الوحي المحمدي لرشيد رضا من المجلة مباشرة مع تقارظ العلماء ساعة عرض حلقاته في المنار (ورد)

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
فائدة هذا النقل للكتاب أنه ملف ورد جمعته أثناء بحثي في المجلة (ملفات ورد) ومرفق مع تقاريظ العلماء والمفكرين ، وتعليق المنار عليها، وهو مالاتجده في الكتاب المطبوع.
وقد جمعت ذلك لنفسي حتى أطلع على كل ماتعلق بالكتاب ,واسباب صدوره في وقته وغير ذلك مما لانعدم فوائده
قد يكون الكتاب نفسه ناقص الصفحات الا اني نقلت لكم مااستطعت الوصول اليه
وقد وضعت الملف( في المداخلة رقم5)

الكاتب : محمد رشيد رضا
ربيع الأول - 1352هـ
يونيه - 1933م

مقدمة كتاب الوحي المحمدي

بسم الله الرحمن الرحيم
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
العَزِيزُ الحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * فَإِنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } ( آل
عمران : 18-20 )
ارتقاء البشر المادي وهبوطهم الأدبي
وحاجتهم إلى الدين
إن من المعلوم اليقيني الثابت بالحواس أن علوم الكون المادية تَثِبُ في هذا
العصر وُثُوبًا يشبه الطفور ، وتؤتي من الثمار اليانعة بتسخير الطبيعة للإنسان ما
صارت به الدنيا كلها كأنها مدينة واحدة ، وكأن أقطارها بيوت لهذه المدينة ، وكأن
شعوبها أسر ( عائلات ) لأمة واحدة في هذه البيوت ( الأقطار ) يمكنهم أن يعيشوا
فيها إخوانًا متعاونين ، سعداء متحابين ، لو اهتدوا بالدين .
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن البشر يرجعون القهقرى في الآداب
والفضائل على نسبة عكسية مُطَّرِدَة لارتقائهم في العلوم المادية واستمتاعهم بثمراتها ،
فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل ، وجرأة على اقتراف الجرائم ، وافتنانًا في
الشهوات البهيمية ، ونقض ميثاق الزوجية ، وقطيعة وشائج الأرحام ، ونبذ هداية
الأديان ، حتى كادوا يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوات من دين
وأدب وعرف وعقل ، بل رجع بعضهم إلى عيشة العري في أرقى ممالك أوربة
علمًا وحضارة ، كما يعيش بعض بقايا الهَمَج السُّذَّج في غابات أفريقية وبعض
جزائر البحار النائية عن العمران .
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد
جناية عليهم وعلى الإنسانية - من جنايتهم على أنفسهم - بإغرائها أضغان التنافس
بينهم ، وباستعمالها جميع ثمرات العلوم ومنافع الفنون في الاستعداد للحرب العامة
التي تدمر صروح العمران التي شيدتها العصور الكثيرة ، في أَشْهُرٍ أو أيام معدودة ،
وتفني الملايين فيها من غير المحاربين كالنساء والأطفال ، وبصرفها معظم
ثروات شعوبها في هذه السبيل وفي سبيل ظلمها للشعوب الضعيفة التي ابتليت
بسلطانها ، وسلبها لثروتهم وحريتهم في دينهم ودنياهم ، فالعالم البشري كله في شقاء
من سياسة هذه الدولة الباغية الخبيثة الطوية ، وكل ما عقد من المؤتمرات لدرء
أخطارها لم يزد نارها إلا استعارًا ، ولو حسنت نياتها وأنفقت هذه الملايين التي
تسلبها من مكاسب شعوبها وغيرهم في سبيل الإصلاح الإنساني العام لبلغ البشر بها
أعلى درجات الثراء والرخاء .
كل ما ذكر معلوم باليقين ، فهو حق واقع ما له من دافع ، ومن المعلوم من
استقراء تاريخ هذه الحضارة المادية أن هذه الشرور كانت لازمة لها ، ونمت بنمائها ،
فكان هذا برهانًا على أن العلوم والفنون البشرية المحض غير كافية لجعل البشر
سعداء في حياتهم الدنيا ، فضلا عن سعادتهم في الحياة الآخرة ، وإنما تتم السعادتان
لهم بهداية الدين ، فالإنسان مدني بالطبع ، أو بالفطرة كما يقول الإسلام .
من أجل ذلك فكر بعض عقلاء أوربة وغيرهم في اللجوء إلى هداية الدين ،
وأنه هو العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها ، وتمنوا لو يبعث
في الغرب أو في الشرق نبي جديد بدين جديد يصلح الله بهدايته فسادها ، ويقوِّمُ بها
منئادها ؛ لأن الأديان المعروفة لهم لا تصلح لهذا العصر ، وقد فسد حال جميع أهلها ،
وكان ما يسمونه دين المحبة مِصْداقًا لآية : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ } ( المائدة : 14 ) .
الحجب بين الإفرنج وحقيقة الإسلام :
بيد أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة دين القرآن ، وهو الدين الإلهي العام ، والمانع
لهم من معرفته ثلاثة حُجُب تحول دون النظر الصحيح فيه ، وعدم فهمهم للقرآن كما
يجب أن يُفْهَم ، فأما الحجب دونه فهذا بيانها بالإيجاز :
( الحجاب الأول ) الكنيسة أو الكنائس التي عادته منذ بلغتها دعوته ،
وطفقت تصوره بصور مشوهة باطلة بدعاية عامة فيها من افتراء الكذب وأقوال
الزور والبهتان ، ما لم يعهد مثله في أهل ملة من البشر في زمن من الأزمان ،
وألَّفَت في ذلك من الكتب والرسائل والأغاني والأناشيد والقصائد ، ما يعرف بطلانه
كل مؤرخ مطلع على الحقائق ، ثم إنها جعلت تشويهه ووجوب معاداته من أركان
التربية والتعليم في جميع المدارس التي يتولى أتباعها تعليم الناس فيها ، فما من أحد
يتعلم فيها من أتباعها إلا وهو يعتقد أن جميع المسلمين أعداء للمسيح وللمسيحيين
كافة فيجب عليه عدواتهم ما استطاع ، والحق الواقع أن الإسلام هو صديق
المسيحية المتمم لهدايتها ، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الفارقليط روح الحق
الذي بشَّر به المسيح عليه السلام
( الحجاب الثاني ) رجال السياسة الأوربية ، فإنهم ورثوا عداوة الإسلام من
الكنيسة ، وتلقوا مفترياتها في الطعن عليه بالقبول ، وضاعف هذه العداوة له
والضراوة بحربه ، طمعهم في استعباد شعوبه واستعمار ممالكهم .
وإذا كان رجال الدين قد ملئوا الدنيا كذبًا وافتراء على الإسلام - ومن أسس
الدين الصدق وقول الحق والحب والرحمة والعدل والإيثار - فأي شيء يكثر فعله
على رجال السياسة ، وأساس بنائها الكذب وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان
والقسوة والأثرة والخداع ، وهو ما نراه بأعيننا ونسمع أخباره بآذاننا كل يوم في
المستعمرات الأوربية ؟ بل نحن نعلم أن سبب افتراء رجال الدين على الإسلام هو
السياسة لا الدين نفسه ، وإن قاعدتهم المشهورة ( الغاية تبرر الواسطة ) سياسية لا
إنجيلية ، فما كان لدين أن يبيح الجرائم والرذائل باتخاذها وسيلة لمنفعة أهله ، وإن
دينية .
( الحجاب الثالث ) سوء حال المسلمين في هذه القرون الأخيرة ، فقد فسدت
حكوماتهم وشعوبهم ، واستحوذ عليهم الجهل بحقيقة دينهم ومصالح دنياهم ، حتى
صاروا حجة لأعدائهم فيهما على أنه لا خير فيهم ولا في دينهم ، وأمكن لهؤلاء
الأعداء أن يقنعوا بهذه الحجة الداحضة أكثر من يتخرج في مدارسهم السياسية
والتبشيرية من ملتهم ، حتى نابتة المسلمين أنفسهم ، وهم يختارون من هذه النابتة
الأفراد التي تتولى أعمال الحكومة والتعليم في مدارسها في كل قطر خاضع لنفوذ
دولهم الفعلي ، بأي اسم من أسمائه من فتح وامتلاك وحماية واحتلال وانتداب ، أو
لنفوذهم السياسي والتعليمي كما فعلوا في بلاد الترك و إيران ، لتساعدهم على هدم
كل شيء إسلامي فيها من اعتقاد وأدب وتشريع ، وقد كان السيد جمال الدين
الأفغاني حكيم الإٍسلام موقظ الشرق يرى أن هذا الحجاب أكثف الحُجُب الحائلة بين
شعوب أوربة والإسلام ، ونقل لي الثقة عنه أنه قال : إذا أردنا أن ندعو أوربة إلى
ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين ، فإنهم ينظرون إلينا من خلال
القرآن هكذا : - ورفع كفيه وفرَّج بين أصابعهما - فيرون وراءه أقوامًا فشا فيهم
الجهل والتخاذل والتواكل فيقولون : لو كان هذا الكتاب حقًّا مصلحًا لما كان أتباعه
كما نرى .
لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر
المسلمين فأنصفوه فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة ، ومن مباحث عامة في العلم
والدين ، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة ، ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم
يكن مُبَيِّنًا لحقيقته كلها ، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم ، وكان جُلُّ تأثيره في
أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا في بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم
آخرون ، فهي لم تهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام .
وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب ، وأعني به الفهم الذي تعرف به حقيقة
إعجازه وتشريعه ، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذي لا يحتاج البشر معه إلى
كتاب آخر ولا إلى نبي آخر - فله أسباب .
الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن :
( أولهما ) جهل بلاغة اللغة العربية التي بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز في
أسلوبه ونظمه وتأثيره في أنفس المؤمنين والكافرين به جميعًا ، فأحدث بذلك ما
أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية في العرب والانقلاب العام في البشر ، كما
شرحناه في هذا الكتاب ، وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها علماء
المسلمين موضوع تحدي البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه ، وجعلوا
عجز العرب الخُلَّص عن معارضته بها ، ثم عجز المولَّدين الذين جمعوا بين ملكة
العربية العلمية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان ، هو الحجة الكبرى على نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادًا
متفرقين منهم - فما القول في غيرهم ؟ فعلماء المسلمين في هذه القرون يحتجون بعجز
أولئك ولا يدعون أنهم يدركون سر هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه ، بل قال بعض
علماء النظر المتقدمين منهم : إن الإعجاز واقع غير معقول السبب ، فما هو إلا أن
الله تعالى صرف الناس عن معارضته بقدرته والصواب أن منهم من حاول المعارضة
فعجزوا ؛ إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التي تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا ،
ومن متأخري هؤلاء من ادعى النبوة كمسيح الهند القادياني الدجال ، ومن ادعى
الألوهية ( كالبهاء ) وقد أخفى أتباع هذا كتابه الملقب بالأقدس ؛ لئلا يفتضحوا به بين
الناس .
( ثانيها ) أن ترجمات القرآن التي يعتمد عليها علماء الإفرنج في فهم القرآن
كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر ،
وإنما تؤدي بعض ما يفهمه المترجم له منهم ، وقلما يكون فهمه تامًّا صحيحًا ،
ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا ، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما : قصور
فهمه وقصور لغته ، وقد اعترف لي ولغيري بهذا مستر ( محمد ) مارما ديوك بكتل
الذي ترجمه بالإنكليزية وجاء مصر منذ 3 سنوات فعرض على بعض علماء
العربية المتقنين للغة الإنكليزية ما رأى أنه عجز عن أداء معناه منه ، وصحح
بمساعدتهم ما ذاكرهم فيه .
واعترف بذلك الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي الذي كلفته وزارتا
الخارجية والمعارف الفرنسية لدولته بترجمة 62 سورة من السور الطول والمئين
والمفصل التي لا تكرار فيها ففعل . وقد قال في مقدمة ترجمته التي صدرت سنة
1926 ما معناه :
( أما أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق جل وعلا ، فإن الأسلوب الذي
ينطوي على كُنْه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيًّا . والحق
الواقع أن أكثر الكُتاب ارتيابًا وشكًّا قد خضعوا لسلطان تأثيره ( في الأصل : لتأثير
سحره ، يعني تأثيره الذي يشبه السحر في كونه لا يعرف له سبب عادي ) وإن
سلطانه على الثلاثمائة الملايين من المسلمين المنتشرين على سطح المعمور لبالغ
الحد الذي جعل أجانب المبشرين يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة
محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن .
( ذلك أن هذا الأسلوب الذي طرق في أول عهده آذان البدو [1] كان نثرًا جد
طريف ، يفيض جزالة في اتساق نسق ، متجانسًا مسجعًا ، لفعله أثر عميق في نفس
كل سامع يفقه العربية ( لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان
أداء تأثير هذا النثر البديع ( الذي لم يسمع بمثله ) بلغة أخرى ، وخاصة اللغة
الفرنسية الضيقة ( التي لا سعة فيها للتعبير عن الشعور ) المرنة ( التي لا تتنازل
عن حقوقها ) والقاسية ، وزد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات
العصرية ليست لغة دينية وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية ) ا هـ .
ثم تكلم عن عنايته هو مدة تسع سنوات متواليات بمحاولة نقل شيء من
القرآن إلى اللغة الفرنسية على شرط المحافظة على بلاغة الأصل ( وتساءل هل
أمكنه التغلب على هذه الصعوبة أم لا ؟ يعني أنه يشك في ذلك ) .
( ثالثها ) أن أسلوب القرآن الغريب المخالف لجميع أساليب الكلام العربي ،
وطريقته في مزج العقائد والمواعظ والحكم والأحكام والآداب بعضها ببعض في
الآيات المتفرقة في السور - وهو ما بينا سببه وحكمته في هذا الكتاب - قد كان
حائلاً دون جمع كبار علماء المسلمين من المفسرين وغيرهم لكل نوع من أنواع
علومه ومقاصده في باب خاص به ، كما فعلوا في آيات الأحكام العملية من العبادات
والمعاملات ، دون القواعد والأصول الاجتماعية والسياسية والمالية التي يرى
القارئ نموذجها في هذا الكتاب ؛ إذ لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها كما نشعر في
هذا العصر .
وقد عني بعض الإفرنج بوضع كتاب باللغة الفرنسية جمع فيه آيات القرآن
بحسب معانيها ، ووَضْع كل منها في باب أو أبواب خاصة بقدر فهمه ، ولكنه أخطأ
في كثير من هذه المعاني وقصَّر في بعض ، على أن أخذ القواعد والأصول العامة
من هذه الآيات يتوقف على العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في بيان
القرآن وتنفيذه لشرعه ، وآثار خلفائه وعلماء أصحابه من بعده ، كما يعلم من يراجع
في ذلك الكتاب الآيات الدالة على ما بيناه في كتابنا هذا من مقاصد القرآن
بالاختصار ، وما فصلناه منها في تفسير المنار .
( رابعها ) أن الإسلام ليس له دولة تقيم القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه
وسلم بالحكم وتتولى نشره بالعلم ، ولا جمعيات دينية تتولى بحمايتها الدعوة إليه
بالحجة ، وليس لأهله مجمع ديني علمي يُرْجَعُ إليه في بيان معاني القرآن وهدايته
في سياسة البشر ومصالحهم العامة التي تتجدد لهم بتجدد الحوادث ومخترعات
العلوم والفنون ، وفيما يتعارض من العلوم ونصوص الدين فيرجع إليها علماء
الإفرنج في استبانة ما خفي عليهم من نصوصها .
وأعجب من هذا وأغرب أن المسلمين أنفسهم قد تركوا من بعد خير القرون
الأولى أخذ دينهم من القرآن المنزل ومن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم له كما
أمره الله تعالى فيه بقوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ } ( النحل : 44 ) وما زالوا يهجرون الاهتداء بهما حتى استغنوا عنها
استغناء تامًّا بأخذ عقائدهم عن كتب المتكلمين ، وأخذ أحكام عباداتهم ومعاملاتهم عن
كتب علماء المذاهب غير المجتهدين ، وهذه الكتب لا تقوم بها حجة الله تعالى على
البشر ، ولا سيما أهل هذا العصر الذي ارتقت فيه جميع العلوم العقلية والتشريعية ،
حتى صار المسلمون منا ، يأخذون عنهم ما كانوا يأخذون عنا ، بل فيها من آراء
المتكلمين والفقهاء ، وروايات الكذابين والضعفاء ما قد يعد حجة على الإسلام وأهله ،
كما أن سوء حال المسلمين في فُشُوِّ الجهل في شعوبهم والفساد والانحلال في
حكوماتهم قد اتُّخِذَ حجة على دينهم ، فصاروا فتنة للذين كفروا به .
وإذا كان هذا حال المسلمين في فهم القرآن وهدايته ، فيكف يكون حال
الشعوب التي نشأت على أديان أخرى ألفتها ، ولها رؤساء يربونهم عليها ويصدونهم
عن غيرها ، ودول حربية قد عادوا الإسلام منذ بضع قرون ، بما لو وجهوه إلى
الجبال لاندكت وزالت من الوجود ، ولكنه دين الله الحي القيوم فهو باقٍ ما دام البشر
في الأرض لا يزول أو تزول .
هذه أظهر الأسباب لخفاء حقيقة الإسلام الكاملة على علماء الحضارة العصرية
من الأجانب ومن المسلمين أيضًا وتمنيهم لو يبعث نبي جديد بهداية إلهية عامة كافية
لإصلاحهم .
ولما كان الإسلام هو دين الإنسانية العام الدائم الجامع لكل ما تحتاج إليه جميع
الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية وجب على العقلاء الأحرار والعلماء المستقلين
الذين يتألمون من المفاسد المادية التي تفاقم شرها في هذا العهد أن يعنوا بهتك تلك
الحجب التي تحجبهم عن النظر فيه ، وإزالة الموانع التي تعوقهم عن فهم حقيقته .
***
بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام
بما تقوم به الحجة على جميع الأنام
أما بعد فإنني أقدم لهم هذا الكتاب الذي صنفته في إثبات ( الوحي المحمدي )
وكون القرآن كلام الله عز وجل ، وكونه مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه البشر من
الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي . وقد أطلت في بيان هذه
المقاصد الأساسية بعض الإطالة ؛ لأنها مثار جميع الفتن والمفاسد التي يشكو منها
عقلاء هذا العصر ، وأما توفية هذا الموضوع حقه فلا يكون إلا في سِفْرٍ كبير يجمع
مقاصد القرآن كلها مع بيان حاجة البشر إليها في أمور معاشهم ومعادهم ، وهو ما
أبينه في تفسير المنار بالتفصيل في شرح آياتها ، وبإجمال قواعد كل سورة
وأصولها في آخر تفسيرها .
على أنني لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض ، وإنما بدأت منه
بفصل استطرادي لتفسير آية : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) إلخ من أول سورة يونس بينت به الدلائل القطعية على أن القرآن
وحي من الله تعالى كان محمد صلى الله عليه وسلم يَعْجَزُ كغيره عن مثله بعلمه
ولغته ، وأنه أعم وأكمل وأثبت من كل وحي كان قبله ، وأن حجته قائمة على
المؤمنين بالوحي وغيرهم ، ثم بدا لي في أثناء كتابته أن أجرده في كتاب خاص
أدعو به شعوب الحضارة المادية من الإفرنج و اليابان إلى الإسلام ، بتوجيهه أولا
إلى علمائهم الأحرار ، حتى إذا ما اهتدوا به تولوا دعوة شعوبهم ودولهم إليه بلغاتهم ،
ولهذا زدت فيه على ما كتبته في التفسير ، ووضعت له الخاتمة التي صرحت فيها
بالدعوة وجعلتها هي المقصودة بالذات منه .
ولو أنني قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار بتحقيق كل مسألة في موضعها ، على أن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار متعمد فيها . ولكنني كتبته في أوقات متفرقة ،
وحالات بؤس وعسرة ، لا أراجع عند موضوع منها ما قبله ، ولا أعتمد إلا على ما
أتذكره من القرآن نفسه ، على صعوبة استحضار المعاني المتفرقة في سوره ، وإلا
بعض الأحاديث في مواضعها من كتبها لتخريجها والثقة بصحتها ، وإني أحيل
القارئ له في كل إجمال على مراجعة تفسير المنار في تفصيله ، وفي كل إشكال
على مراجعة محرره : محمد رشيد رضا
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يعني العرب الذين تغلب عليهم البداوة حتى في حواضرهم كمكة و يثرب .
(33/282)
ذو القعدة - 1352هـ
فبراير - 1933م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي

قد حبَّذ الفضلاء هذا الكتاب أحسن التحبيذ ، وقرَّظوه بالممتاز من التقريظ ،
وشكروا لنا ودعوا ، فمن الشكر لله تعالى وللمحسنين من الناس ، والتعاون على
إذاعة دعوة الإسلام ، أن ننشر أهم ما حفظناه مما كتب إلينا ، ومما نشر في
الصحف التي اطلعنا عليها .
ونبدأ بكتابين كريمين ، لملكي الإسلام الكبيرين ، الإمامين الجليلين :
إمام العترة الزيدية يحيى بن حميد الدين ملك اليمن الميمون ، وإمام أهل السنة
والجماعة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك المملكة العربية السعودية ،
وخادم الحرمين الشريفين ، أدام الله توفيقهما ، وأعز العرب والإسلام باتفاقهما
وتعاونهما ، وإننا ننشرهما بحسب تاريخ ورودهما .
كتاب الإمام يحيى
( بسم الله الرحمن الرحيم )
الختم
( أمير المؤمنين ، المتوكل على الله رب العالمين ، الإمام يحيى حميد الدين )
إلى السيد العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار حفظه الله .
لقد ظفرت العيون بما تشتهيه ، وحظيت من الأماني بما تبتغيه ، بعد إرسال
رائدِ لحظها ، وتمتعها بالوموق على تلك الرياض الأنيقة ، وينابيع التحقيق الغزيرة ،
التي أودعتموها ذلك المجموع النفيس المطبوع المسمى ( بالوحي المحمدي ) فإنه -
والحق يقال - وحيد في بابه موضوعًا وتنسيقًا ، واستدلالاً وسياقًا ، يهدي إلى القلوب
ما يرفع عنها الرين والكروب ، ويتحف المُطَالع بما تستلذه المسامع ، ويستطيبه
القارئ والسامع ، وتثلج له الصدور ، وتنبعث من حقائقه أشعة النور ، فجزاك الله
خيرًا على هذه الخدمة الدينية التي نراها من العلم الصالح ، والمتجر الرابح ، والقصد
الناجح ، وإنا لتعميم الانتفاع به نطلب منكم أن ترسلوا إلينا من نسخه المصححة أخيرًا
مائة نسخة على حسابنا ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
... ... ... ... ... ... في 21 جمادى الآخرة سنة 1352
كتاب جلالة الملك عبد العزيز
( بسم الله الرحمن الرحيم )
من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل
إلى حضرة الأخ المكرم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى ، السلام
عليكم ورحمة الله ، أما بعد فقد تلقينا كتابكم الكريم ، المؤرخ في 23 رمضان سنة
1352 وأحطنا علمًا بما ذكرتم بارك الله فيكم . لقد اطلعنا على كتابكم ( الوحي
المحمدي ) فَسَرَّنَا اهتمامكم بإخراجه للناس ، وقيامكم بما فرض الله من الدعوة إلى
سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة في زمن تكاثرت فيه الشبهات ممن ران الشيطان
على قلوبهم فصدهم عن سبيل الله حتى ضلوا وأضلوا . فكان كتابكم من أبلغ القول
في إظهار حجة الله القائمة على عباده ، يدعو من كان له قلب إلى دين الحق ،
ويبين للجاحد الملحد بطلان حجته ، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا . وأخذ
بيدكم في تأييد الدعوة الإسلامية ، ونشر عقائد السلف الصالح ، ووفقنا وإياكم لما فيه
نصر لدينه ، وإعلاء لكلمته ، إنه على كل شيء قدير . والسلام .
في 4 من ذي القعدة سنة 1352 ... ... ... ... ... ( الختم )
***
كلمة من كتاب لإمام
طائفة الإباضية الهمام
كنا أهدينا نسخة من كتاب الوحي المحمدي إلى هذا الإمام الجليل مع كتاب
خاص فجاءنا كتاب منه ( من نزوى - عمان ) بعد جمع ما تقدم وما بعده قبل طبعه
قال في أوله بعد البسملة :
من إمام المسلمين محمد بن عبد الله الخليلي إلى حضرة العلامة المحقق أخينا
السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فإن رأيتم في إبطائنا في الرد على كتابكم الكريم المرسل معه مؤلفكم
فذاك لا عن إهمال وعدم تقدير ، وإن لكم ولأمثالكم من إخواننا علماء الدين الحنيف
منزلة كبرى في القلب لا يحلها سواهم … ( ثم قال بعد بيان العذر )
( أما مؤلفكم العظيم فهو في غنى عن التقريظ والمدح ، وإعجابنا به لا
يحد ، ولا شك أنه الحجة الدامغة والقول المتين لمن لا يدين بهذا الدين القويم ،
وفقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين ، وبارك الله فيما تنوون وتقصدون ، وسلام الله
عليكم .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء )
كتاب صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر بالأمس ورئيس المحكمة الشرعية من قبل
ورئيس جامعة الدفاع عن الإسلام اليوم
صديقي السيد الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا :
أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم ( الوحي المحمدي ) أن أقول : إنكم
وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم ، فقد عرضتم خلاصته من
ينابيعه الصافية عرضًا قلَّ أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة ،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون ،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون ، ولكم مني تحية الإخاء
والسلام عليكم ورحمة الله .
... ... ... ... ... ... ... محمد مصطفى المراغي
تقريظ الأستاذ الفاضل صاحب المصنفات المفيدة
الشيخ محمد أحمد العدوي من نابغي علماء الأزهر
كتاب جديد أخرجه الأستاذ الكبير صاحب المنار ، وآية كبرى من آيات الله
في التأليف ، وحسنة من حسنات صاحب المنار ( وحسناته كثيرة ) تقرأ هذا السفر
فترى فيه حججًا دامغة ، وإحاطة بمقاصد الإسلام ، ودفعًا لشُبَهٍ يوردها أعداء الحق ،
ولقد يخيل إليك أثناء دراستك للكتاب أن صاحبه لمس أمراض النفوس فوضع لها
علاجها ، كما تراه قد أقام الحجة من العقل والنقل على الملحدين من رجال العلم ولا
سيما الماديين منهم ، وإنه لكتاب تحتاجه جميع الطبقات ، وحاجة الذين يهمهم نشر
الدين والدعوة إليه أشد ، أفاض في مباحث الوحي ، وأقام الأدلة على أن ذلك الوحي
لم يكن نابعًا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم كما زعم المسيو درمنغام في كتابه
( حياة محمد ) وغيره ، وإنما هو نازل من السماء .
ليس بالعجيب أن نرى لصاحب المنار هذه المعجزة العلمية فإن البحوث
الدينية والتحقيقات العلمية قد امتزجت بلحمه ودمه ، حتى أصبحت الكتابة فيها هينة
عليه لينة له ، ويأخذ منك العجب منتهاه حيث تجلس إليه فيحادثك وتحادثه وقلمه
يسيل بتحرير مسائل في الدين أقل ما يحتاج الكاتب إليه فيها أن ينقطع عن العالم
ليجمع شتات فكره رجاء أن يلم بأطراف مسألة منها .
وهذه آثاره في تفسير كتاب الله تعالى ناطقة بنبوغه وتفوقه ، وأنه بَزَّ علماء
التفسير جميعهم في إبراز القرآن الكريم للناس معجزة دائمة ، وهداية عامة شاملة ،
وسعادة لهم في دينهم ودنياهم ، تقرأ طائفة من التفسير فتحس في خلال القراءة أن
من ورائك سوطًا من أسواط الحق يسوقك إلى الفضيلة ويردعك عن الرذيلة وأن
صلتك بكتاب الله تعالى وتعلقك في هدايته وفقه معانيه هي أغلى شيء في هذه
الحياة ، وأعظم رزق ساقه الله إليك ، كما تحس في ذلك التفسير أنك في دائرة من
دوائر المعارف الإلهية الكبرى .
وجدير بأستاذ له هذا الأثر أن يطلع على الناس بأمثال الوحي المحمدي مما
يغذي أرواحهم ، وينمي معارفهم ، دع ما وراء ذلك كله من قوة في البيان ، ورواء
في الأسلوب ، وتنسيق لطرق الاستدلال ، ودقة في المأخذ ؛ كل ذلك تجده في
مؤلفات صاحب المنار ، وتراه أوضح وأجلى في ( كتاب الوحي المحمدي ) وما
سبقه من كتاب ( نداء للجنس اللطيف وحقوق المرأة في الإسلام ) .
وكل ما نتمناه أن يُلْهَم الناس رشدهم ، ويعرفوا للعاملين قدرهم ، فيكافئوهم
على هذه المجهودات بمطالعة كتبهم ، وأن ينسأ الله في أجل صاحب المنار حتى يتم
تفسيره الذي خدم فيه أحد عشر جزءًا من أجزاء القرآن الكريم ، وأن يمده بروح
منه ويبعد عنه مشاغل الحياة حتى يعيش موفور الصحة هادئ البال .
وأن يستجيب فيه دعاء الأستاذ الإمام وهو يقول في آخر حياته :
فيا رب إن قدرت رُجْعَى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... من الرأي والتأويل يَهْدِي ويلهم
... ... ... ... ... ... محمد أحمد العدوي من العلماء
كلمة من كتاب للأستاذ الكريم صاحب الإمضاء
لئن اجتمع علماؤنا الرسميون على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
أطال الله حياتك يا مرشد الحيران ، ويا خليفة حكيم الإسلام . حتى تصير
الأمة الإسلامية ( رشيدية ) اسمًا ولحمًا ودمًا إن شاء الله ، رغم أنف الحاسدين أمثال
صاحب سجود الشمس تحت العرش ، وأعوذ بك ربي أن أكون من الجاهلين .
يا صاحب الفضيلة :
قرأت كتابكم ( الوحي المحمدي ) إلى آخره فإذا به فيض من نور الله ، وقبس
من ضيائه ، يجب على كل مسلم متدين أن يقرأه ؛ إذ إنه خير كتاب من نوعه ألف
في هذا الموضوع ، بل يجب على كل مسلم غيور أن يعمل على ذيوعه وانتشاره
بين طبقات الأمة حتى يعم نفعه ، وهذا ما عاهدت الله عليه خدمة للدين وابتغاء
وجهه الكريم .
... ... ... ... ... ... ... ... ( أحمد أحمد القصير )
... ... ... ... ... في كَفْر المندرة
طائفة مما كتبه إلينا علماء ديار الشام الأعلام
أيد الله بهم الإسلام

-1-
للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار [1]
إذا أردت أن تعرف قيمة تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأن تتحقق أنه أفضل
تفسير للمسلمين في هذا العصر يقوم به أقدرهم عليه ، وأولاهم به ، وأنه لا يسد
مسده تفسير آخر ؛ لأنه يستمد من قوى هذا العصر وحقائقه ، ويدفع ما تجدد من
الشبهات والشكوك ، ويقيم الأدلة القاطعة ، ويورد الشواهد الحسية والتاريخية على
أن الحكومة الإسلامية هي أفضل حكومة في العالم كله .
إذا شاقك ذلك وأردت أن تعرفه يقينًا ، فاقرأ كتاب ( الوحي المحمدي ) للسيد
الإمام علامة العصر الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومؤلف تفسيره ،
فهو نموذج من ذلك التفسير العجيب الذي صدر منه عشرة مجلدات ضخمة إلى الآن ،
فسَّر بها ثلث القرآن الحكيم ، وكتاب ( الوحي المحمدي ) منها هو تفسير لقوله
تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 ) في أول
يونس من الجزء الحادي عشر [2] .
ولعمر الحق إنه أتى في هذا الكتاب بالعجب العجاب ، فقد أثبت نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بالبراهين العقلية والعلمية القاهرة ، وأورد الشواهد التاريخية
الحسية الكثيرة ورد جميع ضلالات بني آدم عنها ، لا سيما شبهات فلاسفة الإفرنج ،
ومطاعن الملحدين وخرافات المشعوذين .
وقد كان بعض فلاسفة الغرب كتوماس ورينيه ودرمنغام وأمثالهم كتبوا في
السيرة النبوية شيئًا حسنًا ، وبسطوا لأممهم حقائق منها ، لولاهم لطمسها الجهل
والتعصب غير أن هؤلاء قد عرضت لهم شبهات وأوهام ، فحسبوا الوحي الإلهي
النبوي عمومًا والمحمدي منه خصوصًا ، ضربًا من الاستعداد النفسي ، والفيض
الذاتي ، أي أنه نابع من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم غير نازل من عند الله .
وقد بسط السيد الإمام شبهتهم هذه ، وأبرزها بأوسع معانيها ، وصورها بأجلى
صورها ، ثم كر عليها بالنقض والإبطال ، وبين فسادها واستحالتها من عشرة وجوه
لا تحتمل الرد ولا المراء .
ثم عقد فصولاً في إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته . وقوة تأثيره وهدايته . بما
لم يؤثر مثله أي كتاب آخر . ثم أفرد مقاصد القرآن الدينية والمدنية لرفع مستوى
الإنسانية . فشرح أصول السعادة الخالدة . ومطالب الحياة الراقية . ودل على
مقاصد الإسلام العالية التي لا يطمح العقل البشري ولا الارتقاء المدني إلى أسمى
منها أبدًا .
ولقد شرح السيد الإمام معجزات الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام شرحًا
بليغًا يوقف من تدبيره على سر اصطفائهم واجتبائهم ، وكونهم صفوة البشر وأكملهم
وأفضلهم وأولاهم بحمل أمانة التشريع ، والقيام بعهدة التبليغ { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( الأنعام : 124 ) .
ثم إن من أمعن النظر فيما كتبه عن المعجزات نفسها ، وما أقامه من ميزان
العدل والنصفة بينها ، أدرك أن ليس فيما ظهر على يد المسيح عيسى بن مريم منها
ما يعلو به عن مقام النبوة والرسالة أبدًا { مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } ( المائدة : 75 ) ثم أدرك أن
القرآن هو الآية الإلهية الكبرى ، والمعجزة الدينية العظمى ، بل هو معجزة
المعجزات ، وآية الآيات ، ولولاه لانمحى رسم تلك الخوارق من الأذهان .
ألا ليت دعاة النصرانية المبشرين الذين يسعون لتنصير مسلمي الأرض وهم
مئات الملايين ، ويبغون زوال القرآن ( وقد تولى الله حفظه ) من الوجود ، ليتهم
يعلمون أن أمة القرآن التي دانت به وأذعنت لحكمه ، ولم تلتفت إلى شيء غيره ، قد
شهدت ببراءة العذراء البتول ، وابنها المسيح الرسول ، من مفتريات أعدائهم اليهود ،
وآمنت عن طريق القرآن وحده بكل ما ورد من معجزات الرسل وآياتهم ، وأن
القرآن لو زال لا قدر الله تعالى من الأرض فإن أمة القرآن لا تؤمن لأحد بعد
(الوحي المحمدي ) بنبوة ولا رسالة ، ولا تعتقد بنزول وحي من السماء على أحد من
الأنبياء ، فإيمانهم بالقرآن إيمان بسائر كتب الله ، وتصديقهم بخاتم النبيين تصديق
بسائر رسل الله ، وكفرهم بالقرآن كفر بجميع الكتب والرسل ، فأي الفريقين من
المؤمنين والكافرين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ( الأنعام : 82 ) .
وإنك لتجد هذه الحقائق كلها وأضعافها واضحة في كتاب ( الوحي المحمدي )
وإني لمعترف بأني عاجز عن وصفه ، وبأني لم أحط علمًا بكنهه ، ولكني أختم
كلمتي بما قاله أحد خطباء الشرق الأستاذ يوسف اصطفان الشهير في المؤلف نفسه
على إثر محاضرة كان ألقاها السيد الإمام بدمشق الشام في عهد الحكومة العربية قال
لا فض فوه : إن كان لهذا الرجل ( يعني السيد الإمام ) نظير في رجال الدين في
الغرب ، فنحن لا نستحق الحياة أو قال الاستقلال في الشرق .
ثم ختم الكتاب بدعوة الشعوب المتمدنة إلى ما ينجيهم من غوائل المدنية
الفاسدة ، ويمتعهم في ظلال الإسلام والسلام .
والكتاب قد ترجم إلى لغات كثيرة شرقية وغربية وتقرر تدريسه في بعض
الممالك الإسلامية ، أفليس العرب وفيهم أنزل القرآن ، ومنهم أرسل الرسول صلى
الله عليه وسلم أولى بذلك ؟ بلى ، وإن قلمي ليعجز عن الإحاطة بوصف كتاب
( الوحي المحمدي )
وحسبي أن أوجه نظر كل من يهمه أمر دينه ولا سيما شبابنا المثقف وطلاب
المدارس العالية أن يجعلوه عمدتهم في دراستهم ودروس قراءتهم ، فهو يغني عن
كل كتاب في موضوعه ، ولا يغني عنه غيره .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
-2-
للعلامة الأستاذ الشيخ محمد ظبيان الكيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مستوجب الحمد ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى
الخير الهادي إلى الرشد ، وآله وصحبه وتابعيه وحزبه ، أما بعد فقد مَنَّ الله تعالى
عليَّ بالاطلاع على كتاب الوحي المحمدي الذي أخرجه للناس العلامة الكبير
والأستاذ الشهير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر فأدهشني ما رأيت من
بدائع ذلك البناء الشامخ ، والطود الراسخ ، وما حواه من الآيات البينات ،
ومعجزات العلم الباهرات ، وإني لا أريد أن أتوسع في تقريظ هذا الكتاب ، وأن
أبالغ في مدحه كما يفعله كثير من العلماء والكتاب ، ولكني أريد أن أقول كلمتي عما
حواه من الحقائق التي أتى بها المؤلف حفظه الله على ضوء العلم فأقول :
إنه لما أخبرني أخي وصديقي العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار أحد
علماء دمشق بصدور هذا الكتاب ، وأخذ يصف لي ما اشتمل عليه من الحقائق
العلمية والأسلوب الجذاب ، داخلني الريب فيما قال ، وعددت ذلك غلوًّا في الدعاية
أو ضربًا من الخيال ، ولكني ما كدت أتناوله وأتصفح عباراته ، وأتذوق طلاوة
أسلوبه الحكيم ، حتى انقلب ذلك الريب يقينًا ، وأصبح عندي ذلك الخيال حقيقة
ملموسة ، وإذا بهذا السفر يتدفق حججًا استمدها المؤلف ( أدام الله إرشاده ) من نور
القرآن ، واقتبسها من مشكاة العرفان ، فكأنه وحي من الوحي ، فقلت : { ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } ( المائدة : 54 ) .
جاء هذا الكتاب في وقت اشتدت الحاجة إلى مثله ، وتطاولت الأعناق إلى
وجود مُؤَلَّف جامع على شكله ؛ إذ نشأ اليوم الجهل وكثر الفساد ، وهجمت على
المؤمنين جيوش الزيغ والإلحاد ، فكادت تجتاح الفضيلة ، وتقضي على البشرية
بسموم الرذيلة ، وتجتث الاعتقاد بوجود الخالق ، وتقذفه من حالق .
فجاء الأستاذ المؤلف يدعو الأمم أجمع إلى هداية القرآن بالحكمة والموعظة
الحسنة ، يخاطب كل أمة على قدر عقولها ، وينوع الأساليب الحكيمة بتقريب الحق
إلى أفهامها ، ليمحو ظلمة شكوكها وأوهامها ، وليكون ذلك أوقع في النفوس وأبلغ
في تأثير الحجة .
إننا اليوم في عصر كَثُرَ فيه طلاب العلوم الكونية ، فلا يذعنون إلا لما كان
مؤسسًا على الحقائق العلمية ، فها هم اليوم قد وجدوا ضالتهم المنشودة ، وبغيتهم
المقصودة ، فهو كترجمان حكيم يخاطب كل واحد منهم بلغته ، ويناجي كل فريق
على قدر عقله ودرجة استعداده ومعرفته ، فما أجدر طلاب العلوم الكونية ، وعشاق
الحقائق في كل أمة أن يعكفوا على اقتنائه ، ودراسته وتدبر آياته ، ليستضيئوا بنور
مشكاته ، فينالوا السعادتين ، ويفوزوا بالنعمتين .
أما علماء الإسلام فإنهم إذا ولوا وجوههم شطره ، وقرءوه لإخوانهم ، ازدادوا
إيمانًا مع إيمانهم ، وكان لهم منه سلاح جديد يدفعون به هجمات أعداء الإسلام من
المبشرين والملحدين ، ويدحضون به دعاويهم الباطلة ، وكان لهم منه أيضًا مادة
غزيرة يستعينون بها على الدعوة إلى الله .
وأنا أرجو من الأستاذ ( أدام الله نفعه ) أن يسعى في ترجمة هذا الكتاب القيم
إلى اللغات الأجنبية ، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية ؛ لأنها أكثر انتشارًا في الأرض ،
وليطلع عليه الأمم التي لم تقف على حقيقة الإسلام حتى اليوم كالأمتين اليابانية
والأميركية ، وليكون عونًا لجمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية في طوكيو عاصمة
اليابان ؛ لتفهيم القوم حقيقة الإسلام ، وأنه لم يكن دينًا تعبديًّا فحسب ، بل هو دين
اجتماعي ، جاء لسعادة البشر ، جمع بين خيري الدنيا والآخرة والله يهدي من يشاء
إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
دمشق ... ... ... ... محمد علي ظبيان الكيلاني
-3-
( للعلامة الأستاذ الشيخ محمد مسلم الغنيمي الميداني )
نور سطع في سماء جزيرة العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا فأضاء الكون لجدير
بأن يكون موضع الإعجاب وتوجه الأنظار ، وإن جزيرة العرب في ذلك الزمن
كانت مجدبة من كل علم وفن لا يرى في سمائها بارقة نور .
أخذ هذا النور يتلألأ في سماء الجزيرة وما تزيده الأيام إلا ضياء وامتدادًا ،
والمعلوم أن مصدر هذا النور العظيم هو ذلك القرآن الحكيم ، والنبي الكريم ،
العربي الصميم ، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
ولقد شهد عظماء الإفرنجية وفلاسفتهم كدروي وإبرفنج وسديو وإسحاق طيلر
وغوستاف وتولستوي وتومس كارليل وهنري كاستري وغيرهم أن المدنية الغربية
مقتبسة من الحضارة الإسلامية ، ولو أخذنا نبسط أقوالهم لطال بنا المقام وخرجنا
عن الموضوع .
وممن كتب في السيرة النبوية من مفكري الغرب درمنغام و منتيه وغيرهما
فوصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان للخلاء والعزلة يفكر في طريق النجاة
من هذه المخازي والضلالات التي عم ظلامها البشر ، ولكنهم حسبوا الكتاب الذي
أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي النفسي والإلهام الذاتي : أي أنه عليه
الصلاة والسلام صفت سريرته على رءوس الهضاب وبين الشعاب في غار حراء ،
فأوحت إليه نفسه كتابًا أرشد الأمم وجميع الشعوب بتعاليمه كما ذكر مونتيه في
مقدمة ترجمته للقرآن الكريم بعد ذكره لأنبياء بني إسرائيل فقال : فتحدث فيه ( أي
الفكرة الدينية ) كما كانت تحدث فيهم ذلك الإلهام النفسي .
فهذا أقصى ما وصلت إليه أفكار فلاسفة الغرب في الوحي الإلهي ، لذلك قام
علامة الإسلام السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر ، فكشف اللثام
عن حقيقة الوحي وماهيته وكيفيته ، وأبطل مزاعمهم ورد شبهاتهم بأدلة عقلية
وبراهين حسية مفسرًا قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } ( يونس : 2 )
كتاب لم يُنْسَج على منواله ، ولم يُسْبَق المؤلف لمثله ، فهو كتاب لا يستغني
عنه المسلم ولا غير المسلم ، فالمسلم يعلم كيف يقيم الحجة على صحة دينه ، ونبوة
نبيه وكتاب ربه ، وغير المسلمين يرون الفرق واضحًا بين الوحي السماوي والإلهام
النفسي ، فجزى الله السيد المؤلف خيرًا ، وأدامه للمسلمين ذخرًا ، آمين .
دمشق ... محمد مسلم الغنيمي الميداني
-4-
للطبيب النطاسي والعالم العصري الدكتور سعد عيد عرابي
لقد تقهقر البشر في هذا العصر في الأخلاق والآداب ، ومحقت الفضيلة ،
وحلت مكانها الرذيلة ، التي انحطت به إلى أقصى درجات البهيمية ، وما ذلك إلا
لأن تقدم الحضارة والعلوم الكونية كان ماديًّا ، وكان البشر آليًّا متجردًا عن الروح
في كل حركاته وسكناته ، ومتى سلب الشيء روحه كان باهتًا لا لذة فيه ولا طعم ،
هذا ما دعاهم أن يسرفوا في ألوان الرذائل وأشكالها علهم يجدون بها متعة جديدة
تنسيهم آلام هذه الحياة ، وهذه الحضارة الزائفة ، وما كان ذلك إلا ليزيدهم شقاء
وبلاء .
لئن فكّر بعض عقلاء أوربا وغيرهم في اللجوء إلى الدين ، وبأنه العلاج
الوحيد لأدواء هذه الحضارة ، وتمنوا لو يبعث في الشرق أو في الغرب نبي جديد
يصلح بهدايته فسادها ، فقد نادى منادي ( الوحي المحمدي ) بأن حي على الفلاح ها
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وها إن الإسلام دين البشرية والسلام
كفيل إن اتبعتموه أن يهديكم صراطًا مستقيمًا ، وأبان فضائل الدين الإسلامي ومزاياه
على ما جاء في الأديان الأخرى ، وما حواه من التشريع الديني والمدني ، وأماط
اللثام عن الحجب التي بين الإفرنج وحقيقة الإسلام وعددها : فمن عداوة الكنيسة
وتداعياتها المشوهة الباطلة ، إلى كذب رجال السياسة وطمعهم في استعباد الشعوب
شعوب الإسلام إلى سوء حال هؤلاء في القرون الأخيرة وجهلهم حقيقة دينهم وأمور
دنياهم .
مع أن الغاية الأساسية لهذا الكتاب دحض مزاعم درمنغام وغيره من الإفرنج
الذين يدعون أن الوحي المحمدي وحي نفسي لا إلهي ، ومع أنه أفاض في
الموضوع ، وأيد بالبراهين العقلية والأدلة القطعية وبمعجزة القرآن المجيد فساد
مزعمهم هذا ، وأن الوحي المحمدي أثبت وأكمل وأعم من كل وحي جاء قبله فقد
جاء هذا الكتاب من مقدمته إلى خاتمته جامعًا شاملاً لم يترك شاردة أو واردة تعلي
كلمة الله تعالى وتنصر الحق المبين إلا وذكرها ، كما وأن هذا السفر النفيس يروي
غليل من كان للحقيقة من المستطلعين ، فقد عرَّف النبوة وأبان الفوارق بين
المعجزات والكرامات ، وشرح مقاصد القرآن المجيد شرحًا دقيقًا : من دينية
واجتماعية وسياسية ومالية ( وأستأذن أن أذكِّرَه بالقواعد الصحية وهي كثيرة )
والخلاصة أن هذا الكتاب قد جمع شمل ما في الإسلام من حكم ، وقد وفَّى
الموضوع حقه ، بأن قدمه للجمعيات الإسلامية في العالم داعيًا رجالاتها إلى ترجمته
إلى لغاتهم لتكون فائدته أعم ، وقد دعا في خاتمته شعوب المدنية إلى الإسلام ، دين
الإنسانية والسلام ؛ لإنقاذ البشر من هذا الشقاء العام .
ومن جمل ما قال لهم في دعوته هذه : ( قد بينا لكم أيها العلماء الأحرار
بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلل
والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي الأعلى ، والتشريع المدني الأسمى ،
والحكمة الأدبية المثلى ، نابعًا من استعداده الشخصي ، وما اقتبسه من بيئته ومن
أسفاره ، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً ، وعلمتم أن بعض ما قالوه
افتراء على التاريخ وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه ، وعلمتم أنه في جملته
مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر ، وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ ، ونحن
نتحداكم الآن بالإتيان بعلل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي الله تعالى
وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه : علل يقبلها ميزان العقل
المسمى بعلم المنطق ، فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول ،
وتؤيدها النقول ، فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته ، وبكاتبه المُنَزَّل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر ، وأن تتولوا
الدعوة إلى هذا الإيمان ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به )
ومما قاله حفظه الله : ( أما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار فالمرجو
منكم أن تسمعوا وتبصروا ، وأن تعلموا فتعملوا ، فإن كانت دعوة القرآن لم تبلغكم
حقيقتها الكافلة لإصلاح البشر على الوجه الصحيح الذي يحرك إلى النظر لأنكم لم
تبحثوا عنها بالإخلاص مع التجرد من التقاليد المسلمة عندكم والأهواء ؛ ولأن
الإسلام ليس له زعامة ولا جماعات تبث دعوته ، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ
حضارته ، بل صار المسلمون في جملتهم حجة على الإسلام وحجابًا دون نوره ،
فأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في إبلاغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا
العصر ، فإن ظهر لكم الحق فذلك ما نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها ، وإن
عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم للعلم ، وحرصكم على استبانة الحق أن
تشرحوها لنعرض عليكم جوابنا عنها ، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون ) .
حقًّا قليلون وقليلون جدًّا ( كذا ) العلماء الذين يحذون حذو صاحب الفضيلة
العالم العلامة حجة الإسلام الأستاذ السيد رشيد رضا في إظهار الإسلام في صورته
الحقيقية العلمية العقلية ، وقد أظهر في دعوته شعوبَ المدنية إلى الإسلام ، كما
أثبت في مقاصد القرآن المجيد ، أن الإسلام دين البشرية والسلام ، دين العقل
والفكر ، دين العلم والحكمة ، دين الحجة والبرهان .
إن ظهور السفر النفيس ( الوحي المحمدي ) خدمة جلى أسداها للدين وللبشر
وللحقيقة وللتاريخ ، جديرة بأن تسطر له بأحرف من نور على صفحات الفخار
وليتفضل المؤلف الإمام بقبول شكري
دمشق ... ... ... ... ... ... ... الدكتور سعد عيد عرابي
... ... ... ... ... ... ... خريج جامعتي باريز وبرلين
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الأستاذ جامع بين العلم الصحيح والعمل به والدعوة إليه قولاً وكتابة وخطابة ومناظرة وبذلاً مما يملك من مال قليل فقد علمنا أنه اشترى من كتاب الوحي المحمدي نسخًا كثيرة من دمشق ووزعها على مَن يظن بهم الفهم والانتفاع ، حتى من ملاحدة الأغنياء ، فنسأل الله أن يخلفه عليه ويجزيه خير الجزاء .
(2) سيصدر الجزء الحادي عشر في المحرم سنة 1353 إن شاء الله تعالى .
(33/697)
ذو الحجة - 1352هـ
أبريل - 1934م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تصدير كتاب الوحي المحمدي
الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله جل ثناؤه أن جعل قبول هذا الكتاب وتأثيره فوق ما كنا نقدر
ونحتسب ، على ما نظن من دقة اختبارنا للعالم الإسلامي ، فإنه لم يكن إلا خلاصة
عامة من تفسير المنار للقرآن الحكيم ، وأكثر المسلمين قد هجروا القرآن هجرًا غير
جميل ؛ إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية ، وقوة
سياسية وحربية ، وثروة وحضارة ونَعمة معيشة ، بله ما يلزم ذلك من الفوائد
السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم ، وصد عدوانهم عن بلادهم وإنقاذهم من
استذلالهم لشعوبهم .
في القرآن كل ما ذكرت وما هو أكثر منه وأكبر ، ولا يطلبونه منه ، ومنهم
من يطلبه من غيره - حتى الحياة الروحية يعتقدون أنه هو ينبوعها الأعظم ، ويوجد
فيهم من يطلبها من غيره ( كالأوراد والأحزاب ) بناء على أنها مستمدة منه ويقل
فيهم من يزيد عليها تلاوة ألفاظه ، وإنما يتلوها تاليها منهم ومن غيرهم ؛ لأن
لقارئها على كل حرف منه عشر حسنات , لا للتدبر والادكار الذي أنزل لأجله
القرآن { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( ص :
29 ) { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ( المؤمنون : 68-69 ) { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ } ( محمد : 24-25 ) .
إن أكثر المسلمين يجهلون أن للقرآن تأثيرًا صالحًا ما في حياتهم المعاشية
والمدنية والسياسية وهي أكبر همومهم ولا مرشد لهم فيها ، ويجهلون البرهان العقلي
المقترن بالشعور الوجداني ، على أنه وحي الله لنبيه ورسوله ، وأن في اتباعه
سعادتهم في دينهم ودنياهم ، ولا يجدون أحدًا من الذين يتولون تربيتهم وتعليمهم في
بيوتهم ولا في مدارسهم يقنعهم به ، ويربي فيهم ملكة الوازع النفسي لاتباعه ، لا
يعرفون كتابًا من كتب عقائدهم أو تفاسيره يهديهم إلى هذا ، والمجهول المطلق لا
تتوجه إليه النفس ، فلا عجب إذا هجروا القرآن وأعرضوا عن تدبره .
إن تفسير المنار قد أُلِّفَ لاستدراك هذا التقصير في كتب التفسير ، ولكنه لا
يدرس في المدارس ، ولا يعتمد عليه في التربية ، ولا يخطر في بال من لم يقرأه
أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها ، ولا لدفع الغوائل
عنها ، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من
الإصلاح والهدى ، وتجديد ثورته الأولى ، ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
كل ما يحتاج إليه المسلمون من إصلاح وتجديد حضارة وملك متوقف فيهم
على هداية القرآن وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله
عنهم له ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه
الله ، وكيف السبيل إلى إقناعهم بذلك ونحن ندعوهم إلى هذا منذ ثلث قرن ، وقل
منهم من سمع فاستجاب واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب ، حتى أهابت بهم صيحة
هذا الكتاب باسم الوحي المحمدي ، وإعجاز القرآن للبشر بما تقتضيه حضارة هذا
العصر وعلومه ومشكلاته السياسة والقومية : وتحدي علماء الإفرنج بعلومه
وإصلاحه ، ودعوتهم إلى الإسلام به ؛ لإنقاذ العالم المدني من أخطاره وانتياشهم من
تياره ، فكانت أول صيحة صخت الأسماع ، فأصغت الآذان ، وأشخصت الأبصار ،
وأهطعت الأعناق ، بالقرآن للقرآن ، فبادر أهل الغيرة إلى ترجمته بما اختلف من
اللغات ، وبث دعوته في الأقطار ، فأسر ما سرني من تأثيره إنما هو توجيه القلوب
إلى هداية القرآن ، وروح القرآن ، وإن اشترك فيه العربي والعجمي ، والسني
والشيعي والإباضي ، ولا غرو فالقرآن فوق المذاهب والأجناس والأوطان ، ومن
آياته المحكمات : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ } ( آل عمران : 105 ) ومن خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ( الأنعام : 159 ) .
وإنما مزية هذا الكتاب أنه بيَّن إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية
التي يفهمها كل قارئ ، وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد
مؤيدة بالشواهد ، وذكَّرهم بما كان من إحداثه أعظم ثورة عالمية وانقلاب ديني مدني
في الأرض ، وعرض على أبصارهم ما لا مراء فيه من فساد حال شعوب الحضارة
الغربية ، وعجز علومهم وفنونهم عن تلافي شرها ، وتدارك خطرها بعبارة
مختصرة ، تعلوها عناوين كبيرة أو صغيرة ، تشير إلى ما تحتها من كنوز ، وما
وراءها من ركاز إسلامي مركوز ، فلا تتعب القارئ الكسول ، ولا تنفر السامع
الملول .
من الدلائل على تقبل جميع المسلمين له بقبول حسن ما أثبتناه في التقاريظ
الملحقة بهذه الطبعة من كتب أئمة الفرق الثلاث الكبرى التي تضم الملايين من أهل
القبلة ، وما يرجى من مساعدتهم لنا على تعميم نشره ، فأما إمام أهل السنة فإنه
أبدى لنا عزمه على ذلك وكانت نسخ الطبعة الأولى قد نفذت ، وأما إمام العترة
والشيعة الزيدية فإنه عندما رآه كتب إلينا يستأذننا بطبعه في اليمن لتعميم نشره فيه
فكتبنا إليه بأننا سنعيد طبعه منقحًا مزيدًا فيه ، فكتب ثانيًا ما يراه القراء في أول
التقاريظ .
وقد كان بادر إلى المساعدة على نشره من أول وهلة صاحب السعادة السريّ
عزيز عزت باشا المصري فتبرع بثلاثين جنيهًا وزعنا بها نسخًا كثيرة في أوربة
وغيرها ، وتبرع صاحب السعادة محمد صادق المجددي وزير الأفغان المفوض في
مصر بمائة نسخة منه للمؤتمر الإسلامي في القدس ليوزعها رئيسه على فروعه في
الأقطار وتبرع آخرون بعشرات من النسخ على من يظنون انتفاعهم بالكتاب . دع
من انتدبوا للترغيب فيه ، وبيعه لمن يشتريه ، احتسابًا لوجه الله عز وجل .
وأما التقاريظ فقد نشرنا طائفة مما حفظناه منها لبيان آراء المسلمين في الكتاب
من الطبقات المختلفة ، وأحسنهم رأيًا مَن بيَّن أنه فيض من عين معين القرآن ،
اشتدت حاجة الناس إليه في هذا الزمان ، وأنه خير ما يدعى به إلى الإسلام ، وما
يدحض شبهات المعطلين الماديين ، والملاحدة المتفرنجين ، وما يفند تضليل دعاة
التنصير ، ويفضح ما يلبسون من شفوف الرياء والتزوير ، وما يلبِّسون على
غيرهم من إفك وتغرير . فقد أقيمت عليهم الحجة في هذا الكتاب بأنه لا يمكن إثبات
أصل دينهم ، ولا معجزات نبيهم ( لا ربهم ) إلا بثبوت هذا القرآن ، وأنه وحي من
الرحمن .
وأما الذين استأذنونا بترجمته باللغات المختلفة فقد أذنا لهم كلهم لأول وهلة ،
ولم نلبث أن علمنا أن أحد مترجميه باللغة الأوردية ( الهندية ) قد أتم عمله ، وهو
تلميذنا الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي مؤسس جريدة ( هند الجديد ) في كلكتة ،
وهو ينتظر صدور الطبعة الثانية ليدخل في ترجمته ما يجده من تنقيح وزيادة ، وإن
مترجمًا آخر بها ينشر ترجمته في بعض الصحف تعجيلاً للفائدة .
وكذلك يترجمه آخران باللغة الصينية ( أحدهما ) الشيخ بدر الدين الصيني
المدرس في دار العلوم الندوية في لكهنؤ ( الهند ) وصاحب المقالات المشهورة في
الصحف العربية .( وثانيهما ) صاحب مجلة ضياء الهلال , وهو يدرس تفسير
المنار في بلده ( قبودان ) وقد كتب إلينا يسألنا عن كلم في الكتابين ، وسنرسل إلى
كل منهما هذه الطبعة الجديدة ليعتمدا عليها .
وقد استأنيت من يريد ترجمته بالفارسية لأجل وزارة المعارف الأفغانية ولا
أدري ما فعل من أذنت له بالترجمة التركية ، ولا مدير المجلة الإسلامية في لندن
(رفيوا سلاميك ) وقد أذنت له بترجمته باللغة الإنكليزية ونشره بها ، بيد أني سأرسل
إليهم هذه الطبعة الثانية وأدع لهم الخيار في إيثارها على الأولى أو الاكتفاء بها .
كنت قبل العلم بخبر هؤلاء المترجمين عازمًا على تغيير وتبديل في تنقيح
مسائل الكتاب وترتيبه وفصوله والزيادة فيه ، ثم خشيت أن يشق عليهم تغيير
الترجمة بالتبع للتغيير في الأصل ، أو الاضطرار إلى استئناف العمل ، ولهذا
وعدت بما وعدت به في بيان امتيازات هذه الطبعة من فاتحتها ( ص21 ) ولكن
رأيتني مضطرًّا إلى إخلاف هذا الموعد من ناحية الزيادة على الأصل في صلب
الكتاب في كثير من المسائل المجملة والموجزة بتفصيلها وإيضاحها .
وأما الزيادات الكبيرة التي وعدت بجعلها علاوات ملحقة بالكتاب فظللت ثابتًا
على وعدي بها ، ولما طال الكتاب بما زدته في هذه الطبعة حتى كاد يربو على
ثلث الأصل ، اخترت أن أجعل الملحقات في جزء مستقل ، وقد ختمت الكتاب
بدونها ، فهو قائم بنفسه مستغن في إثبات الوحي المحمدي وإثبات النبوة به ،
والتحدي بما جاء فيه وبناء الدعوة إلى الإسلام عليه ، وإنما تكون تلك الملحقات
تعزيزًا له ، وهذا بيان لما أشرت ووعدت به منها ، ومع زيادة يجوز أن يتبعها
غيرها .
علاوات كتاب الوحي :
( 1 ) أنباء الغيب في القرآن ، وعلى لسان النبي عليه الصلاة والسلام ، مما
ظهر صدقه في عصره صلى الله عليه وسلم ومن بعده ، ولا يزال يظهر منها ما
يدل على صدقه ، حتى يأتي أمر الله عز وجل .
( 2 ) سنن الله في الخلق ونظام القضاء والقدر ، وقد أتينا في هذه الطبعة
بالأصل فيها .
( 3 ) سنن الله تعالى في نظام الاجتماع ، وقد ألممنا بها بعض الإلمام .
( 4 ) المسائل العلمية والفلكية التي كانت مجهولة في عصر التنزيل وعرفت
بعده بقرون ، وقد نَوهنا بها مرارًا أوضحها ما في خاتمة الكتاب .
( 5 ) الأمور الصحية التي كانت مجهولة في جملتها أو تفصيلها وكشفها
الطب .
( 6 ) أسرار العبادات وحكم التشريع التي لا يعرف قدرها إلا بالنبوغ في
علوم كثيرة منها علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم الطب وعلم الاجتماع .
( 7 ) خلاصة مجملة من سيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه
وشمائله ، الدالة على نبوته .
( 8 ) خلاصة من سيرة الخلفاء الراشدين ، وأمراء الصحابة وقوادهم
الفاتحين ، وهدي السلف الصالحين ، المجلية لإصلاح الدين وتفضيله على غيره .
( 9 ) الدلائل الثمانية التي حذقتها من خاتمة الطبعة الأولى المؤكدة لكون
القرآن من عند الله تعالى مع زيادة عليها .
( 10 ) الكلام في هذيان من عارض القرآن من المتأخرين الذين ادعوا النبوة
والألوهية كالباب والبهاء الإيرانيين وميرزا غلام أحمد القادياني الهندي وإيراد
الشواهد من وحيهم الشيطاني الذي يضحك الثكلى .
( 11 ) شواهد من كلام كبار علماء الإفرنج وكتابهم في مزايا الإسلام التي
فضل بها جميع الأديان بنبيه المرسل وكتابه المنزل .
( 12 ) الشبهات الكبرى للماديين ولخصوم الإسلام من المليين ودحضها
بالبراهين لولا أن أكثر الناس يفهمون من التفصيل بالإسهاب ، ما لا يفهمون من
الإجمال في الإيجاز ، لاكتفوا منا في إثبات الوحي المحمدي بما ذكرناه من المطالب
الأربع الأولى ؛ إذ الغرض من ذكرها الدلالة على أنها مما يعلو علم محمد صلى الله
عليه وسلم الكسبي ، واستعداده العقلي ، ويستحيل أن تكون من وحي إلهامه النفسي ،
ولكنهم طالبونا بها ، وصرَّح بعضهم بأننا أغفلناها .
ولولا أن هذا الكتاب وضع في قالب الاختصار لفصَّلنا فيه هذه المطالب ،
ونظمناه في سلك ما سميناه المقاصد ، ولمددنا تلك المقاصد مدًّا ، وكثَّرناها عدًّا ،
فجعلنا الأول منها ثلاثًا ، والخامس بعدد جمله عشرًا .
وحينئذ يمكن بسط علوم القرآن الدالة على أنه من عند الله في عدة أسفار كما
صرَّحنا بذلك في الصحفة 128 منه .
هذا وإنني قد بيَّنت في آخر مقدمة الطبعة الأولى ( ص 11 ) أنني كتبته في
أوقات متفرقة ، وزمن هم وعسرة ، وأشرت إلى ما أراه يفتقر إلى الإصلاح من
عبارته ، ككثرة الإحالة فيه على تفسير المنار ؛ لأنه كان في الأصل استطرادًا فيه ،
وإلى بعض التكرار فيه .
وقضى الله أن أعيد طبعه في زمن قصير ، وعسير غير يسير ، وقد وفقني
فيه بفضله لحذف كثير من الإحالات غير الضرورية منه ، وجعل أكثر ما بقي منها
في حواشيه حتى لا تشغل قارئه ، وأما أكثر ما يراه في صلبه من الإحالات ، فهو
على ما سبق فيه لا على ما في غيره .
وأما ما في الطبعة الأولى من التكرار فقد أشرت في مقدمتها إلى أن منه ما
هو مقصود لذاته اقتداء بالقرآن ، وهذا الصنف منه قد أبقيته وزدت فيه ، وقد
حذفت من خاتمته مقدمات إثبات الوحي المحمدي الست ، وما يتلوها من الدلائل
الثمانية على كون هذا القرآن من كلام الله ووحيه ، وخلاصة المقاصد العشر من
علومه الإصلاحية ؛ لأن أكثر ما أوردته منها مختصر مما قبله ، وقد أستغني في
هذه الطبعة عن أكثره .
هذا وإنني أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في يوم ذكرى مولد النبي
صلى الله عليه وسلم من هذا العام ( 1352 ) على المشهور بين الناس [1] لتذكيرهم
فيه بأظهر الدلائل على نبوته ودحض أقوى الشبهات على دعوته ، فيكون خير ما
يذكرون من نعمة الله تعالى به . وها أنذا أصدر الطبعة الثانية منه في يوم عرفة
من هذه السنة نفسها ؛ تذكيرًا بما نزل عليه فيه من قول الله عز وجل : { اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 )
لأن موضوع الكتاب بيان إكماله تعالى لهذا الدين ، وإتمام نعمته على العالمين ،
واستمرار حاجة جميع البشر إلى هدايته أبد الآبدين ، والحمد لله رب العالمين .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو الثاني عشر من ربيع الأول ، والأرجح عند المحدثين أنه التاسع أو العاشر منه .(33/753
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
( تابع لما نشر في العدد الماضي )
( 2 )
- 5 -
للعلامة الأستاذ الشيخ سعدي يس الدمشقي
تكرم علامة دمشق الشام الشيخ محمد بهجة البيطار فأهداني كتاب
( الوحي المحمدي ) كما هو شأنه مع أصحابه ومعارفه في كل كتاب نفيس يصدر ،
وذلك خُلُق طبعه الله عليه .
وما أن اطلعت على هذا الكتاب العظيم العديم المثال حتى علمت علم
اليقين أن كتاب الوحي المحمدي هو خير كتاب أخرج للناس في هذا العصر ،
بل لم يؤلف قبله في بابه نظيره ، ولقد ارتفع عن كل مؤلف كما ارتفع مؤلفه
عالم الإسلام الإمام الهمام السيد الشيخ محمد رشيد رضا عن كل عالم ومؤلف
في هذا العصر . ولقد سما به وايم الله لمكان لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه
العقبان .
تأملت شُبَهَ درمنغام التي بسطها المؤلف الإمام قبل الرد عليها فإذا هي
جبال تتصاغر أمامها دوامغ الحجج ، وبحار زاخرة تكاد تغرق الحق في
اللجج ، وتمتلئ منها قلوب المؤمنين رعبًا ، وما إن كرَّ عليها ذلك الغضنفر
الضرغام ، بسيف الحق الصمام ، حتى ذلت بعد جبروتها ، وصغرت بعد
كبريائها ، كما ذل وصغر الثعلب بين يدي القسورة الأغلب ، وإذا بها ريش
وهباء ، أمام زعزع نكباء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } ( الأنبياء : 18 ) .
وكتاب الوحي المحمدي ليس رد مفتريات وإبطال أخطاء فحسب ، بل هو
كتاب جمع فأوعى ، فيه إثبات أن القرآن وحي الله الذي أوحى به لرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي الهاشمي ، وأنه آية الله الكبرى
التي أيد بها دينه ونبيه ، وأنه معجزة باقية ما بقي النيران ، وتعاقب الملوان ،
وأنه أتى بجميع ما يحتاجه البشر لمعادهم ومعاشهم .
وفيه إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بوجه خاص ونبوة جميع
الأنبياء بوجه عام ، أثبت ذلك بأدلة أنصع وأمتع وأرفع من أدلة كتب دلائل
النبوة ، إثباتًا اعتمد على الأدلة العلمية العقلية التي يذعن لها المخالف المنصف
والخصم المعاند . وفيه أصول العقائد الإسلامية بل فيه ملخص الشريعة
الإسلامية : أحكامها وحكمها .
وإنك لتجد أن السيد الإمام ، أمتع الله بطول حياته المسلمين ونصر به
الإسلام ، تجد أنه قد قسم الإصلاح الإلهي للبشر في القرآن إلى عشرة مقاصد ،
لا أحسب أن مخالفًا منصفًا يقرؤها متدبرًا لها ويبقى عنده أدنى ريب أو أقل شبهة في
أن القرآن أعظم كتاب منزل ، على أشرف نبي مرسل ، دعم المؤلف الإمام هذه
المقاصد بشواهد حية ، وآيات ناطقة ، وحجج ليست براهين ساطعة ولكنها شموس
طالعة ، ولئن سمي كتاب فتح البارئ قاموس السنة فكتاب الوحي المحمدي ترجمان
القرآن .
وليس هذا بكثير على سليل بيت النبوة ومن يمت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم بنسب النبوة . ولقد خطر لي وأنا أقرأ كتابه كلمة ذلك الأعرابي
الذي سأل أبا جعفر محمد بن علي ابن سيدنا الحسين إذ سأله فقال : هل رأيت
الله حين عبدته يا أبا جعفر ؟ فقال : لم أكن لأعبد من لم أره . قال فكيف رأيته ؟
قال : لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ورأته القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك
بالحواس ولا يشبه بالناس معروف بالآيات ، منعوت بالعلامات ، لا يجور
في القضيات ، ذلك الله الذي لا إله إلا هو . فقال الأعرابي : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( الأنعام : 124 ) ألا وإن هذا وذاك من ينبوع واحد ، وإن
أقول إلا ما قاله ذلك الأعرابي .
بيروت ... ... ... ... ... ... ... سعدي يس الدمشقي
***
- 6 -
للأديب الفاضل الشيخ محمد نعيم البيطار
ما هذه الأشعة التي انبعثت من غار حراء فأشرقت بنورها الجزيرة
العربية ثم ما لبثت أن ملأت الدنيا بهجة وضياء ؟
من ذلك الرجل الذي ظهر للوجود فأنقذ العالم مما كانوا فيه من البؤس
والشقاء وقادهم جميعًا إلى طريق السعادة والهناء .
ما هذه الدعوة التي لم يمض على ظهورها ربع قرن حتى احتلت قلوب
العالم فكانوا لا يخالفون مبادئها قيد شبر .
ترددت هذه الأسئلة في خواطر المطلعين على أحوال الأمم والمنقبين عن
تواريخ الشعوب لما شاهدوا من آثار تلك المدنية الباهرة التي ما زالت آثارها
موضع الإعجاب رغم مضي مئات السنين على أصحابها .
فشرع كل منهم يضعها بقالب موافق لما يريد ، ويملي على قلمه ما
يوحيه إليه فكره من آرائه التي اكتسبها من البحث والتنقيب ، فكان بينهم
المخطئ والمصيب ، غير أن المخطئ يحتاج إلى تنبيه ؛ لأن خطأه إذا شاع بين
العوام ، كان مدعاة لدفن الحقائق والتمسك بالأوهام .
لذلك الأمر الخطير قام صاحب كتاب الوحي المحمدي السيد الإمام ،
علامة الإسلام ، الأستاذ محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر . فأبان
أغلاطهم التي تطرأ على كل من لم يكن ضليعًا بالأمر الذين يقدم عليه . فكان
من أكبر أغلاطهم أن حسبوا الوحي الإلهي إلهامًا فطريًّا من نفس الرسول
محمد عليه الصلاة والسلام ، بمساعدة البيئة والذكاء والانفراد ، إلى غير ذلك
من الأسباب التي أيدوها بآرائهم الفاسدة فأغوت كثيرًا من المتعلمين الذين لم
يطلعوا على حقائق السيرة النبوية فذكر السيد الإمام مصدر تلك الشبهات
ودحضها بالحجة والبرهان ، وأقام الشواهد الكثيرة على أن الوحي الكافل لإصلاح
جميع البشر لا يمكن إلا أن يكون وحيًا إلهيًّا .
وقد أفاض في ذكر إعجاز القرآن في بلاغته وبيانه وتأثير هدايته
ومقاصده العليا من تنظيم شئون الحياة الاجتماعية ، تنظيمًا يتفق وحاجة بني
الإنسان ، على اختلاف الأزمان والبلدان .
ثم احتج بجميع ما ذكر على أن الدين الذي يكفل ذلك كله هو أحق أن
يتبع فدعا جميع شعوب الأرض إلى التمسك بهدايته والعمل بتعاليمه الربانية ،
ليعرفوا كيف يستفيدون من حضارتهم التي أصبحت مهددة بخطر الزوال ،
فكان كتابه كتابًا قيمًا ، جدير بكل طالب علم أن يطلع عليه ويجعله من مقتنياته
النفيسة التي يرجع إليها وينقل عنها .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نعيم البيطار
***
-7-
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد رشيد ميقاتي مفتي طرابلس الشام
أخي العزيز السيد عاصم آل رضا حفظك الله
سلامًا واحترامًا ( وبعد ) قرأت ( كتاب الوحي المحمدي ) الذي أهديتنيه
فلا تسل يا أخي عما حصل لي من المسرة ، في الحظوى بما هو لعيون
المؤمنين قرة ، ووقفت موقف الحائر ، فيما أقول عن هذا السيف الباهر ، المزري
بالدرر والجواهر ، والسهل الممتنع ، الجامع المانع ، في بيان حقيقة دين الإسلام ،
لكافة الأنام ، فلم يسعني إلا أن أجهر بكلمة الله أكبر ، فتح ونصر ، وشعرت كأن
مناديًا ينادي من علوة يا أمة محمد ، أمة الإجابة والدعوة ، ويا طلاب الحقيقة
والخلاص والإخلاص في هذا العالم ، هاكم كتابًا اقرءوه ، فتعلموا منه بالوجدان
والضمير الحي ، حقيقة الدين الإسلامي بأنه دين الحضارة والعقل ، والترقي
والعدل ، والتسامح والفضل ، والعز والمجد ، والسيادة لكل فرد ، والكفالة
لكل خير في معاشكم ، والسعادة في معادكم ، وإنكم إن علمتم به وعملتم
فزتم بسعادة الدارين ، وإن لم تعملوا ، وعلمتم ظاهرًا من الحياة الدنيا فزتم
بها وحدها ، وإن لم تعلموا ولم تعملوا خسرتم الدنيا والآخرة كحال بعضكم ،
وذلك هو الخسران المبين ، وتعلموا حقيقة الوحي المحمدي أنه من الله رب العالمين ،
نزل به روح القدس جبريل الأمين ، على قلب النبي الأمي محمد ختام المرسلين
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
فمن هذا السرور ، ومن هذا الشعور ، تراني يا أخي داعيًا إلى الله أن
يكافئ مؤلف هذا الكتاب الجليل ، العلامة النبيل ، الفهامة لدين الإسلام ، ابن
عمك الرشيد الإمام ، بخير ما كوفئ محسن بإحسانه من الخير والإنعام آمين ،
راجيًا إبلاغ أزكى سلامي وفائق احترامي لحضرة المشار إليه ، أدام الله فضله
عليه ، والسلام عليكم , ورحمة الله تهدى إليكم
10 رمضان سنة 1352 ... ... ... ... ... مفتي طرابلس
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي
***
طائفة من التقاريظ التي رأيناها في المجلات والجرائد
تقريظ الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
( محرر مجلة الضياء الهندية في لكنهؤ ، ونشر فيها )
هدية ثمينة وتحفة نفيسة وثمرة علمية يانعة ، أنتجها قلم إمام هذا العصر
وحكيمه الأكبر ، مولانا السيد محمد رشيد رضا . لا زال بحر بره زاخرًا
يقذف بالدرر ، ووابل علومه يحيي القلوب الميتة ، وظله الوارف حماية
للإسلام والمسلمين .
هذا الدرة اليتيمة فكرة خطرت لحضرة السيد حين اشتغاله بتفسير كتاب
الله القرآن ، واستخراج نفائس كنوزه ، وأين منها الياقوت والمرجان ، وهي
بلا شك من التحديث الرباني ، والإلهام الرحماني ، قدمها حضرته للعالم
الإنساني ، في شهر ربيع الأول الذي كان فيه مولد المنقذ الأكبر للنوع
الإنساني محمد صلوات الله عليه . فكانت خدمة جليلة وتكريمًا لذلك الجناب
المقدس ، ولعمري إن بمثل هذا العمل المبرور يكون التكريم والتعزيز ، وهو
الآية المحكمة على المحبة العلمية الإيمانية ، لا التمسح على الأحجار أو تعليق
الخرق المزوقة ، وإيقاد الأنوار الكهربائية الملونة ، والفقراء ذات اليمين وذات
الشمال يتضورون جوعًا ويموتون بأمراضهم ولا معالج لهم ولا آس ، وراية
الإسلام منكوسة ، وأحواله معكوسة ، وشرع النبي الأكرم منبوذ ظهريًّا ،
وسنته الشريفة متخذة سخريًّا ، ولا غرو { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ
الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ } ( فاطر : 19-22 ) .
افتتح الإمام الكتاب بمقدمة بيَّن فيها بحكمة عالية واضحة نيرة على ذلك
ارتقاء البشر في الأمور المادية في خدمة هذا الغلاف الجسمي وبلوغهم في
ذلك الغاية التي انعكست وصارت شرًّا على الأجساد التي اخترعت لتنعمها
وتسعدها ، وبيَّن انحطاطهم الروحي ، وإفلاسهم الأدبي وما سبب لهم من
الشقاء والعذاب الجسمي الذي منه يحذرون ويفرون ، وبرهن على أن السعادة
البدنية يستحيل الوصول إليها بدون الكمال الروحي ، والرقي النفسي ببراهين
لا تبقي للشك مجالاً ، وراش سهام التأنيب للدول الآخذة بأزمة الأمم في هذا
الزمان ، وحمل عليها تبعة الخزي والشقاوة الذين تجلبهما على العالم بتكالبها
على المادة ، وتنافسها في التطاول وحب العلو والفساد في الأرض بإهلاك
الحرث والنسل في حروبها المتنوعة من سياسية واقتصادية وأدبية وغيرها .
ثم ذكر اعتراف حكماء الغرب بهذا الفساد وتمنيهم أن يبعث نبي يحدث
انقلابًا روحيًّا ينقذ الإنسانية من نصبها وشرورها ، وإطباقهم على أن أديانهم
لا تنجع في علاج هذا الداء ، بل ربما كانت إحدى عوامله ، فأراد هذا الإمام
الحجة أن يريهم أن الذي يطلبون بين أيديهم ، وأن الدواء الناجع على طرف
الثمام ، ويرفع عنهم حجب الجهل والتعصب التي حرمتهم من اقتباس أنوار
الدين الأصلي الخالد ، دين الفطرة ، ويضع أيديهم على محاسنه وفضائله
ليتفقهوا فيه باتخاذهم ( الوحي المحمدي ) دليلاً وهاديًا ، ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .
ولا جرم أن السيد - أيده الله- جمع ما كتبه الحكماء والأطباء النطاسيون
لأمراض النفوس في هذا العصر وفيما قبله وزاد عليه بأوجز عبارة وأوضحها ،
وفتح بابًا جديدًا للدخول إلى خزانة كنوز القرآن استعصى فتحه على من حاوله
قبله من المصلحين بالنسبة إلى طب أدواء عصرنا هذا ، وأتى في هذا السفر
الصغير الحجم بالأدلة القاطعة عقلاً ونقلاً من الكتب المنزلة والسنن النبوية
التي يتضاءل أمامها كل معاند بما يشفي الغليل ، ويبرئ العليل في أمهات
المسائل التي تشغل أذهان علماء العصر وعامته . فمنها نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم وإثباتها بالحجج التي تجبر مثبتي الوحي ونُفَاته على الإذعان
والبحث الوافي الشافي في الوحي والمعجزات عند النصارى وعند المسلمين
والفلاسفة مما لا تجده في غيره . ومن خواصه أنه أورد في جميع الشبهات
القديمة والجديدة التي وجهت للوحي العام والخاص وأجاب عنها بأحسن
جواب . ثم خرج إلى المقصود بالذات وهو القرآن مبينًا أسلوبه ، وحكمة
تكرار الآيات فيه ، وما أحدثه هذا الكتاب العظيم من تأثير وانقلاب في العالم ،
ثم حصر مقاصده الأصول نذكرها آسفين إجمالاً لضيق المقام .
( وهنا لخص الأستاذ مقاصد القرآن العشرة وخاتمة الكتاب فجزاه الله
عن نفسه ودينه وأخيه المؤلف أفضل الجزاء ) .
***
تقريظ مجلة الشبان المسلمين لكتاب الوحي المحمدي
لرئيس تحريرها الأستاذ النحرير الدكتور يحيى الدرديري
الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا ليس بغريب على القارئ حتى نقدمه
إليه بمقدمة تشرح تاريخه وماضيه في الجهاد القلمي للإسلام . وبحسب القارئ
أنه يعلم أنه منشئ مجلة المنار ، وأنه وارث علم الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده ، ومذيعه على الناس إذاعة لولاها ما كتب له هذا الذكر الخالد العريض .
وقد أخرج للمكتبة الإسلامية العربية في هذا العام كتابًا قيمًا في إثبات الوحي
المحمدي بالقرآن ، ودعوة شعوب المدنِيَّة إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية
والسلام .
وقد تعرض فيه للشبهات التي تحوم حول نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم وردها وبين رأي الكنيسة المسيحية في النبوة وتعرض لبيان المعجزة
والكرامة والخوارق وتأثيرها في الأفراد والأمم ، وبيَّن أن الوحي المحمدي ليس
وحيًا نفسيًّا كما يعتقد بعض علماء الفرنجة ، وبين قيمة القرآن في إثبات معجزات
الأنبياء وتفرد الإسلام بنوع من الإعجاز ليس في غيره من الأديان إلى غير ذلك من
المباحث والقضايا الدينية التي قد لا يُعْثَرُ على حل لها إلا في منتوج قلم الأستاذ الشيخ
رشيد .
ويقع الكتاب في مائتي صفحة وهو مطبوع طبعًا جيدًا في مطبعة المنار
فنحث القراء على اقتنائه .
***
تقريظ
( بقلم الأديب الكبير الكاتب النحرير الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري )
نشر في جريدة البلاغ الغراء
شغلتي أشغال عن مطالعة هذا الكتاب أول مظهره . حتى إذا تفرغت وتهيأت

لي الأسباب تجردت في قراءته وتدبره . ولقد تناولته والظن معقود بأنه من جنس ما
خرج من الكتب في بابه ، على أنني ما كدت أسترسل فيه حتى جعل يتعاظمني
شأنه ، ويتكاثرني خطبه ، وكلما أمعنت فيه زادني إعجابًا به ، وإجلالاً لموضعه ،
حتى خرجت منه ولا يكاد كتاب في بابه يبلغ مداه ، أو ينتهي منتهاه .
ولقد يتداخلك العجب من أن أطلق أنا مثل هذه الشهادة في كتاب يخرجه
السيد رشيد رضا ، وبيننا ما أعلم ويعلم ، وما الله تعالى به أعلم ، فإن للدين
والعلم حقًّا يجب أن تكبح له الشكائم ، وتسل دونه السخائم ، وللحساب الغليظ
مقام آخر إن شاء الله [1] .
كتاب الوحي المحمدي يرجع موضوعه أو موضوعاته في الجملة إلى
إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها خاتمة رسالات الرسل عليهم
الصلاة والسلام . وأن شريعته هي الشريعة الجامعة لكل ما فيه صلاح العالم
وحضارته ويسره وأمنه وسعادته في كل مكان ، وإلى غاية الزمان ، وإن
شأنه عليه السلام مع شأن من تقدمه من الرسل الكرام لعلى حد قول المتنبي :
نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرًا
ولقد اتكأ المؤلف في تدليله أكثر ما اتكأ على القرآن الكريم ، وفي إحسان
وإبداع أثبت السيد أنه لولا القرآن ما انتهضت حجة قاطعة على نبوة من تقدم
من الأنبياء .
ولقد جعل المؤلف كلما تحول إلى باب أو انحرف إلى مطلب في أسباب
الموضوع يتقرى فِرَى عدو الإسلام من الداعين إلى حربه ، ومن الملحدين
عامة ، وشبه الشاكين من أهله ، ومن المتطرفين منهم بالتشكيك في بعض
قضاياه ، فيفريها بالحجة فريًا ، ويضغمها بالدليل الحاسم ضغمًا ! فما يدع
لأصحابها متنفسًا ، ولا يجيز لمتنزي الإلحاد مضطربًا .
ولقد قال الكتاب في محمد صلى الله عليه وسلم وفي الوحي وفي القرآن
وفي أثره في العالم . وفي معجزات الأنبياء وفي حاجة العلم إلى الدين . وفي
كثير غير ذلك مما ينسق للغرض ، ويتجلى به وجه الحجة ، فكفى وشفى ،
وبلغ من الإحسان والإجمال غاية المدى .
وليس من شأن هذا المقال أن يدل على مواضع الإجادة في أبواب الكتاب ،
بله كل فصل من كل باب . فذلك مما يخرج عن طوق سابغ المقالات ، على
أن في الكتاب مقامات صلصل فيها البيان الديني أي مصلصل ، ولقد يكاد
يتحول حسك وأنت تطالعها من البصر إلى السمع ، حتى يخيل إليك أنك تسمع
صرير القلم . ويحضرك في هذا المعنى قول المتنبي أيضًا :
كالحظ يملأ مسمعي من أبصرا
ولا شك في أن من هذه المقامات الرائعة قول الكتاب في أسلوب القرآن
الخاص وإعجازه به ، وحكمة التكرار فيه . ولقد وقع في هذا الغرض على
حِكَمٍ لم أقع عليها في كتب من تقدمه . على أن المؤلف على عادته . لقد أسرع
فَكَاثَرَ بهذا في الفهرس ؛ إذ قال عند الإشارة إلى هذا الفصل ( وهو ما لم يسبق
لأحد بيانه ) .
ومن المقامات البارعة في الكتاب القول في معجزات الأنبياء ، والفرق
بينها وبين كرامات الأولياء ، والحد بينهما وبين شعوذة المشعوذين ، وآثار
رياضة المرتاضين ، فلقد جمع في هذا الباب بين ما أثر في الشرع وما يجري
به سنن الكون ، في لباقة وحسن تعليل ، وجودة تفسير وبراعة وتأويل .
ومن هذه المقامات التي تخلب وتروع ما أقام هذا الكتاب من ناصع الحجة
على إيفاء الشرع المحمدي على الغاية في تقرير أعلى القواعد وأضبطها للإصلاح
الاجتماعي والمالي والسياسي . ويدخل في هذا الباب العلاقات الدولية ، ونظم
الحروب وغير ذلك مما يكفل صلاح البشر كافة ، ويتضمن رقي المجتمع الإنساني
وبلوغه في أسباب الحضارة تلك المنزلة التي تخيلها أئمة الحكماء ودعاة الإصلاح
من قديم الزمان .
ولقد عرض الكتاب غير هذا لمزايا الإسلام وحكم أحكامه سواء في
العبادات أو في الأسباب الدائرة بين الناس ، وبين جهة ارتفاعها على أن تكون
من شرع البشر ، وأنها أجمع وأكفى ، وأكمل وأوفى من كل ما سن الخلق من
النظم . بل من كل ما تنزل من الشرائع على جميع الرسل السابقين ، عليهم
صلوات الله أجمعين .
وكل ذلك أجراه المؤلف على أسلوب منطقي سليم خال من الإسراف ومن
الشعر والتخييل .
ومما يزيد من قدر هذا الكتاب أن كثيرًا مما جلا واستظهر من القضايا مبتكر
لم يسبق . على أنه لم يكن أقل براعة فيما نقل أو اقتبس . فلقد كان حق لبق في
إلحاق كل شيء ببابه ، وإقرار كل أمر في نصابه ، إلى حضور الشاهد من كتاب
الله تعالى وما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وما أثر عن الثقات من
أئمة الإسلام ومن شهادات علماء الإفرنج أيضًا . ومهما يكن من شيء فالكتاب في
الجملة مما لا يطاول في بابه ، بل لا أحسبني مسرفًا إذا زعمت أنه يمكن أن يعد
بحق من إحدى حجج الإسلام .
ولقد بدت لي وأنا في بعض الكتاب طائفة من الملاحظات يرجع بعضها إلى
الطبع ، وبعض إلى شيء من الغموض في قليل من المواضع ، ويرجع بعض إلى
كثرة الإحالات إلى المراجع المختلفة ونحو ذلك ، على أنها كلها ثانوي لا يحط من
شأن الكتاب ولا يغض من قدره ، على أن من دلائل التوفيق أن التقيت مصادفة
بالأستاذ السيد رشيد ، وأفضيت إليه بهذا الذي عددت على كتابه ، فوعدني راضيًا
مغتبطًا بأنه مستدرك كل ما يجمل استدراكه إن شاء الله في الطبعة الثانية [2]
ولعلها قائمة الآن فليس لي إلا أن أشكره . وإلا ( سقط ههنا بعض حروف
الأصل المطبوع ) أن أري من التجني المحقور بعد ذلك بسط ما بدا لى من تلك
المآخذ المبينة في مقال منشور .
وبعد : فليس يعني أن أختم هذا الكلام دون أن أبادي المؤلف الفاضل
وجمهرة قارئي الوحي المحمدي بأمرين : الأول أنني أتحفظ عن إبداء الرأي -
إذا صح هذا التعبير - عما أصاب في الكتاب من حديث الاجتهاد والتقليد ، ولو
قد فصَّل الكلام في هذا الباب لما تعذر عليَّ إبداء الرأي بمشايعته أو إظهار
الخلاف له فيما عسى أن يذهب إليه من الأحكام .
أما الثاني فلقد هتف المؤلف في بعض الكتاب بالعلماء ( الرسميين ) وغلا في
الزراية عليهم . ومن الواضح أنه يريد ( بالعلماء الرسميين ) علماء الأزهر . وإني
لأكره هذا من أي كان في رجال الدين ، هذا إلى أنهم قومي ومعشري وهم الذين
أعتز بهم ، وأدين بكل ما أفاء الله عليَّ من النعم لهم . وإن أنس لا أَنْسَى أن ممن
أصحر لهم السيد رشيد بالخصومة من جلست بين أيديهم ، وأخذت عنهم . وتخرجت
في التعليم عليهم . فأصبح لهم بهذا حق في دمي فإذا اعتذر السيد الفاضل بأنهم
يقارضونه هذا الأذى فما أجدر علماء الدين جميعًا بغير هذا اللون من الحوار
ففي الجدال بالحسنى كفاية ، وفي الحجة وحدها المقنع ، ما دامت غاية الجميع
إفشاء حكم الله وإعلاء كلمة الإسلام ا هـ .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز البشري
( المنار )
أما الأمر الأول مما بادأني وقراء الوحي به وهو حكم الاجتهاد والتقليد فإن
شاء أن يعرف رأيي التفصيلي فيه فإن لي فيه كتابًا مدونًا طبع المرة بعد المرة ،
وبحثًا فياضًا في مقدمة طبع كتاب المغني الكبير فليرجع إليهما ، وليقل فيه ما يشاء
فإني أنشره له إن أحب ، وما كتبته في كتاب الوحي المحمدي كاف فيه ؛ لأنه مبني
على الاختصار ، ولم ينكر عليَّ أحد من كبار علماء الأزهر الرسميين ولا من
غيرهم ممن ذكروا لي رأيهم في الكتاب كلمة منه .
وأما الأمر الثاني[3] وهو ما عبر عنه بالهتاف بالعلماء الرسميين والغلو في
الزراية عليهم فقد ظلم علماء الأزهر - وهم قومه ومعشره - به ، فلفظ العلماء
الرسميين لا يدل على علماء الأزهر ، ولا أنا بالذي عنيتهم به ، وإنما عنيت به ما
كان يعنيه الإمام الغزالي وغيره بعلماء الرسوم ، وما يعنيه أهل هذا العصر بعلم
حملة الشهادات التي عبر عنها بعضهم بجلد الحمار ، وهم يوجدون في جميع
الأمصار ، وكذلك استعماله مادتي الوضوح والإصحار بالخصومة فقد وضعهما في
غير موضعهما على ما أعهد من حسن فهمه للغة وحسن أدائه فيها ، فكتاب الوحي
المحمدي بمعزل من الإصحار بالخصومة أو إسرارها لطائفة من العلماء بأعيانهم أو
صفاتهم أو مكانهم ، وإنما تلك صيحة تنبيه لمن يصدون المسلمين عن هداية
القرآن ، زاعمين أنه لم يبق له من الفائدة إلا التبرك به والتعبد بألفاظه من
غير فهم ولا تدبر ولا اتعاظ ، فهل يعد الكاتب شيوخه منهم ؟ إن كان كذلك فهو
أشد مني زراية عليهم ، وإذن لا يغني عنهم دفاعه عنهم ولا اعتزازه بهم ، ولا
منتهم عليه .
وإني على كل حال أحمد الله أن كان نظره إليَّ بعين السخط قد انقلب خاسئًا
وهو حسير دون رؤية شيء من المساوئ في كتاب الوحي المحمدي يمكن جعله
تشويهًا لجمال تقريظه ، إلا هذه الكلمة التي كان فيها من الخاطئين ، فكانت هذه
الواحدة كواحدة أبي سفيان في حديثه مع هرقل ، وقد كاشفته بخطئه في سوء ظنه
مشافهة فسره أن كان نفيي للزراية على شيوخه والإزراء بهم خيرًا لهم من إثباته
ودفاعه عنهم ، وإنني وإياه لنقسم شرف تقريظه في سخطه فهو بيننا شق الأبلمة .
* * *
تقريظ الكاتب الكبير
عباس محمود العقاد
نشر في جريدة الجهاد
أكثر من قرأت لهم من كتاب المباحث الدينية الأحياء اثنان : هما السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار والأستاذ محمد فريد وجدي صاحب التواليف
والتصانيف الكثيرة المعروفة باسمه .
فأما السيد رشيد فهو أوفر نصيبًا من الفقه [4] والشريعة والدراسات الموروثة
ومزيته على الكتاب الدينيين في العصر الحاضر أنه خلا من الجمود الذي يصرفهم
عن لباب الفقه إلى قشوره ، وسلم من تلك العفونات النفسية التي تعيب أخلاقهم
وتشوه مقاصدهم ، فهو أدنى إلى الصواب وأنأى عن العوج وسوء النية .
وأما الأستاذ وجدي فهو أوفر نصيبًا من الحرية والعلم العصري والأذواق
المدنية للتأويلات والتماسه في الدين مستمد من شعوره باللياقة ، أو بما يخالفها
كما يشعر الرجل الذي يعيش في بيئة الحضارة من المصريين المثقفين [5].
قرأت المنار ومباحث السيد رشيد ؛ لأنني كنت أقرأ كل ما كتب الأستاذ الإمام
محمد عبده ، وكل ما أوصى بقراءته مما تتناوله طاقتي في سني الدراسة .
وقرأت الأستاذ وجدي ؛ لأنني اتجهت إلى هذه الوجهة فأحببت المزيد
فيها وكان أول ما وصل إليَّ من كتبه ( الإسلام في عصر العلم ) فكانت أدلته
عندي كافية للإقناع في سن النشأة الأولى .
ولا أزال كلما احتجت إلى بحث مستنير في الفقه والشريعة رجعت إلى كتب
السيد رشيد ، وكلما احتجت إلى تفسير مثقف لعقدة من العقد الدينية رجعت إلى رأي
الأستاذ وجدي فيها ، وقد أجد في كليهما معًا ما ينفعني في كلا الأمرين .
وكتاب ( الوحي المحمدي ) الذي أظهره صاحب المنار في الأشهر
الأخيرة هو من أفضل ما كتب في مباحثه الدينية : توخى فيه كما قال : ( أن
يكون أمضى مُدْيَة لقطع ألسنة الطاعنين في الإسلام من دعاة الأديان الأخرى )
وأراد به أن يكون كتابًا ( يصلح لدعوة شعوب المدنية الحاضرة إلى الإسلام
ببيان البراهين العقلية والتاريخية على كون القرآن وحيًا من الله تعالى لا وحيًا
نفسيًّا نابعًا من استعداد محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم بعض المتأولين
لإعجازه منهم ، وبيان ما فيه من الأصول والقواعد الدينية والاجتماعية
والسياسية والمالية والدفاعية السلمية التي يتوقف على اتباعها صلاح البشر
وعلاج المفاسد المادية وفوضى الإباحة وخطر الحرب العامة التي استهدفت
لها جميع الدول والشعوب في هذا العهد ) .
وعندنا أن الأستاذ يستجمع الكثير من أسباب الكفاءة الضرورية بتأليف كتاب
في هذه الموضوع للغرض الذي أبانه ، فهو يعلم من أسرار الأصول الإسلامية ما لم
يتيسر في العصر الحاضر إلا للقليلين بين علماء المسلمين ، وهو مسموع الرأي في
العالم الشرقي ، كثير القراء والمريدين في بلاد الإسلام ، وهو أسلم فطرة من جميع
من سمعنا بهم من المتصدين لهذه المباحث بين الشيوخ والفقهاء .
وقد درست بعض فصول الكتاب وتصفحت بعضها فبدا لي أنه ينهج في
الاستدلال العقلي منهجًا كفيلاًَ بإقناع العدد الأكبر من قراء هذه المباحث ولا
سيما المسلمين ، ولا أشك في سعة انتشاره وفلاحه في تفنيد المزاعم والريب
التي قد تساور الأذهان بين أولئك القراء ، فإن لم يبلغ الكتاب كل غرضه
المفصل في فاتحته فهو بالغ من ذلك الغرض ما يستحق تأليف كتب شتى لا
تأليف كتاب واحد ، وحسب المؤلف أن يظفر بهذا ليظفر بشيء كثير .
إلا أننا نأخذ على المؤلف نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في مثل هذا
المبحث إلى جانب المزايا التي توجب عليه طرقه وترجيحه على غيره ، وقد
يتلخص النقصان في نقص واحد وهو قلة البصر بأصول ( المنطق النفسي ) أو
منطق الدراسات النفسية الذي هو وحده عدة البحث في جميع الحقائق العالية
دون المنطق الدارج المألوف في المناقشات اليومية والوقائع الصغيرة .
فالأستاذ رشيد يحسب أن إثبات المسائل التي تناط بالضمير والفكر
وأطوار النفوس والشعوب هو من قبيل إثبات الأشياء المادية التي لها حجم
ووزن ولون ومكان ، وقل أن يختلف في مقياسها شاهدان ، وعنده أنه يستطيع
أن يبت بجواز حالة في النفس أو استحالتها كما يبت بوجود كرسي أمامه أو
عدم وجوده ، فيجزم حيث لا يستطاع الجزم ، ويخيل إليه أن قد انتهى من
الرأي وهو لا يزال فيه على عتبة البداية .
هذا من جانب . وأما الجانب الآخر فهو ضيق ملكة ( الاحتمال والفرض )
عنده ، وهي في باطن الأمر لباب المنطق كله ؛ إذ ليس التفكير الصحيح إلا أن
تحتمل الفروض الجائزة ثم تمنعها بالأدلة القاطعة . والأستاذ رشيد يدع نصف
الاحتمالات مغلقًا لا يقترب منه ثم يغلق النصف الآخر بأدلة ضعيفة تدع الباب
في معظم الأحيان مفتوحًا على مصراعيه .
فلقد كان الواجب الأول على الأستاذ رشيد في كتاب ( الوحي المحمدي )
أن يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه
من الوجوه الإنسانية المعهودة ، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا
بإقامة ذلك الحد على أساس مكين .
مثال ذلك : إذا قام رجل فقال للناس : إن الألمان انتصروا على الفرنسيين
ولكنهم سينهزمون بعد زمن قريب فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى
يترجح أحدهما على الآخر .
فإذا كان صاحبه صادقًا فربما هداه إليه الوحي والإلهام ، وربما هداه إليه
الحساب الدقيق والتقدير الصحيح ، وربما هداه إليه العلم من المطلعين على
أسرار الدول العارفين بما تستطيعه وما تنويه ، وربما هداه إليه التمني
والرغبة كما يتمنى المرء النجاح فيعتقد أنه سينجح ويأبى أن يصدق ما عدا
هذه الأمنية .
وربما كان صدقه مصادفة لا أثر فيها للإلهام أو للحساب أو للعلم أو
للتمني والرغبة وربما ظهر صدقه للناس ؛ لأن عبارته تقبل التأويل ، فيفسر
بعضهم المقصود من النصر والمقصود من الهزيمة والمقصود من المنتصرين
والمنهزمين على تفسيرات يجوز فيها الخلاف .
أما إن كان الخبر كاذبًا ففي العلم بكذبه مجال للاحتمال يشبه هذا المجال
فإذا جعل الباحث كل خبر صادق دليلاً على نبوءة فهو لا يخدم النبوءة بهذا
البرهان ، ولكنه يفتح الباب لمن يخبرون ببعض الأشياء فيصدق خبرهم من
طرق المصادفة او من طريق آخر غير طريق الوحي والإلهام .
وإنما السداد في الأمر أن ينفي الكتاب كل احتمال غير احتمال الوحي ،
وأن يكون نفيه مدعومًا بالبرهان الذي لا شبهة فيه عند المصدقين وغير
المصدقين ، ومن ثم يقيم الحد بين الحقيقة والدعوى وبين الإيمان والإنكار .
والشيخ رشيد قد فاته أن يصنع هذا في مواضع كثيرة ، فليته يعقد العزيمة على
تدارك ما فاته في طبعة ثانية ، ولو استعان عليه بمن يقدرون على عونه ،
وليس اقتراحًا أن يتدارك النقص يمانع شكره على ما بلغ من تمام وأسدى من
فائدة .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عباس محمود العقاد
***
الرد على العقاد
( المنار )
إن الأستاذ العقاد ، كاتب أديب سياسي نقاد ، غلبته على العلم ملكة الخيال
الشعري والجدل السياسي ، وعلمه بالدين ضعيف ، واطلاعه فيه قليل جدا كأمثاله
ممن تعلموا في المدارس العصرية كفريد أفندي وجدي ، بل هو يستمد من هذا على
ما حكم به على مبلغ علمه ، وهو على هذا لم يقرأ كتاب ( الوحي المحمدي ) كله ،
ولو قرأه بدقة وتأمل لكان حكمه عليه أصح مما كتبه أو لما انتقص مؤلفه بغير علم ،
وإن كان قوي الجرأة على النقد بمجرد الشبهة ، والحكم بغير حجة ، والاستدلال
بالقضايا الجزئية والمهملة التي لا يصح تأليف البراهين المنطقية منها على الكليات ،
كما فعل في انتقاده لكتاب ( تاريخ الأستاذ الإمام ) وقد بينت هذا في مقال حللت فيه
علمه وآراءه وأخلاقه تحليلاً أصح وأعدل مما حكم به عليَّ في نقده هذا وفي نقده
لتاريخ الأستاذ الإمام ، وسأنشره في جزءٍ آخر إن اقتضت الحال .
لو أنه قرأ الكتاب كله قراءة إمعان لعلم أنه ليس من موضوعه بسط كل
مسألة تذكر فيه ، ولا شرح كل شاهد من شواهده وجعلهما غرضًا للنضال ،
والدفاع عنهما بفرض الفروض الجدلية وضروب الاحتمال ، وإنما موضوعه إثبات
النبوة بالقرآن ودفع ما زعمه بعض منكري عالم الغيب من أنه وحي فائض من
النفس لا من الله تعالى .
وخلاصته أن القرآن فاق كلام العرب وأعجز البشر بمزايا لفظية ومعنوية
يستحيل أن تكون من مقدور محمد الأمي بعد استكمال الأربعين كديوان ( وحي
الأربعين ) الذي هجس به شيطان الشعر للأستاذ العقاد بعد استكمال هذه السن ، وسائر
ما نظم الشعراء وألف العلماء فيها ، فإن العقاد ( مثلاً ) تعلم مبادئ علوم العصر
ودرس الأدب وظهر فيه الاستعداد للشعر ، وكذا النثر في سن الصبا ، وقويت ملكته
فيه نظمًا ونقدًا في سن الشباب ، وكان يعدو في أثر شوقي حتى خرج من الإهاب ،
وماذا فعل في وحي الأربعين ؟ إنه لم يأت بمعجز لم يسبق إلى مثله ، ولم يحدث أدنى
تأثير صالح في قومه ولا في أمته ، ولم يقل المعتدلون فيه : إنه لحق شوقي ولا حافظًا
فيه .
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتعلم شيئًا ولم يحاول بيانًا ولم ينتحل
علمًا ، حتى جاء بهذا القرآن في سن الكهولة وهو ما وصفنا في كتاب الوحي
في إعجازه العلمي والبياني وفي تشريعه ، ولا في التأثير الذي قلب نظام العالم ،
وما ذكرته فيه من آياته العلمية الدالة على أنه من عند الله لا من علم محمد
صلى الله عليه وسلم قسمان : ( أحدهما ) المقاصد العشر التي جعلتها من
موضوع التحدي ( وثانيهما ) ما جاء في عرض الكلام كأنباء الغيب المستقبلة
في بحث امتياز نبوة محمد على نبوة أنبياء بني إسرائيل ، فهي لم تكن
موضوعًا مستقلاًّ سيق لإثباته بالدلائل ، والرد على ما يرد عليه من منكر أو
مجادل ، والأستاذ العقاد لم يفرق بين القسمين ، ولم يتذكر ما لا يخفى عليه من
أن الشواهد والأمثال لا تقرن بالاستدلال عليها ، والرد على ما يحتمل من
وقوع الشك فيها ، بل اشتهر عند علماء المناظرة وآداب البحث قولهم : ( البحث في
المثل ليس من دأب المحصلين ) .
ولكن كبر عليه أن يكتب عن هذا الكتاب شيئًا ويتركه بدون انتقاد ، وأن
يكون انتقاده خلوًّا من الانتقاص والاستعلاء ، كدأبه في انتقاد الشعراء
والأحزاب ، أو كل من لم يأخذ علمه عن الفرنجة حتى علم القرآن ، الذي يعلو
على علومهم بما يقاس بسنيِّ النور لا بالأمتار أو الأميال .
نظر إلى كتاب الوحي المحمدي ومؤلفه بالعين التي نظر بها إلى أحمد
شوقي وشعره من قبل ، وأين أودية الشعر من سماء الوحي ؟ وأين تشميره في
قرض الشعر من تقصيره في علوم الوحي ؟ نظر بتلك العين الخاسئة فرأى فيه
نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في هذه البحث ، قال : وقد يتخلصان في
نقص واحد وهو قلة البصر بالمنطق النفسي ، ونقول : إنما صوَّره أو سوَّله له
حسر بصره بالمنطق العقلي .
إن اختراع النقائص وقَذْف الناس بها أمر سهل على الشعراء وكتاب
السياسة ، ولكن إقامة الدليل المنطقي عليها حَزَن أي حَزَن إلا أن يكون كدليلي
الأستاذ العقاد على ما أنكر في تاريخ الأستاذ الإمام أعني عليه لا له [6] وانظر
ماذا قال في بيان نقيصتيه اللتين تجرم علينا فقذفنا بهما :
قال : ( كان الواجب على الأستاذ رشيد في كتاب ( الوحي المحمدي ) أن
يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه من
الوجوه الإنسانية المعهودة ، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا بإقامة
ذلك الحد على أساس مكين ) .
إن هذه العبارة مبهمة مجملة تحتمل عدة تأويلات أقربها أن عقيدة كاتبها
أو فهمه للنبوة والوحي وعلم الغيب غير عقيدة الموجهة إليه ، ولا يتسع هذا
النقد الوجيز لتفصيل هذا ، فننتقل منه إلى المثال الذي فسره به ، وخلاصته أنه
إذا قام رجل فقال للناس : إن الألمان انتصروا على الفرنسيس ولكنهم
سينهزمون بعد زمن قريب ، فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى يترجح
أحدهما على الآخر ، وذكر لاحتماله للصدق وجوهًا أولها الوحي والإلهام ( ؟ )
وآخرها المصادفة .
ونحن نقول ( أولا ) : كان يجب على الأستاذ عباس أن يطلع قبل هذا الحكم
على ما كتبه محمد رشيد في تفسيره ومناره وغيرهما في مباحث علم الغيب
وتقسيمه إلى غيب حقيقي وغيب إضافي ، وحكمه بأن من الثاني ما يمكن أن يعرفه
بعض البشر بالطرق العلمية والتجارب ومنها التنويم المغناطيسي أو الرياضة
النفسية كمكاشفات الصوفية إلخ ، ومنها ما يمكن تأويله من أخبار القرآن الغيبية وما
لا يمكن تأويله كالذي تراه في تفسير سورة التوبة في بيان أحوال المنافقين . وإذن
لعلم أن ما عده عليه من الجهل هو عنده من البديهيات .
و ( ثانيًا ) إن الخبر الذي قال العلماء : إنه يحتمل الصدق والكذب قد قيدوه
بقولهم : ( لذاته ) أي بصرف النظر عما يقترن به من الدليل على أحدهما ، فخبر
الأنبياء عند المؤمنين بهم لا يحتمل إلا الصدق ، وقد أقمنا الدليل على نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بغير إخباره بالغيب فوجب حمل خبره به الثابت عنه على
الصدق فقط ، على أن أصل كلامنا في أخبار الغيب في كتاب الوحي المحمدي
خاص بما جاء منه في القرار ، وهو كلام الله تعالى وأقمنا الدلائل على كونه كلامه
عز وجل من عدة وجوه غير إخبار الغيب فلا يصح أن يقال بها مصادرة لأن إثبات
كل منهما متوقف على الآخر .
( وثالثًا ) إذا كان الأستاذ العقاد يرى أن مثل قوله تعالى : { غُلِبَتِ الرُّومُ *
فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ } ( الروم : 2-
4 ) يحتمل مثل ما ذكر من الفروض والشكوك عند غير المؤمن بالقرآن ، فسيعلم
أن من أخبار الغيب فيه ما لا يحتمل مثل ذلك إلا بضرب من مكابرة العقل أو
الوجدان ومنها زعم المادي أن كل ما وراء المادة لا يدخل في حدود الإمكان ، فكل
ما يعجز عن تعليله بالفروض المادية والاحتمالات المخترعة ، فعليه أن يرضى
بعجزه عن فهمه ، لا يجوز له أن يؤمن بأنه من الله عز وجل .
ومهما يكن من شيء بعد ، فإن من الغريب من مثله أن يطالب مؤمنًا بالغيب
والأنبياء أن يقيم حدًّا فاصلاً بين علم الأنبياء وعلم غيرهم أو علم الخالق وعلم
المخلوق بالصفة التي وصفها ، وهو ما يعجز عن مثله الفلاسفة وعلماء المادة في
علمهم الذي لا قنون بشيء منه .
وأما الممكن من ذلك فقد بينته في مواضعه بما قضته المناسبة ووسعه السياق ،
وقد وعدت بعقد فصل خاص في الشواهد عليه من الآيات والأحاديث النبوية في
الجزء الثاني من كتاب الوحي المحمدي ؛ إذ عجز الجزء الأول عن العلاوت التي
كلفته حملها .
* * *
كلمة للأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي
الكاتب الخطيب المصنف الشهير
نشرت في جريدة البلاغ في23 جمادى الأولى سنة 1352 الموافق 13
سبتمبر سنة 1933 .
الوحي المحمدي كتاب من تأليف العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ
المنار الأغر ، وغاية المؤلف ثبوت النبوة بالقرآن ، ودعوة شعوب المدنية إلى
الإسلام .
وقد صدرت الطبعة الأولى منه في يوم المولد النبوي الشريف سنة 1352
الموافق يوليو ( تموز ) سنة 1933 م وهو في مئتي صفحة من القطع الكبير .
وفي الحق أنه كتاب جليل يلفت الأنظار بما أورده الأستاذ مؤلفه من الأدلة
العقلية والحجج النقلية بوضوح وجلاء على طريقة حديثة لم تسبق للمؤلفين في
المسائل الدينية إلا للأستاذ العلامة محمد فريد وجدي مما دلنا على تطورٍ مُبارك في
أسلوب السيد رشيد الذي كان يجاري المؤلفين القدماء كنقله قول أحد علماء
النصارى للمؤلف :
( أنت تعجب بمحمد وتعتقد بأنه نبي مرسل ، وأنا أعجب به وأعتقد أنه
رجل عظيم فتقديري له أعظم من تقديرك )
وقد حاول الأستاذ الفاضل إثبات الوحي بالمعجزات بأدلة منطقية فجاء موفقًا
في كثير من بحوثه وتكلم في درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه
ونفي شبهة منكري عالم الغيب على الوحي ، وأظهر أن نبوة محمد ورسالته قائمتان
على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وموضوعها ؛ لأن البشر في عهد النبي قد بدءوا
يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع
من تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون ، بل لا يكمل
ارتقاؤهم واستعدادهم بذلك بل هو من موانعه ، فجعل حجة نبوة خاتم الأنبياء عين
موضوع نبوته وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وعلومه وإعجازه اللفظي والمعنوي ،
ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال .
ثم خلص الأستاذ إلى الكلام على القرآن فتكلم عن إصلاح أركان الدين التي
أفسدها الغير ، وهي الإيمان بالله وعقيدة البعث والجزاء والعمل الصالح . ثم جعل
لبحوث القرآن عشرة مقاصد كلها منطبقة على المنطق والعقل وحسن التعليل
وسلامة التدليل مما يجعل الكتاب مقبولاً لدى الشبان المنورين والميالين لحرية الفكر .
ويقول الأستاذ : إن الكتاب يشمل دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام ولم يقل لنا
أية مدنية يريد ففهمنا أنه يقصد إلى أوربا وأمريكا وليسمح لي أن أقول : إنه جاء
متأخرًا جدًّا وكان يجب عليه أن يؤلف هذا الكتاب من عشرات السنين ، وأن ينقله
إلى لغات أوربا ، وأن يطبعه بالملايين ويوزعه مجانًا ، لأنه لا ينتظر أن أهل لندن
و نيويورك و برلين يشترون الكتاب من مطبعة المنار . ونحن نعلم أن هذا العمل
يتطلب مالا كثيرًا ووقتًا أكثر فينبغي للسيد رشيد أن يدعو إلى هذا ، لا أن يكتفي
بالتأليف العربي وحده ، يدعو إلى نقل الكتاب إلى اللغات وترجمته وإلا فإن مجرد
الكتابة على الغلاف أنه دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لا تكفي ) .
( المنار ) كان كل ما انتقده الكاتب بقوله : ويقول الأستاذ إلخ ما نشرناه وما
لم ننشره مثارًا للعجب من مثله سببه أنه انتقد ما لو قرأه لم ينتقده ، وقد بينت خطأه
فيه في مقالتين نشرتا في البلاغ فلم ينكر منهما شيئًا وهو من محرريه .
* * *
تقريظ الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبو ريه
من العلماء في المنصورة
( نشره في المقطم )
كنت أحسب يوم أن قرأت في الصحف نبأ كتاب ( الوحي المحمدي ) أنه
رسالة صغيرة وضعها الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا ليمحص فيها أمر
الوحي ، وحقيقته بعدما كثرت فيه أقوال بعض علماء الوحي وأنكروا إمكانه بما
يعرف المسلمون كما يفعل في مسائل كثيرة مما يثور حولها الجدل فيضع فيها
رسائل خاصة تطلع من قلمه منيرة كفلق الصبح فتكون الحكمة وفصل الخطاب .
كنت أحسب الأمر كذلك حتى أتيح لي الاطلاع على هذا الكتاب فإذا بي أجد
الأمر أكبر مما حسبت وأعظم مما توهمت وإذا أنا بإزاء كتاب متعدد النواحي متسع
الأرجاء لا يقف عند الكلام على الوحي ، وإنما يمتد فيحيط بكل ما أوحي به إلى
النبي صلى الله عليه وسلم .
ونحن لا نحاول هنا أن نظهر للقارئ الكريم ما بين دفتي هذا الكتاب من
بحوث ؛ لأن ذلك يحتاج إلى مقالات طويلة ، وإنما نشير إلى بعضها وحسبنا ذلك .
تكلم الأستاذ الكبير عن الوحي وفنَّد بأدلة قوية مسددة ما يزعمه الذين يقولون : إن
الوحي المحمدي إنما كان وحيًا نفسيًّا ولم يكن وحيًا إلهيًّا .
وعقد فصلاً رائعًا عن آية الله الكبرى ( القرآن الكريم ) وعن أسلوبه وإعجازه
جاء ولا ريب آية في البلاغة والتحقيق العلمي وقد كشف فيه عن معنى دقيق في
حكمة التكرار في الكتاب العزيز فأبان أنه لم يأت عبثًا وإنما هو أسلوب عجيب من
أساليب القرآن العجيبة المعجزة في تربية الشعوب بحيث لو خلا كتاب الله منه لما
بلغ في نفوس العرب ما بلغ من غرس تعاليمه القويمة وحكمه العالية وأغراضه النبيلة
في نفوسهم واجتثاث ما في هذه النفوس من عقائد باطلة وعادات فاسدة .
وقفَّى على ذلك ببحث قيم عن الثورة والانقلاب الذي أحدثه القرآن الكريم في
العالم وكيف فعل في نفوس العرب مشركين ومؤمنين .
وأنشأ بعد ذلك يتحدث عن مقاصد القرآن الكريم فجعلها عشرة مقاصد وجعل
تحت كل مقصد مسائل كثيرة ، وقد شاء له حبه للتحميص أن يمسك بطرفي التحقيق
في كلامه عن هذه المقاصد فلم يقف عند إثباتها بالأدلة النقلية بل ظاهرها بالبراهين
العقلية .
وختم هذه المقاصد بخلاصة وافية في مسألة الوحي وجعل خاتمة الكتاب في
دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لإنقاذ البشر وإصلاح فسادهم .
هذا بعض ما جاء في كتاب ( الوحي المحمدي ) ولا غرو فإن مؤلفه هو
الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا الذي قال فيه بحق زعيم الإسلام الكبير
ومجدده العظيم شيخ البيان الأمير شكيب أرسلان في معلمته الإسلامية الكبرى
(حاضر العالم الإسلامي ) .
( قد انتهت إليه الرياسة في الجمع بين المعقول والمنقول والفتيا الصحيحة
والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة مع الرسوخ العظيم في اللغة ... إلى أن
قال : وهو الرجل الذي إذا دعا كل مسلم بإطالة حياته لكان بذلك جديرًا ) .
وإذا كان لنا من كلمة عامة في هذا الكتاب نختم بها هذه الكلمة الصغيرة ، فإنا
نقول : إنه كتاب لا يستغني عنه مسلم ويجب على كل من يريد من أهل الأديان
الأخرى معرفة أمور الإسلام على حقيقتها أن يقرأه ويتدبره .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود أبو رية
* * *
تقريظ الأستاذ عبد السميع البطل
المدرس بمدرسة رقي المعارف الثانوية
ونشر في جريدة الجهاد مختصرًا
استهدف الإسلام منذ فجر التاريخ ، لكثير من الشبهات التي كان يصوبها نحوه
خصومه من الملاحدة ، وأعداؤه من السياسيين ، وكان العلماء في كل عصر
يتصدون للرد على هذه الشبهات ويجدعون أنوفها ، فيظل واضح الطريق ، نيِّر
الدليل ، ثم يسير الزمن بالناس ، وتتلقح أفكارهم بعلوم ومعارف جديدة فتتجدد لهم
شبهات ، وتعصف بهم أعاصير ، فإذا بالعلماء المستقلين يكرون على المهاجمين ،
يجدلونهم بشباة أقلامهم ، وقواطع حججهم ، فما هو إلا أن نرى الباطل منكسرًا ،
والحق منتصرًا .
وقد تجددت في العصر الحاضر شبهات على الإسلام كثيرة ، وهُوجِمَ من
أعدائه في إحكام وقوة ، ولم يدعوا منفذًا يأتي على بنيانه من القواعد إلا سلكوه ،
ولا سلاحًا يجهز عليه إلا صوَّبوه ، ولولا حصانة الإسلام الطبيعية ومنعته الذاتية ،
لَخَرَّ مضرجًا بدمائه ، ولأصبح أثرًا بعد عين .
ذلك أن علماء الإسلام وهم ورثة النبوة ، والقوامون على حراسة الدين ، قد
شغلتهم المناصب الدنيوية فأعطوها كل أنفسهم ، ومكنوا لها من قلوبهم ، وانصرفوا
عن النظر في القرآن وعلومه ، مخلدين إلى أرض التقليد ، عاكفين عليه ، فلم
يسايروا الزمن ، ولم يتمشوا من الرقي الفكري ، وأصبحوا يعيشون في عالم وحدهم ،
لا يدرون ماذا يقال عن الإسلام ، ولا بم يهاجم وكيف يهاجم ، ولئن سألتهم ليقولن :
( إن الإسلام بخير ، وله رب يحميه ) وهو جواب العجزة ومن لا حيلة لهم .
ولكن الله لا يذر الإسلام بغير سيف يحميه ، ولم تخل الأرض من قائم لله
بحجة ، فهذا معقل الدين وسنده عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا قد أخرج لنا في
هذا العام كتابه ( الوحي المحمدي ) يثبت فيه النبوة بالقرآن ، ويدعو شعوب المدنية
إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية والسلام فكان خير كتاب أخرج للناس في بابه .
افتتحه المؤلف الكبير بمقدمة فياضة في بيان موضوع الكتاب ، وحاجة البشر
إلى الإسلام ، وبيان الحجب التي تحول بين الإسلام والإفرنج ، ثم أفاض في
الموضوع بما أفاء الله عليه من علم غزير ، وعقل منير .
والسيد رشيد دائرة معارف إسلامية واسعة ، وهو حين يكتب في الإسلام ، لا
يدع قولاً لقائل ، ولا يترك استدراكًا لمستدرك ، وأشهد لقد كنت أقرأ مقالات ( الوحي
وهي لا تزال تنشر تباعًا في ( المنار ) فيأخذ مني الإعجاب بها كل مأخذ ويسبق
لساني بالدعاء لصاحبها بطول العمر والسلامة كفاء خدمته للإسلام .
بل أشهد ويشهد معي جميع الذين اطلعوا على كتاب ( الوحي المحمدي ) أنه
لم يكتب مثله كاتب في الإسلام ، وأنه خير كتاب في الدعوة إلى الإسلام وبيان
مزاياه ، لا يستغني عنه مسلم ، ولا يسد غيره مسده في هذا العصر ولا أستثني
رسالة التوحيد للأستاذ الإمام ، فإنها على طرافتها ، وقوة حجتها ، وبلاغة عبارتها ،
قد يقال فيها : إنها رأي لصاحبها وصل إليه بعد دراسة للإسلام عميقة ، بل قيل :
( إن رسالة التوحيد فلسفة لا دين ) ذلك أن الآيات التي استشهد بها المؤلف رحمه الله
كانت قليلة جدًّا ، اكتفاء بالإحالة على الحجج العقلية ، ووقائع التاريخ الصادق ، أما
( الوحي المحمدي ) فإنه يثبت كل شيء بالقرآن ، ويضع يد القراء على موضعه من
السور ، في سيل أتي ، ونور محمدي .
وجملة ما يقال في الكتاب أنه أحسن ما ألف في العقيدة الإسلامية في هذا
العصر ، وأنفع كتاب في الدعوة إلى الإسلام وصد غارات المبشرين ، وأقرب إلى
عقول المتعلمين المدنيين ، وإني لأرجو أن يترجم إلى اللغات الحية ، وحينئذ أرتقب
أن تقوم ثورة فكرية في العالم الغربي تتكشف عن فوز الإسلام ورجحان كفته ،
جزى الله المؤلف خير الجزاء .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ذنبي عند الكاتب أنني هضمت حق والده الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رحمه الله في تاريخ الأستاذ الإمام ، بلغه هذا من كاشح فصدقه وأحفظه ، وهو منكر من القول وزور ، فالكتاب لم يغمط حق والده في شيء مما اشتهر به من سعة العلم ، وقوة الفهم ، وحسن الإلقاء ، وإنما بيَّن ما يجب بيانه من وقوفه موقف المعارض لما سعى إليه الأستاذ الإمام من الإصلاح ، والشيخ عبد العزيز يعرف هذا كما نعرفه ، فإن استطاع إقناعنا بخطأ في شيء منه رجعنا عنه شاكرين .
(2) يعني بهذا ما أشرنا إليه في آخر مقدمة الكتاب ، ومنه أن سبب ما كان من كثرة الإحالة على تفسير المنار أن مباحث الوحي كانت فصلاً فيه وأكثر المسائل المحالة عليه مقتبسة منه ، وقد اجتنبنا هذا في الطبعة الثانية إلا قليلاً مما وضعناه في الحواشي .
(3) الصواب في أما الثانية هذه أن تعطف على الأولى المقابلة لها كما فعلنا ، وهو ما يغفل عنه جمهور الكتاب حتى المتأنقين المدققين في هذا العصر .
(4) المنار : الفقه الشرعي خاص بأحكام الشرع العملية من العبادات والمعاملات المدنية والعقوبات ، فلا يدخل في مفهومه العقائد وما عدا الأحكام والحلال والحرام من علوم التفسير والحديث ، ولعل الكاتب يعني ما هو أعم من المعنى الشرعي .
(5) وصفه هذا للأستاذ وجدي من أدق تحريره للمعاني فهو صريح في أن كلام وجدي في المسائل الدينية غير مستمد من القرآن ولا من السنة ولا من العلوم الإسلامية المدونة بل من شعوره المدني العصري ، فهو كذلك لا يعرف أصول الإسلام بأدلتها ، ولا بمدارك أئمتها ، وقلما انفرد بمسألة إلا هو مخطئ فيها .
(6) استدل هنالك بالاشتباه في اسم رجل من رجال الحملة الفرنسية على أن مؤلفه لم يعرف من تاريخ مصر الحديثة شيئًا ما ! ! على أن المؤلف قد صحح هذا الاسم في الصحيفة التي صوب فيها الخطأ ، وفي فهرس الأعلام - واستدل بنقله مسألة انتقدها بعض الناس على الأستاذ الإمام على أن هذا المؤلف لم يفهم سياسة أستاذه ولا نفسه ، وهو الذي أرخه ونشر آراءه وإصلاحه وكان رحمه الله يصرح بأنه ترجمان أفكاره على أنه قد بيَّن حقيقة نفسية الأستاذ وسياسته في هذه المسألة بما لا ينتقده الأستاذ العقاد لو رآه .
(33/768
 
المحرم - 1353هـ
مايو - 1934م​
الكاتب : شكيب أرسلان
__________
تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان

إن المسلمين على بينة من أمرهم ، لا يحتاجون إلى دعاية ، ولا إلى التماس
الأدلة حتى يعتقدوا بوجود واجب الوجود الذي لا يمكن العقل البشري أن يتصور
هذا الكون بدونه ، وكذلك لا يفتقرون إلى الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم بعد أن تلقوا خلفًا عن سلف النور الذي أُنزل عليه ، والذي ما زال
ينيرهم من العهد المصطفوي إلى الآن ، فكتاب الوحي المحمدي للأستاذ العلامة
حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا لم يُكتب في الحقيقة للمسلمين ؛
لأنه كتاب يقيم الأدلة على صحة أمر يحيا المسلمون ويموتون عليه ، ويرون جميع
براهينه من قبيل البديهيات التي لا تحتاج عندهم إلى برهان كما يحتاج النهار إلى
دليل ، وإنما وضع الأستاذ هذا الكتاب للأوروبيين الذين يريدون أن يعلموا ما عند
الإسلام من الأدلة على صحة الوحي المحمدي ، والذين منهم من إذا أنار لهم الدليل
لم يكابروا فيه تعصبًا وعدوانًا وصدودًا عن رؤيته ، وقد كتبه أيضًا لكل من نشأ
نشأة أوربية ؛ أي : خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها
مبادئ الإسلام مع لبن أمه ، فيقال : إنها رسخت فيه من الصغر . ولما كان جميع من
يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية
الحاضرة ، هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسبًا ، كان هذا
الكتاب موجهًا أيضًا إليهم ؛ لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية ،
أو على ما يقرب من ذلك .
فلهذا كنا ندعو لقراءة هذا المؤلف ليس الأوربيين فحسب بل ناشئة المسلمين
أيضًا ، ولا سيما الناشئة التي أبت الحكومات الإسلامية إلا أن تطبعها بالطابع
الأوربي ؛ لأننا في هذا العصر مغلوبون وأوربة هي الغالبة ، والمغلوب مولع
بتقليد الغالب حتى في الخطأ كما قال ابن خلدون . فالأستاذ الحجة يسر للمرتابين
الأسباب التي تحمل المسلم على أن لا يرتاب بصحة الوحي النازل على محمد عليه
السلام يقول :
إن محمدًا كان أميًّا ، لم يقرأ سفرًا ، ولم يكتب سطرًا ، وهذا القرآن العظيم
بفصاحته وبلاغته وإشارته إلى جميع مناحي الاجتماع بأرشق إشارة ، وأوجز عبارة ،
لو لم يكن من عند الله لا يعقل أن يقوم به رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يحصل
علمًا من قبل ، بل قضى طفولته في البادية عند بني سعد بن بكر يرعى الغنم مع
إخوته في الرضاع ، ثم إنه نشأ يتيمًا ، وكان مع يتمه المثل الأعلى في حسن التربية ،
واستقامة الأخلاق حتى لُقِّبَ بالأمين ، ولم يكن أحد يماري في استقامته ، وكانوا
لنزاهته يختارونه ليقوم بما يختلفون فيه فيما بينهم ، فيستحيل أن يكون رجلاً
موصوفًا بالصدق والأمانة إلى هذا الحد من أول نشأته إلى أن يبلغ سن الأربعين ،
ثم يتحول دفعة واحدة فيصير كاذبًا مفتريًا ، ويضع من عنده أشياء يدعو الناس إليها ،
ويقول : إنه سمع صوتًا ، ولو لم يسمع صوتًا ، وشاهد ملكًا ، ولو لم يشاهد ملكًا ،
إن هذا من الأمور المستحيلة عرفًا ، ثم إنه لم يكن طالبًا شيئًا من وراء ما قام به من
الدعوة لنقول : إنه كذب على الناس ؛ لينال حظًا من حظوظ هذه الدنيا ، فكل أحد يعلم
أنه لم يكن ينشد ملكًا ، ولا مالاً ، ولا ثروة ، ولا جاهًا . فلأي شيء يقوم بدعاية
غير صحيحة ، ويضع أشياء من عند نفسه ، ويتحمل عليها الهزؤ والسخرية ، ثم
البغضاء والشنآن ، ثم الاضطهاد والانتقام ، ويتعرض لخطر القتل ، وهو لا يريد
رياسة ولا نعمة دنيوية من جميع هذه النعم ، بل كل ما يريده أن يترك قومه عبادة
هذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان ، والرجوع إلى عبادة الواحد الأحد
مبدع هذا الكون لا إله إلا هو .
قد كان محمد عليه السلام مؤثرًا العزلة ، لا يخالط أبناء عصره في مجامعهم ،
ولا يشاركهم في عباداتهم الوثنية ، ونشأ من صغره لا يعبد إلا الله تعالى ، وكان من
مزاياه أنه لا يقول الشعر ، ولا يخطب في الأندية ، ولا يتصدى لشيء من مظاهر
الرياسة ولا الشهرة ، فكيف يمكن أن ينقلب دفعة واحدة ؛ فيخالط الناس يدعوهم إلى
التوحيد وإلى مكارم الأخلاق ، ويقوم فيهم بشيرًا ونذيرًا ، ويتجشم من العذاب ما
يتجشم ، ويتعرض لآلام أمر من العلقم ، لو لم يكن هناك باعث فوق العادة حافز له
على الخروج من عزلته التي بلغ الأربعين وهو عاكف عليها .
يقول السيد رشيد : إنه من المقرر عند علماء النفس ، وعلماء الاجتماع أن من
بلغ سن الخامسة والثلاثين ، ولم ينبغ في علم أو عمل عالمي عظيم لا يمكنه بعد
ذلك أن يقوم بشيء منها أُنُفا ( بضمتين ) أي : جديدًا ليسبق إليه فضلاً عن الجمع
بينهما ، والحال أن محمدًا ظهر بهذا الأمر العظيم ، وبهذا البيان الإلهي الذي لم يعهد
العرب مثله وذلك بعد الأربعين ، فلم يكن قبل هذا التاريخ استعد له بشيء ، ولا
وجد ما يدل عليه من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل .
قلت : وقد يقول بعض الناس أن محمدًا كان يظن في نفسه أنه يوحى إليه فهو
لم يتعمد الكذب تعمدًا ، وإنما بلغ به التأمل أنه كان يسمع تلك الأصوات ، ويرى
تلك الخيالات ، فيظن ما سمعه وحيًا ، وما رآه ملكًا ، والجواب على ذلك أن هذا
الوحي كان قولاً ثقيلاً خارقًا للعادة ، وكان يؤخذ به أخذًا شديدًا حتى كان يخاف على
نفسه ، وطالما خاف[1] أن يكون به جنون ، وهذا من جملة الأدلة على صدقه وكونه
لم يتعمد النبوة تعمدًا ، ولا استشرف لها بشيء من الأشياء ، وأنه قد فاجأه الوحي
مفاجأة لم يتقدمه عنده سوى الرؤيا الصادقة ، وأنه جاء وحيًا فيه من العلوم العالية
كما يقول السيد رشيد ، والأعمال العظيمة ما كان قلبًا للأحوال والأوضاع الدينية
والمدنية والاجتماعية ، بل انقلابًا لا يماثله انقلاب معروف في التاريخ .
ثم إن هذا الكلام الذي نفث في روع محمد[2] ليس من نسق كلامه الذي يعرفه
الناس له ، فقد تكلم محمد عليه السلام قبل البعثة ، وتكلم بعد البعثة ، ولا شك أنه
كان من أفصح البشر وأبلغهم ، وقد نطق بجوامع من الكلم تحار لها العقول ؛ ولكنه
لا يزال بين كلامه الخاص وبين القرآن الموحَى إليه بون بعيد ، فلا كلامه الخاص
ولا كلام أحد من الأنبياء يسامت درجة القرآن في كثير ولا قليل ، وكل من تأمل في
القرآن العظيم ، وكان بصيرًا بالبلاغة ، وقابله بكلام البشر يدرك هذا الفرق الكبير .
لا جرم أن القرآن يعلو في بلاغته وفصاحته وأسلوبه ، وشدة تأثيره علوًّا
كبيرًا عن جميع كلام العالمين ، وكيف يكون ذلك إن لم يكن القرآن وحيًا إلهيًّا ؟
فقول بعض الناس : إن محمدًا عليه السلام كانت تعروه نوبة عصبية فيظن نفسه
يوحى إليه . ليس مما يعلل هذا العلو الذي يعلوه القرآن الذي أوحي إليه على الكلام
الذي كان يقوله من نفسه بدون أن يوحى إليه ، فإن النوبة العصبية التي يزعمونها
ليس من شأنها أن تأتي بهذا الإعجاز كله ، وأن تجعل هذا الفرق البعيد في كلام
إنسان واحد .
ثم إننا لا نفهم لماذا يأبون أن يعتقدوا بكون تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا
عند نزول الوحي عليه هي من شدة وطأة الوحي ، وكونه قولاً ثقيلاً ؟ ولماذا يأبون
إلا أن يسموا هذه الحالة التي كانت تعروه نوبة عصبية ناشئة عن مرض من
أمراض الجسم ، ولو لم يقم على وجود هذا المرض دليل ؟ فأي استحالة في كون
بارئ الوجود يوحي إلى أحد عباده الذين اصطفى قولاً يحدث نزوله عليه نوبة
عصبية يضطرب لها ، ويتفصد جسده عرقًا كما كان يعتري محمدًا عليه السلام ،
وأيضًا فالنوبة العصبية الناشئة عن علة بدنية تقتضي أن يكون صاحبها مصابًا بداء
الصرع ، أو بمرض عصبي آخر تحدث منه هذه النوبات ، والحال أن النبي عليه
السلام كان سليم الجسم ، ولم يكن مريضًا ، ولم يقل أحد من أهل عصره لا من
أعدائه ، ولا من أصحابه : إنه كان يصيبه شيء من أعراض مرض آخر مزمن ،
والذين ذهبوا إلى ذلك لم يستندوا على أدنى دليل ، وإنما هي افتراضات مبنية على
غير أساس ، وتخرصات بغير الواقع ، وبمجرد التخيل كما هو شأن كثير من
الأوربيين ، أو هي فرار من التسليم أن تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند
نزول الوحي عليه هي حالة خاصة بنزول الوحي ، لم تكن لتحدث لولا ذلك ، ولكن
محاولة هذا الفرار لا تغني هؤلاء الفارين من الحقيقة شيئًا ؛ إذ قد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مزاجه عقلاً وبدنًا بغاية الاعتدال حتى إن المستشرق
الإفرنسي ماسينيون نفسه برغم صبغته الكاثوليكية الشديدة يعترف بأن مزاج محمد
كان موزونًا لا شائبة فيه ، إذًا فافتراض النوبة العصبية بغير تأثير الوحي لم يبق له
مجال إلا التعنت .
وقد أشار السيد رشيد إلى هذا الموضوع فقال : إن أعداء الرسول من الإفرنج
وتلاميذهم تأولوا هذه الحالة التي كانت تحدث له بأنه كان يعرض له نوبات عصبية ،
وتشنجات هيستيرية ، وما أبعد الفرق بين حالته تلك ، وحالة أولي الأمراض
العصبية في المزاج ، فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً ، ولعله إلى
الدموي العضلي أقرب ، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف
والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو الشامت ، وأما صاحب تلك الحالة
الروحانية العليا فكان يتلو عقب فصمها ، وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من
القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه إعجازه اللفظي والمعنوي ... إلخ .
قد اهتممنا بهذه النقطة دون سواها من هذا المعترك ؛ لأنه لا يكاد يوجد أحد
اليوم في أوربة من العلماء المحققين إلا وهو معترف بأن محمدًا لم يتعمد ادِّعاء
النبوة تعمدًا لينال بها رياسة أو مجدًا أو مالاً أو حظًّا من حظوظ الدنيا ، وإنه إنما
أراد صلاح عقائد بني عصره من نقلهم عن عبادة الوثن إلى عبادة الحق ، فهذا أمر
قد اتفقوا عليه تقريبًا ؛ ولكنه لا يزال يصعب عليهم التسليم أنه كان نبيًّا يوحى إليه ،
ولما كانوا لا يقدرون أن ينكروا الحالة التي كانت تصيبه قبل أن ينطق بالقرآن ،
وأنها حالة لم يكن يتعمدها ، ولم يكن يمكنه لو أراد أن يتعمدها ويتظاهر بها - لجأ
بعضهم لتعليل هذه الحالة إلى قضية النوبة العصبية ، وذهب آخرون أنه من قبيل
الوله بالله تعالى الذي يُخْرِج الإنسان عن الطور المعتاد ، وعلى كل حال قد اجتاز
الأوربيون المرحلة الأولى من مراحل الاعتقاد بصحة دعوة محمد ، فقد لبثوا طوال
القرون الوسطى يزعمون بتأثير كلام رهبانهم أن محمدًا كان كاذبًا ، فرجعوا الآن
عن هذا القول إلى القول بأنه كان صادقًا معتقدًا ما يقوله حقًّا ، وإن هذا القرآن كان
ينزل عليه ، وكان يعتقد هو أنه من عند الله ، وكان يرى المَلَك ماثلاً أمامه ، ولكن
هذا كان نتيجة المرض بقول بعضهم ، أو التخيل بقول الآخرين ، فادِّعاء الكذب
على محمد قد سقط اليوم في أكثر بلاد النصرانية ، وقد اجتيزت المرحلة الأولى
فبقيت المرحلة الثانية ، وهي تصديق كون محمد عليه السلام إنما كانت تحدث له
الحالة غير المعتادة لسبب وحي كان يأتيه من قبل الله تعالى ، لا بمجرد التخيل ولا
من قبل المرض ، وليس بعجيب أن يتأول أهل عصر مادي كهذا العصر يصعب
عليهم الاعتقاد بالغيب ، وتعليل الأمور بغير ما يقع تحت الحس ؛ ولكنهم لو تأملوا
لوجدوا أنفسهم عاجزين عجزًا تامًّا بإزاء الأسرار الكونية لا يحلون منها مشكلاً ، إلا
وصلوا إلى سد واقف في وجههم لا يقدرون أن يجتازوه إلا بعد التسليم أن هناك قوة
خارقة للعادة ، وأن القول بوجوده أقرب إلى العقل وإلى العلم من هذه التحملات
الواهية التي يحاولون بها تعليل الحوادث كلها بالأسباب المادية ، ويلجئهم الأمر في
أكثر الأحيان إلى تلمس الافتراضات المبنية على غير أساس .
إن كتاب الوحي المحمدي الذي جاء به الأستاذ السيد رشيد رضا في هذه الأيام
قد أتى عصره على قَدَر ؛ لأنه زمن صار يجب فيه التعليل حتى في الأمور التي
هي معدودة إلى اليوم من البديهيات ، وما دمنا نقفو الأوربيين صاعدًا ، ونازلاً ، ولا
مناص لنا من هذا الاقتداء ، كان لابد لعلماء المسلمين من إعداد الأسلحة العقلية
اللازمة لمكافحة الشبهات التي هي من أصل أوربي ، فكتاب الأستاذ وافٍ بهذا الغرض
لا يخطر في البال معنى من المعاني التي يقتنع بها القارئ بعلو مزايا الإسلام ، إلا وقد
أشار إليه .
نعم قد فات هذا الكتاب موضوع جليل ، ربما كان أدل على إعجاز القرآن
وعلى صحة الوحي به ، وكونه من عند الله حقًّا من سائر الموضوعات ، وهذا هو
ما في القرآن من الآيات المطابقة للقواعد العلمية التي انتهى إليها تحقيق الأوربيين
في هذا العصر من جهة التحولات الكونية ، فمن المعلوم أن محمدًا عليه السلام
فضلاً عن أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب ، قد نشأ في مكة حيث لم تكن علوم ، ولا
معارف ، ولا جامعات ، ولا مدارس ، وكذلك لم يكن في المدينة ، وإن قلنا : إنه كانت
علوم ، ومعارف ، ومدارس تقرأ فيها العلوم الكونية ، وذلك في غير جزيرة العرب
كالشام أو كالإسكندرية أو كأثينة أو كرومية مثلاً ؛ فإن محمدًا كان بعيدًا عن ذلك
المحيط العلمي كله ، لا صلة له به ، ثم إن العلوم الكونية التي كانت في ذلك العصر
لم تكن فيها هذه النظريات الحديثة كالرأي السديمي مثلاً ، الذي يقتضي أن تكون
الأجرام السماوية كلها في الأصل دخانًا ، ثم تتجمد كتلة واحدة ، ثم ينفصل بعضها
عن بعض أجرامًا متفرقة ، وإنك لتجد هذا في القرآن صريحًا { أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ( الأنبياء : 30 ) فلو لم يكن القرآن وحيًا ، ما كان يمكن محمدًا أن ينطق بحقيقة
علمية لم تتقرر فعلاً إلا في هذا العصر ، وكذلك كون مبدأ الحياة في الماء ، قيل : إنه
قال به بعض فلاسفة اليونان ، ولكنه لم يكن قاعدة علمية كما هي اليوم ، وكذلك
كون الزوجية منبثة في الممالك الثلاث الكونية ، الحيوان ، والنبات ، والجماد ، لم
يكن ذلك معروفًا في عصر محمد عليه السلام ، وإنما كانوا يعرفونه في المملكة
الحيوانية ، وشيء من المملكة النباتية المشابهة للحيوانية ، والحال أن القرآن جعل
هذا المبدأ عامًّا { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ( الذاريات : 49 ) وغير ذلك من
الآيات التي جاء فيها مثل { مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } ( الحج : 5 ) ، و { مِن كُلِّ
زَوْجٍ كَرِيمٍ } ( الشعراء : 7 ) ، وكذلك حركة الأجرام الفلكية ، فقد كان الفلكيون
في القديم يعتقدون بوجود سيارات وثوابت ، ولم يتغير هذا الاعتقاد إلا بحسب علم
الهيئة الجديد ، والحال أن في القرآن ما يدل على أنه ليس من جرم غير متحرك
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ( يس : 40 ) وغير ذلك مما أحصاه المرحوم الغازي أحمد
مختار باشا نحوًا من تسعين آية فيما أتذكر ، وفسره تفسيرًا علميًّا ، أثبت ما فيه من
المطابقة للنظريات العلمية الحديثة ، وكان مختار باشا من أفذاذ الدهر في علم الهيئة
والرياضيات والطبيعيات ، فلا يقدر أحد أن ينكر ضلاعته في هذه العلوم ، ولقد
أشرت على الأستاذ الحجة السيد رشيد بأن يلحق بكتابه هذا ليكون مستوفيًا جميع
شروط الإفادة خلاصة كتاب مختار باشا الغازي المسمى ( سرائر القرآن ) ؛ لأن
الذي يؤثر في عقول الأوربيين ، وعقول النشء الجديد في الشرق من مطابقة
القرآن للنظريات العلمية الحديثة ، هو أعظم مما تؤثره البراهين العقلية والأدبية
والاجتماعية .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان

( المنار )
كتب أمير البيان هذا التقريظ بعد قراءته لكتاب الوحي المحمدي ببضعة أشهر
وكان قد نسي - على ما يظهر - أن الموضوع الذي قال هنا : إنه قد فاتنا - لم يفتنا ؛
فإننا قد أشرنا إليه في مواضع ، كان آخرها ما يراه القارئ في آخر صفحة من
خاتمة الكتاب ، وفيها ذكر هذه المسائل التي مثل بها ، لما في القرآن من المسائل
العلمية التي في القرآن وزيادة عليها ، وقد وعدنا في هذه الخاتمة ، كما وعدنا في
تصدير هذه الطبعة بأننا سنعقد لها فصولاً في ملحقات الكتاب التي ستكون في الجزء
الثاني منه ، مع أمثال لها في سنن الكون الاجتماعية ، والأخبار الغيبية ، والوصايا
الصحية .
وفات الأمير - حفظه الله تعالى - ما كنا اقترحناه عليه عندما كتب إلينا أنه
سيكتب تقريظًا للكتاب بأن يجعله استدراكًا على كلام له في كتاب ( حاضر العالم
الإسلامي ) النفيس مضمونه أنه لم يوجد في هذا العصر كتاب يصلح لدعوة الإفرنج
إلى الإسلام .
وأما ما ذكره في أول التقريظ من استغناء المسلمين الصادقين عن هذا الكتاب
أو كونه غير موجه إليهم ؛ فغرضه خاص بصحة عقيدتهم في أصل الإسلام ؛ ولكن
السواد الأعظم منهم عرضة للتشكيك بالشبهات العلمية العصرية ، أو دعاة التنصير :
لأنهم أسرى التقليد ، وأشرنا إلى حاجتهم إلى براهينه على إعجاز القرآن ، والنبوة
في مقدمة التصدير لهذه الطبعة .
وقد وصل هذا التقريظ إلينا في 2 من ذي الحجة سنة 1352 بعد طبع ما
اخترناه من التقاريظ ، فجعلناه مسك الختام .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الصواب أن يقال : وربما خاف أولاً إلخ فإن الخوف على نفسه إنما عرض له صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي .
(2) الرُّوع بالضم : الخاطر والخلد ، والنفث فيه عبارة عن إلهام يلقى فيه ، وهو دون وحي القرآن .​
(34/56)
الكاتب : حسين الهراوي
__________
كتاب الوحي المحمدي
نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن
[*]
سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي

عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد ، فيشيرون إلى مباحثه بين
تقريظ وانتقاد ، وأخذ ورد ، ويكشفون عن محاسن الكتاب ، وعن المآخذ التي
يرونها فيه .
وهذه الطريقة قديمة ، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين :
إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب ، وإما تنفيرًا منه ، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ
مظلومًا .
وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ ، فليس من شأني أن أجامل
المؤلفين ، أو أخدع القارئين ، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي
يحدثه في نفسي ذلك المؤلف ، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة .
ولعل أصوب طريق للنقد في نظري ، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له
موضوعًا لتبدي رأيك ، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب .
ولعلي لا أجامل إذا قلت : إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده ، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً
للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي ، إن لم يكن في العالم أجمع .
فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي ، وبحث علمي في المعجزات
والدعوة إلى الإسلام .
أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة
فيها نظر ؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته ،
ولكن المسألة ليست مسألة إثبات ، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة
من المستشرقين والمبشرين ، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة
بالحجة ، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق ، وكبله حتى تلاشت تلك
العواصف التي أثارها هذا المستشرق ، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين
واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين ، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة
إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم .
ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات
التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي .
غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا
آية الإعجاز في القرآن ، فأسلوب القرآن البياني ، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل
هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين ، إلا
أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن
القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } ( فصلت : 53 ) فأشار إلى العلم وأنه
سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن[1] .
فالذي يقرأ مثلاً الآية { أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ( القيامة : 3-4 ) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي ،
إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام ، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع .
ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي
تحدد شخصيته ، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية
وأنه تقام لها الإدارات الخاصة ، وتعتمدها المحاكم ، كل هذا يجعلك تدهش لسر
إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا ، ويكون تفسير الآية أنه
سيجمع عظام الإنسان ، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية .
هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن ، وما زال محتاجًا إلى
الدراسة والتفسير ؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر
ودراسة القرآن من هذه الوجهة[2] .
وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن ، فلا يصير ذلك كتاب
الأستاذ رشيد ؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم
والعلم للطعن في الإسلام ؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ
رشيد للمقارنة بين الأديان .
أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام ، وذم
التقليد ، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل ، تلك الفصول التي دمجها
الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث .
والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين ، ولقد أتى على المسلمين
حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية ، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون
المذاهب لأغراض سياسية ، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية ، ولا زلنا
نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم ، ويفرضون على أتباعهم زنات من
الذهب كل عام ؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا
مشرفًا ، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع
ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو ، لا كما صوره الواهمون المغرضون ،
وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم ، فالناس في البلاد
الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام ، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب
الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام ، وعدَّدها واحدًا واحدًا ، ولكنه لم يذكر
المستشرقين في فصل خاص ، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام ، ولم يفرد في
كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده ، وإن كان
لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .
ونحن لا زلنا نقول : إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير
حقيقته ، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق ، ومهما
تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه
أحلامهم .
أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات ، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين
باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من
الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق ، والإسلام الصميم الذي
لا يُستغل لمآرب دنيوية ، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك
المسألة الجوهرية ، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى
الأمة في عهد النور والعرفان .
والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة ، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة
للعادة موضوع بحث ، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا ، ولكن على أي حال لا
صلة بين هذه الأعمال وبين الدين ؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان
المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن ، وحتى في الأديان
التي لا زالت تعبد الأصنام ، وتقدس الإنسان .
على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة ( جان دارك ) وكتب عنها بما وسعه
علمه الواسع ؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو
سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية ، وأن شاراتها كانت
تمتاز بالشعار الملكي .
والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث ،
وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع .
وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن
نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين ، واستنتجت
من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده ، ولعل الأستاذ السيد
رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه
المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير
الإسلامي .
وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب ، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى
ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية ، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ
ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية ، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور
الكتاب ، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين .
اهـ .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر ، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا ، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي .
(1) المنار : قد بينا هذا في كتاب الوحي ، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته .
(2) إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه ، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث .
(3) إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح .​
(34/64
صفر - 1353هـ
يونيه - 1934م
الكاتب : عبد الله بن علي بن يابس
__________
تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده

( لمّا صدر كتاب الوحي المحمدي أهديته إلى كثير من العلماء والأدباء
وغيرهم ، وسألت من ألقى منهم هنا أن ينتقدوه ، ومنهم أكبر علماء مصر الأستاذ
الشيخ محمد مصطفى المراغي ، والأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار
المصرية ، وكتبت إلى بعض من في الأقطار البعيدة بذلك ، ومنهم إمام اليمن وإمام
عمان فلم ينتقد أحد منهم شيئًا من مسائله ، ولكن جاءنا الكتاب الآتي من الأستاذ
صاحب الإمضاء وهو من علماء نجد ومقيم في القاهرة قبيل الفراغ من طبعة الكتاب
الثانية ؛ فسررنا به ، وإننا ننشره ونقفي عليه ببيان رأينا فيه ، وهذا نصه :
( بسم الله الرحمن الرحيم )
إلى حضرة الأخ المحترم والعلامة الفاضل محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد فإني قرأت كتاب الوحي الذي
ألفتموه فألفيته أولاً في بابه ، بديعًا في خطابه ، أبان بأن الدين ضرورة لازمة ،
وحجة قائمة ، أقام الحجة على صحة الإسلام ، عند مثبت النبوة ومصدق الرسالة .
بأوضح برهان وأجلى تبيان ، وأظهر زيف الاعتراضات الصليبية ، والتشكيكات .
الإلحادية ، والمغالطات الإيهامية ، التي أرصدها دعاة الفتنة ، وأعدها رؤوس
الضلالة حرابًا للدين ، وغوثًا للشياطين ، وإنه لكتاب جلي من دقائق الحكم ، وأسرار
التشريع ما سطر التنزيل بيانه ، وأجمل تبيانه ، ومع ذلك فهو سهل المتناول ، قريب
إلى الفهم ، يشوق قراءه إلى تفهم كتاب الله ، ويوقف المنصفين على الإيمان بالله .
وبما أن مسائل العلم معترك العلماء ، ومجال الأذكياء ، وساحة الميدان ،
وحلبة الرهان ، والجواد قد يكبو ، والسيف قد ينبو ، والخطأ لم يعصم منه إلا
الشارع ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ؛ فإن لي في كتابكم
ملاحظات سأبديها ، ومواضع سأتكلم فيها ، لمعرفتي أنكم ممن ينشد الحق ويتحراه ،
ويُغَلِّب مرضاة خالقه على اتباع هواه ، والشاهد لي على ذلك أنكم الذين تنازلتم
لمنازلة الانتقاد ، وتواضعتم لهذا المراد ، وتلك خلة العلماء السابقين ، وطريقة القادة
المهديين .
( 1 ) قلتم في صفحة 163 : قد شرع الله لإبطال الرق طريقين : عدم تجديد
الاسترقاق في المستقبل . وإني أرى أن هذا القول مُعَارَض بالكتاب والسنة
والإجماع ، أما الكتاب فإن فيه كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي هو نتيجة
الاسترقاق ، والكتاب كتاب لكل زمان ومكان ، فلا يصح أن يبني شرائعه على شيء
قد أبطل أساسه ، وحرم تجديد أصله ، وقد ندب الكتاب إلى العتق في مواضع كثيرة ،
وجعل العتق الذي لا يوجد إلا بالرق عملاً من أعمال الخير التي توصل إلى الجنة ،
فهل تقولون : إن تلك الآيات المذكورة في الكتاب إنما محل العمل بها في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم أما بعده فلا يصح ؛ لأن تجديد الرق قد مُنع ؟ فإن قلتم بهذا فما
رأيكم في الدليل الثاني ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق بالفعل ، وجوَّز
بالقول والتقرير ، وما أرى أنكم تنكرون هذا ؛ لأن كل من يعرف النبي صلى الله
عليه وسلم وسيرته يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أنه لم يغز طوائف العرب إلا واسترق
من استولى عليهم من نسائهم وأولادهم .
وأما الإجماع فإن الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان ما استولوا على
شيء من نساء الكفار وأولادهم إلا استرقوه ، حتى إنه ليوجد عند بعضهم المئون ،
بل آلاف من الرقيق ، وكان عثمان بن عفان و العباس من أكثرهم رقيقًا ، ولعمر
رقيق ، ولأبي بكر رقيق ، وهذا ما لا ينكره أحد ، وإذا كان القتال ماضيًا إلى قيام
الساعة والكفار موجودين في كل زمن ، فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا
عليه بطريق الحرب .
( 2 ) قلتم في صفحة 149 على قوله : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) : إن حروب النبي
للكفار كانت كلها دفاعًا ، ومعنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز
إلا إذا قاتلونا ، والكلام عليه من وجوه :
( أولاً ) : إنا لا نُسَلِّم أن قتال المسلمين في سبيل الله للكفار الذين لم يقاتلوهم
اعتداءً ؛ إذ الاعتداء تجاوز بغير حق ، وقتال المسلمين للكفار إنما هو بحق وهو
إدخال الإصلاح عليهم ، وحملهم على الطريق القويم ، وإنقاذهم من نار الجحيم .
( ثانيًا ) : غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا ، والكف
عمن لم يقاتل مفهومًا ، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء إذا لم يخالف ؛ فكيف
إذا عارض منطوقًا صريحًا ؟
( ثالثًا ) : إن الآية { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (البقرة : 193 ) ، وآية { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ } ( التوبة : 5 ) ،
والآية { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } ( التوبة : 29 ) وما
يشابههن ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله ) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة ، كل ذلك عام شامل لمن قاتل ومن
لم يقاتل .
( رابعًا ) إن آية { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ( البقرة : 190 ) ، { وَجَاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ } ( المائدة : 35 ) ومعنى كلمة القتال في سبيل الله لا يفهم من ذلك الدفاع
عن النفس فحسب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له : الرجل يقاتل
شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) فبين أن المراد من القتال في سبيل الله
القتال لعلو الإسلام ورضوخ الكفر له .
( خامسًا ) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمنعه من الإغارة على قوم
إلا سماع الأذان ، فإن سمع أذانًا أمسك ، وإلا أغار .
( سادسًا ) إنه قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم أنه لم يثبت أن كل
من قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وغيرهم من
أئمة المسلمين ، قاتلوا قبل أن يقاتلوا ، وأن مقام المسلمين معهم مقام دفاع عن النفس ،
وإن كان ذلك حصل من بعضهم في بعض الأحيان فلا يسلم حصوله في الكل .
( سابعًا ) إن سنته في بعثه للسرايا والجيوش أن يقول لهم : اغزوا في سبيل
الله ، قاتلوا من كفر بالله ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال .
وهو معلوم من حديث بريدة الطويل عند مسلم ، وأما آية الإكراه في الدين فلا تمنع
من قتالهم حتى يكون الدين عاليًا عليهم ، وآية الجزية مبينة للإكراه ، وأما تعليل
الإذن بالقتال بظلم الكفار إياهم ، فغايته أنه ذكر علة ولم ينف سواها ، وأما { َ وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } ( ق : 45 ) وما في معناها ، فتلك آيات مكيات أتت بعدهن
المدنيات .
( 3 ) قلتم في صفحة 162 : على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط
جعل عصمتها بيدها ؛ فتطلق نفسها إذا شاءت . قول الشريعة هي الكتاب والسنة
والإجماع ، فإن رأيتم هذا القول فيها فهاتوا دليله مأجورين ، والمنار معروف أنه
يدلل على ما يذهب إليه ، والذي أعرفه أنه رأي لأبي حنيفة ، وأنا لا أعتقد أنكم
تقلدونه ، وأبو حنيفة الذي رأى هذا الرأي هو الذي رأى لو أن رجلاً في المشرق
تزوج بامرأة في المغرب ؛ فولدت أن الولد يلحق به ، وإن لم يثبت عنده اجتماعهما .
فهل تقولون : إن الشرع ألحق الولد به . وأنتم وفقنا الله وإياكم ذكرتم هذا القول في
الوحي المحمدي ، فلا يفهم إلا أنكم وجدتم ذلك في القرآن أو الحديث ، فإن لم يكن
إلا في رأي أبي حنيفة ، فهو شرط ليس في كتاب الله ، ومن اشترط شرطًا ليس في
كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، وهو قول ليس عليه أمر الشارع ، ومن
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ، مع أنه رأي يجعل للمرأة الناقصة عقلاً ودينًا
ولاية على أمر الرجل ( ولن يُفْلِح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ) فيكف تُوَلَّى تفكيك روابط
الأسر وتفريق الجماعات ، وهي التي تغضب للكلمة ، وتطيش للصدة ، وتتميز
للإعراضة .
( 4 ) قلتم في صفحة 187 : فكلام الله عندنا شأن من شؤونه ، وصفة من
صفات كماله كعلمه ، إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات له بدون سبق خفاء
ووظيفة الكلام كشفه ما شاء من المعلومات لمن شاء بما شاء . هذا التعريف لا
يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار كمالك ، والسفيانين ، وأحمد ، وإسحاق ،
ويحيى بن معين ، والبخاري ولا كالزهري ، وأيوب ، وابن سيرين ولا عن
أحد من الصحابة ، فإن كان معروفًا لديكم فأزيلوا عنا اللبس ، وما رأيكم لو كشف
الله لعبد بإزالة الحجب ، فهل يقال : إنه كلمه ؛ فإن تعريفكم صادق على هذا ؟ وهلا
يجوز عندكم أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قرب ؟ وهل
تعريفكم هذا لكلام الله الذي هو القرآن فحسب ، أو لما هو أعم ؟ وهل أنتم تعتقدون
أن القرآن كلام الله أم هو عبارة عنه ؟
( 5 ) وقلتم في صفحة 8 : وحررت هذه المقدمة في ليلة المولد ؟ فهل عندكم
خبر صحيح يعين ليلة المولد ، مع أن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تُعْرَف ،
وفيها أقوال متعارضة متضاربة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض ، ولا أظن
أنكم تتابعون الناس على ما درجوا عليه من الباطل ، على أني اختصرت خوف
الإطالة والملل ، وتركت مواضع بغير تعليق لباعث العجل ، والله يوفقنا جميعًا إلى
سبيل الرشاد .
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن علي بن يابس
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(34/140
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تفنيد اعتراض كاتب جزويتي
على كتاب الوحي المحمدي
( نشره في مجلة المشرق الكاثوليكية في بيروت
فألخص مسائله فيما يأتي وأرد عليها )
( 1 ) تعريفه الموهم بالمؤلف صاحب المنار :
افتتح الكاتب كلامه بأنه ( لا حاجة إلى تعريف القراء بالسيد محمد رضا [1]
منشئ مجلة المنار الإسلامية ومحررها المجاهد ) ولكنه عرفه أو وصفه بقوله
( والشيخ محمد عَلَم من أعلام الأدب الديني الإسلامي المحافظ في مصر ، وصديق
ابن سعود الوهابي ، وأحد دعاة المسلمين إلى التمسك بالقديم ، ونبذ ما يستحدثه
المحدثون ، مخالفًا لتقاليد السلف ) .
فهذا التعريف بمن هو غني بشهرته عنه باعترافه يفهم منه قراء المشرق
خلاف الحقيقة يفهمون من كلمة ( المحافظ ) ، وكلمة ( نبذ ما يستحدثه المحدثون )
... إلخ ما يشمل الأمور الدينية والعلمية والفنية والصناعات ، وإنما أنا محافظ على
القرآن والسنة النبوية وإجماع السلف وسيرتهم الصالحة في هداية الدين فقط ، وداعٍ
للمسلمين إلى الأخذ بكل نافع من مستحدثات العلم والفنون والنظم المدنية والعسكرية
التي لا تخالف تلك الأصول ، ولا الهداية الدينية التي أكمل الله بها الدين ، وأتم
نعمته على العالمين ، وإن خالفت بعض تقاليد المتقدمين ، التي مناطها اجتهاد
المجتهدين ، ولينظر ماذا يعني بصداقة ابن سعود الوهابي في التعريف بعالم مؤلف ؟
( 2 ) وصفه للكتاب كما رآه :
قال : ( إنه ليس كتاب الوحي المحمدي ما يزيدهم معرفة بالمشاكل الجوهرية
التي يدور الجدال حولها بين المسيحيين والمسلمين ) وإنه ( ليس مستنفد المواد
متناسب الأجزاء ، متسلسل القضايا ، فيغور فيه فكر المفكرين ، بل هو مجموعة
عجالات ظهرت أولاً في المنار ، ثم برزت بكتاب مستقل ، على أن سهولة مطالعتها
لما فيها من العناوين والفهارس ، ووقع المواضيع التي عالجها ردًّا على مسائل
تجددت ، ومسها الدين المسيحي تحول دون الإغضاء عنها ، من غير إعادة النظر
فيها ) . اهـ .
( أقول ) إن كتاب الوحي المحمدي لم يوضع للجدال بين المسلمين
والنصارى ؛ فتجعل مواده مناسبة لما بينهما من الخلاف ، متسلسل القضايا فيها ،
وإنما ذكر فيه بعض هذه المسائل بالقصد الثانوي ، والمناسبات الاستطرادية ، ولو
وُضع للرد على النصارى كالكتب التي ذكر بعضها لرآه في نسقه وترتيبه وتسلسله
ونظامه بحيث يغور فيه فكره ، فيقع في غور أو تيهور لا يجد له منه مخرجًا إلى
بقاع يرى فيه النور إلا أن يهتدي به إلى الإسلام ، وإنما وُضع الكتاب لإثبات
الوحي المحمدي بالقرآن فشهد له نقاد الكتاب بأنه خير ما كتب فيه حجة ونظامًا ،
بل اضطر هو على نظره إليه بعين السخط من وراء زجاجة يسوعية سوداء أن
يصفه أخيرًا بما وصفه من السهولة وحسن التقسيم ، والرد على المسائل التي
تجددت في هذا العصر ، وهو الذي حمله على الرد عليه .
* * *
( 3 ) فساد الأخلاق والآداب الروحية على نسبة ارتقاء العلوم والأفكار
المادية :
خالفنا الكاتب الكاثوليكي الجزويتي في هذه الحقيقة التي بيناها في مقدمة كتاب
الوحي ، فذهب إلى أن كفة ميزان الفضائل والآداب والخير في هذا العصر أرجح
مما كانت عليه في جميع العصور السابقة في الشرق والغرب ، بفضل التمدن
الأوربي ! ! !
يا سبحان الله ! أكاتب ينتمي إلى الديانة المسيحية يقول هذا ؟ نعم وإنه قد كتبه
ونشره في مجلة المشرق اليسوعية ، وما كان هذا ليخطر في قلب بشر .
إن هذه الحقيقة التي بينتها بالإجمال ليست رأيًا افتحرته افتحارًا من تلقاء
نفسي ، وإنما سبقني إليه حكماء أوربة وكُتَّاب الغرب والشرق فنقلته مقتنعًا به .
وقول المنتقد : إنني أحكم به حكمًا عامًّا على جميع الشعوب . هو صحيح في
الجملة لا التفصيل ، فأنا أحكم به على شعوب الإفرنج أولاً وبالذات ، وعلى
المفتونين بمدنيتهم المادية الإباحية من سائر شعوب العالم ، وإني لأنعي على
الإفرنج انسلاخهم من بقايا ما حفظه نظام التربية فيهم من الفضائل المسيحية ، لا
جهلهم بالفضائل الإسلامية فقط .
وإن أول حكم سجلته على أوربة في هذا الموضوع ، هو ما رواه لنا شيخنا
الأستاذ الإمام عن شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر الإنكليزي من حكمه على قومه ،
وعلى أوربة كلها ، ومثله من ينظر إلى لُبَاب الحقائق الواقعة ، ويتخذ منها القياس
المنطقي على نتائجها المستقبلة .
وإنني أنقل من الصفحة 868 من تاريخ الأستاذ الإمام نص ما رواه لنا من
حديثه مع الفيلسوف في مصطافه في ( برايتون ) من جنوب إنكلترة في 10
أغسطس سنة 1903 ، أي : منذ ثلث قرن مشيرًا إلى الفيلسوف بحرف ( ف ) وإلى
الأستاذ الإمام بحرف ( م ) وهو :
( ف ) هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة ؟ ( م ) نعم زرتها منذ عشرين سنة .
( ف ) كيف وجدت الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة ؟
( م ) إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص ، وهو
البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني ،
وأقمت أيامًا قليلة لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله ، وقد ألممت بها الآن منذ أيام ،
فلم أدرس حالة الناس ، إنما يجب أن آخذ عنكم ذلك .
( ف ) إن الإنكليز يرجعون القهقرى ، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ
عشرين سنة .
( م ) فيم هذه القهقرى ؟ وما سببها ؟
( ف ) يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة ، وسببه تقدم الأفكار المادية
التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا ، ثم سرت إلينا عدواها ، فهي تفسد أخلاق
قومنا ، وهكذا سائر شعوب أوربة .
( م ) الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء ، واجتهادهم أن ينصروا الحق
والفضيلة على الأفكار المادية .
( ف ) إنه لا أمل لي في ذلك ؛ لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مده غاية
حده في أوربة ، إن الحق عند أهل أوربة الآن للقوة .
( م ) هكذا يعتقد الشرقيون ، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على
تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها .
( ف ) مُحِيَ الحق من عقول أهل أوربة بالمرة ، وسترى الأمم يختبط
بعضها ببعض ( ولعله ذكر الحرب ) ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم ، أو فيكون
سلطان العالم . اهـ .
وقد كتب الأستاذ في مذكرته تعليقًا على هذا الحديث ، ونشرناه في ص 751
من مجلد المنار 18 ، ثم في ص 869 من تاريخه وهو :
( ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف ( الحق للقوة ) ... إلخ ؟ جاءت منه
مصحوبة بشعاع الدليل ، فأثارت حرارة ، وهاجت فكرًا ، ولو جاءت من ثرثار
غيره كانت تأتي مقتولة ببرد التقليد ، فكانت ( تكون ) جيفة تعافها النفس فلا تحرك
إلا اشمئزازًا وغثيانًا
هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان
وتوفير راحته ، وتعزيز نعمته أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها
على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها ، هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من
الحديد ( المظلم ) اللامعُ المضيءُ ، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي
الفطرة الإنسانية ، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني ؟ حار
الفيلسوف في حال أوربة وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء ؟ الرجوع إلى
الدين ... إلخ ، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل
زمان لكنهم يعودون فيجهلونها ) . اهـ .
ولقد رأى أهل البصيرة بعد الحرب الأوربية الكبرى ما رآه شيخ الفلاسفة
قبلها ، كما سمعنا بآذاننا فيها ، ثم ما صرنا نقرؤه عنها ، إلى أن بلغ في هاتين
السنتين درجة الخطر عليها من استعداد جميع دولها للحرب الآتية الحالقة الساحقة
الماحقة ، ومن انغماس شعوبها في حمأة الإباحة ، وانحلال عرى الزوجية المقدسة
فيها ، ولا أقول وعبادة المال ، فإن الجزويت أشد إسرافًا وغلوًّا في عبادة المال من
اليهود وغيرهم من الرأسماليين ، وعندي قانونهم السرى في ذلك ، فهو مما يخالفون
فيه وصايا الإنجيل بقاعدتهم ( الغاية تبرر الواسطة ) ، وأما إباحة أعراض النساء
بالسفاح واتخاذ الأخدان وما سمي الرقيق الأبيض ، وإباحة هذه الضراوة بالحرب
بهذه الدركة من الغلو المنذر للشعوب بالهلاك الذريع الذي تنقله البرقيات عن أوربة
كل يوم ، فما كنت أظن أنه ما يدخل في عموم تلك القاعدة عندهم .
أين الدين في أوربة ، وهذه أكبر دولة فيها ( الروسية ) تبذل كل قواها في
محوه من بلادها الواسعة ، بل من جميع الأرض ، ودعايتها قد تغلغلت في سائر
شعوبها الغربية ، ولولا النظام العسكري الخاضع لحكوماتها المالية خضوع العبيد ،
بل المستعمل بأيديها كاستعمال آلات الحديد ، لقضي عليها كلها ، وها هي ذي
فرنسة تتفق معها لأجل التعاون على الحرب القاضية التي تستعد لها ؟
أين الدين في أوربة ، وهذه الدولة الجرمانية التي تلي الروسية في كبرها
وعظمتها ، وتفوقها في علومها وفنونها ، تبتدع في مسيحيتها على علاتها فيها ما
تراه الكنيسة الكاثوليكية وثنية محضة ، وهي لا تزال في أول حجلها في مرقصها
هذا ؟
بل أين النصرانية في أوربة ، وقد صرح بعض أساقفة إنكلترة بأن المسيح
ليس أبًا ولا إلهًا ، واستفتى الشعب في اعتقاده بعصمة الكتب المقدسة ، فأفتى
الألوف بعدم عصمتها ، كما نشرنا ذلك في المنار .
ظن الكاتب أنني أشكو من ضعف الدين الإسلامي فأجعل الشكوى عامة ! كلا ،
إن الدين الإسلامي يجدد هدايته وعلمه ونوره في كل قطر من أقطار الأرض ،
وإنما يعارضه فساد أوربة الإباحي المادي ، وظلمها الاستعماري ، ولكنهما سيزيدانه
حياة وقوة ، ونورًا وظهورًا ، كما يزيدان الإباحيين الظالمين خزيًا وضعفًا .
حتى إذا ما بلغ فسادها غايته في شعوبها علمت هذه الشعوب أنه لا منقذ لها
غير الاهتداء به ؛ لأنه هو الدين الوحيد الوسط بين أطراف الغلو من إفراط وتفريط
في العقل والوجدان ومصالح الروح والجسد ، وأنه الحلال لمشاكل الاجتماع المالية
والحربية والنسائية الموصل لسعادة الدنيا والآخرة ، كما بيناه في ( كتاب الوحي
المحمدي )
( للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الكاتب يسميني تارة السيد محمد رضا ، وتارة الشيخ محمد ، أو الشيخ رضا ، وتارة السيد رشيد رضا إلخ ، والأمر سهل .
(34/147)
ربيع الأول - 1353هـ
يوليو - 1934م
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
كشف بقية شبهات العَالِم النجدي
في كلمات من كتاب الوحي المحمدي

( 2 )
انتقاده قولنا : إن حرب النبي صلى الله عليه وسلم
كانت دفاعًا والجواب عنه
قال : إن ( معنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز ، إلا إذا
قاتلونا ، والكلام عليه من وجوه ) وذكر سبعة وجوه .
أقول : إن هذا المعنى الذي فسر به المسألة غير صحيح ، لا يدل عليه قولنا
باللفظ ولا بالفحوى ، بل فيه ما يبطله ، فقولنا : إن قتال النبي صلى الله عليه وسلم
للكفار كان دفاعًا وكانوا هم المعتدين فيه ، قضية شخصية في واقعة حال فعلية ، لا
تدل على القضية السالبة الكلية التي استنبطها منها ، وكان له أن يأخذها من النهي
في الآية فحسب ؛ ولكنه جمع بين الأمرين ، وإنني أقول كلمة وجيزة في كل وجه
من الوجوه السبعة التي سردها أبطله بها ، ثم أقول كلمة في أصل المسألة :
( الوجه الأول ) :
قوله : ( إن قتال المسلمين للكفار الذين لم يقاتلوهم لا يكون اعتداء ؛ لأنه لا
يكون إلا بحق ) لما علله به . ولو صح لا يكون ناقضًا أو معارضًا لكون حرب النبي
صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا ؛ لأن الكفار كانوا هم المعتدين البادئين بها كلها كما
هو ثابت بالواقع ولقوله تعالى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ
الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ( التوبة : 13 ) ولكنه غير صحيح ؛ فإن المسلمين
غير معصومين في جميع حروبهم من اتباع الهوى ، ولا يكون مقاتلاً في سبيل الله
إلا من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، واتبع أحكامه تعالى فيها ، ومنها أن لا يكون
ناقضًا لعهد مع الكفار كما هو معلوم بالإجماع .
وتفسيره الاعتداء بما فسره به مخالف لما جرى عليه المفسرون ، فقد فسروا
النهي عن الاعتداء بعدم بدئهم بالقتال ، اقتصر عليه بعضهم كالجلال وزاد عليه
بعضهم كالبيضاوي احتمال كونه نهيًا عن قتال المعاهدين ، وهو بمعناه أي نهي عن
بدئهم بالقتال ، لا بمعنى ما فسره به المعترض من زعمه أن قتال المسلمين لا يكون
اعتداء ؛ لأنه يقصد به إنقاذهم من نار الجحيم ، والمعاهدون منهم .
وهذا التعليل يشبه ما تأول به السير ( إدوارد غراي ) الوزير البريطانالبريطاني ما
كانت قررته دولته وأحلافها في أول الحرب العالمية من وجوب حرية جميع
الشعوب ، ومنع ضم الدول الغالبة لشيء منها إلى أملاكها ، فلما كان الفوز لهؤلاء
الحلفاء ، قال الوزير البريطاني : إنما يمتنع ضم الشعوب الضعيفة إلى الدولة
الظافرة ، إذا كان يقصد به الظلم والكبرياء ، وأما إذا كان يقصد به فائدتها والإحسان
إليها بالعدل والحضارة فهو جائز ، وربما قال : إنه واجب . يريد أن دولته تستولي
على البلاد لخير أهلها ، لا لمنفعة نفسها .
( الوجه الثاني ) :
قوله : ( غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا ، والكف
عمن لم يقاتل مفهومًا ، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء ... إلخ ) ، وهو
ممنوع ، بل باطل ، والحق أن الآية تدل على قتال من قاتلنا ، وعدم قتال من لا
يقاتلنا بالمنطوق في كل منهما من أول وهلة ، فقوله : غاية ما تدل عليه كذا خطأ ،
وتعبيره بالكف في الثاني خطأ ثانٍ ؛ فإن الكف إنما يعبر به عما كان بعد الشروع
في الشيء ، وقوله بأن الدلالة على الكف بمفهوم المخالفة خطأ ثالث ، وقوله بأن
هذا المفهوم معارض للمنطوق الصريح خطأ رابع ، وقوله المفهوم ليس بحجة عند
أكثر العلماء ، إذا لم يُخَالَف غير صحيح على إطلاقه ؛ وإنما فيه تفصيل لا محل
لذكره هنا .
( الوجه الثالث ) :
قوله : إن آية كذا وكذا ، وحديث كذا وما في معناه : ( كل ذلك عام شامل لمن
قاتل ، ومن لم يقاتل ) غير صحيح على إطلاقه ، ولو صح لما كان واردًا علينا ، أما
الأول فلأنه لو كان صحيحًا على إطلاقه لكان شاملاً لقتال المعاهدين ، وهو باطل
بالإجماع ، وأما الثاني فلأن عموم ما ذكر لا يدل على أن شيئًا من حرب النبي
صلى الله عليه وسلم كان ابتداءً ، لا دفاعًا .
ونزيد ذلك تفصيلاً بأدنى ما يحتمله بحث كهذا البحث هنا ، فنقول : إن قوله
تعالى : { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ( البقرة : 193 ) نزل بعد قوله :
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } ( البقرة : 190 ) ... إلخ ، فهو لبيان غاية
القتال لا لبدئه ، ومعناه : وقاتلوهم إلى أن يزول هذا النوع من اعتدائهم الموجب
الأول لقتالهم وهو فتنة الناس عن دينهم بصدهم عن الإسلام ، وإيذاء من يدخل فيه
بضروب الإيذاء ، وقد بينا هذا في تفسير الآية من سورة البقرة ، ثم في تفسير
أختها من سورة الأنفال ( ص 556 ج 9 تفسير )
وأما قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } ( التوبة :
29 ) فهو آية الجزية التي نزلت في بيان انتهاء قتال الموصوفين فيها من أهل
الكتاب بإعطاء الجزية لا في بدء القتال وعمومه ؛ فإن القتال كان مشروعًا قبل
نزولها ، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسيرها من الجزء العاشر ( ص280 )
وكذلك حديث ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) فهو في بيان
انتهاء قتال المشركين إذا نطقوا بهذه الكلمة التي هي عنوان ترك الشرك ، وقبول
الإسلام ، لا في بيان شرعية قتال كل أحد حتى يقولها ؛ فإن اليهود كانوا يقولونها .
على أننا إن فهمنا كل ما ذكر كما فهمه لا نراه ناقضًا لقولنا : إن حرب النبي
صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا ، فهذا بيان للواقع ، وذاك بحث في أصل التشريع
ولا تنافي بينهما ، هذا لون ، وهذا لون ، كما يقول ابن القيم في تعبيره عن الفروق .
( الوجه الرابع ) :
قوله : إن وصف القتال والجهاد المشروع في الكتاب والحديث بأنه ما كان في
سبيل الله ، لا يفهم منه الدفاع فحسب ، وهذا لا محل له في بحثنا ؛ وإنما هو تلذذ أو
إدلال بتكثير الوجوه ، ذلك بأن موضوعه القصد والنية ، وحاصله أن القتال والجهاد
لا يكون قربة إلا بالنية المذكورة في الحديث ، وأن ما كان بنية إظهار الشجاعة
والحمية ومراءاة الناس فليس منه في شيء ، فهو في وجوب الإخلاص في الجهاد
ككل عبادة لله تعالى ، لا في عموم قتال الناس ، وقد ورد في حديث الثلاثة الذين
يكونون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة : الشهيد ، والمتصدق والقارئ ، ما هو
نص في قولنا ، وهو في صحيح مسلم ؛ ولكن هذه الأحاديث حجة على المعترض
في قوله الأسبق : إن قتال المسلمين لغيرهم لا يمكن ، أن يكون اعتداء ؛ لأنه كله
لأجل هدايتهم وإنقاذهم من النار .
( الوجه الخامس ) :
لا يستحق أن يُبْحَث فيه بعد العلم بما تقدم وبما يأتي .
( الوجه السادس ) :
ونصه دعوى باطلة بالبداهة ، وهي أن قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين
وغيرهم ( أنه لم يثبت أن كل من قاتلهم النبي والخلفاء الأربعة وغيرهم من أئمة
المسلمين قاتلوا قبل أن يقاتلوا ، وأن مقام المسلمين معهم كان مقام دفاع عن النفس )
وهذا خطأ من وجوه كالتعبير بالعلم الاضطراري في موضوع سلبي ، وجعله عامًّا
للمسلمين وغيرهم ، فمتى كانت هذه القضية السليبة من القضايا الاضطرارية عند
المسلين وغيرهم ؟ إن هذا إلا غفلة عن معنى الاضطرار .
ندع الخطأ في التعبير ، ونحصر الكلام في الموضوع فنقول : إنه قد أدخل فيه
ما ليس منه ، وهو حرب الخلفاء الثلاثة وغيرهم ، وإنه لم يفهم مرادنا من حرب
الدفاع ، فظن أنها عبارة عن كون الكفار هم الذين يبتدئون القتال في كل معركة ،
وهذا مخالف للواقع في كل زمان ومكان من القرون الماضية إلى زماننا هذا ،
ورأيت كثيرًا من الناس حتى المشتغلين بعلم الفقه وقراءة السير غافلين عن الحقيقة
في هذا الموضوع .
إنما المعتدي المبتدئ بالقتال هو الفريق الذي أوجد حالة الحرب بالفعل أو
بالقول ، وإن لم يكن هو البادئ ، بعد وجودها في كل هجوم ، والمدافع هو المقابل
له في الاعتداء والقتال ، ولا يخلو من ابتداء بعض المعارك والإغارات ففرنسة
وأحلافها يقولون : إن ألمانية كانت هي البادئة المعتدية في الحرب الدولية الأخيرة ،
وإنهم كانوا هم المدافعين ، ولم يقولوا هم ولا غيرهم إنها كانت هي البادئة في كل
معركة وكل تعدٍ .
ومن المعلوم بنصوص القرآن القطعية وبالإجماع أن المشركين كانوا هم
المعتدين على المؤمنين بالقتل وغيره مما تقتضيه حالة الحرب التي أوجدوها ، وأن
هذه الحالة قد استمرت إلى أواخر سنة ست من الهجرة ؛ إذ عقدت معاهدة صلح
الحديبية ، وتساهل النبي صلى الله عليه وسلم فيها معهم حرصًا على إبطال الحرب
وتقرير حرية الدين ، ومنع فتنة المشركين للمؤمنين ، ثم إن المشركين نقضوا هذه
المعاهدة ، فعادت حالة الحرب بطبيعتها ؛ إذ لا تُبْطَل إلا بمعاهدة ملتزمة ، فكان هذا
سبب فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وما وليها من حرب الطائف و حنين ، فلا
فرق بين هذه الحرب التي بدأ بها النبي والمؤمنون بالزحف ، وبين غزوة بدر وأحد
والأحزاب التي بدأ بها المشركون .
وأول الشواهد على هذا من نصوص القرآن قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } ( الحج : 39 ) إلى قوله : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } ( الحج : 40 ) ... إلخ ، وأوسطها قوله تعالى : { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِينِ } ( الممتحنة : 8 ) إلى آخر الآيتين .
وآخرها قوله عز وجل : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ
الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ( التوبة : 13 ) .
أفتغفلون أيها الفقهاء والمؤرخون عن القرآن ، وعن حقيقة الواقع بالفعل ،
وتأتون بقضايا مخترعة تدعون أنها معلومة بالاضطرار عند المسلمين ، وعند جميع
الناس ؟
( الوجه السابع ) :
ما ذكره في سنته صلى الله عليه وسلم في السرايا والجيوش ، ولم تبق حاجة
إلى الكلام في أنه ليس من محل النزاع ، فإنه كان يبعثهم لقتال أولئك المعتدين
المشركين ويعلمهم أحكام القتال وآدابه من النهي عن الغلول والغدر والتمثيل وقتل
الأولاد ، والأمر بدعوتهم أولاً إلى الإسلام ، وما يتبعه من الهجرة فإلى الجزية ،
وكذلك ما ذكره بعد هذا من الإشارة إلى الآيات ليس من موضوع النزاع ، وفيه
أخطاء لا حاجة إلى بسطها والرد عليها .
وجملة القول : إن كل ما أورده في الرد على قولنا لا يَرَد علينا منه شيء ،
فجميع قتال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين وأهل الكتاب كان دفاعًا لا ابتداءً
حتى غزوة تبوك ، وأما حكم الجهاد في نفسه ، ومتى يكون واجبًا عينيًّا ، ومتى يكون
واجبًا كفائيًّا ، فقد بينته في تفسير سورة التوبة بالتفصيل ، وبينت علله وأسبابه ،
وأهمها بعد كف اعتداء المعتدين ، ومنع الفتنة والاضطهاد في الدين ، وجعله حرًّا
خالصًا لله رب العالمين ، حماية الدعوة إلى الإسلام . ومن كان عارفًا بتاريخ الأمم
والأقوام يعلم أن العرف العام بينها كان كعرف العرب ، وهو أن كل قومين ليس بينهما
عهد فهما في حال حرب ؛ وإنما تقع الحرب بالفعل عند توفر أسبابها ، ولا يزال كذلك
إلى يومنا هذا ؛ فإن دول الإفرنج يستبيحون الاعتداء على كل شعب أو حكومة ليس
بينهم وبينها عهد ، ويفعلونه عند الحاجة إلى أن يمنعهم منه العجز أو التنازع فيما
بينهم .
* * *
( 3 )
انتقاده إعفاء المرأة حق اشتراط عصمتها
والجواب عنه
إنني أشرت في عبارة الطبعة الثانية من كتاب الوحي إلى دليل من قال بهذه
المسألة ، وهذه عبارتي فيها ( من ص 268 ) : بل تجيز ؛ أي : الشريعة للمرأة أن
تشترط في عقد نكاحها جعل عصمتها بيدها لتطلق نفسها إذا شاءت بناءً على ما
ذهب إليه بعض أئمة الفقه من صحة كل شرط غير مخالف لنص قطعي من الكتاب
والسنة ، ولا سيما شروط الزوجية عملاً بحديث ( أحق الشروط أن توفوا به ما
استحللتم به الفروج ) رواه البخاري في مواضع من صحيحه ، وأصحاب السنن .
اهـ .
وقد كان ينبغي للأستاذ المنتقد أن يقتصر على السطرين الأولين من انتقاده ،
ولا يزيد عليه ما لا محل له هنا من إنكاره على أبي حنيفة هذه المسألة وغيرها من
اجتهاده ، ومطالبتي بالدليل على ما ينكره عليه ، ولا غير ذلك من الإسراف في
الإنكار ، والإدلال بما عنده من العلم أو الرأي في أدلة الكتاب والسنة وطباع المرأة ،
ووصفها بما وصفها به من العبارات الشعرية التي لا تدخل في باب الحجة .
لأجل هذا أزيده بيانًا لصحة هذا الحكم في ذاته ، بصرف النظر عن مقام قائله
( وهو الإمام أبو حنيفة ) وكون الإجماع لا ينعقد عند فقهاء السنة في عصره مع
خلافه ، وبيانًا لإسرافه فيما صور به المسألة من مخالفة الكتاب والسنة ، وجعلها من
باب ولاية المرأة على الرجل في الأمور العامة ، كإمارة المؤمنين من جهة ، ومن
مفاسد الاجتماع البشري في نظام البيوت والأسر من جهة ثانية ، ملتزمًا الإشارة
الوجيزة فأقول :
( 1 ) إن الأصل في العقود هو قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ } ( المائدة : 1 ) فهذا نص عام في القرآن ، وهو صريح في أن الأصل في
العقود الصحة حتى يقوم دليل مثله في القوة يخصصه فيؤخذ به في مورد تخصيصه ،
والنساء كالرجال في صحة التعاقد معهن فيما لا يخالف نصًّا في الشريعة .
( 2 ) إن الأصل في الشروط العامة حديث ( المسلمون على شروطهم ) رواه
أبو داود ، والحاكم مرفوعًا من حديث أبي هريرة بسند صحيح ، وهو مقيد بحديث
(المؤمنون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك ) رواه الحاكم عن أنس ، وعائشة
وهو صحيح أيضًا ، وذكر الحافظ في معناه حديث ( المسلمون عند شروطهم ، إلا
شرطًا أحل حرامًا ، أو حرم حلالاً ) ولم يعزه ولا تلك فيه .
ويفسر هذا حديث ( ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ، ما
كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ،
وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق ) وهو حديث مشهور ومتفق عليه سببه
اشتراط بائعي بريرة أن يكون لهم الولاء ، وحكم الله أن الولاء لمن أعتق ، والمراد
مما ليس في كتاب الله ما خالف حكم كتابه كما قال المحققون .
( 3 ) الأصل في شروط النكاح خاصة الحديث الذي أوردته في الطبعة
الثانية من كتاب الوحي ، وذكرته آنفًا ، وفي مذاهب الفقهاء في هذه الشروط أقوال
فصلها الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري ، منها التفرقة بين ما هو من مقتضى
العقد ، وما ليس منه ، وهو مذهب الشافعي ، وقال منها قول أحمد وجماعة : يجب
الوفاء بالشروط مطلقًا . اهـ . فمذهب إمام المعترض أوسع في هذه المسألة من
مذهب أبي حنيفة .
( 4 ) إن فقهاء الحنابلة وغيرهم قد أجازوا توكيل الرجل المرأة بأن تطلق
نفسها ، وهي بمعنى اشتراطها بأن تطلق بنفسها ، فيُرَّد عليه ما ذكره فيه .
( 5 ) إن هذا الاشتراط والتوكيل ليس فيه شيء من ولاية المرأة على الرجل ؛
وإنما هما نزول من الرجل للمرأة عن اختصاصه بالطلاق باختياره ، وهي لا
تشترط هذا إلا إذا كانت تخاف أن يظلمها الرجل ظلمًا لا ترى لها مخرجًا منه إلا
بطلاقه وهو نادر ، فهي تهدده به لتمنعه من الظلم لها في نفسها ومالها ، فإن وقع
أوقعته ، وكم من امرأة اشترطته ولم تنفذه ، ومنهم الأميرة المصرية الشهيرة
( نازلي هانم ) .
فمن يريد تحقيق مسألة كهذه ينبغي له أن ينظر في جميع ما ذكرناه ، لا أن
يلقي تلك الكلمة المجملة على عواهنها .
* * *
( 4 )
انتقاد مسألة كلام الله تعالى وصفاته والرد عليه
قال : إن تعريفنا لكلام الله تعالى لا يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار
... إلخ ، وأقول : إنني لم أدع أنه رواية ؛ فيضرني أنه لا يعرف هو ولا غيره لها
راويًا ممن ذكر ، ولا من غيرهم ، وأسأله : هل يعرف أن أحدًا من هؤلاء العلماء
والرواة قال أو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن علماء أصحبه أنه لا
يجوز لأحد أن يفسر أسماء الله تعالى ، ولا صفة من صفاته ، ولا فعلاً من أفعاله إلا
بحديث مرفوع أو أثر عن الصحابة ، أو قول من أقوال مالك أو أحمد أو السفيانين
وأضرابهم ؟ بل أسأله : هل التزم أحد من المفسرين للقرآن أو شراح الأحاديث هذا ؟
وإذ لم يشترط أحد منهم فيه الرواية التي يحتج بها في العقائد ، وهي القطعية ولا ما
يحتج به في الأحكام العملية من الآحاد الصحيحة ، فعدم اشتراط نقله عمن لا يحتج
بأقوالهم في ذلك كالذين ذكر أسماءهم أولى ، ولو كان المعترض يروي لنا ما يدل
على بطلان هذا التعريف لكان حقيقًا بأن ينظر فيه
على أن قولي : إن كلام الله تعالى صفة من صفاته ؛ مروي ومجمع عليه عند
أهل السنة سلفهم وخلفهم ، وأما زيادة : شأن من شؤونه ، وذكر متعلقه فلعله لو فهم
مرادي منها لحمده ورضيه ؛ فإنما هو عبارة عن إيثار مذهب السلف على مذهب
المتكلمين الذين قالوا : إن كلام الله صفة قديمة أزلية قائمة بذاته تعالى لو كشف عنا
الحجاب لرأيناها ، وإنه واحد ليس فيه تقديم ولا تأخير ولا تجديد خطاب لمن شاء
تعالى بما شاء متى شاء ، وأما وحيه إلى رسله فهو من الكلام اللفظي المحدث الدال
على كلامه النفسي الأزلي ، فهو قد خاطب موسى في الأزل ، وأطلعه في الطور
وغير الطور على ذلك الخطاب الأزلي بكشف الحجاب عنه ، وأما السلف فيقولون :
إنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء متى شاء ، وإن خطابه لموسى في مصر في
شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور ، فهذا مرادي من قولي : إنه شأن من
شؤونه تعالى الخاصة به ، التي لا تُعلم إلا بوحي منه ، أخذًا من قوله تعالى : { كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ( الرحمن : 29 )
جملة ما قاله المتكلمون على اختلاف مذاهبهم في كلام الله تعالى من نفسي
ولفظي وحقيقي ومجازي وقديم وحادث ومخلوق نظريات فلسفية مبتدعة مخالفة
لظواهر القرآن ، ولما ثبت في الأحاديث الصحاح ، وجرى عليه جمهور السلف من
الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ، كما فصلته في المنار وتفسيره وأجملته في
كتاب الوحي بعبارة وجيزة ؛ لأنه كتاب لا يجوز فيه بسط هذه المباحث الجدلية ،
وقد كُتِبَ للدعوة إلى الإسلام ، وبيان حقائقه التي لا تضطرب فيها الأفهام ، ولا
يحول دونها شيء كفلسفة علم الكلام ، ولكن أخانا الناقد فهم منها خلاف ما أردناه
بل ضده ، وإننا نشايع فيه المتكلمين ، ولذلك رتب عليه الأسئلة التي رأيت .
على أنني بينت مرادي من تخطئة المتكلمين ، وبيان الحق في معنى كلام الله
تعالى وتكليمه لرسله في الفصل الأول الذي زدته في أول الطبعة الثانية من كتاب
الوحي ( ص 22 25 ) ونشر في المنار ، وفيه التصريح بأن موسى عليه السلام
سمع نداء الله تعالى له من وراء الشجرة ، وإثبات الكلام والتكليم والنداء لله تعالى ،
وأما كون الغاية من هذا كشف ما شاء الله تعالى من علمه لمن شاء من رسله فهو
بيان لمتعلق الكلام ، وغاية التكليم الذي يفهمه الرسول من الخطاب ، وليس معناه أن
الكلام أو التكليم هو العلم ، وهذا بديهي في نفسه ؛ ولكنه اشتبه على المنتقد فتوهم
أنني أعني من كشف العلم ما يعنيه المتكلمون من قولهم في صفة الله تعالى : لو
كشف عنا الحجاب لرأيناها ، فهذه عبارة مبتدعة لا يدل عليها نقل ولا عقل ، وإنما
أخذوها من قاعدتهم : كل موجود يجوز أن يُرى .
وإنني بعد أن بينت في ذلك الفصل أن تلك النظريات في الكلام الإلهي مبتدعة
لم يرد بها كتاب ولا سنة ، وأنها مثار للوسواس الشيطاني ، صرحت بوجوب إثبات
كل ما ثبت في كلام الله وكلام رسوله من إثبات ونفي ، من غير زيادة ولا نقص ،
بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل ، ثم قلت : وليس عليك ولا لك أن تحكم عقلك ولا
رأيك في كنه ذاته ولا صفاته ، ولا في كيفية مناداته وتكليمه لرسله ، ولا في كنه ما
هو قائم به ، وما يصدر عنه ، على هذا كان أصحاب الرسول ، وعلماء التابعين ،
وأئمة الحديث والفقه قبل ظهور بدعة المتكلمين . اهـ .
وقد نُشِرَ هذا الفصل في المنار عند البدء بإعادة طبع كتاب الوحي المحمدي
الذي جاءنا انتقاد أخينا الأستاذ النجدي عند إتمامه ، وما أراه إلا قد قرأه قبله ، ولكن
إخواننا النجديين مصابون بنوع من الوسوسة على مذهب السلف ، فإذا رأوا كلمة
واحدة في كلام أحد يحتمل أن تفسر بما يخالفه قامت قيامتهم على قائلها وإن لم
يفهموها ، وإن كان له مع ذلك مئات من الجمل الواضحة التي تثبت أنه مثلهم أو
أعلم منهم بمذهب السلف ، وأقدر على بيانه ونصره بالعبارات الفصيحة المختلفة
غير متقيد بألفاظ بعض المؤلفين السابقين تقيد المتعبد بها .
* * *
( 5 )
إنكاره قولي : حررت هذه المقدمة
في ليلة المولد والرد عليه
بنى إنكاره هذا على أنه لا يرجو أن يقال مثل هذا القول إلا إذا وجد حديث
صحيح يعين ليلة المولد ، وأن المحققين قرروا أنها لا تُعْرَف ، وأن فيها أقوالاً
متعارضة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض ، وأرد على هذا من وجوه :
( 1 ) أن هذه المسألة تاريخية لا من مسائل الاعتقاد ، ولا من مسائل الأحكام
الشرعية فجواز حكايتها لا يتوقف على حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف ، وقد
تساهل جمهور العلماء في المناقب والفضائل ، فقبلوا فيها الأحاديث والآثار الضعيفة
والمنكرة غافلين عما يترتب عليها من وصفه صلى الله عليه وسلم بما لا يصح أن
يوصف به إلا بنقل صحيح ، وغير ذلك مما بيناه في موضوعه ، ومسألة تاريخ
ولادته صلى الله عليه وسلم وزواجه ، وموت أولاده ، وسفره إلى الشام تكلم فيها
العلماء ، ولم يقل أحد منهم : إنه لا يجوز حكاية شيء من ذلك إلا بحديث صحيح ؛
لأن هذا قول بغير علم بل اختلفوا فيما هو أهم من ذلك وهو تواريخ بعض حوادث
السيرة النبوية كتاريخ بدء الوحي ، وفترته ، والإسراء ، وفرضيه الصلاة ، ولم
يشترط أحد منهم في حكايتها مثل هذه الشروط .
( 2 ) قوله : ( إن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تعرف ) غير معروف
عندنا فمن هؤلاء المحققون ؟ وما دليلهم على ما قالوا ؟ وهل يجب على من لم
يظهر له دليلهم أن يتبعهم ؟ هذا زعم لا يقول به مسلم ولا عاقل ، وحكم لم يقل به
عالم ولم يقض به عادل .
( 3 ) قوله : إن فيها أقوالاً متعارضة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض ،
يعني أنها متساوية فيه ، مردود لأنه مخالف لنقل علماء الحديث والتاريخ وترجيح
بعضها على بعض .
فقد نقل صاحب السيرة الحلبية الأقوال فيه ، وأولها أشهرها وهو أنه كان
بمضي ثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول ( قال ) وحكي الإجماع عليه ، وعليه العمل
الآن من الأمصار خصوصًا أهل مكة ... إلخ قال : وقيل : لعشر مضت من ربيع
وصحح . اهـ . ( قال ) أي : صححه الحافظ الدمياطي ، وذكر طعن بعضهم في
الأول بأن ابن إسحاق ذكره مقطوعًا دون إسناد ، وأنه لو أسنده لم يقبل لتجريح أهل
العلم له ، وذكر أقوال بعضهم فيه ؛ ولكن التحقيق عند بعضهم أنه ثقة إمام في
السِّيَر ، وأما في الحديث فهو صدوق مدلس فلا تقبل عنعنته ومسألة المولد من
السيرة لا من السنة .
ثم قال : وقيل : لثمانٍ مضت منه ، قال ابن دحية : وهو الذي لا يصح غيره ،
وعليه أجمع أهل التاريخ ، وقال القطب القسطلاني : هو اختيار أهل الحديث ؛ أي :
كالحميدي وشيخه و ابن حزم . اهـ .
وقال ملا علي القارئ في شرح الشمائل عند ذكر ترجيح وفاته صلى الله عليه
وسلم في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول : هذا وقد اتفقوا على أنه ولد يوم
الإثنين في شهر ربيع الأول ؛ لكن اختلفوا فيه هل هو ثاني الشهر ، أم ثامنه ، أم
عاشره بعد قدوم الفيل بشهر ، أو أربعين يومًا ، قال بعضهم : ولم يختلف أهل
السير في أنه عليه السلام توفي في شهر ربيع الأول ، ولا أنه كان يوم الإثنين ،
وإنما اختلفوا في أي يوم كان من الشهر ( وذكر من رجحه من أهل السير
والمحدثين ، ومنهم ابن سعد وابن حبان و ابن الصلاح والنووي والذهبي ) ،
أقول : وصرح به محمد مختار باشا 56 الفلكي في التوفيقات الإلهامية الذي وضعه
للتوفيق بين الحساب الهجري من أول سنة منها ، والحسابين الإفرنجي والقبطي
الشمسيين ، وقد يستأنس باتفاق حساب المولد والوفاة لتقوية كل منهما بالآخر من
حيث كمال السنين المناسب لكماله صلى الله عليه وسلم في كل شيء ، وكنت أحفظ
أن الراجح عند المحدثين أنه صلى الله عليه وسلم ولد في صبيحة اليوم التاسع منه ،
ولا أذكر الآن من نقله ، ولعل عبارة علي القارئ في ثامن الشهر أصلها تاسعه .
وجملة القول : إنه لا يصح أن يقال فيما رجحه بعض حفاظ الحديث أنه كغيره
باطل ، وأن مثل هذه المسألة التاريخية يكتفى في الخلاف فيها ترجيح هؤلاء ، ومن
دونهم من العلماء لبعض الأقوال على بعض ، ومن الغريب أن يشترط أستاذ حنبلي
فيها أنها لا تثبت إلا بحديث صحيح ، وإمامه بل إمام السنة أحمد بن حنب
حنبل يقبل ما
دون الحديث الصحيح في الأحكام الشرعية .
هذا وإنني لم أطل هذه الإطالة في تفنيد انتقاد ضعيف كانتقاد صديقي الأستاذ
الفاضل الشيخ عبد الله بن يابس إلا حبًّا فيه وفي قومه ، وحرصًا على أن يكون
باعثًا له على التدقيق والتحقيق في الاستدلال ، وما يقتضيه الخروج من مضيق
التقليد إلى فضاء الاستقلال ، وما اقترحت عليه كتابة هذا الانتقاد كله ، والاستدلال
عليه إلا لأجل هذا .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(34/216
 
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تفنيد اعتراض كاتب جزويتي في مجلة المشرق
على كتاب الوحي المحمدي
( تابع ما قبله )
( 2 )

- 4 -
صد الكنيسة أو الكنائس عن الإسلام
ألمَّ الكاتب بما بيناه في مقدمة الكتاب من الحجب الثلاثة التي حجبت حقيقة
الإسلام عن أوربة إلمامًا وجيزًا ، وأجاب عن صد الكنيسة عنه وبغيه عوجًا بأنه
يترفع عن إعادته ، وأن آداب المناظرة تحول بينه وبين ( الرمي بقذائف الكلام ) .
ونرد عليه بأننا نحن لم نقذف الكنيسة أو الكنائس في ذلك بتهمة من عند
أنفسنا ، ولا نقلنا شيئًا من أقوالها وأعمالها عن أحد من علمائنا ، وإنما أشرنا إشارة
وجيزة إلى بعض ما دونه بعض علماء الإفرنج في ذلك ، ولا سيما أحرار الفرنسيس ،
وأهل النصفة النسبية منهم كالكونت دي كاستري صاحب كتاب ( الإسلام :
خواطر وسوانح ) وغيره من الكتب الكثيرة التي توجد كلها أو جلها في خزانة كتب
الكلية اليسوعية ، فمن الميسور لحضرة الكاتب الأديب أن يظل معتصمًا بما ادعاه
من الترفع وآداب المناظرة ، ويكتفي من الدفاع عن الكنيسة بأن يقول : إن كل ما
أسنده إليها أولئك الكتاب الفرنسيون الكاثوليكيو النشأة والتربية ، وآخرهم موسيو
درمنغام الفرنسي الكاثوليكي صاحب كتاب ( حياة محمد ) أكاذيب مفتراة على أولئك
الذين أسندوه إليهم من رجال الكنيسة وغيرهم .
ثم نقل كلمتي ( الحق أن الإسلام هو صديق المسيحية المتمم لهدايتها … . )
ووصفها بالبساطة الصبيانية ، ولو قلت : إن الإسلام صديق الكنيسة لكنت حقيقًا بهذه
البساطة ؛ ولكن المسيحية في عقيدتي التي هي عقيدة الإسلام الثابتة بالبرهان هي
غير الكنيسة المسيحية هداية توحيد وفضائل متممة لهداية التوراة الإسرائيلية وفاقًا
لما ينقلونه عن المسيح عليه السلام أنه قال : ما جئت لأنقض الناموس ؛ وإنما جئت
لأتمم . والكنيسة نقضت الناموس من أول أساس له وهو التوحيد المجرد ، وإبطال
اتخاذ التماثيل والصور إلى سائر ما فيها من العبادات والطقوس والتشريع المدني .
والإسلام هداية متممة للمسيحية ؛ لأنه لم يوجد بعد المسيح عليه السلام من
يصدق عليه قوله : ( يعلمك كل شيء ) أي : مما لا يستطيع أن يقوله لهم غير نبيه
وهو الفارقليط روح الحق كما بيناه في كتاب الوحي وغيره .
ومما نقصده بقولنا : إن الإسلام متمم ومكمل للمسيحية - الحق التقريب
والتأليف بين الطوائف في بلادنا ، وهو خلاف سياسة الكنيسة ، بل طالما تمنينا لو
نتعاون مع رجال الكنيسة على محاربة كفر التعطيل المادي أيضًا ، ووجد من أصدقائنا
من عرض هذا الرأي على الفاتيكان ، وبلغنا أنه قُبِل وسيظهر له أثره ، ولكن خاب
الأمل .
- 5 -
عدوان السياسة الاستعمارية على الإسلام
قال الكاتب : إنني نسبت إلى رجال السياسة الأوربية ( صفات مستقبحة ) ،
وسألني ماذا أقول ( لمن يصف رجالات الفتوح الإسلامية العظام كخالد بن الوليد ،
وعمرو بن العاص وغيرهم ) وصفي لرجال الاستعمار المحدثين ؟
وأجيبه عن هذا السؤال : إنه لا يستطيع مؤرخ صادق منصف أن يقول الحق
في رجالات الإسلام إلا ويكون أكبر حجة لنا ، فإن قال الباطل وافترى فإننا نرد
عليه بأقوال كتاب أحرار الإفرنج من المؤرخين المنصفين كغوستاف لوبون الفرنسي
في كتابه ( حضارة العرب ) وغيره وحسبنا قوله ( ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا
أرحم من العرب ) ، وكذا الأستاذ سيديو الفرنسي في كتابه خلاصة تاريخ العرب .
ومثلهما الأستاذ المؤرخ الكبير جيون الإنكليزي فإنه أطنب في فضائل العرب
في فتوحهم وحضارتهم وإحيائهم للعلوم ، والدكتور ألفرد . ج . بتلر الإنكليزي
صاحب كتاب ( فتح العرب لمصر ) ؛ فإنه على تحمسه في نصرانيته وشدة
امتعاضه من حكاية انتصار الإسلام على النصرانية ، وفتح العرب به لبلادها قد
شهد بأن سبب هذا النجاح والفلاح للعرب هو إقامة العدل واتباع الحق ، وشهد
لعمرو بن العاص بالقدح المعلى في هذا حتى فضله في بعض المواضع على مثال
العدل المطلق في التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أن عمرًا لم يكن في
الذروة العليا من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم ، بل كان من محبي الدنيا والملك
فيهم .
وههنا نقول : إن ما كان من بعض فاتحي العرب من بعض الهفوات التي لا
يسلم منها البشر لم تكن بتعاليم الإسلام ، ولا من خطة الخلفاء ؛ وإنما كانت هفوات
شخصية ، وأما خطة المستعمرين فهي سلب أموال البلاد ، واستذلال العباد ، وإفساد
الأخلاق ، ومنع الحرية الدينية والاجتماعية والكتابة والخطابة ، وإطلاق حرية
الفسق والفجور وحدها ، وما عسى أن يوجد في بعض رجالهم في المستعمرات من
شجنة رحمة أو مسكة عفة ؛ فإنما هو شخصي ، ولا يجهل الكاتب ولا غيره ما
يجري في إفريقية الشمالية في هذه الأيام .
-6-
تأويله لعبارة تاريخية في هضم أوربة للنساء
ذكر الكاتب الحجاب الثالث على الإسلام في مقدمة الوحي ، وهو فساد
الحكومات والشعوب الإسلامية ، واستحواذ الجهل عليها ، وأنكر علينا قولنا : إن
سبب ذلك جهل هداية القرآن . وأشار إلى ما شرحناه في الكتاب من مقاصد القرآن
العشر في الإصلاح لأركان الدين الثلاث التي حرفها أهل الكتاب ، وبيان حقيقة النبوة
التي جهلوها ، وسائر أنواع الإصلاح السياسي والدولي والمالي والحربي والنسائي ،
والفرق بين عجائب المسيح ومحمد عليهما السلام ، وقال : ( إن البعض من أقواله لا
يثبت لنقد ) ولكنه اقتصر على نقد كلمة واحدة عرضية نقلناها من كتابنا ( نداء للجنس
اللطيف ) وهي أن مجمعًا مسيحيًّا وضع موضع الشك : هل للنساء نفوس بشرية أم
لا ؟ ورد عليه بأن هذا الشك إنما هو مشكل لغوي حاصله أن كلمة إنسان باللاتينية
( Homo ) تطلق على الرجل والمرأة معًا أم لا ؟
إنني أشكر له قوله : إن بعض كلامي لا يثبت على النقد ، فهو حق مجمل بين
أباطيل مفصلة ، لا ينكره إلا من يدعي لنفسه العصمة ؛ لأن بعض الشيء يصدق
بواحد منه ، وأي إنسان لا يمكن انتقاد بعض كلامه ولو مسألة واحدة ؟ ثم أحمد الله
أنه نظر في أصول كلامي في النساء الذي فضلت به تعاليم الإسلام على جميع ما
نقل عن الأنبياء والحكماء والساسة والأدباء في إنصاف النساء ، وإعطائهن حقوقهن
الدينية والزوجية والاجتماعية والسياسية والمالية ... إلخ ، فلم يجد فيه إلا كلمة
واحدة مما نقلناه من الشواهد التاريخية ، وهو هضم المجمع لحقوق النساء ، وإلا ما
سماه متناقضًا في مسألة أخرى وهو :
-7-
زعمه أن ما وصفت به الإسلام من الحرية والإخاء متناقض
قال : إنه لا حاجة به إلى تبيان ما في مقاصد الشيخ رضا من التناقض في
قوله : إن الإسلام هو دين الحرية والتآخي ، وأنه يضمن للناس أجمعين حقوقهم ،
وقوله بعد ذلك : إن الإصلاح الاجتماعي والسياسي لا يتم إلا بوحدة الأمة والجنس
والدين والتشريع ، والأخوة الروحية ، والمساواة في التبعة ، والجنسية السياسية ،
والقضاء واللغة ( قال ) ( أي بأن يصبح العالم كله مسلمًا عربيًّا ، فتصور ) !
أقول : من قرأ هذا البحث الطويل الذي أشار إليه المنتقد في كتاب ( الوحي
المحمدي ) وكان يعرف علم المنطق ، وما اشترط فيه لصحة التناقض بين
القضيتين من تحقق الوحدات الثمان ، لم ير فيه ما رآه كاتب المشرق ، الذي يجهل
أو يتجاهل المنطق ، وأكتفي في رد قوله بمثل الإشارة الوجيزة التي اكتفى هو بها ،
بدون أن أنقل شيئًا من نصوص الكتاب غير ما قاله هو فأقول :
قلت : إن الإسلام دين الحرية بمعنى أنه منع الإكراه على الدين بنص كتابه
العزيز ، حتى إن فقهاءنا صرحوا بأن إسلام المكره لا يصح ، ولا يعتد به ، ولا
تزال بعض دول النصرانية تُكْرِه الناس على دينها ، وتغتصب أموال أوقاف
المسلمين فتنفقها في سبيل تنصيرهم ، وأهل شمال أفريقية قد ملؤوا الدنيا صياحًا من
هذا الإكراه - في هذه السنين - المستمر إلى هذا اليوم .
وقلت : إن الإسلام دين التآخي بمعنى أنه يرشد الناس إليه ، لا أنه يُكْرِهُهم
عليه ، فإذا كان لا يُكْرِه الناس على الأصل ، فلا يعقل أن يُكْرِهَهم على الفرع . وقد
ثبت في القرآن ما يسمى بالأخوة القومية في تسميته الأنبياء عليهم السلام إخوة
لأقوامهم المشركين ، كما ثبت فيه ما هو أرقى منها ، وهو الأخوة الدينية ،
وهذا شيء طبيعي ؛ فإن الاتحاد في الاعتقاد الذي تناط به سعادة الدارين أقوى من
كل اتحاد ، فأخوته أكمل من كل أخوة .
وقلت : إنه الإسلام يعطي كل ذي حق حقه ، وأعني به الحق الذي قرره وأثبته
له في محيطه الخاص به ، لا ما يدعي كل أحد من الحق لنفسه ، فهو في القضاء
والشهادة يساوي بين الخاضعين لشريعته في أحكامها ، لا يميز بين مؤمن وكافر ،
ولا بر وفاجر ، ولا قوي وضعيف ، ولا ملك وسوقة ، ولا غني وفقير ، ولا قريب
وبعيد ، ولا محب وبغيض ، وفيه من وراء ذلك حقوق لأولي القربى والأرحام ،
وحقوق للأصدقاء والجيران ، وحقوق لأخوة الإسلام ، وحقوق للإنسانية العامة ، ولا
تعارض فيه ولا تناقض بين هذه الأنواع .
مثال ذلك أن الصدقة بالعامة في الإسلام مشروعة لكل هذه الأنواع ، فتجب
على المسلم لغير المسلم المضطر غير الحربي ، وتُسْتَحب للمحتاج غير المضطر
أيضًا ، وللمسلم منها نوع خاص وهو الذي عينه القرآن للأصناف الثمانية من
نصاب الزكاة ، وللأقربين نوع خاص كالنفقة الواجبة للمحتاجين من أصول الإنسان
وفروعه ، ولغيرهم كالإخوة والأخوات عند السعة ، وتقديمهم على الغرباء ، فهل
يعد هذا من التناقض ؟ ؟
وأما معنى قولنا : إن الإصلاح الإنساني الكامل لا يتم إلا بالوحدات الكثيرة ،
فهذه قضية معقولة في نفسها ، سواء قررها الإسلام أم لم يقررها ، ، حتى لو لم يكن
في العالم أمة عربية ولا شريعة إسلامية ؛ ولكن الثابت في الواقع أن هذا الكمال
الإنساني لم يبين إلا في الإسلام ، وصحة الإسلام لا تتوقف على اتفاق البشر عليه ،
فالبشر لا يتفقون على شيء ، والكمال هو الغاية في الدعوة فلا تناقض ! !
( للرد بقية موضوعها طعنه في إعجاز القرآن )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(34/227)
ربيع الآخر - 1353هـ
أغسطس - 1934م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية
في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي
( تابع لما قبله )
معجزة القرآن
أنقل هنا ما نشرته مجلة المشرق من الطعن في معجزة القرآن بحروفه ، ثم
أفنده بالبرهان ، وهذا لا يفعله أحد من رجال النصرانية لا الكاثوليك ، ولا غيرهم
لعلمهم بأنهم إذا نقلوا كلامنا إلى أتباعهم لا يقدرون على الرد عليه بما يقنع أتباعهم
فضلاً عن غيرهم .
قال في ص 957 ، 958 من سنة 1933 لمجلة المشرق ما نصه بغلطه
اللفظي والمعنوي .
( من المعلوم أن المسلمين يستشهدون بكتابهم على صدق نبوة محمد فهو
عندهم آية الآيات ، والأعجوبة الصريحة ، والدليل القائم بذاته على مدى الأيام
داعيًا إلى الهدى من غير شاهد يشهد بصحة نسبته إلى أصله ، كأن به توقيع الله
بالذات ، ويدعمون قولهم بما ينسبونه إلى مفاعيل القرآن من الحوادث العظمى التي
قلبت فئة عظيمة من البشر ظهرًا لبطن ، وبالاختصار فالقرآن عندهم كما يقول
السيد محمد رشيد رضا هو معجز للخلق بلفظه ، ونظمه وأسلوبه ، وعلومه وهدايته ،
وبذلك هو ( آية لا كالآيات ، ونور لا كالأنوار ) ( ص 59 ) .
ولكن ما هي قيمة تلك المعجزة وما هي حقيقة مفاعيلها ؟
قال الأب دي لانفرسان محرر مجلة ( في أرض الإسلام ) الإفرنسية :
( ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن الأدبية ، كما وأنه ليس من يشك
في قيمة التوراة اللغوية في الترجمة الإنكليزية أو في الترجمة الألمانية لمؤلفها لوتر
على أن تلك القيمة البشرية محضة ، وقد يتاح لكل إنسان مثقف أن يتحققها تحققًا
متفاوتًا مع تفاوت تضلعه من اللغة ، ومن آداب البلاد التي وضع فيه الكتاب ؛ ولكن
تلك القيمة الأدبية ليست مما يزيد أو ينقص في قيمة المتن الدينية
( إننا لا ننكر على القرآن القيمة الدينية ، ونحن على بينة من مفعوله في
إثارة عواطف السجود والصلاة والتسليم لإرادة الله ، وهناك جمهور المتصوفين
الصادقين من استقوا من مناهل القرآن على مدى الزمان مناهل المودة الصادقة لله
عز وجل .
( ولكن محور كلامنا لا يدور على تأثير القرآن في النفوس ، بل على
السؤال هل القرآن بذاته دليل ؟ هل هو بذاته آية الآيات ومعجزة المعجزات كما
يسميه السيد محمد رضا ( ص 59 ) وقبله الكثيرون من كبار أئمة المسلمين ؟ هل
القرآن هو كلام الوحي ، لا بمعنى الوحي الشعري أو الفني المعروف عند أهل الفن
والأدب بالوحي النفسي ( كما ذكره المؤلف ص 29 ) ولكن بالمعنى الكامل المألوف
عند رجال الدين أعني به كلام الله الحي ؟
( بعيد عنا القول أن كتابًا موحى به من الله وحيًا بينًا لا يمكن أن ينم عن
أصله الإلهي من غير أدلة خارجه عنه ، وإنه من المستحيل أن يشهد الكتاب بذاته
لصاحبه فتثبت فيه علامة الله وتوقيعه ؛ ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في أن
تتحقق تلك العلامة من غير ما أن نخشى الضلال ، ولا نخاف أن نكون غلطنا في
تحقيقنا ، وما المشكل إلا مشكل الدليل الباطني ، وهو شهير عند أهل التفسير ؛ فإن
قيمة الدليل الباطني على صحة الوحي لم تقع قط في الجدال ؛ ولكن الجدال إنما هو
في تطبيق العلامة والدليل الباطني تطبيقًا لا يترك مجالاً للريب ؛ ولذلك فقد أجمع
المفسرون على القول : إن الدليل الخارجي هو أشد تأثيرًا من الباطني ؛ لأنه أبعد منه
عن خطر الغلط ، وآمن على سلامة التأكيد )
( ففي الأمر الواقع ليس للدليل الباطني قيمة إلا القيمة السلبية ، أي : أنه ينفي
كون مؤلف من المؤلفات يمكن أن يكون قد خرج من عقل بشرى ) اهـ بحروفه .
( المنار ) : في هذه العبارة شبهات نشير إلى دحضها بالإجمال .
***
الشهبة الأولى
في الموازنة بين القرآن والتوراة والإنجيل في البلاغة
نقل عن أحد آبائهم أنه ( ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن اللغوية ) ؛
ولكنه زعم أنه يشاركه في ذلك ترجمتا التوراة الإنكليزية والألمانية . والجواب عنها
من وجهين :
( أحدهما ) أن القرآن معجز للبشر بعبارته اللغوية ، عجز عن الإتيان بسورة
من مثله فحول بلغاء العرب الذين اشتهروا بالفصاحة والبلاغة ، ولم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يعد من طبقتهم فيها ، وقد تحداهم الله بأن يأتوا
بسورة مثله مصرحًا بأنهم لن يفعلوا ، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه ، فلو قدروا
لفعلوا ، واستمر هذا الإعجاز إلى يومنا هذا ، ولم يقل أحد من الإنكليز ، ولا من
الألمان : إن ترجمة التوراة معجزة للبشر لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها فظهر الفرق
كفلق الصبح أو أشد نورًا .
( الوجه الثاني ) لماذا لا يوازنون بين القرآن الذي جاء به محمد صلى الله
عليه وسلم ، والتوارة التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله ، وهي أصل
دينهم فأين هي ؟ وأين الإنجيل الذي جاء به عيسى المسيح عليه السلام ، ويذكرون
في كتب العهد الجديد أنه أمر تلاميذه أن يكرزوا به في الخليقة كلها ؟ ولماذا لا
يوازنون بين قيمته الأدبية وقيمة القرآن ؟ حسب القرآن أنه هو الذي جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين ، فيعرف به أصل دينه معرفة قطعية ؛ ولكن ما جاء به
أخواه موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام غير موجود بنصه الحرفي ، وهذه
الترجمات الموجودة لا يمكن إثبات أخذها عن أصلها لفقده من العالم ، وهي مختلفة
متعارضة متناقضة ، فكيف يؤثق بأنها مطابقة لأصلها لو كان موجودًا ؟
* * *
الشبهة الثانية
في دلالة هداية القرآن الدينية على كونه من الله
اعترف أيضًا بأنهم لا ينكرون هداية القرآن الدينية من التسليم لإرادة الله
تعالى والعبادة الصادقة له ؛ ولكنهم ينكرون أن يكون تأثيره هذا دليلاً على أنه من
عند الله تعالى ، وآية على صحة محمد صلى الله عليه وسلم ، والجواب عنها من
ثلاثة أوجه : وجهين عقليين ، والثالث نقلي مسيحي
( الأول ) إننا لم نحصر البرهان على كون القرآن وحيًا من الله تعالى في
تأثير هدايته للبشر ، ولا في إعجاز لغته بل أوردنا في كتاب الوحي المحمدي ، ثم
في غيره من تفسيرنا براهين أخرى عقلية وعلمية على ذلك حسبه منها اتفاق علماء
الإفرنج في هذا العصر على أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بكتاب في الذروة
العليا من البلاغة والفصاحة اللغوية بعد دخوله في سن الأربعين إذا لم يكن قد مارس
هذا النوع من الكلام ، أو تمرن في سن الصبا والشباب ، وأنه ليس في استطاعة
أحد من البشر أن يأتي بكتاب ممتاز في العلوم الدينية أو الأدبية أو التشريع المدني
والسياسي بعد بلوغ سن الأربعين إذا كان لم يمارس هذه العلوم بالتلقي والبحث
والعمل قبل ذلك ، وقد ثبت بالتواتر أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نشأ أميًّا بين قوم
أميين لم يزاول شيئًا من هذا ولا مما قبله ، وقد احتج عليهم بهذا كما أمره الله بقوله :
{ قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ } ( يونس : 16 ) وإذا كان هذا الكتاب الذي يعترف اليوم أعدى أعدائه ،
وأشد خصومه جدلاً ومراءً بقيمته اللغوية والأدبية والدينية وتأثيره الحسن في العالم
محالاً أن يكون من تأليف محمد بهذا البرهان العلمي ، فهل يمكن أن يكون إلا بوحي
من الله تعالى له ؟ وهل يوجد في كتب الوحي التي يؤمنون بها ما يساويه في هذه
الحجة ؟
( الوجه الثاني ) إن ما كان للقرآن من التأثير في هداية الملايين من البشر
إلى معرفة الله تعالى ، وعبادته الصادقة ، وترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام
والأوثان والأشجار والكواكب والحيوان والإنسان ( وابن الإنسان ) من أكبر البراهين
على أنه من وحي الله وكلامه ، وهل بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه إلا لأجل هذا ؟
وهل وجد كتاب من كتبه كان له أكبر من هذا التأثير أو مثله في هذه الهدية ؟ قد
بسطنا الجواب السلبي عن هذا الاستفهام في كتاب الوحي المحمدي .
إذا كان الماديون المعطلون أو المنكرون للوحي والنبوة من أساسها ينكرون
هذه الدلالة على الوحي ؛ لأنها فرع الإيمان بالأصل وهو وجود الله تعالى ورسالة
الرسل ، فكيف ينكرها من يدعون الإيمان بهما ؟ هذا ما تعجب منه موسيو مونتيه
أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف إذ قال : إنه لا يعقل أن يوجد أحد يؤمن بنبوة
أنبياء بني إسرائيل ولا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وبيانه كما بسطناه في كتاب خلاصة السيرة المحمدية وكتاب الوحي أنه إذا
جاءنا رجل بكتاب في الطب والعلاج ، ورأينا جميع المرضى الذين عملوا به برئوا
من أمراضهم ، ألا يكون هذا أقوى دليل على صدقه وصحة ما فيه من العلم ؟ بلى
وإن هذا الكتاب لا يحتاج إلى من يشهد له بأنه كتاب طب مفيد ؛ لأن الشهادة الفعلية
القطعية أصدق من الشهادات القولية وحدها ، ويمكن أن يعرفها كل أحد ؛ ولهذا كان
السبب الأكبر لإسلام أكثر الأعاجم في الصدر الأول ما شاهدوه بأعينهم وعرفوه
باختبارهم من سوء حالة العرب المشركين الجاهلين قبله ، وانقلابهم بهدايته وسنة
النبي الأمي الذي جاء به أئمة يهدون بالحق ، وبه يعدلون ؛ فتحول كثير من اليهود
والروم وأكثر النصارى من السوريين والكلدان والآشوريين والأرمن والقبط
والبربر عن نصرانتيهم إلى الإسلام ، وكذا المجوس والهنود الذين كانوا قرناء الروم
في حضارتهم وفلسفتهم .
أما العرب فكان سبب إيمانهم إعجازه اللغوي والعلمي وتأثيره وسلطان
آياته على العقول والقلوب ، والاقتناع بأنها حق وخير لهم ، مع حالة من جاءهم
به ؛ إذ كان إلى سن الأربعين غير معروف ببلاغة ولا علم ، وغير ممتاز على أهل
وطنه وبيئته إلا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق .
إن معترض مجلة المشرق يسمي هذا وذاك من الأدلة الباطنية التي ليس لها
إلا القيمة السلبية ، أي : أنه ينفي كون هذا الكتاب قد خرج من عقل بشري ، وقد
غفل عن كون المؤمن بالله وبوحيه يضطر أن يؤمن بما كان كذلك أنه من الله تعالى ؛
إذ لا موجود يقدر عليه غيره فقامت عليه الحجة .
( للرد بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(34/311
جمادى الآخرة - 1353هـ
أكتوبر - 1934م​
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
كتاب الوحي المحمدي
دعوتي إلى انتقاده ، وذات بيني وبين صديقي الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس

تعودت من سن الشباب وعهد طلب العلم أن أسأل خاصة أصدقائي عما
ينتقدون مني ؛ لأستعين به على تربية نفسي وأن أنتقدهم كذلك بحرية وإخلاص ، ثم
جريت على هذه العادة في مجلة المنار ، فأنا أقترح على قرائها في كل عام أن يكتبوا
إليّ ما ينتقدون فيها ، وأذكر في أثناء العام ، أو في آخره ما يرد إليّ من ذلك وأبين
رأيي فيه .
ولما جمعت بحثي المطول في ( الوحي المحمدي ) في كتاب مستقل ، وختمته
بدعوة شعوب الحضارة العصرية إلى الإسلام ، سألت خواص العلماء من أصدقائي
وأذكياء تلاميذي عن رأيهم فيه ، وما ينتقدونه منه ؛ لاعتقادي أنه لا بد أن يعاد
طبعه فأكون على بصيرة فيما ينبغي له من تنقيح أو إيضاح أو زيادة أو نقصان ،
وأول من سألتهم ذلك بالمكاتبة جلالة أمير المؤمنين الإمام يحيى حميد الدين صاحب
اليمن فقرَّظه بما نشرته في أول التقاريظ ولم ينتقد شيئًا منه ، وأول من سألتهم ذلك
بالمشافهة أكبر علماء مصر العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخ الأزهر والمعاهد الدينية بالأمس ، ثم العلامة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المجيد
سليم مفتي الديار المصرية ، فأما الأول فلم ينتقد شيئًا من مسائله ، بل سألته : أترى
بحث الآيات وخوارق العادات طويلاً يحسن اختصاره ؟ قال : كله ضروري لا
يُحْذَف منه شيء . وبيَّن رأيه في جملته بكتابه الوجيز البليغ الذي كتبه إليّ عقب
مطالعة الكتاب ، ونشرته فيما اخترته من التقاريظ للطبعة الثانية ، وأما الثاني فكان
بيني وبينه محاورة طويلة في مسألة وجوب تعلم اللغة العربية على جميع المسلمين
ووجوب تدبر القرآن ؛ فإنه أنكر إطلاقي الكلام في هذا الموضوع بما يُفْهَم منه جعله
ذلك واجبًا عينيًّا ، ووافقه فيه صديقنا العلامة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني ،
وقد اقتنعا بعد طول البحث بأن أقل الواجب وجوبًا عينيًّا على أفراد الأعاجم هو ما
يتلى في الصلاة ، وأن ما فوق ذلك من العلم بالقرآن ولغته ، فهو من فروض الكفاية
التي يجب على أولي الأمر نشرها والسعي لتعميمها ، وكذا من قدر عليه من الأفراد
والجمعيات .
وكان صديقي العلامة الأستاذ الشيخ عبد الله بن علي بن اليابس ممن أهديتهم
الكتاب وسألتهم إبداء رأيهم لي فيه بعد مطالعته ، وكنت أحرص على الوقوف على
رأيه ؛ لأنه تلقى العلم أولاً في نجد وحذق طريقتهم السلفية المأثورة عن مشايخهم في
اتباع الآثار ، ثم عرف طريقة علماء مصر في التدريس والبحث والاستدلال ،
وألف أسلوب المنار ونهجه في تأييد السلف تجاه الماديين ، ودعاة النصرانية
والمتكلمين والمبتدعين ، فصار أعرف بالحاجة إلى هذا من علماء بلاده المقيمين
فيها ، وأرى من المفيد له أن يتمرن على الانتقاد ، ويتعود سماع الرد الحر عليه مع
حسن النية من الجانبين ، وقد قصدت هذا ، فقرأ الكتاب بقصد البحث فيه عما يسهل
انتقاده ، ثم جاءني وذكر لي ما أحصاه منه ، فأجبته عنه أجوبة مختصرة لم يقتنع
بها ، قلت له مرغبًا في الكتابة : لعلك لو كتبت هذه المسائل ، وعُنيت بإقامة الدليل
عليها يتجلى لك الصواب ، والتمييز بين الغث والسمين ؛ لأن الاستدلال بالكتابة
يخرج الكاتب من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل ، فكتب فأطال كأنه يناظر خصمًا
ليقنعه أو يفند مذهبه .
جاءني بما كتب فلم أملك من الفراغ ما أقرؤه ، وأبين له رأيي فيه ، وهو كل
ما كنت أريده ، ورأيته يبغي نشره ، فألقيته إلى المطبعة ، ولم أقرأه ، فجمع لينشر
في باب الانتقاد على المنار المفتوح على الدوام ، وفهمت من رغبته في نشره أنه
واسع الحرية لا يسوءه أن يرد عليه ويدان كما يدين ، وأنا أظن أنني من أوسع أهل
هذا العصر صدرًا لمثل هذا ؛ لأنني ألفته من أول النشأة ورسخ معي في مصر ،
وأهلها أوسع أهل الشرق حرية .
ثم إنني قرأت ما كتبه مجموعًا بحروف المطبعة عندما جاء وقت نشره بحسب
الترتيب الذي جريت عليه ، ورأيت أنني مضطر للرد على كل ما قاله من المسائل
وأدلتها ، فندمت أن وعدت بنشره ، كارهًا أن يظهر في المنار هذا الخلاف بيني
وبين صديق كريم ، وأخ وديد من قوم أحبهم ويحبونني ، وقد علمت منه أنه مثلي
يكره أن نظهر بمظهر الخلاف ، وكان مقتضاه أن يختصر في بيان المسائل التي
انتقدها ، وفي مطالبتي بالدليل عليها ، وإذًا لذكرتها مع دليلي عليها بالإيجاز كما
فعلت في كل انتقاد ؛ ولكنه أطال وأكثر السؤال ، فصار تطويل الرد حتمًا لا مناص
منه فكان .
وقد ساءني أن رأيت الرد ساءه ، ونزغ الشيطان بيني وبينه ، وكان ذنبي أن
دعوته إلى النقد ونشرته له ، وكان ذنبه أن أسرف فيه فخرج به عن المطلوب وهو
التنبيه لما يحتاج إلى تصحيح أو تنقيح ، إلى التفنيد ومناظرة الخصوم ، ونحمد الله
أن كنا ببركة الإخلاص وحسن النية فيما أخطأنا فيه ممن قال الله تعالى فيهم : { إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } ( الأعراف :
201 ) .
زارني فبثني الشكوى من ثقل وطأة الرد ، وحمله إياه على تزوير مقال طويل
في الرد عليه ، فتفكيره بأن هذا لا يليق بمثلنا في صداقتنا وحسن نيتنا ، فترجيحه
لاطلاعي على رأيه الأخير فيه ، وتفويضه إلى أمر تلافيه ، فشكرت له ذلك وقبلته
فأقول :
إن بعض انتقاد الأستاذ كان من سوء الفهم لا سوء القصد ، أو عن اختلاف
في الاجتهاد والرأي ، وبعضه كان من ناحية البيان والتعبير عنه ، وكل منا في هذا
سواء .
فأما اعتراضه على مسألة الرق والسبي فقد أورده على عبارة الطبعة الأولى
من كتاب الوحي وكانت مختصرة مجملة قابلة للاعتراض ؛ لأنها غير مؤدية للمراد
وكان ينبغي أن يطلع على عبارة الطبعة الثانية إذ كانت صدرت قبل أن يكتب ؛
ولكنه قال : إنه لم يكن قد اطلع عليها . وهو صادق .
وكذلك مسألة كلام الله قد بسطتها في الطبعة الثانية بسطًا لا شبهة عليه عنده
كما قال ، على أنني كنت بسطتها في مواضع من التفسير بما هو أوسع مما في
الطبعة الثانية أيضًا ؛ ولكنه لم يره أو لم يتذكره .
وأما مسألة القتال وآية الأمر به مع النهي عن الاعتداء ، وكون غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم كلها كانت دفاعًا ، فقد كان أكبر أسباب الخلاف بيننا في أصلها
دون بعض فروعها اختلاف فهم المراد من الدفاع والاعتداء ، وما كانت عليه الحال
في عهد ظهور الإسلام ، وفي هذا العصر أيضًا ؛ فإنني رأيت الكثيرين من العلماء
- دع العامة - يفهمون أن الاعتداء أو الابتداء بالحرب يعتبر بالهجوم في كل واقعة
أو معركة أو أخذ غنيمة ، ومن ثم يعدون بعض الغزوات والسرايا في صدر الإسلام
دفاعًا ، وبعضها اعتداءً أو هجومًا ، وهذا خطأ مخالف لعرف العرب وسائر الأمم
وللواقع ، والحق أن المعتدية من الأمتين أو الدولتين هي المبتدئة بالعدوان المنشئة
لحالة الحرب ، والمدافعة هي المقابلة لها ، وإن كانت في أثناء حالة الحرب تغنم
وتهاجم ما استطاعت ، ومن المعلوم بالقطع أن قريشًا وسائر قبائل العرب قد عادوا
النبي صلى الله عليه وسلم واعتدوا عليه وعلى من آمن معه منذ أعلن دعوتهم إلى
الإسلام ، ومن المعلوم أيضًا أن حالة الحرب بين فريقين لا تزول إلا بمعاهدة ، وما
عقدت المعاهدة بين المؤمنين والمشركين إلا في الحديبية أو آخر سنة ست للهجرة ،
ولم يلبث المشركون أن نقضوها فعادت حالة الحرب فأباحت للنبي صلى الله عليه
وسلم فتح مكة سنة ثمان ، وما تلاها من غزوة حنين و الطائف ، ونزل في ذلك ما
نزل من الآيات في أول سورة التوبة التي منها ما يسمونه آية السيف ، ومن حججها
قوله تعالى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ } ( التوبة : 13 ) ولم يحط الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس فهمًا بمرادي
هذا إلا بالمشافهة الأخيرة ، فزال الخلاف في الأصل ، ولم يبق حاجة إلى البحث
في فروعه والتعبير عنه .
وأما آية { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا } ( البقرة :
190 ) فقد بينا في تفسيرها من جزء التفسير الثاني أنها وما بعدها نزلت في القتال
في الشهر الحرام ، وسببها معروف فصلناه هنالك .
وأما مسألة اشتراط المرأة في عقد نكاحها حق عصمتها ؛ أي : تطليق نفسها فهو
لا يزال يرى أنه لا يصح ، وهو يخالفنا ويخالف من سبقنا إلى تقرير أن الأصل في
العقود والشروط الصحة فيما لم يخالف حكم الله ؛ عملاً بإطلاق قوله تعالى : { أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ } ( المائدة : 1 ) وأقواهم حجة وبيانًا فيه شيخا الإسلام ابن تيمية وابن
القيم ، ويقول : إنه خلاف في الاجتهاد : له اجتهاده وإن لنا اجتهادهم واجتهادنا .
وأما مطالبته إيانا بحديث ، أو بخبر صحيح على تعيين يوم مولد النبي صلى
الله عليه وسلم ، فيقول : إنه يعني به الخبر التاريخي ، لا الخبر المرفوع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو أعلم بمراده سواء وافق ما فهمناه من عبارته أو خالفه .
وجملة القول أننا قد تعارفنا بعد تناكر عارض ضعيف لم يلبث أن زال ولله
الحمد ، ولولا حرصي على دوام صداقته ومودته وإعلام من قرأ نقده ، وردي عليه
أنه لم يحدث بيننا أقل هجر ولا تقاطع ، لما كتبت هذا .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(34/372)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية
في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي
( تابع لما قبله في ج 4 )

( الوجه الثالث النقلي المسيحي ) أن الإنجيليين نقلوا عن المسيح عليه السلام
أنه أنبأ بظهور أنبياء كذبة من بعده ، ووضع قاعدة كلية للتمييز بين الصادقين
والكذبة ، وهي قوله : من ثمارهم تعرفونهم .
فليخبرنا كاتب مجلة المشرق وآباؤها عن نبي له من ثمار الخير والبر التي
اعترفوا بها عرضًا ، وهو قليل من كثير ، ونقطة من بحر كبير من ثمار محمد
صلى الله عليه وسلم التي اهتدى بها الملايين من البشر .
ويؤيد هذه القاعدة كثير من الدلائل الخارجية على نبوته صلى الله عليه وسلم ،
منها شهادات كتب العهدين العتيق والجديد له بما فصلناه في تفسير المنار ،
وبسطه غيرنا بتفصيل أوسع كالشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق ،
ومنها شهادة من آمن به من علماء اليهود والنصارى ، وغير ذلك مما لا محل لإيراد
الشواهد عليه هنا .
بعد هذا نقول لهم : إنه ليس لكم أدلة خارجية على كون هذه الرسائل التي
تسمونها اليوم بالأناجيل كتبت بوحي ولا إلهام ؛ وإنما رأينا في كتبكم أنكم تستدلون
على صدقها بدليل داخلي لا يدل عليه ، وهو أنها لو لم تكن صادقة لكان كاتبوها من
الكذبة الأشرار ؛ وهذا لا يعقل ، وخصومكم لا يسلمون هذا لكم ؛ إذ يمكن أن يقال
أيضًا : إنه يجوز أن يكونوا غير متعمدين للكذب ولا متحرين للصدق ، ويجوز أن
يكون قد دس حزب قسطنطين وغيره شيئًا في كتبهم ؛ إذ ليس عندكم نقل متواتر
بالأسانيد المتصلة إليهم كما سيأتي ، على أنه لو صح هذا الدليل لكنا أولى به منكم ،
وإن كنا لا نحتاج إليه مثلكم ؛ لأن عندنا ما هو أصح منه وأقوى .
***
الشبهة الثالثة
في الشهادة الخارجية على وحي القرآن
نحن لم نقتصر في كتاب الوحي المحمدي على الأدلة الباطنية والشهادات
الداخلية على كون القرآن كلام الله تعالى كما زعم معترض مجلة المشرق ، بل
أوردنا كثيرًا من الشهادات الخارجية ، والأدلة العقلية والعلمية في الطبعة الأولى ،
ولما رأيت مثل هذه الشبهات الكاثوليكية الجزوتية زدتها بيانًا في الطبعة الثانية
أكثرها في فاتحتها ، وفي الفصل الأول الذي زدته فيها ، ومنها أنني أوردت على
النصارى ما نقلوه عن المسيح عليه السلام من الشهادة لنفسه ، وشهادة غيره له ، فقد
نقل عنه يوحنا أنه قال : ( 5 : 31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا 32 الذي
يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق 33 أنتم أرسلتم إلى
يوحنا فشهد للحق ) ثم روى عنه ( 8 : 13 فقال له الفريسيون : أنت تشهد لنفسك
شهادتك ليست حقًّا 14 فأجاب يسوع وقال لهم : ( وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي
حق ) نقلت هذا في سياق شهادة الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله :
{ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } ( النساء : 166 ) .
ومن شهادة الله تعالى له ما أيده من المعجزات ، وأظهرها بعد القرآن وما فيه ،
منها أنباؤه عن المستقبل الذي يسمونه بالنبوات ، كاستيلاء أتباعه على ملك كسرى
وقيصر وهم في أشد أوقات الفقر والضعف كوقت غزوة الخندق ؛ إذ تألبت عليهم
قبائل المشركين مع اليهود ، وهجموا عليهم في مدينتهم يريدون استئصالها فأيد الله
المؤمنين بريح وجنود من الملائكة لم يروها ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وردهم
بغيظهم لم ينالوا خيرًا { وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ } ( الأحزاب : 25 ) كما هو
مفصل في أول سورة الأحزاب .
***
مطاعن النصارى على القرآن
قال كاتب مجلة المشرق بعد إيراد تلك الشبهات النحيفة السخيفة : ( هذا وإذا
كان الكلام على كتاب فيه ما فيه من العيوب رغم ما يحويه من محاسن الجمال
وأساليب البيان ، فلا بد من القول : إن ذلك الكتاب لا يمكن أن يُنْسَب إلى الله )
وأيد هذه الدعوى بما نقله عن أشهر كتاب عندهم في الطعن على القرآن ، ولخص
ذلك بما نذكره ونفنده ونبين بطلانه هنا بالإيجاز ، وقد سبق الرد عليه بالتفصيل في
كتابنا ( شبهات النصارى وحجج الإسلام ) وسنعيده في الجزء الثاني من كتاب
الوحي المحمدي كما وعدنا في تصدير الطبعة الثانية للجزء الأول فنقول :
رد زعمهم ضياع شيء من القرآن
( الطعن الأول ) زعم ذلك الطاعن أن القرآن قد ضاع منه شيء ، فلم يُكْتَب
كله ، وأن الذي ضاع ؛ منه ما نسيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه ما نسيه
الصحابة رضوان الله عليهم ، ومنه ما لم يُحْفَظ ، قال : ( وكثير من آياته لم يكن لها
قيد إلا في ذاكرة الصحابة ؛ فضاع منها الكثير )
وجوابنا عن هذا أنه دعوى مفتراة ليس عليها أدنى دليل ، فمن المعلوم
بالتواتر أن كل ما كان ينزل من القرآن كان يكتب ويحفظه الكثيرون من الصحابة ،
يعبدون الله تعالى به في الصلاة وغيرها ، وكانت ملكة الحفظ في العرب أقوى منها
في غيرهم لاعتمادهم عليها في حفظ أشعارهم وأنسابهم ووقائعهم .
من العجيب أن يفتري النصارى على القرآن هذه الفرية ، وهو الكتاب الذي
حفظه الألوف من العرب في عصر نزوله وكتبوه متفرقًا ، ثم مجموعًا ، وما زال
يحفظه مئات الألوف في كل عصر ، وهم أهل دين لم يكتبوا من إنجيل مسيحهم
شيئًا من لفظه بلغته ، وهذه الرسائل الأربع التي يسمونها في الزمن الأخير
بالأناجيل لم تكن معروفة لمن يسمونهم رسله في العصر الأول ؛ إذ لم يذكرها أحد
منهم في رسائلهم ، وهذا رابعهم يوحنا يقول في آخر إنجيله : ( 21 : 24 هذا هو
التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق 25 وأشياء أخرى كثيرة
صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة
آمين ! ! ! ) فلماذا لم يكتب هو ولا أحد من تلاميذه وأتباعه عُشْر معشارها ؟
كذلك ليس عندهم أصل مكتوب من سائر كتب العهدين في زمن أصحابها
بلغاتهم ، ولا يدعون هم ولا اليهود أنهم حفظوا كتابًا منها بنصه وحروفه التي جاء
بها موسى ولا غيره من أنبيائهم كما فعل المسلمون .
رد زعمهم وجود المناقضات فيه
( الطعن الثاني ) ما سماه المناقضات وضعف البيان في المتشابهات المحتاجة
إلى التأويل ، وفي الناسخ والمنسوخ ، فأما الأول فشبهته في اختلاف المفسرين في
المتشابه وتأويله كما فصلته في تفسير سورة آل عمران ، ثم في سورة يونس أخيرًا ،
ولا تناقض فيه ولا ضعف بيان ؛ ولكن الأذهان تتفاوت بطبعها في فهم بعض
المسائل بطبيعة موضوعها ، ولا سيما الوحي وكلام الأنبياء في عالم الغيب .
وقد حققنا أن الراسخين في العلم يعرفون معاني المتشابهات ، وأما تأويلها
الذي لا يعلمه إلا الله ، فهو حقيقة صفات الله تعالى ، وما تؤول إليه أخبار الوعد
والوعيد في الآخرة ؛ لأنها من عالم الغيب ، ويرى القراء في الجزء الماضي ( ج
4 ) كلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة .
على أن أكثر كلام المسيح عليه السلام كان رموزًا لا يفهم تلاميذه المراد منها ،
وهم أولى الناس بفهمها حتى المسائل التي تدعي هذه الرسائل الأربع أنها أساس
العقيدة كهدم الهيكل وإقامته في ثلاثة أيام ، ومنه ما حكاه يوحنا في آخر رسالته من
أقواله عليه السلام لسمعان بطرس في محبته له ومستقبله ، وقوله للتلميذ الذي كان
يحبه : ( 21 : 22 إذا كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء ، فماذا لك ؟ ( قال يوحنا )
23 فذاع هذا القول بين الإخوة : إن ذلك التلميذ لا يموت ، ولكن لم يقل يسوع : إنه
لا يموت ... إلخ ) ، فالتلاميذ كلهم لم يفهموا هذه الكلمة بشهادة يوحنا الذي شهد لنفسه
أن شهادته حق ، ومن يوحنا هذا ؟ وهو غير معروف بالتحقيق ، والأرجح أنه من
تلاميذ بولص ( راجع دائرة المعارف الفرنسية ) فإن عادت المشرق إلى مثل هذا
البهتان أتيناها بالشواهد الكثيرة على تصريحهم بغموض كلام المسيح عليه السلام ،
وعدم فهمهم له ، فكيف يعيبون غيرهم بالكحل في أعينهم ، ولا يرون الجذع في
أعينهم ؟
وأما الناسخ والمنسوخ فقد بينا في تفسير الآية الوحيدة الصريحة فيه ، وهي
قوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ( البقرة :
106 ) أن المراد بالآيات فيها ما يؤيد الله به رسله بدليل قوله تعالى بعدها : { أَمْ
تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } ( البقرة : 108 ) وبيانه أنه
تعالى أيد موسى ببعض الآيات الكونية ونسخها بتأييد عيسى بمثلها في الأدلة على
صدقه ، ثم نسخ هذه وأيد محمدًا بما هو خير منها ، والمقصد من إرسالهم واحد
عليهم الصلاة والسلام ، وأما نسخ الأحكام ، فأنكر بعض علمائنا وجوده في القرآن ،
وقال بعضهم : فيه عشرون آية ، وبعضهم : بضع آيات ، وكل ما عدوه منها فهو
فصيح بليغ ، وفائدة الناسخ فيه ظاهرة ، كنسخ الإرث بالإسلام والهجرة عند قلة
المسلمين بإرث القرابة الزوجية بعد كثرتهم ، ونسخ القبلة إلى بيت المقدس لبيت
الله الحرام ، على أن قبلة بيت المقدس لم تكن بنص في القرآن .
مخالفة القرآن لكتب العهد العتيق هو الحق :
( الطعن الثالث ) مخالفة القرآن لكتب العهد القديم في بعض المسائل
التاريخية ؛ وجوابنا عن هذا أن تواريخ العهد القديم لا يقوم دليل على صدقها كما بيناه
بالتفصيل في تفسير المنار ، وأما القرآن فقد قامت البراهين الكثيرة على أنه كلام
الله تعالى ، فما بينهما من خلاف فقول القرآن فيه هو الفصل ، وحكمه فهو الحكم
بالحق والعدل ، كما قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } ( المائدة : 48 ) وقال : { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن
قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ
الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ( النحل : 63-
64 ) .
قصة يوسف في القرآن والعهد العتيق :
( الطعن الرابع ) زعمه أن يوسف بن يعقوب تبين قصته في القرآن أنه قد
تراخى للشهوة من ذاته ، وقصته في التوراة تبين براءته ، يعني أن هذا الفرق يدل
على أن التوراة وحي من الله دون القرآن ، والجواب عن هذا أن القرآن أثبت لنا أن
يوسف عليه السلام قد ابتلاه الله تعالى بتجارب محصه بها تمحيصًا ، فكان من عباده
المخلصين ( منها ) مراودة امرأة عزيز مصر له في سن شبابه ، فاستعصم ولم يقع
في الفتنة ، وآثر عليها السجن ، وأما قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن
رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ( يوسف : 24 ) ففيه وجهان : أحدهما ، وهو المتبادر من اللغة
أن كلاًّ منهما هم بمواثبة الآخر والبطش به كما شرحناه في الجزء الأول من المنار
أخيرًا ، والثاني أنهما هما بالفاحشة ، ولكن رؤيته برهان ربه صرف عنه السوء
والفحشاء ، وهذه منقبة عظيمة له ، وهي أدل على اعتصامه وعدم تراخيه للشهوة
مع قوة الداعية الطبيعية لها .
ولكن ما بال الطاعن يستدل بهذه الفضيلة السلبية للتوراة ، وينسى ما قذفت به
لوطًا عليه السلام من الزنا ببناته ، وداود عليه السلام من أقبح الزنا العمد بامرأة
أوريا الحثي ، ثم تعريضه للقتل ، مع نزاهة القرآن عن مثل هذا وما يقرب منه ؟ دع
ما يرمون به سليمان عليه السلام من الشرك والوثنية لأجل النساء .
( الطعن الرابع ) زعمه أن القرآن ذكر إسكندر ذي القرنين بما لا يوافق
أخبار التاريخ المحققة ، وجوابه أن ذا القرنين المذكور في القرآن ليس بإسكندر
المقدوني ، وإنما هو أحد أذواء اليمن ، ولو خالف أخبار التاريخ لكان ما خالفها فيه
هو الحق .
( الطعن الخامس ) اعتراضه على الإسراء إلى المسجد الأقصى بأن المراد
به هيكل سليمان قال : ( مع أن الهيكل في أيام محمد كان خرابًا ) والجواب عن ذلك
أن المراد بالمسجد الأقصى هذا المكان ، وسماه بهذا الاسم للإنباء بأنه سيكون مسجدًا
للمسلمين يقابل المسجد الحرام الذي كان هيكل أصنام أيضًا ( وقد كان ) والمسجد
محل السجود والصلاة فإن كان عامرًا أو خُرِّب فخرابه لا يسلبه اسم المسجد ، ولا
حرمته في شرعنا .
( الطعن السادس ) نسبة مريم والدة المسيح عليهما السلام إلى عمران
( وجوابه ) من وجهين أحدهما : أن ليس عندهم تاريخ قطعي لنسبها ، والثاني أنه
يصح جعله من باب نسبة المرء إلى العظيم أو الرئيس من أجداده قريبًا كان أو بعيدًا ،
كقولهم في المسيح : ( ابن داود ) وإطلاقهم لقب إسرائيل على ذريته ، وقول نبينا
صلى الله عليه وسلم : ( أنا ابن عبد المطلب ) ، وتسمية جميع الناس ملك العربية
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ( ابن سعود ) .
( الطعن السابع ) ما حكاه القرآن عن نداء قوم مريم لها { يَا أُخْتَ هَارُونَ } ( مريم : 28 ) وهذا نحو مما قبله في التجوز المشهور كقولهم : يا أخا الهيجاء .
للشجاع . وهارون عليه السلام كان رئيس الكهنة ، ومريم ألحقت بالكهنة في
انقطاعها لعبادة الله تعالى ، فقالوا لها : يا أخت هارون تهكمًا بها ، إذ اتهموها
بالفاحشة ، وقد برأها الله تعالى في كتابه العزيز من بهتانهم ، ومن كذب بعض
النصارى أيضًا بقولهم : إن ولدها عيسى من يوسف النجار . ومن كنودهم وبهتانهم
عليه هذه المطاعن المفتعلة ، وموعدنا بالرد التفصيلي قريب إن شاء الله .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(34/376
رمضان - 1353هـ
يناير - 1935م​
الكاتب : عبد الحميد الإمام
__________
كلمات في الوحي المحمدي

أنشر هنا بعض ما جاء من المكتوبات الخاصة لبعض قراء كتاب ( الوحي
المحمدي ) من طبقات أهل العلم والرأي في الأقطار المختلفة فيما كان له من التأثير
في أنفسهم .

كلمة عَجْلَى لرب السيف والقلم
العالم العلم سليمان باشا الباروني
حضرة العلامة الجليل ، المتفاني في إعلاء كلمة الله وإحياء سنة رسول الله ،
فخر محققي العصر ، الأستاذ السيد رشيد رضا دام موفقًا .
السلام عليكم من أخ لك في الله ، مولع بتتبع أخبارك ، ومطالعة آثارك ،
معجب بجهادك ، فيدفع شبه الملحدين ، وتأييد حجج المؤمنين ، هذا وقد تلقيت بيد
الاحترام هديتك الثمينة ( مؤلفك الوحي المحمدي ) فتتبعت - بشغف زائد - أبوابه ،
وتفصحته على سبيل الإجمال - الآن - فكان في نظري سيفًا بَتَّارًا لرقاب أعداء
الدين ، وحجة بالغة للمؤمنين ، فلله جهادك العظيم ، ولله قلمك الفياض .
أمدك الله بروح من عنايته ، ووفق رجال الإسلام إلى اقتنائه والعمل بما فيه ،
وسأكتب إليك غير هذا بعد أن أتفرغ لمطالعته مع تأمل إن شاء الله ، ودُم معززًا
تُرسًا للإسلام .
... ... ... ... ... ... بغداد في 24 صفر سنة 1353
... ... ... من أخيك المخلص سليمان الباورني
***
الكتيب الوجيز ، المغني عن الوسيط والبسيط
للأستاذ المستقل عبد الرحمن بك فهمي
أمين السر لتأسيس الوفد المصري من مصطافه في النمسة
سيدي الأستاذ الجليل ، السلام عليك ورحمة الله وبركاته ( وبعد ) فقد فرغت
من تلاوة مؤلفك الفذ ( الوحي المحمدي ) ولا أقول فيه أكثر من أنني لم أعثر مدة
حياتي على كتاب انشرح له صدري ، واطمأن له قلبي ، وارتاحت له كل مشاعري
بعد كتاب الله غير ( الوحي المحمدي ) فجزاكم الله خير الجزاء عن الإسلام
والمسلمين ، وإن هذا المؤلف الجليل القدر لجدير أن يقتنيه كل مسلم ويتلوه مثنى
وثلاث ورباع ، وهكذا حتى يستوعب كل ما فيه من درر وآيات بينات ، يرد بها
بقدر استطاعته أقوال الملحدين من أمته ، ويدفع به سيل المهاجمين من غيرهم .
متعك الله بالصحة العافية لتبقى ذخرًا للإسلام والمسلمين ، والسلام عليك
وعلى من تحب وتختار .
... ... ... ... ... ... ... ... فينا في 5 يوليو سنة 34
... ... ... ... ... ... ... المخلص عبد الرحمن فهمي
***
كلمة سعادة عالم التاريخ ومربي العلماء والأستاذين
أمين باشا سامي الشهير
حضرة صاحب الفضل والفضيلة العالم العلامة الأستاذ الشيخ رشيد منشئ
المنار ، ومصدر العلم والمفيض على العالم أسطع الأنوار .
اليوم بحمد الله أتممت مطالعة كتابك الجليل ( الوحي المحمدي ) فحيا الله منك
براعتك وإخلاصك ، فقد صورت فيه عواطفك الشريفة ، فأبدعت تصويرها حتى
زهاها الحسن ، فأهنئك بهذه المكانة السامية من الأدب والتوفيق إلى أقوم المراتب
العالية في تفسير آي الله الكريم ، وأشكر لك شكر المخلص الحميم ، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته .
... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي أمين سامي
محطة رشدي باشا برمل الإسكندرية في 6 أغسطس سنة 1934
***
تقريظ علامة الأكراد الشيخ عمر القره داغي
( المدرس بكردستان العراق في بلدة سليمانية )
( بسم الله الرحمن الرحيم )
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد
المؤيد رسالته ببراهين هادية لأولي الألباب ، وعلى آله وصحبه وتابعيهم إلى يوم
الحساب .
( وبعد ) فقد وقفت على كتاب الوحي المحمدي للعلامة الشهير ، والفهامة
النحرير ، السيد محمد رشيد رضا أطال الله عمره ، فوجدته حاويًا لحقائق قامعة
لغياهب شبه المتمردين والمبتدعين ، وفوائد ترشد المتحيرين ، وفلكًا مشحونًا بدرر
فرائد الشواهد النقلية الباهرة ، وفلكًَا مرصعًا بكل كوكب دري توقد بالنكت والدلائل
العقلية القاهرة ، وقد أتقن فيه براهين إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،
وما يتعلق بها واستقصاها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ولخص فيه
نكتًا قرآنية بحيث لم ينسج أحد على منوالها ، ولم تسمح قريحة بمثالها ، ويذعن بها
العالمون ، ولا يجحد بها إلا القوم الظالمون ، فشكرت الله تعالى على تزيين عصرنا
بوجود هذا الحبر الذي هو علامة الزمان ، ولا يختلف في كمال فضله اثنان ، لا
زال مستخرجًا من بحر علومه أمثال هذه الجواهر ، ومتلألأ من سماء فضائله هذه
النجوم الزواهر ، أدام الله نفعه للمسلمين ، ووفقه على نشر هذه الآثار المؤيدة للدين ،
والدافعة لظلمة أوهام المبطلين بجاه سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه أجمعين .
... ... ... ... ... ... ... ... ابن القره داغي عمر
***
تقريظ الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الحميد الإمام
بقرية ته نكي سدر التابعة للسليمانية
بعد تقديم مقامات الاحترام ، وتبليغ قصارى مدارج بالسلام ، إلى محضركم
الملفوف بالعلم المذاب ، والكمال المستطاب :
إن سعيك في سبيل توطيد أركان الدين المبين لمشكور ، وعملكم لتوثيق عرى
المودة بين طوائف المسلمين لمأجور ، وجهادكم للذب والدفاع عن حوزة الإسلام
لمبرور ، ولا يخفى لدى ذوي البصائر ما لأناملكم الشريفة من اليد الطولى على
آحاد المؤمنين ، ولخريطة خيالكم الوقادة من الرئاسة العظمى على الناس أجمعين .
فلله الحمد والمنة والشكر والنعمة والثناء ، حيث لا يترك أمر هذه الأمة اليتيمة
شتى ، ولا يجعل شأنها بينها متفرقة فوضى ، بل يبعث في كل عصر من يجمع لها
شملها ، ويلم شعثها ، من ينكر ما لكم على العالم الإسلامي من النعمة العظمى ،
والفضيلة الكبرى ، مع أن ما تقدمونه من الجهد والسهر خلال الليالي والأيام ، وما
تتجرعونه في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي
أحسن ، وهي الحنيفية البيضاء ، والبشرية السمحة الأحمدية الغراء ، من المرارات
التي لا يفي بها التقرير ، ولا يبلغها التحرير ؛ لأن الوجدانيات لا تنال بالتعبير
فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين آمين .
وإن مما هز العالم وفي الآفاق لمع ، وسر آدم وبينه أجمع ، إلا من في قلوبهم
أكنة ، وعلى أبصارهم غشاوة ، وأسدلوا على مخيلتهم الجهالة والغباوة ، تصنيف
لطيف نبع من مناهل أنامل حضرتكم الأستاذ ، وتفجر من ينبوع جمجمة ذلك
الفاضل الملاذ ، فانتشر في الآفاق صيته وصداه ، واشتهرت لدى الفضلاء والعقلاء
لطافة مبتغاه ، ولا غرو لأن موضوعه موضوع طالما طاف حوله الفحول ،
وتزاحموا عليه بالمعقول والمنقول ، الحق يقال ما أتوا بالمصفى المغربل ولا
بالمنقى المنخول ، وهو إثبات الوحي المحمدي ، المتوقف على إثبات الوحي المطلق
توقف الكل على الجزء المادي ، المستدعي لإثبات عالم الغيب الذي هو ركن بل
أساس للديانات كلها ، برد كيد الماديين على نحورهم بالأدلة والبراهين الواضحة
والسلطان والحجج اللائحة .
نعم إن الأمور مرهونة بأوقاتها ، وإن زماننا هذا لأحوج الأزمان إلى هذا
الكنز الثمين ، ألا يرى أن الحق منكوب بدعايات الزنادقة المارقين بدوام الخافقين
في المشرقين ، ولعمري إن من غاص بالفكر في مستجادات ذلك العباب ، وسرح
النظر في مكنونات ذلك الكتاب ، يستبين أن الديانة الإسلامية في الكفة الراجحة وأن
نبيه عليه السلام جاء بالحجة الواضحة ، وإنه لنبي عظيم مؤيد من الله القادر ، لم
ير له مثلاً ، إنسان عين الإنسان ، ولن يراه أبدًا ، فإني أرجو من حضرتكم أن
تسمحوا من ذلك الكتاب بنسخة أو نسختين كيلا لا تحرم بلادنا عن شذاه ورياه ،
يربحكم الله في الدارين به وبأمثاله التي هي من ثمار حياتكم النافعة ، وهذا الحقير
لا يتعاطى ما يعود عليكم بالغبن والخسران ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الإمام
((يتبع بمقال تالٍ))
__________​
(34/556
ربيع الأول - 1354هـ
يوليو - 1935م​
كتاب الوحي المحمدي
( تصدير الطبعة الثالثة )

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد والشكر ، إياه نعبد وإياه نستعين
أما بعد : فقد أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في موعد ذكرى مولد
النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربيع الأول سنة 1352 ؛ تيمنًا بظهور نوره
المُشرق ، الذي أضاء الكون كله ، وإنما أضاءه بزوغ شمس هذا الوحي الإلهي ،
ونزوله عليه ؛ فما أتى على صدوره بضعة أشهر إلا وكانت نسخه قد نفدت ،
فأعدت طبعه في تلك السنة منقحًا مزيدًا فيه قدر الثلث ونيفًا ، ولولا خوف الملل
على القارئين لزدته ضعفًا أو أضعافًا ؛ ولذلك وعدت بأن أجعل له ثانيًا ، وأصدرت
الطبعة الثانية في يوم عرفة الذي أنزل الله عليه في حجة الوداع : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا } ( المائدة : 3 ) تفاؤلاً
بتجديد هذا الكتاب لدعوته صلى الله عليه وسلم . فما جاء يوم عرفة الثاني
(سنة 1353 ) إلا وكانت نسخ الطبعة الثانية قد نفدت . وشرعت في الطبعة الثالثة ،
وتعمدت تأخير إتمامها كالتي قبلها ؛ لنشرها في موعد الأولى من هذه السنة
( 1354 ) .
وفي غضون السنة الماضية تمت ترجمة الكتاب باللغة الأوردية ، ونشرت في
الهند ، وهي مترجمة من الطبعة العربية الأولى . وتمت ترجمته باللغة الصينية فيها
أيضًا مرتين ، ويتولى طبع الأولى في قبودان مترجمها الأستاذ صاحب مجلة ضياء
الهلال ، وحمل الثانية مترجَمَةً الأستاذ بدر الدين الصيني من الهند إلى مصر ،
وعرضها عليَّ . وكان يريد إرسالها إلى بلد آخر في الصين لطبعها فأشرت عليه
بأن يزيد فيها كل ما زدته في الطبعة الثانية ؛ لأنها أجمع وأنفع ، ولعلها لا تطبع إلا
وقد نفدت نسخ الترجمة الأولى ، ولعله يعيد تنقيحها بمعارضتها على هذه الطبعة
الثالثة فإنها أصح وأكمل . ولم يبلغني أن أحدًا غير هؤلاء قد أتم ترجمته بلغة أخرى .
وزدت في هذه الطبعة قليلاً من الفوائد ، وإيضاحًا لبعض المسائل ، وجعلت
أكثرها في الحواشي ، كما ترى في الحاشية الثانية من ص157 ، والأولى من ص
158 ، والحاشية ( 2 ) من ص 181 ، وما جعلته في الصلب أشرت إليه غالبًا
كشرعية عتق الرقيق من غير المؤمنين ، وليس فيها شيء من المقاصد الأصلية
المقصودة بذاتها .
علمنا إذن أنه أتى على ظهور الكتاب سنتان كاملتان ، فأما انتشاره بالعربية
فهو فوق المعتاد في الكتب الدينية ، وقد قررت وزارة المعارف العمومية في هذه
السنة صرفه لطلبة دار العلوم العليا ، وهو يدرس في بعض المدارس الإسلامية في
دمشق و بيروت .
ويرجى نشره في السنة المدرسية الجديدة أيضًا بين طلاب الأزهر والمعاهد
الدينية بمصر ، وقد تولى رياستها شيخ الإسلام وخليفة الأستاذ الإمام ( الشيخ محمد
مصطفى المراغي ) الذي كان أول من قدر الكتاب قدره ، وقرأ نصفه في جلسة
واحدة ، وأتمه في جلسة أخرى ، ثم كتب في وصفه تلك الكلمة البليغة التي يراها
قراؤه في صدر التقاريظ ، وقد تنبأ أو بشَّر بأنه سيطبع في كل عام .
ترجمة الكتاب باللغات الإفرنجية :
ولكن قَصَّر المسلمون فيما يجب عليهم من ترجمته بسائر لغاتهم وبلغات
شعوب الحضارة التي دعوناها به إلى الإسلام ، وهي الإنكليزية والفرنسية والألمانية
وهو واجب كفائي صرح بتمنيه كثير من أهل العلم والغيرة ، وصرح بوجوبه
بعض مقرظي الكتاب ؛ فمنهم من تعسف وطالبني بهذه الترجمة أو بالسعي لها ،
ومنهم من أنصف وطالب به الأمة الإسلامية أو جمعياتها .
أما الأمة فلا تنهض بالأعمال العامة إلا بزعمائها أو جمعياتها ، وأما هذه
الجمعيات عندنا فلا تزال في سن الطفولة ، ولا يرجى من أمثالها عمل عظيم كهذا ،
فهي أفقر وأضعف همة من جمعيات المرتدين عن الإسلام جملته وتفصيله
كالبهائية ، والملاحدة المدعين للنبوة والمسيحية فيه ، كالقاديانية ، دع جمعيات
النصارى التعليمية والتنصيرية التي تملك مئات الملايين من الجنيهات ، وقد بثوا
تعاليمهم في جميع أقطار الأرض ، وهم يطمعون في تنصير المسلمين ، على حين
تتسلل شعوبهم من النصرانية سراعًا بسلطان ونظام كالشعب الجرماني ، أو لواذًا
بدون سلطان دولي ولا نظام كسائر الشعوب ، وهي تمهد السبيل لنسخ الإسلام لها ،
وحلوله محلها .
ولقد كان أرجى الجمعيات الإسلامية لهذا العمل في مصر ، جمعية الدفاع عن
الإسلام ، التي هدمت باسم أقوى معول من معاول الإسلام قبل أن يتم بناؤها ؛ وإنما
كان هذا الرجاء فيها منوطًا برئيسها الشيخ محمد مصطفى المراغي ، وما كان
السعي لهدمها إلا سعيًا لهدم اسمه ، وحرمان المسلمين من استعداده ، ولكن الله
نصره ، وخذل من ناهضه ، وجعل معول الهدم الذي كان بأيديهم سيفًا لنصر
الإسلام بيده ، فإذا بعصا موسى تلقف ما يأفك سحرة فرعون { فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُون } ( الأعراف : 118 ) ، { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( الحج : 40 ) .
فإن كان أهلاً للرجاء بأن يسعى لترجمة كتاب الوحي المحمدي ببعض لغات
العلم الغريبة تمهيدًا لتبليغ الدعوة الإسلامية للناطقين بها - وتلك القوة الرسمية تكيد
له - فأجدر به أن يكون أقدر على تحقيق ذلك بالفعل ، وتلك القوة الرسمية وما
وراءها من القوة الحقيقية طوع يده ، ولن تكون ترجمة هذا الكتاب في موضع الثقة
بها عند جميع الشعوب كما إذا كانت من قِبَل شيخ الإسلام وتحت إشرافه ، وكان
نشره وبث الدعوة به بإرشاده أو إجازته ، مع العلم بأن مؤلفه قلم من أقلامه ، وعلم
من أعلامه ، وأحمد الله - عز وجل - أن جدد لي وللأمة بعودته إلى مشيخة
الأزهر ذلك الأمل بالزعامة الإسلامية العاملة التي فقدناها بوفاة الأستاذ الإمام منذ
ثلاثين سنة .
إن الأمة لم تفقد بوفاة ذلك الإمام شيئًا من علم الإسلام ، وإنما فقدت زعيم
الإصلاح العارف بحاجة زمانه ، الذي نال الزعامة بسمو عقله ، واستقلال رأيه
وفهمه ، وعلو همته وشجاعته ، وإنصافه بإعطاء كل ذي حق حقه من العلم
الصحيح والإخلاص فيه ، وما كان يعوزه للنهوض بالإصلاح العام إلا الاستقلال
بالزعامة التي تمكّنه من العمل ؛ ولهذا كنا نسعى ، ولكل قدر أجل ، ولكل أجل
كتاب .
إذن لقد كان من حكمة الله أن ( كتاب الوحي المحمدي ) لم يترجمه بلغات
الإفرنج مَنْ ليسوا أهلًا لترجمته ، حتى لا أضطر إلى تخطئتهم ، فيكون ذلك محبطًا
لعملهم ، أو مضعفًا للثقة بترجماتهم ؛ وادخرها العليم الحكيم لمن هو أحق بها وأهلها .
بلوغ الدعوة لأحرار الإفرنج ، والمستشرقون منهم :
لن يكون بلوغ الدعوة صحيحًا مرجوًّا إلا بوصولها إلى الأحرار ، مستقلي
الفكر من هذه الشعوب بلغاتهم ، وأكثر أفراد المستشرقين الذين تعلموا العربية ليسوا
من هؤلاء الأحرار المستقلين المنصفين ؛ فإنهم ما درسوا العربية ، ولا مارسوا كتب
الإسلام ليعرفوا حقيقته ويعرفوا غيرهم بها ، بل ليبحثوا عن عورات يتلمسونها فيها
لينفروا أقوامهم عنه بتصويرها لهم بالصور المشوهة التي ينكرونها ، كما نرى فيما
اطلعنا عليه من كتبهم وفي معجمهم العلمي الذي سموه بدائرة المعارف الإسلامية ،
ومن خيبة الآمال بعلمهم ومصنفاتهم أن وجدت كتاب ( مفتاح كنوز السُّنة ) على
غير ما كنت ظننت ، وخلاف ما قلت في التعريف به ، فإنني لم أستفد منه أدنى
فائدة .
وأما المستقلون منهم - وهم الأقلون - فقد غلبتهم الأفكار المادية على عقولهم ،
فقضاياها عندهم مسلمات كأنها لا مجال للبحث فيها ، وقد قربنا مسافة الخلف بيننا
وبينهم بما أقمناه في هذا الكتاب من البينات العلمية القطعية ، على أن القرآن لا
يمكن أن يكون من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا من مدارك عقله الظاهر ،
ولا ما يسمونه العقل الباطن ؛ فإذا فرضوا أن للإنسان عقلاً باطنًا لا تعرف حقيقته
يدرك به من علم الغيب والشهادة ما هو خفي وخارق للعادة في السنن المعروفة
لكسب العلم من الحواس والفكر ، وعللوا به ما يسمونه قراءة الفكرة ومراسلة الأفكار ،
وإدراك المنوم بالاستهواء المغناطيسي - وقد بينا لهم أنه لا يكفي لتعليل الوحي
المحمدي - فأي بُعد بين هذا العقل الخفي المفروض في باطن الإنسان وبين وجود
عقل خفي مثله في خارجه ( وهو ما نسميه الملك كما نسمي الأول الروح ) يكون
الوحي الحقيقي باتصال أحدهما بالآخر كاتصال الكهربائية الإيجابية بالسلبية ، وتولد
النور من اتصالهما ، فإن ما زعموه من انقداح وحي القرآن من عقل محمد الباطن
وحده محال كما قررنا ، وهذا أقرب التعليلين ، والفرق بينهما قريب جدًّا ؛ فما ثَمَّ إلا
اختلاف الأسماء .
وفوق هذا وذاك قيام البراهين الكثيرة على وجود الله الخالق لكل شيء ، الذي
دون الإيمان به لا يمكن القطع بشيء من مسائل الكون وسننه ، فإنهم كلما أثبتوا
شيئًا عادوا فنفوه ، وكلما أبرموا أمرًا نقضوه .
لقد قرب ظهور الحق لأحرار هذه الشعوب ، وسنراهم بعد ترجمة هذا الكتاب
يدخلون - إن شاء الله - في دين الله أفواجًا ، وقد بطلت ثقتهم بكل ما عداه من
الأديان .
لعل كتاب الوحي المحمدي قد وصل إلى جميع هؤلاء المستشرقين الذين
يعرفون العربية ، فإنني أهديته إلى من عرفت عناوينهم ، وأرسله غيري إلى أناس
منهم ، ومن عاداتهم أن يبحثوا عن كل كتاب جديد له شأن ، وقد شكر لي بعضهم
هذه الهدية بكلمة لم يزد عليها ( كصاحب مفتاح كنوز السنة ، الدكتور فنسنك )
وانفرد العلامة الدكتور موريتس الألماني منهم بإبداء رأي فيه ، فأنشر هنا نص
كتاب الشكر الذي تفضل به ، وهو :
برلين 8 سبتمبر سنة 1933
جناب الشيخ العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم .
بعد التحية والاحترام : فتفضلتم بإرسال إليَّ نسخة كتابكم الجديد ( الوحي
المحمدي ) فالرجاء قبول جزيل الشكر على هذه الهدية النادرة القيمة ،
وبالخصوص على ما أظهرتم بها من عدم نسيان شخصي ، ولا حاجة للتأكيد لكم
أني اطلعت عليه بغاية الاهتمام ، ولا ريب عندي أنه يجد كمثله في عالم العلماء .
وفي أثناء هذا الاطلاع قد عثرت على جملة مسائل ونقط تستحق ملاحظات ، لكن
نظرًا لحجم هذا الجواب الذي لا يتسع أن أدخل في جميعها ، أقتصر بواحدة منها ،
أي في معنى كلمة نبيء الأصلي ( ص21 ) عند العبرانيين القدماء ، فكان ( نبيأ )
في أوائل عصرهم المتكلم بصوت عالٍ ، ثم الناطق في أمور أمته القضائية
والسياسية ، أي مثل ناصح ومستشار لإرشادها ، لكن شيئًا فشيئًا تتبعًا لتقدم الدين
الإسرائيلي تغير موقعه وصفته فصار واعظًا وناصحًا في الأمور الدينية ؛ لأنه كان
معتقدًا أن هذه الوظيفة صارت له ، بناء على أمر من الله بذلك ، وأنه المتكلم باسم
الله ، والدليل على ذلك أنه يستعمل في أول كلامه - أي نبوته - هذه الكلمات :
هكذا قال ياهُو ( وهو اسم إله بني إسرائيل وغيرهم من الأمم الشرقية المنتشرة
بين الحجاز وبين سوريا الشمالية ) ... إلخ .
وفي الختام أكرر لكم الشكر الواجب مع تمنياتي الصميمة .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... دكتور موريتس


يقول هنا العلامة الكبير : إن هذه الهدية نادرة القيمة ، وأنه اطلع على الكتاب
بغاية الاهتمام ، وأنه لا يرتاب في أنه يجد في عالم العلماء ما ينبغي لكتاب مثله ،
فهؤلاء العلماء قد بلغتهم دعوته ، وفهموا ما تحديتهم به من الآية الكبرى على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وما نزل عليه من وحي القرآن ، ولم يقدر أحد منهم
أن ينقضها ، أو يأتي بتعليل لهذه المعجزة الدالة على إتيان محمد - صلى الله عليه
وسلم - بهذا القرآن في أسلوبه ومعانيه ، وما فيها من العلوم العالية التي لخصتها
في المقاصد العشرة ولتأسيس أقوم دين وأقوى دولة وأمة في عشر سنين قَلَبا أعظم
دول الأرض وأديانه في ثلث قرن .
وما ذكره الدكتور من الملاحظة على بعض مدلول لفظ ( النبي ) عند اليهود
فهو منقول من قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوسط ، وقد ذكرت المعنى الذي أشار
إليه في كلامي على النبوة من الطبعة الثانية ( ص 25 ) وهو في ( 41 ) من هذه
الطبعة الثالثة .
ولا أزال أتمنى لو يتفضل عليّ بغير هذه الملاحظة ، وأخص بالذكر ما عساه
ينتقده من جوهر الموضوع ولبابه ، وإذن أرويه عنه بنص وأبلغه جوابي عنه .
تعادي الأمم والدول وحاجتها إلى الإسلام :
لا تزال دول أوربة وأمريكة وشعوبهما على ما وصفتهما به في مقدمة هذا
الكتاب من الشقاء والشقاق ، والرياء والنفاق ، وقد عقدوا في هاتين السنتين مؤتمرًا
بعد مؤتمر واتفاقًا بعد اتفاق ، ولا يزالون كحمار الرحى يدور ولا يبرح مكانه ،
ليس للحق ولا للصدق عندهم قيمة ، فقد ظلوا منذ عقدوا عهد ( فرسايل ) يجرون
فيه مع ألمانية على قاعدة البرنس بسمارك ( المعاهدات حجة القوي على الضعيف )
حتى إذا اضطروها إلى نقضها سرًّا ، كما نقضوها جهرا . وتجديد قوة حربية جوية
يرهبونها ، أذعنوا لمساواتها لهم في الحقوق والكرامة الدولية كرهًا ، وكانوا يمارون
فيها ويأبونها طوعًا ، بل صاروا يخافونها أن تسطو عليهم ، ويجددون المحالفات
الدفاعية التي أفضت إلى الحرب العامة السابقة ، حتى ذلوا لمحالفة الدولة الشيوعية
عدوتهم كلهم ، وأنَّى لهم الفرار من حكم كتاب الله في الأمر بالوفاء بالعهود والنهي
عن جعلها دخلاً وخداعًا لأجل أن تكون أمة هي أقوى من أمة ، فتكون المعاهدات
أنكاثًا لا مندوحة عن نقضها كما بينا ذلك في محله [1] .
بغوا واستعلوا على ألمانية وهم يعلمون أنها تعلوهم علمًا وصناعة ونظامًا ،
وفرائصهم ترتعد فَرَقًا من استعدادها السري للحرب ، وقد ذاقوا بطشتها القاهرة ،
التي كادت تفتك بهم كلهم من قبل ، ولكنهم اتكلوا على خداع معاهدتهم الخاطئة
الكاذبة ، وعلى تجديد محالفاتهم التي قصدوا بها أن يكونوا إلبًا واحدًا عليها ، وأن
تكون في عزلة لا تجد فيها وليًّا ولا نصيرًا .
صاح زعيمها المجدد ( هتلر ) صيحة بنقض تلك المعاهدة ، وتجديد السلاح
الجوي والبحري والتعبئة ؛ فراعتهم كزئير الأسد يجفل الغنم ، وقالوا : إن سلم
أوربة وحربها رهن يديه ، وعمرانها وخرابها بين شفتيه ، ظلوا يصيخون السمع لما
سيقوله في خطابه السياسي العام ، حتى إذا ما ألقاه كان حجة بالغة له ، دامغة
لخصومه ، وصادعة لآخر حصن لدول الاتحاد الثلاث في وجهه ( اتفاق ستريزا )
فعادت إنكلترة تفاوض ألمانية في قواتها الجوية والبحرية ، وكانت تستكبر عن هذا ،
وكشرت عن أنيابها لإيطالية فيما تحشره من جيوش وذخائر للعدوان على دولة
الحبشة المعتصمة معهم بعهد عصبة الأمم ، الذي هو في نظرها كسائر العهود
الأوربية حجة القوي على الضعيف ، وقد رأوا كيف رفضته بل رفسته كل من
اليابان وألمانية برجلها ، ولكن البلية كل البلية في تعارض مطامع الأقوياء ، فزعيم
إيطالية مغتر بقوتها ، جانح لفتح الحبشة أو نقصها من أطرافها . وإنكلترة أعز منها
وأقوى ، وإن هذا لصدع في اتحاد هؤلاء الأحلاف لا يلتئم ؛ فهذا الزعيم المعتز
بسلطانه الشخصي يرى خيبته بعد الشروع في وسائل الزحف قضاء على نفوذه ،
وأمته في اضطراب لا ينقذها منه إلا فوزه فيه ، وألمانية لابد لها من استعادة جميع
مستعمراتها ، وهي أقدر على إخضاع إنكلترة في الهواء والماء . وماذا تفعل فرنسة
إذا تركته إنكلترة ؟
وجملة القول أن هذه الدول وشعوبها لا تزال - ولن تزال - على ما وصفناها
به في مقدمة الطبعة الأولى للكتاب من فساد لا علاج له إلا هداية الإسلام ، دين
الأخوة الإسلامية والعدل والرحمة والسلام ؛ فيجب المبادرة إلى تبليغ دعوته ،
وإقامة حجته ، وهو قد أعد عقلاء المسلمين لتعميم هذه الدعوة عندما ينهض زعيم
مسلم لكفالتها وتوحيد النظام لها ، ويرى قارئه الشواهد على هذا فيما نشرناه من
التقاريظ في آخره ، وفي مقدمتها قول شيخ الإسلام المراغي لمؤلفه : إنكم وفقتم
لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي .. . إلخ ، وسائرها مؤيد لقوله ، يدل على
استعداد في الأمة لتنفيذه .
استعداد المسلمين لدعاية الإسلام :
ذكرت في آراء شيخنا الأستاذ الإمام من تاريخه ( ص939 ، ج1 ) أن أمم
الحضارة في الغرب سيذوقون من فتن مدنيتهم ومفاسدها السياسية ما يضطرهم إلى
طلب المخرج منها ، فلا يجدونه إلا في الإسلام - إسلام القرآن والسنة لا إسلام
المتكلمين والفقهاء - وأنه صرح بهذا مرارًا في دروسه في الأزهر وفي غيره .
وأقول الآن : لكنه ما سمع لقوله هذا صدًى ، ولا وجد على نار المسلمين
هدًى ، فكان يرجح أن هداية القرآن ستظهر في غيرهم من الشعوب الحية ، وأن
هؤلاء المسلمين الجغرافيين سيطلبون إسلام القرآن والسنة منهم تقليدًا لهم كما
يقلدونهم في الزينة والإباحة والإسراف في الشهوات الذي أفسدهم جميعًا .
وسمعت مثل هذا الرأي من الأستاذ المراغي وغيره من الأفراد ، ولعلي أوسع
علمًا واختبارًا لمسلمي الأقطار من كل هؤلاء ، وأجدر منهم بسوء الظن فيهم ، ولكن
ظهر لي بتقبل عقلائهم لكتاب ( الوحي المحمدي ) بما تقبلوه به من إيمان وشهادة
ورجاء وثناء ودعاء ، أن استعدادهم لهداية القرآن والدعاية له قد دخل في طور
جديد ، ألم تر كيف تجاوبت أصوات المقرظين له في مصر وسورية والعراق
وغيرها من الأقطار بقول القائلين إنهم كانوا يفكرون ويتمنون ويتساءلون قبله عن
كتاب يصلح للدعوة إلى الإسلام فلا يجدون ، حتى إذا رأوه وجدوه الضالة التي
ينشدون ؛ أو لم تر كيف شاركهم فيها أئمة المسلمين وملوكهم المتقون ؟
فعلم من هذا أن المسلمين لا يمكن أن تعود إليهم الحياة إلا بمثل ما بدأ به
سلفهم من روح القرآن وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام مالك :
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، وما ذلك إلا أن يكونوا على علم
بالقرآن يوقنون به أنه مصلح لجميع البشر ، وأن حملته يجب أن يكونوا أئمة البشر
وهداتهم ، والمصلحين لما أفسدته المدنية المادية من عقائدهم وأخلاقهم ، فإن لم
يملكنهم هذا اليقين فلا رجاء في دينهم ولا دنياهم ، ولكن نشر هذا اليقين فيهم يتوقف
على نظام وزعامة يثق بها الخاص والعام ، وسيرون الدعوة له تبث في هذا العام ،
وسنرى قد استعدادهم لتأييدها بأموالهم وأنفسهم فيسرنا - إن شاء الله - : { إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ( الحجرات : 15 ) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار
__________
(1) راجع ص 148 طبعة أولى ، وص 252 طبعة ثانية ، و ص 270 طبعة ثالثة .​
(35/33)
الوحي المحمدي
بقلم
الأستاذ العلامة المتكلم الفقيه الكاتب النظار
إبراهيم الطفيش الميزابي الجزائري

أجل كتاب في علوم القرآن ، وأفخم سفر في جلال القرآن ، ومعجزة من
معجزات القرآن - كتاب ( الوحي المحمدي ) . طالع أيها المعتز بالقرآن ، ويا
طالب منهاج الهداية المحمدية هذا السفر الجليل ترَ أبدع مؤلَّف وأسنى ما جاء به
القرآن من هداية البشر أجمعين . إن ( الوحي المحمدي ) علم وفق الله إليه مؤلفه
العلامة الجليل السيد رشيد رضا ، علم مستخرج من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه . لقد كُتب في علوم القرآن كتب كثيرة ، ولكنها لم
تبلغ أن تأتي بما جاء في الوحي المحمدي حتى أصبح هذا الكتاب آية في الإبداع ،
وغاية في كشف معاني الكتاب المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم . فيه
الحجة على البشر أجمعين .
إن القرآن يدعوهم إلى الانضواء تحت لوائه ، ضامنًا لهم كمال السعادة
والشمول بالنعم الرحمانية وجلال العزة ، إن هم أخذوا بما جاء به من عند الله الرحمن
الرحيم . كشف هذا الكتاب مناهج السعادة للأمم ، وسبل الهداية الشاملة لطبقات البشر
وأجناسه ، حتى أصبح عَلَمًا برأسه ، يجب أن يعتنى بتدريسه بين الفنون العالية
لتخريج رجال عالميين في الهداية إلى شريعة الله التي أكملها وأتم بها نعمته
على خلقه .
لقد أخرج المصنف هذا الكتاب للأمم ، وهو أحسن ما أخرج للناس من جهود
العلماء ، فلا ريب أن العلماء في جميع الأمم ستتلقاه بالقبول ، وسيترجم إلى جميع
اللغات ؛ لأنه هو الكتاب الذي تنشده اليوم العقول السليمة في كل الشعوب ،
وسيهتدي بهداه من أراد الله له السعادة من بين أولئك العقلاء الذين يسعون وراء
الحق لأنه الحق ، ويدركون أن القرآن كتاب من عند الله هدى وبشرى لأولي
الألباب ، لا سعادة للبشر إلا به ، ولا سلام إلا باتباع هديه .
ولعلي أكون قد أديت واجبًا إذا لاحظت للمؤلف الجليل أن يعيد النظر في
مسألة الرقيق ، فإن الإسلام جعلها حكمًا مستمرًّا ما فيه من حكمة اجتماعية ، ولم
يوجد وضعًا لإبطال الرقيق بالتدريج السريع ، ولكن الرقيق يبطل بطبيعته إذا دخل
كافة الشعوب في الهداية الربانية ، فوجدوه وعبدوه واتبعوا النور الذي أنزل على
محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله .
* * *
أول كتاب من حضرة صاحب السعادة
هارون سليم باشا أبو سحلي
(مدير المنوفية في ذلك المعهد)
سيدي الأستاذ الأجلّ السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فقد وصلني كتاب الوحي المحمدي الطبعة الثانية يوم سفري في رحلة بحرية
إلى مرسيليا ، وكانت فرصة لمطالعته كله ، وقد خرجت منه بأنه خير ما أخرج
للناس في موضوعه ، وقد أعطيت التعليمات لمجلس المديرية لطلب 66 نسخة
ليكون في كل مدرسة أولية وابتدائية نسخة ، ولما كان واجب كل مسلم نشر هذا
الكتاب بأوسع ما يمكن أرجو أن ترسلوا باسمي 300 ثلثمائة نسخة على محطة
شبين الكوم لتوزيعها ، وثمنها 30 جنيهًا حسب البيان الوارد في كتابكم ، نرسلها
عند إتمام التوزيع ، وأختم كتابي هذا بتوجيه واجب الشكر لكم تلقاء هذا المجهود
العظيم المضني ، وإني في انتظار الجزء الثاني ، ولكم وافر التحية من المخلص .
... ... ... ... ... ... ... ... هارون سليم
... ... ... ... ... ... ... في 31 أغسطس سنة 1934 م

( المؤلف ) : إن هارون باشا هذا من خير رجال حكومتنا عناية بالدين علمًا
وعملاً ، بل لا نعرف له في رجال الإدارة مثلاً ، وقد طلب منا بعد ما تقدم مائتي
نسخة ، ثم أرسل ثمنها ، ولما كان المعهود من أمثاله رجال الإدارة أن يوزعوا على
وجهاء مديرياتهم كثيرًا من الكتب غير النافعة محاباة لأصحابها فيقبلها الوجهاء
إرضاء للمدير على كراهة موضوعها وغلاء أثمانها ، وكان يعلم أن مثلي ينكر ذلك
عليهم - كتب إليّ أنه لم يتبع سننهم ، وإنما بين للوجهاء موضوع الكتاب في إقامة
حجة الدين وبيان حقيقته ، وأنه يعتقد أن قراءته واجبة عليهم وعلى أولادهم ، ولا
سيما تلاميذ المدارس ، ويخيرهم ، وأني إذا شئت كتب إليّ أسماء من اشتروه لأسألهم ،
فكتبت إليه : لا إنكار على من يدعو إلى الله فيما يتخذ من حض الناس على معرفة
عقيدتهم وأصول دينهم ، فإنه يصدق على هؤلاء ما صح في حديث من ( يقادون
إلى لجنة بالسلاسل ) ، ثم اتفق أن رأيت نقيب الأشراف للمنوفية بمصر فأخبرني
مسلك المدير في الترغيب في الكتاب ، وكيف تلقوه بالقبول شاكرين .
***
تقريظ جريدة حضارة السودان
أهدتنا إدارة مجلة المنار الغراء كتاب ( الوحي المحمدي ) الذي ألفه العلامة
المحقق مصباح الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء .
وقد جاءت مباحث هذا الكتاب كسائر مباحث مؤلفه الثمينة ؛ سواء في تفسيره
القرآن الكريم ، أو في مباحث مجلة ( المنار ) نورًا وهدى للناس في تبيان حقائق
الدين الإسلامي ؛ فهو بلا ريب فتح جديد في الدعوة إلى هذا الدين الحنيف القويم ،
وقد تمكن مؤلفه ، وهو ذلك العبقري الديني الذي سيط دين الإسلام بلحمه ودمه ،
من أن يوفق بين الدين والعلم بطريقة يعجز غيره عن الإتيان بها ، فالرجل عالم
قوي الإيمان ، وناهيك ما تنتجه قوة الإيمان إذا توافر معها العلم ، والكتاب نفذت
نسخ طبعته الأولى قبل أن يحول الحول على طبعها لتهافت العوالم الإسلامية على
النهل والعلل من مورده العذب ، وقد صدَّر طبعته الثانية بمقدمة استغرقت عشرة
مباحث هي وحدها تعد كتابًا ، ثم أتى بعدها بفاتحة لها قد اشتملت على أربع مسائل ،
ثم انتقل إلى الفصل الأول ؛ وهو يشمل ست مسائل ، فالفصل الثاني وفيه عشرة
مسائل ، فالفصل الثالث وقد اشتمل على 17 مبحثًا ، فالرابع وقد اشتمل على ستة
مباحث ، فالفصل الخامس وقد اشتمل على 75 مبحثًا . وما من مبحث من هذه
المباحث يمر عليه المطلع إلا ويشعر أنه في أشد الحاجة إلى تفهمه من الوجهتين
الدينية والمدنية .
وقد ذُيلت طبعته الثانية بنحو 23 تقريظًا في مقدمتها تقريظًا للعاهلين العربيين
ملكي الإسلام : الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن ، وصاحب العظمة السلطان عبد
العزيز آل سعود ملك الحجاز و نجد ، في كتابين موجهين من لدنهما إلى المؤلف ،
وتقريظ صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي المصلح
الإسلامي الكبير المعروف لدى سكان هذه البلاد ، وتقريظ أمير البيان المشهور
الأمير شكيب أرسلان ، وغيرهم من الأئمة الأعلام ورجال العلم والدين .
وإنا لنرى أن هذا السِّفر واجب على كل مسلم وجوبًا عينيًّا أن يطلع عليه وأن
يتفهمه ليتذوق منه حلاوة الإسلام ، ويرى بمرآته بهجة القرآن ونوره ساطعًا يهدي
إلى سواء السبيل .
... ... ... ... ... ... ... ... عن حضارة السودان
... ... ... ... ... ... ... بتاريخ 29 أكتوبر سنة 1934م
***
كتاب للفاضل الغيور الشيخ
محمد عثمان
- في إِلدورت - غنيا
بسم الله
حجة الله على العالمين فضيلة الأستاذ الأفخم ، والمصلح الأعظم ، السيد محمد
رشيد رضا ، المجدد لدين الله والناشر لوحيه ، أمد الله له في الحياة منصورًا ، ولا
زال لإعلاء كلمة الله ظهيرًا .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فأرفع لفضيلتكم بأنه وافاني كتابكم ( الوحي المحمدي ) فخررت ساجداً لله
شكرًا عندما ظهر لي انتصار نوره الساطع ، المنذر من لا يؤمن به بعذاب واقع ،
ما له من دافع ، وكم كان فرحي عظيمًا ، وسروري جسيمًا ، لا أستطيع أن
أشرحهما ، فتلوته مرارًا ، وكلما كررته ازداد شغفي حبًّا لتلاوة كتاب الله وتدبر
معانيه ، وزادني همة ونشاطًا في تبليغه إلى أبناء وطني المهاجرين ، وحضهم
على نشر الدين في هذه المستعمرة وأحيائها التي تقلص منها ظل الإسلام السائد
سابقًا ، وتهدمت فيها لغة القرآن ، وتقوض منها مجد الإسلام العربي الزاهر ، في
العصر الغابر ، بسبب تفريط مسلميه في نصرته ، وركونهم إلى التوسل بأصحاب
القبور والتقرب إليهم بالقرابين والنذور ، والآن بفضل الله وإرشاد مناركم الأغر ،
شرعت تتلاشى البدع والخرافات ، وتضمحل العقائد الفاسدة في أبناء الناطقين
بالضاد .
نعم يا صاحب الفضيلة ، لقد أرهقتمونا بنعمكم الروحية ، وتعاليمكم الدينية ،
التي أخرستنا حيرة بأي لسان نقدم شكرًا ، وجوارحنا وإحساساتنا كلها ألسنة شكر ،
يا ليت شعري كيف أشكر ، ويا ويح قلبي كيف أثني وأحمد بعد أن أثنت عليكم
نجوم الهدى ، وكواكب الإرشاد ، وشموس البلاغة ، وأعلام الإسلام ، وأرباب
الأقلام ، وأمراء البيان ، ولا يسعني والضعفاء إلا الدعاء لكم بما يحبه الله ويرضاه ،
وأن أهنئكم بأصدق التهاني على نجاحكم الباهر في هذه المساعي الجليلة للإسلام
وأهله التي سيشتاقها كل سيد ، ويقصر عن إدراكها المتناول ، لاسيما إبرازكم لهذا
الوحي المحمدي المقدس أمام الأديان والملل نقيًّا من الخرافات والبدع التي ألصقها
بها علماء السوء المبتدعون ، وكن عليه حجابًا من اهتداء العقلاء ومفكري الأمم
الراقية بهديه المبين ، ووسائل لمطاعن الملحدين ، ومثالب المكذبين ، ولمَّا مزقت
هذه الحجب الجسام ببيانك ، ودمغت حججهم ببلاغته السماوية ، انقلبوا على أعقابهم
خاسئين ، بتحدي آياته الكونية وعجائبه العصرية ، ومعجزاته السرمدية ؛ فأخرست
أفواههم عن الجدال ، وبهرت أعينهم عن الاحتقار ، ودككت عقائدهم عن النضال ،
حتى آمنت القلوب ، ولكن الألسنة والأفواه بآيات الله يجحدون ... إلخ .
* * *
كلمة الأستاذ العلامة النقادة الشيخ
محمد البشير النيفر التونسي
( من علماء جامع الزيتونة الأعلام من كتاب طويل له في رمضان سنة 1353 )
وكنت في أثناء هذه المدة أطالع مناركم المنير ، وما يتخلف عني من أعداده
أشتريه من إحدى المكتبات ، وكان فيما قرأت من مباحث التفسير ما كتبتم عن
الوحي المحمدي ، فحمدت الله أن كان في علماء المسلمين في هذا العصر مثلكم ،
وكنت أقول : لو قرأ هذا منكرو الرسالة المحمدية بإنصاف وفهموه حق فهمه لآمنوا
بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم أجمعون .
وقد كنت قرأته في المنار متفرقًا ، ثم أعدت قراءاته متصلاً في الجزء الحادي
عشر من التفسير ، فجزاكم الله أفضل ما جزى به خادمًا لدينه ، وبارك في عمركم
تخرجون للناس أمثاله ، فتكون كلمة الحق هي العليا ، وكلمة الباطل هي السفلى .
وما أنكرت فيه إلا كلمات في آيات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أذكر أنني
رأيت مثلها في إحدى مقالاتكم في ( شبهات النصارى وحجج الإسلام ) ا . هـ .
قد اختصرت في هذه الطبعة الثالثة أكثر التقاريظ التي نشرت فيما قبلها ،
وحذفت بعضها لطولها وما فيها من التكرار ونقل بعض مسائل الكتاب للتنويه بها أو
مشاركة أصحابها لنا فيها ، وبهذا وجدنا مكانًا لغيرها ، ولم نتصرف بشيء من ذلك
بزيادة ما ، ولا باختصار يغير المعنى .
* * *
حكمة نشر هذه التقاريظ
( ختمت بها تقاريظ الطبعة الثالثة )
الغرض من نشر هذه التقاريظ إعلام قراء الكتاب من غير المسلمين ( ومن
الجامدين على تقليد المتقدمين منهم ، الذين إذا رأوا كتابًا في الدين لمؤلف عصري
أعرضوا عنه ولم يقرءوه لظنهم أن الأحياء لا يوثق بعلمهم ) أن ما فيه من أصول
الإسلام وحكمته متفق عليه ليس رأيًا مني فيه ، وإن كان فيه ما لا يوجد في غيره .
ذلك بأن الأحرار المستقلي الفكر منهم يقيسون دين الإسلام على غيره من
الأديان فيظنون أنه أكثر عقائده وأصوله مسلمات غير متفقة مع العقل والعلم
الصحيح والمصالح العامة ، ويظنون أن ما يسمعون من حكماء المسلمين موافقًا لذلك
هو رأي لهم ، كما قال بعضهم في رسالة التوحيد للأستاذ الإمام إنها فلسفة الشيخ
محمد عبده سماها إسلامًا ، وقال لي مستر متشل أنس الإنكليزي الذي كان وكيلاً
للمالية بمصر مرارًا عندما كنت أشرح له بعض أصول الإسلام وحكمته : هذا
فلسفة لا دين ، حتى قال لي مرة : إذا كان علماء الأزهر يوافقونك ويوافقون الشيخ
محمد عبده على ما تقولون فأنا أعلن أني مسلم .
وهذا كتاب فيه من حكم الإسلام في أهم أصوله وفروعه أكثر مما في رسالة
التوحيد ومما كان يسمعه مني متشل أنس وأمثاله ، وفيه من شواهد القرآن ما لا
يمكن أن يقال معها إنه من رأيي ، وقد اتفق على الشهادة له العلماء والأدباء والكتاب
في الأقطار ومن جميع الطبقات ، وفي مقدمتهم شيخ الأزهر بما هو صريح في
تفضيله على جميع الكتب في موضوعه ( إثبات الوحي والنبوة وإعجاز القرآن
وأصول الإسلام الدينية والمدنية ) ، وسيرون من فائدته في دعوة غير المسلمين إلى
الإسلام وفي تثبيت المسلمين في دينهم ما هو فوق ذلك - إن شاء الله تعالى - ولله
الفضل والمنة : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } ( يونس : 58 ) ، وصلوات الله وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وآله
وصحبه الهادين المهديين ، وجميع المهتدين بهديه إلى يوم الدين ، وسلام على
المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
__________
(1) افتجر الكلام : اختلقه لم يتبع به أحدًا ولم يتابعه عليه أحد ، فلعل الأصل افتجروا شبهًا واحتفروا حفرًا .​
(35/55)
 
عودة
أعلى