الهم والعزم في القرآن تحقيقهما والفرق بينهما

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
سبب كتابة هذا البحث : أني كنت أقرأ في بعض الكتب أن الهم خاطر نفسي لا يصل لدرجة التصميم وأجدهم ذكروا نظما فيه يقولون فيه :
مَرَاتِبُ القَصْدِ خَمْسٌ هَاجِسٌ ذَكَرُوا ... وَخَاطِرٌ فَحَدِيثُ النّفْسِ فَاسْتَمِعَا
يَلِيهِ هَمٌّ فَعَزْمٌ كُلُّهَا رُّفِعَتْ إلاّ الأَخِيرَ فَفِيهِ الأَخذُ قَدْ وَقَعا
وفي الوقت نفسه أقرأ قوله تعالى { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } فالأمر لم يكن مجرد خاطر بل هي غلقت الأبواب وقالت هيت لك وكذلك أقرأ قوله تعالى { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} فهل اكتفت الأمم بالخاطر النفس قطعا لا فقررت أن أبحث في كتب التفاسير واللغة عن المعنى الدقيق لكمة الهم فكان هذا البحث بتوفيق الله تعالى ، وقبل البدء بهذا البحث أقول هذا البحث منصب أصالة على معنى (هم بكذا ) لا (الهم ) بمعنى الحزن وإن كان يشملهما ، ثم أقول هذا معنى الهم والعزم في القرآن يمكن تطبيقه على جميع آياته ومعلوم أن القرآن أدق من ميزان الذهب في اختيار الألفاظ ، وهو الاستعمال الذي ينبغي أن يكون خارج القرآن والله الموفق :
الهم : معنى الهم يجمع قيدين :
• هو العزم الصادق والقصد الثابت على الفعل وإقبال النفس.
• مع التوجه والقصد إليه والمشارفة على الفعل و تهيئة المقدمات والأسباب و مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد ، أو شروع في بعض مقدماته دون أن تأخذ فى تنفيذه .
• أي مع فقدان العمل ودون أن يصل إلى العمل المطلوب والنتيجة المطلوب ولا يوفق في العمل .
• و أما مجرد ميل الطبع فليس يسمى هما البتة .
• وسمي هماً ؛ لأنه أمر يُعنى الشخص بالقيام به ويغلب على فكره و يُنْصبه، و يؤثر في نفسه ويشغلها كأنما تحلبت إرادته بشدة واهتم له فيذيب صاحبه ، كما قال الشاعر : وهمك ما لم تمضه لك مُنْصب و، هو يشترك مع الهم الذي بمعنى الحزن أن كلا منهما فيه الإذابة لصاحبه
1) يدل على أن الهم العزمُ الصادق والقصد الثابت على الفعل وإقبال النفس إليه بقوة ما قاله مجموعة من العلماء :
• قال زاد المسير: الهم بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته مالم يواقع .
• قال السمعاني والخازن : الهم : هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه .
• قال الوسيط : ألهّم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، تقول هممت على فعل هذا الشئ ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله .
• قال الطبرسي : الهم إنما يتعلق بما لا ينقاد للعازم الهام فيما يريده .
• قال التحقيق : الأصل الواحد في المادة : هو العزم على فعل مع شروع في مقدماته ــ ـ [ثم ذكر الآيات ثم قال ] تدل الآيات الكريمة على تحقق العزم والشروع إلى المقدمات وتهيئة الأسباب مع فقدان العمل ، فالهم : عزم مع تهيئة مقدمات من دون أن يصل إلى عمل ونتيجة ، و الهم والعزم من حيث هو ومن دون عمل يوجب حزنا واضطرابا وإهمام النفس جعله نفسه في هم وحزن في الواقعة .
قال عبد الكريم الخطيب : الهمّ بالأمر هو العزم عليه ، دون تنفيذه لأمر ما ".
قال الزمخشري : همَّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه قال الشاعر وهو عمرو بن ضابئ البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
• ومنه قولك : لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هما. أى ولا أكاد أن أفعله كيداً ، ولا أهم بفعله هماً ، حكاه سيبويه ، ومنه : الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه.انتهى
• الشواهد من الشعر واللغة :
• هممت ولم افعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
• كما يقول القائل كنت هممت بفلان اي بأن اوقع به ضربا او مكروها.
• هم بكذا، وكذا أي كاد يفعله
• قال ذوالرمة:
أقول لمسعود بجرعاء مالك
وقد هم دمعي أن تسيح أوائله
وقال الشاعر : هممتُ بهم من بثينةَ لو بدا شفيت غليلاتِ الهوى من فؤاديا
يقول الباحث : الهم لم يستخدم في القرآن إلا في الشر بخلاف العزم فلم يستعمل إلا للخير وفيه قوة وشدة كما سيأتي .
• ويدل على ما ذكرنا من أن الهم العزم الصادق والقصد الثابت على الفعل وإقبال النفس إليه بقوة تقليبات المادة وما هو مشترك معها في أصلها ما في تاج العروس واللسان :
• فقد قال تاج العروس : الهُمَامُ : ( المَلِكُ العَظيمُ الهِمَّةِ ) الَّذيِ إِذَا هَمَّ بأَمْرٍ فَعَلَهُ ، لِقُوَّةِ عَزْمِهِ . الهِمَّةُ : اعْتَنَاءُ القَلْبِ بِالشَّيْءِ ، وَقَالَ ابْنُ الكَمَالِ : الهِمَّةُ : قُوَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْس ، طَالِبَةٌ لَمَعَالِي الأُمُورِ ، هَارِبَةٌ مِنْ خَسَائِسِها ، في الحَدِيثِ : ( ( أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ عِنْدَ اللهِ حَارِثَةُ وَهُمَّامٌ ) هَمَّ بالأَمْرِ *!يَهُمُّ إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ (المُهَمَّاتُ من الأُمُورِ : الشَّدَائِدُ المُحْرِقَةُ
قال لسان العرب : والهُمامُ الملكُ العظيم الهِمّة ، وفي حديث قُسٍّ أَيها الملكُ الهُمامُ أَي العظيمُ الهِمَّة ، ابن سيده : الهُمام اسمٌ من أَسماء الملك لِعِظمِ هِمّته ي ذهب سِمَنُه ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2) ويدل على أن الهم فيه الإذابة ما تدور حوله المادة بجميع تقلباتها وما قاله العلماء :
• قال السمين : الهمُّ : الحُزْن الذي يذيب صاحبه وهو مأخوذٌ من قولهم : » هَمَمْتُ الشحم « أي : أذبته . والهمُّ الذي في النفس قريب منه؛ لأنه قد يؤثر في نفس الإِنسان كما يُؤَثِّر الحزن ، ولذلك قال الشاعر :
• وَهمُّك ما لم تُمْضِه لك مُنْصِبٌ .أي : إنك إذا هممت بشيء ولم تفعله ، وجال في نفسك فأنت في تعب منه حتى تقضيه .
• قال الراغب : همم الهم الحزن الذي يذيب الإنسان. يقال: هممت الشحم فانهم، والهم: ما هممت به في نفسك، وهو الأصل، ولذا قال الشاعر: وهمك ما لم تمضه لك منصب*قال الله تعالى: {إذ هم قوم أن يبسطوا} [المائدة/11]، {ولقد همت به وهم بها} [يوسف/24]، {إذ همت طائفتان منكم} [آل عمران/122]، {لهمت طائفة منهم} [النساء/113]، {وهموا بما لم ينالوا} [التوبة/74]، {وهموا بإخراج الرسول} [التوبة/13]، {وهمت كل أمة برسولهم}قد همه العمر. أي: أذابه.
قال أساس البلاغة : ه م م
أهمّه الأمر حتّى همّه أي أذابه. واهتمّ به.
قال ابن فارس : (هم) أصلٌ صحيح يدلُّ على ذَوْبٍ وجَرَيانٍ ودَبيبٍ وما أشبَهَ ذلك، ثم يقاس عليه. منه قول العرب: همَّني الشَّيءُ: أذَابَني. وانْهَمَّ الشَّحمُ: ذاب. و الهاموم : الشَّحم الكثير الإهالة. والسَّحاب الهامُوم: الكثير الصَّوب. والهَموم: البئر الكثيرة الماء. قال: وأمَّا الهَمُّ الذي هو الحزن فعندنا من هذا القياس، لأنّه كأنّه لشدته يَهُمُّ، أي يذيب. والهَمُّ: ما هَمَمْتَ به، وكذلك الهِمَّة، ثم تشتقُّ من الهِمَّة: الهُمام: الملك العظيم الهِمّة. ومُهِمُّ الأمرِ: شديدُه. وأهمَّنِي: أقْلَقَني. والقياس واحد.
قال المعجم الاشتقاقي : الأصل الواحد : ذوبان الشيء متسيبا مما يجمعه لحرارة أو شدة كالهاموم : وهو ما أذيب من السنام ، وذائب الثلج ومن ذلك الهم : همه الأمر الشديد وأهمه أقلقه وحزنه والاهتمام الاغتمام كما قالوا همه السقم والمرض أذابه وأذهب لحمه وهم بالشيء : نواه وأراده وعزم عليه كأنما تحلبت إرادته وهواه بشدة نحو الشيء كما يسيل اللعاب شهوة إلى الطعام .
قال في لسان العرب : والمُهِمَّاتُ من الأُمور الشدائدُ المُحْرِقةُ ، وهَمَّه السُّقْمُ يَهُمُّه هَمّاً أَذابَه وأَذْهَبَ لَحمه ، وهَمَّني المرضُ أَذابَني ، وهَمَّ الشحمَ يَهُمُّه هَمّاً أَذابَه وانْهَمَّ هو والهامومُ ما أُذِيبَ من السنام والهامومُ من الشحمِ كثيرُ الإِهالةِ والهامومُ ما يَسيل من الشَّحْمةِ إِذا شُوِيَت وكلُّ شيء ذائبٍ يُسمَّى هاموماً ابن الأَعرابي هُمَّ إِذا أُغْلِيَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبعد ما ذكرنا معنى اللفظ بدقة نريد تطبيقه على آيات القرآن الكريم:
• { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) }
• { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) }
• { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}
• { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) } { وهموا بما لم ينالوا } اي على الفتك برسول الله صلى الله عليه و سلم فنجاه الله
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)}
• الهم في كل هذه الآيات : هو العزم الصادق والقصد الثابت على الفعل وإقبال النفس مع التوجه والقصد إليه والمشارفة على الفعل و تهيئة المقدمات والأسباب و مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد ، أو شروع في بعض مقدماته دون أن تأخذ في تنفيذه أي مع فقدان العمل ودون أن يصل إلى العمل المطلوب والنتيجة المطلوب ولا يوفق في العمل.
{ وهمت كل أمة برسولهم }مثلا : حرصت على قتله وعزمت كل أمة من هؤلاء الأحزاب أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويعذبوه ويحبسوه وصمموا وشارفوا وشرعوا في المقدمات والأسباب ولم يصلوا إلى مطلوبهم ، وكذلك بقية الآيات فليس المراد مجرد النية في النفس أو أول العزيمة كما قيل فهو لا يظهر مطلقا في الآيات السابقة ، فما فعلته قريش ليس مجرد نية في النفس أو درجة أقل من العزم كما قيل .
• وكذلك : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} فامرأة العزيز عزمت عزما صادقا وقصدت قصدا ثابتا على الفعل مع التوجه والقصد إليه وشارفت على الفعل وهيأت المقدمات والأسباب { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ } مع فقدان العمل ودون أن تصل إلى ما تريد .
وأما { وهم بها لولا أن رءا برهان ربه } فيوسف عليه السلام لم يقع منه الهم لرؤيته البرهان ، فأصل الجملة : ( لولا أن رءا برهان ربه لهمَّ بها ) فلم يقع منه الهم أصلا كما رجحه المحققون كأبي حيان والبقاعي والسر في تقديم الجواب قوة مشارفة الفعل فالفرق بينهما كالفرق بين لولا أن ساعدتني لدعستني السيارة وبين دعستني السيارة لولا أن دفعتني فالثانية توحي أن الفعل قارب جدا من الحصول لولا أن ساعدتني ، قال البقاعي : { ولقد همت به } أي أوقعت الهم ، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته ، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها { وهمَّ بها } كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب { لولا أن رءآ } أي بعين قلبه { برهان ربه } الذي آتاه إياه من الحكم والعلم ، أي لهمّ بها ، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين ، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى ، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب ، فلولا المراقبة لهمّ بها التوفر الدواعي غير أن نور الشهود
قال أبو حيان : والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك الله .
وأما قوله تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) } فسواء أخذنا برأي الجمهور أن بني ظفر وهم قوم بني أبيرق قد فعلوا الهم بأن يضلوه صلى الله عليه وسلم عن القضاء بالحق مع علمهم بكُنه الأمرِ ، وأن المنفي إنما هو تأثير الهم وليس القصد فيه إلى نفس تعاطيهم للهم فانهم حاولوه وقصدوه ولم يدركوه فتقدير الآية لظهر تأثير ما همّوا به فالممتنع هنا تأثير اضلالهم لا نفس تعاطيه، فانهم حالوه ولم يدركوه ، أم أخذنا برأي ابن عاشور والبقاعي ومحمد طنطاوي أن الهم لم يقع أي ولكن الله - تعالى - حال بينهم وبين هذا الهم بإشعارهم بأن ما يفعلونه معك من سوء سيكشفه الله لك عن طريق الوحى ، أقول سواء أخذنا بهذا الرأي أم بهذا فالهم ليس المراد به مجرد خاطر في النفس ونحو ذلك بل المناسب للامتنان أن يكون كما قلناه في تعريف الهم .
وأما قوله تعالى { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) }
• فمن أدق من تكلم عليها محمد رشيد رضا في المنار حيث قال : " والهم : حديث النفس وتوجهها إلى الشيء ، والله وليهما أي متولي أمورهما لصدق إيمانهما ، لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه وعلى الله فليتوكل المؤمنون أمثالهم ، لا على حولهم وقوتهم ، ولا على أعوانهم وأنصارهم " يقول الباحث فالمنة لا تظهر تمام الظهور بمجرد أن يكون المراد بالهم الخاطر ، وحديث نفس ،بل المراد هو العزم الصادق والقصد الثابت على الفعل وإقبال النفس ، مع التوجه والقصد إليه والمشارفة على الفعل ، وهذا لا ينقص من قدر هاتين الطائفتين من الصحابة رضوان الله عليهما فقد مدحهما الله بأنهما من المؤمنين وأن الله تولاهما فحفظهما وإنما هو تأثير ما فعله المنافقون بانسحابهم بثلث الجيش والموقف صعب لكن الله سبحانه حفظهم بإيمانهم وثبتهم ، والمنة بهذا التفسير تظهر ظهورا أتم .
وبعد عرض القول الأول الأرجح عندي أعرض القول الثاني الذي يذكره جماعة من المفسرين في عدة مواضع من القرآن :
القول الثاني :
قال القاسمي : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } ( الهم ) يكون بمعنى القصد والإرادة ، ويكون فوق الإرادة ودون العزم ، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه ، وبالعزم : القصد إلى إمضائه ، فهو أول العزيمة . وهذا معنى قولهم : الهم همان : همٌّ ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخذ به . وهمٌّ بمعنى خاطر ، وحديث نفس ، من غير تصميم ، وهو غير مؤاخذ به . لأنه خطور المناهي في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .
قال الكليات : فالهَمّ اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه ، والعزم هو القصد على إمضائه ، فالهم
فوق الإرادة دون العزم وأول العزيمة .والهم همّان : همٌّ ثابت وهو ما إذا كان معه عزم
وعقد ورضا مثل هَمِّ امرأة العزيز ، والعبد مأخوذ به . وهمُّ عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل همّ يوسف عليه السلام ،والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو لم يعمل ، لأن تصور المعاصي والأخلاق الذميمة لا يعقاب به عليها ما لم توجد في الأعيان ، وأما ما حصل في النفس حصولاً أصلياً ووجد فيها وجوداً عينياً فإنه يوجب اتصاف النفس كالكيفيات النفسانية الرديةوالهمّام : هو الذي إذا همّ بشيء أمضاه .
.قال الطوسي في موضع ونقله الطبرسي : والفرق بين الهم بالشيء والقصد اليه انه قد يهم بالشيء قبل أن يريده ويقصده بان يحدث نفسه به وهو مع ذلك مميل في فعله ثم يعزم اليه ويقصد اليه.
قال الآلوسي في قوله تعالى {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } :
والظاهر أن هذا الهم لم يكن عن عزم وتصميم على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ومفارقته لأن ذلك لا يصدر مثله عن مؤمن بل كان مجرد حديث نفس ووسوسة كما في قوله :
أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
ويؤيد ذلك قوله تعالى : { والله وَلِيُّهُمَا } أي ناصرهما والجملة اعتراض"
• يقول الباحث : إن حمل الهم على معنى في قوله تعالى مثلا { همت كل أمة برسولهم ليأخذوه } ثم حمله في { إذ همت طائفة منكم أن تفشلا } على أنه درجة أقل من العزم وأنه من غير تصميم وإن كان ممكن لغة نظرا للسياق كما هو موجود في كلمات كثيرة كلفظ أمة مثلا لكنه هذا حيث لم يمكن حملها على معنى واحد فإن أمكن فهو أولى هذا أولا ، ثم قد ظهر لك من اشتقاق الكلمة وكلام العلماء أن معنى الكلمة الدقيق هو العزم الصادق والقصد الثابت على الفعل وإقبال النفس.
• مع التوجه والقصد إليه والمشارفة على الفعل و تهيئة المقدمات والأسباب و مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد ، أو شروع في بعض مقدماته دون أن تأخذ فى تنفيذه وقد تقدمت لك النقولات ومنها قول الزمخشري : همَّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه قال الشاعر وهو عمرو بن ضابئ البرجمي :هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله ، وقول السمعاني والخازن : الهم : هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه وقول التحقيق : الأصل الواحد في المادة : هو العزم على فعل مع شروع في مقدماته
• والأهم من ذلك كله أن معظم آيات القرآن لا يمكن حملها على حديث النفس والميل إلى الفعل فقط { { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ } { { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ } { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } فمن الواضح جدا أن تفسيرها بمجرد الميل وحديث النفس وأنها درجة دون العزم غير دقيق .
• وإذا تأملت الآيات التي ورد فيها الهم وجدت الهم لم يستخدم في القرآن إلا في الشر بخلاف العزم فلم يستعمل إلا للخير وفيه قوة وشدة وهذا مناسب أن الإنسان إذا أراد فعل الشر يُعنى الشخص بالقيام به ويغلب على فكره و يُنْصبه، و يؤثر في نفسه ويشغلها كأنما تحلبت إرادته بشدة واهتم له فيذيب صاحبه بخلاف العزم فهو يطلق في سياقات الخير وفي مورد أن الإنسان فعل الفعل من غير تردد ولا مثنوية ولا احتمال بل قصده قصدا أكيدا جازما ، وحتى يظهر الفرق بين الهم والعزم نستعرض معنى العزم عند العلماء والآيا تالتي وردت فيها ليظهر الفرق بينهما :
العزم :
فالأصل الواحد فيه : هو القصد الجازم الشديد الأكيد كيفا وامتدادا ودواما بحيث يوجب تحقق إرادة العمل واستدامته ، أي مرتبة شديدة من القصد ، وعقد القلب على إمضاء الأمر بحيث لا يكون عنده تردد في الأمر ولا مثنوية .
والعزم في الفرائض والوظائف من أهم الأمور ، وهو يتحصل من الإيمان القاطع ، وإذا لم يبلغ الإيمان حد الثبوت واليقين لا يتحصل العزم ،
فالتزلزل والاضطراب والتخلف والنقض والتردد والمساهلة كلها من آثار ضعف الإيمان وعدم حصول اليقين والاجتهاد ، ومن لوازم العزم
وآثاره الصبر والاستقامة .
قال ابن فارس : (عزم) العين والزاء والميم أصلٌ واحد صحيحٌ يدلُّ على الصَّريمة والقَطْع. يقال: عزَمت أعزِمُ عزماً. ويقولون: عزمت عليك إِلاَّ فعَلْتَ كذا، أي جعلتُه أمراً عَزْماً، أي لا مَثْنويّة فيه. ويقال: كانوا يَرون لِعَزمة الخُلفاء طاعةً. قال الخليل: العَزْم: ما عُقِد عليه القلبُ من أمرٍ أنت فاعلُه، أي متيقِّنه. ويقال: ما لفلانٍ عزيمةٌ، أي ما يَعزِم عليه، كأنَّه لا يمكنه أن يَصْرِمَ الأمر، بل يختلط فيه ويتردَّد.
• قال الراغب : - العزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر، يقال: عزمت الأمر، وعزمت عليه، واعتزمت. قال: {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران/ 159]، {ولا تعزموا عقدة النكاح} [البقرة/235]، {وإن عزموا الطلاق} [البقرة/227]، {إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى/43]، {ولم نجد له عزما} [طه/115]، أي: محافظة على ما أمر به وعزيمة على القيام. والعزيمة: تعويذ، كأنه تصور أنك قد عقدت بها على الشيطان أن يمضي إرادته فيك. وجمعها: العزائم.
• قال الطبرسي: العزم هو تصميم القلب على الشئ، والنفاذ فيه بقصد ثابت.
{إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عقدة النكاح }
{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ }
{فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الْأُمُورِ (186) أي من الأمور التي ينبغي أن يعزم عليها وتقصد بقوة وثبات ودون تردد لما فيها من الفضائل والخير والنفع .
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115
{اصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
{اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ }
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
تدل الآيات على أن العزم من الصفات العالية المحمودة للإنسان وهو من صفات الأنبياء العظام فإن العزم هو الذي به يتحصل المقصود وينال به إلى المراد والمطلوب وهو يلازم الصبر والتحمل والاستقامة في طريق النيل إلى ما يراد ، والعزم من الصفات الممتازة للأنبياء المبعوثين من جانب الله تعالى لهداية الناس إلى الحق وإبلاغ الأحكام وبيان الحقائق ولولا العزم الراسخ فيهم لما حصلت النتيجة المطلوبة من بعثهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1) ولكن أبا حيان والبقاعي يقولون بمذهب البصريين أن جواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وهو مذهب فيه ما فيه ونحن نختار مذهب الكوفيين ، ومن أعلام البصريين أبي زيد الأنصاري ، وأبي العباس المبرد من أن المقدم هو الجواب .

2)وإليك مذاهب العلماء في قوله تعالى { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ }
هل وقع الهم أم لا وما معنى الآية :
القول الاول: ابو السعود و البيضاوي والالوسي وابن الجوزي اطفيش وابو حيان وحقي وابن عجيبة والمظهري وهميان الزاد والايجي والسراج المنير ومقاتل وهو أحد وجهين ذكرهما الراغب وظاهر الشعراوي والسعدي والظلال
قال أبو السعود : { أَن يُضِلُّوكَ } أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكُنه الأمرِ ، والجملةُ جوابُ لولا وإنما نفى همَّهم مع أن المنفيَّ إنما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاء تأثيرِه بالكلية
• والجملة جواب لولا وليس القصد فيه إلى نفس تعاطيهم للهم فانهم حاولوه وقصدوه ولم يدركوه وإنما المنفي هو تأثيره فقط أي لظهر تأثير ما همّوا به فالممتنع هنا تأثير اضلالهم لا نفس تعاطيه، فانهم حالوه ولم يدركوه أي لهمت طائفة منهم هما يؤثر عندك
• وإنما نفى همَّهم مع أن المنفيَّ إنما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاء تأثيرِه بالكلية فالقصد إلى نفي تأثير ما همُّوا به كقولك: فلان شتمك، وأهانك، لولا أني تداركت، تنبيهًا أن أثر فعله لم يظهر
وضعفه التحرير والتنوير : وقيل في تفسير هذا الانتفاء: إنّ المراد انتفاء أثره، أي لولا فضل الله لضلِلْت بهمّهم أن يُضلّوك، ولكن الله عصمك عن الضلال، فيكون كناية. وفي هذا التفسير بُعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى.
القول الثاني : ابن عاشور والبقاعي وسيد طنطاوي وأبو زهرة وأول وجهي الراغب :
قال التحرير والتنوير : وظاهر الآية أنّ هَمّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يُضلّون الرسول غيرُ واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل. ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس، مؤمنهم وكافرهم، أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أمين فلا يسعهم إلاّ حكاية الصدق عنده، وأنّ بني ظَفَر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمّه كانوا يظنّون أنّ أصحابهم بني أبيرق على الحقّ، أوْ أنّ بني أبيرق لمّا شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسِين خِيفة أن يُطلع الله رسوله على جليّة الأمر، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعاً لا هَمّا، لأنّ الهمّ هو العزم على الفعل والثقة به، وإنّما كان انتفاءُ همّهم تضليلَه فضلاً ورحمة، لدلالته على وقاره في نفوس الناس، وذلك فضل عظيم.
قال البقاعي : ولكن الله حفظك في أصحابك فما هموا بذلك، وإنما قصدوا المدافعة عن صاحبهم بما لم يتحققوه، ولو هموا لما أضلوك
قال الراغب : إن قيل: قد كانوا همُّوا بذلك فكيف قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ) ؟
قيل: في ذلك جوابان:أحدها: أن القوم كانوا مسلمين، ولم يهموا بإضلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان عندهم على الصواب.
قال سيد طنطاوي : لولا ذلك { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } أى: من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم وهم طعمة وأشياعه الذين دافعوا عنه، ومن كان على شاكلتهم فى النفاق والجدال بالباطل { أَن يُضِلُّوكَ } أى: لهمت طائفة من هؤلاء الذين فى قلوبهم مرض أن يضلوك عن القضاء بالحق بين الناس، ولكن الله - تعالى - حال بينهم وبين هذا الهم بإشعارهم بأن ما يفعلونه معك من سوء سيكشفه الله لك عن طريق الوحى
القول الثالث : عدم تفسير الآية بما ورد من قصة بني أبيرق :
قال المنار : ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك ، أي : لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة ، ورحمته لك ببيان حقيقة الواقعة ، لهمت طائفة من الذين يختانون أنفسهم بالمعصية أو بمساعدة الخائن أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها ، أي : يضلوك بقول الزور وتزكية المجرم وبهت اليهودي البريء ، لعلمهم أن الحكم إنما يكون بالظواهر ، أو بمحاولة الميل إلى إدانة اليهودي توهما منهم أن الإسلام يبيح ترجيح المسلم على غيره ونصره ظالما أو مظلوما كما يعهدون في غيره من الملل ، ولكنهم قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به جاءك الوحي ببيان الحق ، وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق ،
قال الأستاذ ولا يصح تفسير الآية بما ورد من قصة طعمة ; لأنه على ما روي قد هم هو وأصحابه بإضلال النبي عن الحق الذي أنزله الله عليه ، وهو - تعالى - يقول : إنه بفضله ورحمته عليه قد صرف نفوس الأشرار عن الطمع في إضلاله والهم بذلك ; وذلك أن الأشرار إذا توجهت إرادتهم وهممهم إلى التلبيس عن شخص ومخادعته ومحاولة صرفه عن الحق فلا بد له أن يشغل طائفة من وقته لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم ، وذلك يشغل المرء عن تقرير الحقائق وصرف وقت المقاومة إلى عمل آخر صالح نافع ; ولذلك تفضل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه حتى بالهم بغشه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه" اهـ .
قال ابن حجر في تخريج الكشاف :
ذكره الثعلبي من رواية أبى صالح عن الكلبي عن ابن عباس. ونقله الواحدي عن المفسرين في الأسباب، ورواه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان من الأنصار من بنى ظفر سرق درعاً لعمه ، كانت وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له : زيد بن السمين - فذكر القصة. وأخرجه الترمذي والحاكم مطولا من رواية محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان. وقال الترمذي : غريب ، ولا نعلم أسنده عن ابن إسحاق إلا محمد بن سلمة. ورواه يونس وغير واحد عن ابن إسحاق عن عاصم مرسلا.

3) وإليك مذاهب العلماء في قوله تعالى { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
القول الأول :
قال الراغب : قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) الهمّة قد تكون عزماً، وقد تكون حديث النفس من غير أن يصير عزيمة،
قال الكشاف : والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس ، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع ، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه ، كما قال عمرو بن الأطنابة :
أَقُولُ لَهَا إذَا جَشَأتْ وَجَاشَتْ مَكَانَكِ تُحْمَدِى أوْ تَسْتَرِيحِى «4» حتى قال معاوية : عليكم بحفظ الشعر ، فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين ، فما ثبت منى إلا قول عمرو بن الأطنابة. ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية
قال أبو السعود : والظاهرُ أنها ما كانت إلا همَّةً وحديثَ نفس قلما تخلو النفسُ عنه عند الشدائدِ
قال التحرير : وَهَمَّتْ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ من الْمُسلمين بالانخذال، ثُمَّ عَصَمَهُمُ اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أَيْ نَاصِرُهُمَا عَلَى ذَلِكَ الْهَمِّ الشَّيْطَانِيِّ، الَّذِي لَوْ صَارَ عَزْمًا لَكَانَ سَبَبَ شَقَائِهِمَا، فَلِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمَا بَرَّأَهُمَا اللَّهُ مِنْ فِعْلِ مَا هَمَّتَا بِهِ،
قال الخازن : فإن قلت الهم العزم على فعل الشيء والآية تدل على أن الطائفتين قد عزمتا على الفشل وترك القتال وذلك معصية فكيف مدحهما الله تعالى بقوله والله وليهما . قلت الهم قد يراد به العزم وقد يراد به حديث النفس وإذا كان كذلك فحمل الهم على حديث النفس هنا أولى والله تعالى لا يؤاخذ بحديث النفس ويعضده قول ابن عباس إنهم أضمروا أن يرجعوا فلما عزم الله لهم على الرشد وثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحهم الله تعالى بقوله والله وليهما
قال أبو حيان : قال ابن عباس : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا ، وهذا لهمّ غير مؤاخذ به ، إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير عزم.
ولا شك أن النفس عندما تلاقي الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر ، يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر.
ألا ترى إلى قول الشاعر :
وقولي : كلما جشأت وجاشت . . .
مكانك تحمدي أو تستريحي
قال الظلال : «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
وهاتان الطائفتان - كما ورد في الصحيح - من حديث سفيان بن عيينة - هما بنو حارثة وبنو سلمة. أثرت فيهما حركة عبد اللّه بن أبيّ ، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم ، من أول خطوة في المعركة. فكادتا تفشلان وتضعفان. لولا أن أدركتهما ولاية اللّه وتثبيته ، كما أخبر هذا النص القرآني :
«وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» .. وهكذا يكشف اللّه المخبوء في مكنونات الضمائر والذي لم يعلمه إلا أهله ، حين حاك في صدورهم لحظة ثم وقاهم اللّه إياه ، وصرفه عنهم ، وأيدهم بولايته ، فمضوا في الصف .. يكشفه لاستعادة أحداث المعركة ، واستحياء وقائعها ومشاهدها. ثم .. لتصوير خلجات النفوس ، وإشعار أهلها حضور اللّه معهم ، وعلمه بمكنونات ضمائرهم - كما قال لهم :
القول الثاني :
فكادتا تفشلان وتضعفان. لولا أن أدركتهما ولاية اللّه وتثبيته الهم كما فسرناه فَلِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمَا بَرَّأَهُمَا اللَّهُ مِنْ فِعْلِ مَا هَمَّتَا بِهِ،ويؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما : قول ابن عباس إنهم أضمروا أن يرجعوا فلما عزم الله لهم على الرشد وثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحهم الله تعالى بقوله والله وليهما
قال المنار : والهم : حديث النفس وتوجهها إلى الشيء ، والله وليهما أي متولي أمورهما لصدق إيمانهما ، لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه وعلى الله فليتوكل المؤمنون أمثالهم ، لا على حولهم وقوتهم ، ولا على أعوانهم وأنصارهم ،
قال اطفيش : { إِذْ } متعلق بعليم ويقدر مثله لسيمع أو بدل من إذ { همَّت } عزمت أو أرادت ، وذلك عزموا ، وذلك عزم وإرادة لأتباع عبد الله بن أبى ، ويقال أول ما يخطر بالقلب خاطر ، وإذا قوى فخديث نفس ، وإذا زاد قوة فعزم ، وبعد ذلك قول أو فعل ، قال بعضهم :
مَرَاتِبُ القَصْدِ خَمْسٌ هَاجِسٌ ذَكَرُوا ... وَخَاطِرٌ فَحَدِيثُ النّفْسِ فَاسْتَمِعَا
يَلِيهِ هَمٌّ فَعَزْمٌ كُلُّهَا رُّفِعَتْ إلاّ الأَخِيرَ فَفِيهِ الأَخذُ قَدْ وَقَعا
يعنى العقاب ، وقيل المراد فى الآية حديث النفس لا العزم والإرادة ، لقوله تعالى : والله وليهما ، والله لا يكون وليا لمن عزم عَلَى خذلان الرسول صلى الله عليه وسلم وأما مجرد التحدث فى النفس فلا يأباه ذلك ، لأن النفس لا تخلو عند الشدة من بعض الجزع فتثبت بولاية الله عَلَى الحق ، قلت ، لا يأبى قوله ، والله وليهما من أن يراد العم والإرادة لأن الله عز وجل يكون وليان ولو للمشرك ، بأن يرده إلى الإسلام إلا أن يراد المتبادر
قال الطبرسي: « إذ همت » أي قصدت و عزمت « طائفتان » أي فرقتان
قال الصابوني : [ إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا ] أى حين كادت طائفتان من جيش المسلمين أن تجبنا وتضعفا ، وهمتا بالرجوع وهما " بنو سلمة " و " بنو حاربة " وذلك حين خرج رسول الله (ص) لأحد بألف من أصحابه ، فلما قاربوا عسكر الكفرة وكانوا ثلاثة آلاف انخذل " عبد الله بن أبى " بثلث الجيش وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فهم الحيان من الأنصار بالرجوع ، فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله (ص) وذلك قوله تعالى
4) لا يشكل على أن العزم يستعمل في الخير قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) } لأنا نقول المعنى الأصلي للعزم موجود في الآية وهو القصد الجازم الشديد الأكيد ، وعقد القلب على إمضاء الأمر بحيث لا يكون عنده تردد في الأمر ولا مثنوية ، أما هل هو خير نقول الآية في الإيلاء وهو الإيلاء حلف على الامتناع والترك والمراد به الحلف على ترك مباشرة الزوجة ، وكانوا في الجاهلية يحلفون ألا يقربوا نساءهم السنة والأكثر إضراراً بهن ، فأعطاه الشرع أربعة أشهر ليرجع فيها ثم عند انتهائها فبعض الفقهاء قالوا تطلق بانتهاء المدة والجمهور قالوا لا تطلق لكن يجبر على التطليق ولا شك أن رجعته أفضل من الطلاق كما نص العلماء ، لكن يمكن أن يقال هنا إن الطلاق أفضل من بقاء الزوجة معلقة وهذا هو سر التعبير بالعزم هنا ،وقد أشار إلى هذا سيد قطب ومحمد سيد طنطاوي فقد قال سيد قطب : "وفي هذه الحالة ينبغي أن تفك هذه العقدة ؛ وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق . فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي . وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد . فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون ؛ وأروح للرجل كذلك وأجدى ؛ وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة ".وقال سيد طنطاوي : "وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور ، والأربعة الأشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه وميوله ، فإما أن يعود إلى معاشرة زوجه بالطريقة التي شرعها الله ، وإما أن تعاد إلى الزوجة حريتها بالطلاق ، ليبدأ كلاهما حياة زوجية جديدة مع شخص آخر . فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون ، وأنفع للرجل كذلك وأشرف . وقد اختار الله هذه المدة وهو الأعلم بحكمة اختياره فعلينا أن نتقبل ما شرعه لنا طائعين خاشعين ".
• ثم لا يمكن وضع كلمة (همَّ) لأن المقصود أنه زال تردده وعزم قلبه وصمم على الطلاق من غير تردد وأدق كلمة لهذا عزم ، ثم إن لا يتحقق فيه الفعل فقد قلنا في تعريف الهم : هو العزم الصادق والقصد الثابت على الفعل وإقبال النفس.
• مع التوجه والقصد إليه والمشارفة على الفعل و تهيئة المقدمات والأسباب و مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد ، أو شروع في بعض مقدماته دون أن تأخذ فى تنفيذه ، والفرض هنا أنه عزم الطلاق ويريد تنفيذه .والله أعلم بأسرار كتابه .
 
بوركت أخي على ماذكرت
ومن فضل الله تعالى أن بحث هذا الموضوع في رسالة ماجستير بعنوان: الهمة في ضوء القرآن الكريم دراسة موضوعية وهي حاليا" تطبع في دار الصميعي وسترى النور قريبا" بإذن الله .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين اما بعد. .جزاكم الله تعالى خيرا. .ولي إعتراض على معنى قوله تعالى (وهم بها) فإن التفسير الذي أراه
أقرب للحق ان يوسف هم بضربها
ولم يهم بالفاحشة وذلك للكثير
من الادلة التي ربما ذكرتها في
وقت لاحق. .ان شاء الله تعالى.
 
عودة
أعلى