنات , لا للتدبر والادكار الذي أنزل لأجله
القرآن { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( ص :
29 ) { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ( المؤمنون : 68-69 ) { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } ( محمد : 24-25 ) .
إن أكثر المسلمين يجهلون أن للقرآن تأثيرًا صالحًا ما في حياتهم المعاشية
والمدنية والسياسية وهي أكبر همومهم ولا مرشد لهم فيها ، ويجهلون البرهان العقلي
المقترن بالشعور الوجداني ، على أنه وحي الله لنبيه ورسوله ، وأن في اتباعه
سعادتهم في دينهم ودنياهم ، ولا يجدون أحدًا من الذين يتولون تربيتهم وتعليمهم في
بيوتهم ولا في مدارسهم يقنعهم به ، ويربي فيهم ملكة الوازع النفسي لاتباعه ، لا
يعرفون كتابًا من كتب عقائدهم أو تفاسيره يهديهم إلى هذا ، والمجهول المطلق لا
تتوجه إليه النفس ، فلا عجب إذا هجروا القرآن وأعرضوا عن تدبره .
إن تفسير المنار قد أُلِّفَ لاستدراك هذا التقصير في كتب التفسير ، ولكنه لا
يدرس في المدارس ، ولا يعتمد عليه في التربية ، ولا يخطر في بال من لم يقرأه
أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها ، ولا لدفع الغوائل
عنها ، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من
الإصلاح والهدى ، وتجديد ثورته الأولى ، ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
كل ما يحتاج إليه المسلمون من إصلاح وتجديد حضارة وملك متوقف فيهم
على هداية القرآن وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله
عنهم له ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه
الله ، وكيف السبيل إلى إقناعهم بذلك ونحن ندعوهم إلى هذا منذ ثلث قرن ، وقل
منهم من سمع فاستجاب واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب ، حتى أهابت بهم صيحة
هذا الكتاب باسم الوحي المحمدي ، وإعجاز القرآن للبشر بما تقتضيه حضارة هذا
العصر وعلومه ومشكلاته السياسة والقومية : وتحدي علماء الإفرنج بعلومه
وإصلاحه ، ودعوتهم إلى الإسلام به ؛ لإنقاذ العالم المدني من أخطاره وانتياشهم من
تياره ، فكانت أول صيحة صخت الأسماع ، فأصغت الآذان ، وأشخصت الأبصار ،
وأهطعت الأعناق ، بالقرآن للقرآن ، فبادر أهل الغيرة إلى ترجمته بما اختلف من
اللغات ، وبث دعوته في الأقطار ، فأسر ما سرني من تأثيره إنما هو توجيه القلوب
إلى هداية القرآن ، وروح القرآن ، وإن اشترك فيه العربي والعجمي ، والسني
والشيعي والإباضي ، ولا غرو فالقرآن فوق المذاهب والأجناس والأوطان ، ومن
آياته المحكمات : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ } ( آل عمران : 105 ) ومن خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ( الأنعام : 159 ) .
وإنما مزية هذا الكتاب أنه بيَّن إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية
التي يفهمها كل قارئ ، وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد
مؤيدة بالشواهد ، وذكَّرهم بما كان من إحداثه أعظم ثورة عالمية وانقلاب ديني مدني
في الأرض ، وعرض على أبصارهم ما لا مراء فيه من فساد حال شعوب الحضارة
الغربية ، وعجز علومهم وفنونهم عن تلافي شرها ، وتدارك خطرها بعبارة
مختصرة ، تعلوها عناوين كبيرة أو صغيرة ، تشير إلى ما تحتها من كنوز ، وما
وراءها من ركاز إسلامي مركوز ، فلا تتعب القارئ الكسول ، ولا تنفر السامع
الملول .
من الدلائل على تقبل جميع المسلمين له بقبول حسن ما أثبتناه في التقاريظ
الملحقة بهذه الطبعة من كتب أئمة الفرق الثلاث الكبرى التي تضم الملايين من أهل
القبلة ، وما يرجى من مساعدتهم لنا على تعميم نشره ، فأما إمام أهل السنة فإنه
أبدى لنا عزمه على ذلك وكانت نسخ الطبعة الأولى قد نفذت ، وأما إمام العترة
والشيعة الزيدية فإنه عندما رآه كتب إلينا يستأذننا بطبعه في اليمن لتعميم نشره فيه
فكتبنا إليه بأننا سنعيد طبعه منقحًا مزيدًا فيه ، فكتب ثانيًا ما يراه القراء في أول
التقاريظ .
وقد كان بادر إلى المساعدة على نشره من أول وهلة صاحب السعادة السريّ
عزيز عزت باشا المصري فتبرع بثلاثين جنيهًا وزعنا بها نسخًا كثيرة في أوربة
وغيرها ، وتبرع صاحب السعادة محمد صادق المجددي وزير الأفغان المفوض في
مصر بمائة نسخة منه للمؤتمر الإسلامي في القدس ليوزعها رئيسه على فروعه في
الأقطار وتبرع آخرون بعشرات من النسخ على من يظنون انتفاعهم بالكتاب . دع
من انتدبوا للترغيب فيه ، وبيعه لمن يشتريه ، احتسابًا لوجه الله عز وجل .
وأما التقاريظ فقد نشرنا طائفة مما حفظناه منها لبيان آراء المسلمين في الكتاب
من الطبقات المختلفة ، وأحسنهم رأيًا مَن بيَّن أنه فيض من عين معين القرآن ،
اشتدت حاجة الناس إليه في هذا الزمان ، وأنه خير ما يدعى به إلى الإسلام ، وما
يدحض شبهات المعطلين الماديين ، والملاحدة المتفرنجين ، وما يفند تضليل دعاة
التنصير ، ويفضح ما يلبسون من شفوف الرياء والتزوير ، وما يلبِّسون على
غيرهم من إفك وتغرير . فقد أقيمت عليهم الحجة في هذا الكتاب بأنه لا يمكن إثبات
أصل دينهم ، ولا معجزات نبيهم ( لا ربهم ) إلا بثبوت هذا القرآن ، وأنه وحي من
الرحمن .
وأما الذين استأذنونا بترجمته باللغات المختلفة فقد أذنا لهم كلهم لأول وهلة ،
ولم نلبث أن علمنا أن أحد مترجميه باللغة الأوردية ( الهندية ) قد أتم عمله ، وهو
تلميذنا الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي مؤسس جريدة ( هند الجديد ) في كلكتة ،
وهو ينتظر صدور الطبعة الثانية ليدخل في ترجمته ما يجده من تنقيح وزيادة ، وإن
مترجمًا آخر بها ينشر ترجمته في بعض الصحف تعجيلاً للفائدة .
وكذلك يترجمه آخران باللغة الصينية ( أحدهما ) الشيخ بدر الدين الصيني
المدرس في دار العلوم الندوية في لكهنؤ ( الهند ) وصاحب المقالات المشهورة في
الصحف العربية .( وثانيهما ) صاحب مجلة ضياء الهلال , وهو يدرس تفسير
المنار في بلده ( قبودان ) وقد كتب إلينا يسألنا عن كلم في الكتابين ، وسنرسل إلى
كل منهما هذه الطبعة الجديدة ليعتمدا عليها .
وقد استأنيت من يريد ترجمته بالفارسية لأجل وزارة المعارف الأفغانية ولا
أدري ما فعل من أذنت له بالترجمة التركية ، ولا مدير المجلة الإسلامية في لندن
(رفيوا سلاميك ) وقد أذنت له بترجمته باللغة الإنكليزية ونشره بها ، بيد أني سأرسل
إليهم هذه الطبعة الثانية وأدع لهم الخيار في إيثارها على الأولى أو الاكتفاء بها .
كنت قبل العلم بخبر هؤلاء المترجمين عازمًا على تغيير وتبديل في تنقيح
مسائل الكتاب وترتيبه وفصوله والزيادة فيه ، ثم خشيت أن يشق عليهم تغيير
الترجمة بالتبع للتغيير في الأصل ، أو الاضطرار إلى استئناف العمل ، ولهذا
وعدت بما وعدت به في بيان امتيازات هذه الطبعة من فاتحتها ( ص21 ) ولكن
رأيتني مضطرًّا إلى إخلاف هذا الموعد من ناحية الزيادة على الأصل في صلب
الكتاب في كثير من المسائل المجملة والموجزة بتفصيلها وإيضاحها .
وأما الزيادات الكبيرة التي وعدت بجعلها علاوات ملحقة بالكتاب فظللت ثابتًا
على وعدي بها ، ولما طال الكتاب بما زدته في هذه الطبعة حتى كاد يربو على
ثلث الأصل ، اخترت أن أجعل الملحقات في جزء مستقل ، وقد ختمت الكتاب
بدونها ، فهو قائم بنفسه مستغن في إثبات الوحي المحمدي وإثبات النبوة به ،
والتحدي بما جاء فيه وبناء الدعوة إلى الإسلام عليه ، وإنما تكون تلك الملحقات
تعزيزًا له ، وهذا بيان لما أشرت ووعدت به منها ، ومع زيادة يجوز أن يتبعها
غيرها .
علاوات كتاب الوحي :
( 1 ) أنباء الغيب في القرآن ، وعلى لسان النبي عليه الصلاة والسلام ، مما
ظهر صدقه في عصره صلى الله عليه وسلم ومن بعده ، ولا يزال يظهر منها ما
يدل على صدقه ، حتى يأتي أمر الله عز وجل .
( 2 ) سنن الله في الخلق ونظام القضاء والقدر ، وقد أتينا في هذه الطبعة
بالأصل فيها .
( 3 ) سنن الله تعالى في نظام الاجتماع ، وقد ألممنا بها بعض الإلمام .
( 4 ) المسائل العلمية والفلكية التي كانت مجهولة في عصر التنزيل وعرفت
بعده بقرون ، وقد نَوهنا بها مرارًا أوضحها ما في خاتمة الكتاب .
( 5 ) الأمور الصحية التي كانت مجهولة في جملتها أو تفصيلها وكشفها
الطب .
( 6 ) أسرار العبادات وحكم التشريع التي لا يعرف قدرها إلا بالنبوغ في
علوم كثيرة منها علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم الطب وعلم الاجتماع .
( 7 ) خلاصة مجملة من سيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه
وشمائله ، الدالة على نبوته .
( 8 ) خلاصة من سيرة الخلفاء الراشدين ، وأمراء الصحابة وقوادهم
الفاتحين ، وهدي السلف الصالحين ، المجلية لإصلاح الدين وتفضيله على غيره .
( 9 ) الدلائل الثمانية التي حذقتها من خاتمة الطبعة الأولى المؤكدة لكون
القرآن من عند الله تعالى مع زيادة عليها .
( 10 ) الكلام في هذيان من عارض القرآن من المتأخرين الذين ادعوا النبوة
والألوهية كالباب والبهاء الإيرانيين وميرزا غلام أحمد القادياني الهندي وإيراد
الشواهد من وحيهم الشيطاني الذي يضحك الثكلى .
( 11 ) شواهد من كلام كبار علماء الإفرنج وكتابهم في مزايا الإسلام التي
فضل بها جميع الأديان بنبيه المرسل وكتابه المنزل .
( 12 ) الشبهات الكبرى للماديين ولخصوم الإسلام من المليين ودحضها
بالبراهين لولا أن أكثر الناس يفهمون من التفصيل بالإسهاب ، ما لا يفهمون من
الإجمال في الإيجاز ، لاكتفوا منا في إثبات الوحي المحمدي بما ذكرناه من المطالب
الأربع الأولى ؛ إذ الغرض من ذكرها الدلالة على أنها مما يعلو علم محمد صلى الله
عليه وسلم الكسبي ، واستعداده العقلي ، ويستحيل أن تكون من وحي إلهامه النفسي ،
ولكنهم طالبونا بها ، وصرَّح بعضهم بأننا أغفلناها .
ولولا أن هذا الكتاب وضع في قالب الاختصار لفصَّلنا فيه هذه المطالب ،
ونظمناه في سلك ما سميناه المقاصد ، ولمددنا تلك المقاصد مدًّا ، وكثَّرناها عدًّا ،
فجعلنا الأول منها ثلاثًا ، والخامس بعدد جمله عشرًا .
وحينئذ يمكن بسط علوم القرآن الدالة على أنه من عند الله في عدة أسفار كما
صرَّحنا بذلك في الصحفة 128 منه .
هذا وإنني قد بيَّنت في آخر مقدمة الطبعة الأولى ( ص 11 ) أنني كتبته في
أوقات متفرقة ، وزمن هم وعسرة ، وأشرت إلى ما أراه يفتقر إلى الإصلاح من
عبارته ، ككثرة الإحالة فيه على تفسير المنار ؛ لأنه كان في الأصل استطرادًا فيه ،
وإلى بعض التكرار فيه .
وقضى الله أن أعيد طبعه في زمن قصير ، وعسير غير يسير ، وقد وفقني
فيه بفضله لحذف كثير من الإحالات غير الضرورية منه ، وجعل أكثر ما بقي منها
في حواشيه حتى لا تشغل قارئه ، وأما أكثر ما يراه في صلبه من الإحالات ، فهو
على ما سبق فيه لا على ما في غيره .
وأما ما في الطبعة الأولى من التكرار فقد أشرت في مقدمتها إلى أن منه ما
هو مقصود لذاته اقتداء بالقرآن ، وهذا الصنف منه قد أبقيته وزدت فيه ، وقد
حذفت من خاتمته مقدمات إثبات الوحي المحمدي الست ، وما يتلوها من الدلائل
الثمانية على كون هذا القرآن من كلام الله ووحيه ، وخلاصة المقاصد العشر من
علومه الإصلاحية ؛ لأن أكثر ما أوردته منها مختصر مما قبله ، وقد أستغني في
هذه الطبعة عن أكثره .
هذا وإنني أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في يوم ذكرى مولد النبي
صلى الله عليه وسلم من هذا العام ( 1352 ) على المشهور بين الناس [1] لتذكيرهم
فيه بأظهر الدلائل على نبوته ودحض أقوى الشبهات على دعوته ، فيكون خير ما
يذكرون من نعمة الله تعالى به . وها أنذا أصدر الطبعة الثانية منه في يوم عرفة
من هذه السنة نفسها ؛ تذكيرًا بما نزل عليه فيه من قول الله عز وجل : { اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 )
لأن موضوع الكتاب بيان إكماله تعالى لهذا الدين ، وإتمام نعمته على العالمين ،
واستمرار حاجة جميع البشر إلى هدايته أبد الآبدين ، والحمد لله رب العالمين .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو الثاني عشر من ربيع الأول ، والأرجح عند المحدثين أنه التاسع أو العاشر منه .(33/753
__________
تصدير كتاب الوحي المحمدي
الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله جل ثناؤه أن جعل قبول هذا الكتاب وتأثيره فوق ما كنا نقدر
ونحتسب ، على ما نظن من دقة اختبارنا للعالم الإسلامي ، فإنه لم يكن إلا خلاصة
عامة من تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأكثر المسلمين قد هجروا القرآن هجرًا غير
جميل ؛ إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية ، وقوة
سياسية وحربية ، وثروة وحضارة ونَعمة معيشة ، بله ما يلزم ذلك من الفوائد
السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم ، وصد عدوانهم عن بلادهم وإنقاذهم من
استذلالهم لشعوبهم .
في القرآن كل ما ذكرت وما هو أكثر منه وأكبر ، ولا يطلبونه منه ، ومنهم
من يطلبه من غيره - حتى الحياة الروحية يعتقدون أنه هو ينبوعها الأعظم ، ويوجد
فيهم من يطلبها من غيره ( كالأوراد والأحزاب ) بناء على أنها مستمدة منه ويقل
فيهم من يزيد عليها تلاوة ألفاظه ، وإنما يتلوها تاليها منهم ومن غيرهم ؛ لأن
لقارئها على كل حرف منه عشر حسنات , لا للتدبر والادكار الذي أنزل لأجله
القرآن { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( ص :
29 ) { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ( المؤمنون : 68-69 ) { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } ( محمد : 24-25 ) .
إن أكثر المسلمين يجهلون أن للقرآن تأثيرًا صالحًا ما في حياتهم المعاشية
والمدنية والسياسية وهي أكبر همومهم ولا مرشد لهم فيها ، ويجهلون البرهان العقلي
المقترن بالشعور الوجداني ، على أنه وحي الله لنبيه ورسوله ، وأن في اتباعه
سعادتهم في دينهم ودنياهم ، ولا يجدون أحدًا من الذين يتولون تربيتهم وتعليمهم في
بيوتهم ولا في مدارسهم يقنعهم به ، ويربي فيهم ملكة الوازع النفسي لاتباعه ، لا
يعرفون كتابًا من كتب عقائدهم أو تفاسيره يهديهم إلى هذا ، والمجهول المطلق لا
تتوجه إليه النفس ، فلا عجب إذا هجروا القرآن وأعرضوا عن تدبره .
إن تفسير المنار قد أُلِّفَ لاستدراك هذا التقصير في كتب التفسير ، ولكنه لا
يدرس في المدارس ، ولا يعتمد عليه في التربية ، ولا يخطر في بال من لم يقرأه
أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها ، ولا لدفع الغوائل
عنها ، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من
الإصلاح والهدى ، وتجديد ثورته الأولى ، ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
كل ما يحتاج إليه المسلمون من إصلاح وتجديد حضارة وملك متوقف فيهم
على هداية القرآن وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله
عنهم له ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه
الله ، وكيف السبيل إلى إقناعهم بذلك ونحن ندعوهم إلى هذا منذ ثلث قرن ، وقل
منهم من سمع فاستجاب واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب ، حتى أهابت بهم صيحة
هذا الكتاب باسم الوحي المحمدي ، وإعجاز القرآن للبشر بما تقتضيه حضارة هذا
العصر وعلومه ومشكلاته السياسة والقومية : وتحدي علماء الإفرنج بعلومه
وإصلاحه ، ودعوتهم إلى الإسلام به ؛ لإنقاذ العالم المدني من أخطاره وانتياشهم من
تياره ، فكانت أول صيحة صخت الأسماع ، فأصغت الآذان ، وأشخصت الأبصار ،
وأهطعت الأعناق ، بالقرآن للقرآن ، فبادر أهل الغيرة إلى ترجمته بما اختلف من
اللغات ، وبث دعوته في الأقطار ، فأسر ما سرني من تأثيره إنما هو توجيه القلوب
إلى هداية القرآن ، وروح القرآن ، وإن اشترك فيه العربي والعجمي ، والسني
والشيعي والإباضي ، ولا غرو فالقرآن فوق المذاهب والأجناس والأوطان ، ومن
آياته المحكمات : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ } ( آل عمران : 105 ) ومن خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ( الأنعام : 159 ) .
وإنما مزية هذا الكتاب أنه بيَّن إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية
التي يفهمها كل قارئ ، وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد
مؤيدة بالشواهد ، وذكَّرهم بما كان من إحداثه أعظم ثورة عالمية وانقلاب ديني مدني
في الأرض ، وعرض على أبصارهم ما لا مراء فيه من فساد حال شعوب الحضارة
الغربية ، وعجز علومهم وفنونهم عن تلافي شرها ، وتدارك خطرها بعبارة
مختصرة ، تعلوها عناوين كبيرة أو صغيرة ، تشير إلى ما تحتها من كنوز ، وما
وراءها من ركاز إسلامي مركوز ، فلا تتعب القارئ الكسول ، ولا تنفر السامع
الملول .
من الدلائل على تقبل جميع المسلمين له بقبول حسن ما أثبتناه في التقاريظ
الملحقة بهذه الطبعة من كتب أئمة الفرق الثلاث الكبرى التي تضم الملايين من أهل
القبلة ، وما يرجى من مساعدتهم لنا على تعميم نشره ، فأما إمام أهل السنة فإنه
أبدى لنا عزمه على ذلك وكانت نسخ الطبعة الأولى قد نفذت ، وأما إمام العترة
والشيعة الزيدية فإنه عندما رآه كتب إلينا يستأذننا بطبعه في اليمن لتعميم نشره فيه
فكتبنا إليه بأننا سنعيد طبعه منقحًا مزيدًا فيه ، فكتب ثانيًا ما يراه القراء في أول
التقاريظ .
وقد كان بادر إلى المساعدة على نشره من أول وهلة صاحب السعادة السريّ
عزيز عزت باشا المصري فتبرع بثلاثين جنيهًا وزعنا بها نسخًا كثيرة في أوربة
وغيرها ، وتبرع صاحب السعادة محمد صادق المجددي وزير الأفغان المفوض في
مصر بمائة نسخة منه للمؤتمر الإسلامي في القدس ليوزعها رئيسه على فروعه في
الأقطار وتبرع آخرون بعشرات من النسخ على من يظنون انتفاعهم بالكتاب . دع
من انتدبوا للترغيب فيه ، وبيعه لمن يشتريه ، احتسابًا لوجه الله عز وجل .
وأما التقاريظ فقد نشرنا طائفة مما حفظناه منها لبيان آراء المسلمين في الكتاب
من الطبقات المختلفة ، وأحسنهم رأيًا مَن بيَّن أنه فيض من عين معين القرآن ،
اشتدت حاجة الناس إليه في هذا الزمان ، وأنه خير ما يدعى به إلى الإسلام ، وما
يدحض شبهات المعطلين الماديين ، والملاحدة المتفرنجين ، وما يفند تضليل دعاة
التنصير ، ويفضح ما يلبسون من شفوف الرياء والتزوير ، وما يلبِّسون على
غيرهم من إفك وتغرير . فقد أقيمت عليهم الحجة في هذا الكتاب بأنه لا يمكن إثبات
أصل دينهم ، ولا معجزات نبيهم ( لا ربهم ) إلا بثبوت هذا القرآن ، وأنه وحي من
الرحمن .
وأما الذين استأذنونا بترجمته باللغات المختلفة فقد أذنا لهم كلهم لأول وهلة ،
ولم نلبث أن علمنا أن أحد مترجميه باللغة الأوردية ( الهندية ) قد أتم عمله ، وهو
تلميذنا الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي مؤسس جريدة ( هند الجديد ) في كلكتة ،
وهو ينتظر صدور الطبعة الثانية ليدخل في ترجمته ما يجده من تنقيح وزيادة ، وإن
مترجمًا آخر بها ينشر ترجمته في بعض الصحف تعجيلاً للفائدة .
وكذلك يترجمه آخران باللغة الصينية ( أحدهما ) الشيخ بدر الدين الصيني
المدرس في دار العلوم الندوية في لكهنؤ ( الهند ) وصاحب المقالات المشهورة في
الصحف العربية .( وثانيهما ) صاحب مجلة ضياء الهلال , وهو يدرس تفسير
المنار في بلده ( قبودان ) وقد كتب إلينا يسألنا عن كلم في الكتابين ، وسنرسل إلى
كل منهما هذه الطبعة الجديدة ليعتمدا عليها .
وقد استأنيت من يريد ترجمته بالفارسية لأجل وزارة المعارف الأفغانية ولا
أدري ما فعل من أذنت له بالترجمة التركية ، ولا مدير المجلة الإسلامية في لندن
(رفيوا سلاميك ) وقد أذنت له بترجمته باللغة الإنكليزية ونشره بها ، بيد أني سأرسل
إليهم هذه الطبعة الثانية وأدع لهم الخيار في إيثارها على الأولى أو الاكتفاء بها .
كنت قبل العلم بخبر هؤلاء المترجمين عازمًا على تغيير وتبديل في تنقيح
مسائل الكتاب وترتيبه وفصوله والزيادة فيه ، ثم خشيت أن يشق عليهم تغيير
الترجمة بالتبع للتغيير في الأصل ، أو الاضطرار إلى استئناف العمل ، ولهذا
وعدت بما وعدت به في بيان امتيازات هذه الطبعة من فاتحتها ( ص21 ) ولكن
رأيتني مضطرًّا إلى إخلاف هذا الموعد من ناحية الزيادة على الأصل في صلب
الكتاب في كثير من المسائل المجملة والموجزة بتفصيلها وإيضاحها .
وأما الزيادات الكبيرة التي وعدت بجعلها علاوات ملحقة بالكتاب فظللت ثابتًا
على وعدي بها ، ولما طال الكتاب بما زدته في هذه الطبعة حتى كاد يربو على
ثلث الأصل ، اخترت أن أجعل الملحقات في جزء مستقل ، وقد ختمت الكتاب
بدونها ، فهو قائم بنفسه مستغن في إثبات الوحي المحمدي وإثبات النبوة به ،
والتحدي بما جاء فيه وبناء الدعوة إلى الإسلام عليه ، وإنما تكون تلك الملحقات
تعزيزًا له ، وهذا بيان لما أشرت ووعدت به منها ، ومع زيادة يجوز أن يتبعها
غيرها .
علاوات كتاب الوحي :
( 1 ) أنباء الغيب في القرآن ، وعلى لسان النبي عليه الصلاة والسلام ، مما
ظهر صدقه في عصره صلى الله عليه وسلم ومن بعده ، ولا يزال يظهر منها ما
يدل على صدقه ، حتى يأتي أمر الله عز وجل .
( 2 ) سنن الله في الخلق ونظام القضاء والقدر ، وقد أتينا في هذه الطبعة
بالأصل فيها .
( 3 ) سنن الله تعالى في نظام الاجتماع ، وقد ألممنا بها بعض الإلمام .
( 4 ) المسائل العلمية والفلكية التي كانت مجهولة في عصر التنزيل وعرفت
بعده بقرون ، وقد نَوهنا بها مرارًا أوضحها ما في خاتمة الكتاب .
( 5 ) الأمور الصحية التي كانت مجهولة في جملتها أو تفصيلها وكشفها
الطب .
( 6 ) أسرار العبادات وحكم التشريع التي لا يعرف قدرها إلا بالنبوغ في
علوم كثيرة منها علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم الطب وعلم الاجتماع .
( 7 ) خلاصة مجملة من سيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه
وشمائله ، الدالة على نبوته .
( 8 ) خلاصة من سيرة الخلفاء الراشدين ، وأمراء الصحابة وقوادهم
الفاتحين ، وهدي السلف الصالحين ، المجلية لإصلاح الدين وتفضيله على غيره .
( 9 ) الدلائل الثمانية التي حذقتها من خاتمة الطبعة الأولى المؤكدة لكون
القرآن من عند الله تعالى مع زيادة عليها .
( 10 ) الكلام في هذيان من عارض القرآن من المتأخرين الذين ادعوا النبوة
والألوهية كالباب والبهاء الإيرانيين وميرزا غلام أحمد القادياني الهندي وإيراد
الشواهد من وحيهم الشيطاني الذي يضحك الثكلى .
( 11 ) شواهد من كلام كبار علماء الإفرنج وكتابهم في مزايا الإسلام التي
فضل بها جميع الأديان بنبيه المرسل وكتابه المنزل .
( 12 ) الشبهات الكبرى للماديين ولخصوم الإسلام من المليين ودحضها
بالبراهين لولا أن أكثر الناس يفهمون من التفصيل بالإسهاب ، ما لا يفهمون من
الإجمال في الإيجاز ، لاكتفوا منا في إثبات الوحي المحمدي بما ذكرناه من المطالب
الأربع الأولى ؛ إذ الغرض من ذكرها الدلالة على أنها مما يعلو علم محمد صلى الله
عليه وسلم الكسبي ، واستعداده العقلي ، ويستحيل أن تكون من وحي إلهامه النفسي ،
ولكنهم طالبونا بها ، وصرَّح بعضهم بأننا أغفلناها .
ولولا أن هذا الكتاب وضع في قالب الاختصار لفصَّلنا فيه هذه المطالب ،
ونظمناه في سلك ما سميناه المقاصد ، ولمددنا تلك المقاصد مدًّا ، وكثَّرناها عدًّا ،
فجعلنا الأول منها ثلاثًا ، والخامس بعدد جمله عشرًا .
وحينئذ يمكن بسط علوم القرآن الدالة على أنه من عند الله في عدة أسفار كما
صرَّحنا بذلك في الصحفة 128 منه .
هذا وإنني قد بيَّنت في آخر مقدمة الطبعة الأولى ( ص 11 ) أنني كتبته في
أوقات متفرقة ، وزمن هم وعسرة ، وأشرت إلى ما أراه يفتقر إلى الإصلاح من
عبارته ، ككثرة الإحالة فيه على تفسير المنار ؛ لأنه كان في الأصل استطرادًا فيه ،
وإلى بعض التكرار فيه .
وقضى الله أن أعيد طبعه في زمن قصير ، وعسير غير يسير ، وقد وفقني
فيه بفضله لحذف كثير من الإحالات غير الضرورية منه ، وجعل أكثر ما بقي منها
في حواشيه حتى لا تشغل قارئه ، وأما أكثر ما يراه في صلبه من الإحالات ، فهو
على ما سبق فيه لا على ما في غيره .
وأما ما في الطبعة الأولى من التكرار فقد أشرت في مقدمتها إلى أن منه ما
هو مقصود لذاته اقتداء بالقرآن ، وهذا الصنف منه قد أبقيته وزدت فيه ، وقد
حذفت من خاتمته مقدمات إثبات الوحي المحمدي الست ، وما يتلوها من الدلائل
الثمانية على كون هذا القرآن من كلام الله ووحيه ، وخلاصة المقاصد العشر من
علومه الإصلاحية ؛ لأن أكثر ما أوردته منها مختصر مما قبله ، وقد أستغني في
هذه الطبعة عن أكثره .
هذا وإنني أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في يوم ذكرى مولد النبي
صلى الله عليه وسلم من هذا العام ( 1352 ) على المشهور بين الناس [1] لتذكيرهم
فيه بأظهر الدلائل على نبوته ودحض أقوى الشبهات على دعوته ، فيكون خير ما
يذكرون من نعمة الله تعالى به . وها أنذا أصدر الطبعة الثانية منه في يوم عرفة
من هذه السنة نفسها ؛ تذكيرًا بما نزل عليه فيه من قول الله عز وجل : { اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 )
لأن موضوع الكتاب بيان إكماله تعالى لهذا الدين ، وإتمام نعمته على العالمين ،
واستمرار حاجة جميع البشر إلى هدايته أبد الآبدين ، والحمد لله رب العالمين .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو الثاني عشر من ربيع الأول ، والأرجح عند المحدثين أنه التاسع أو العاشر منه .(33/753