أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح.
يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام
أحد المتصفحات البديلة.
النَّوَازِلُ بَيْنَ التَّرَخُّصِ وَالتَّخَصُّصِ وَوَسَائِلِ التَّطْهِيرِ
النَّوَازِلُ بَيْنَ التَّرَخُّصِ وَالتَّخَصُّصِ وَوَسَائِلُ التَّطْهِيرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
الْمُقَدِّمَةُ:
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ .......}.
جَاءَ فِي تُحْفًةِ الأَحْوَذِيّ بِشَرْحِ جَامِعِ التُّرْمِذيّ............
( اِحْفَظْ اللَّهَ ) أَيْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ( يَحْفَظْك ) أَيْ يَحْفَظْك فِي الدُّنْيَا مِنْ الْآفَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ، وَفِي الْعُقْبَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ وَالدَّرَكَاتِ .
قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ رَجَبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي كِتَابِهِ جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ .......
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ وَصَايَا عَظِيمَةً وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةً مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَدَبَّرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ، فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا حَفِظَهُ اللَّهُ فِي عَقِبِهِ وَعَقِبِ عَقِبِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ لَيَحْفَظُ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَالدُّوَيْرَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مِنَ اللَّهِ وَسِتْرٍ.
وَمَنْ ضَيَّعَ اللَّهَ، ضَيَّعَهُ اللَّهُ، فَضَاعَ بَيْنَ خَلْقِهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ وَالْأَذَى مِمَّنْ كَانَ يَرْجُو نَفْعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ.
ألَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ وَجَمِيعَ الْمُصَلِّينَ يَقُولُونَ فِي خِتَامِ كُلِّ صَلَاةٍ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ».
انْظُرْ كَمْ رَحْمَةٍ وَسَلَامَةٍ يَتَنَاقَلُونَهَا بَيْنَهُم – ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ بِهَا إلَى أَهْلِيهِم وَذَوِيهِم.
وَانْظُرْ {السَّلَامُ عَلَيْكُمْ } بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِتَعُمَّ الرَّحْمَةُ كُلَّ مَنْ عَلَى جَانِبَي الْمُصَلِّي .
وَهَذَا الْحَالُ فِي كُلِّ حَالَةٍ فَتَنْتَشِرُ الرَّحْمَةْ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ – {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا }.
تَقْسِيمُ الْمُشَارَكَةِ ...................
1- تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...........
2- ثَوَابِتٌ فِي النَّوَازِلِ.......... 3- أَحَادِيثُ الْبَابِ..................
4- وَسَائِلُ التَّطْهِيرِ...........
أَوْلَاً : تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...........
1- فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ..............
قَالَ تَعَالَى: { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} : أَمْرٌ بِالدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بِلَفْظِ الْفِرَارِ، لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ مِنْ وَرَاءَ النَّاسِ عِقَابٌ وَعَذَابٌ وَأَمْرٌ حَقُّهُ أَنْ يُفَرَّ مِنْهُ، فَجُمِعَتْ لَفْظَةُ فَفِرُّوا بَيْنَ التَّحْذِيرِ وَالِاسْتِدْعَاءِ. وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ»(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ..............
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ.
فَالَّذِي نَرَاهُ كَأَنَّهُ فِرَارٌ مِنَ اللهِ...... وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
2- الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى.....................
قَالَ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفسيرِ المَنَارِ لَه .....
ذَلِكَ بِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِاللهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِي كُلِّ شَيْءٍ .
قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ رَجَبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي كِتَابِهِ جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ .......
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» هَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فَإِنَّ السُّؤَالَ هُوَ دُعَاؤُهُ وَالرَّغْبَةُ إِلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا...........}
3- إِلَّا الْمُصَلِّينَ - لَا هَلَعَ وَلَا جَزَعَ ...........
قَالَ تَعَالَى: { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)}
4- الصَّلَاةُ وَسيلَةُ حِفْظٍ كُبْرَى .............
قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفسيرِ المَنَارِ لَه .....
ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى بِإِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَأَكْبَرُ ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ خُلِقَ هَلُوعًا ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ، فَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْمُصَلِّينَ ، إِذَا كَانُوا عَلَى الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ مُحَافِظِينَ .
لِهَذَا قَالَ :(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي وَجْهِ اخْتِيَارِ لَفْظِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحِفْظِ : إِنَّ الصِّيغَةَ عَلَى أَصْلِهَا تُفِيدُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْحِفْظِ وَهِيَ هُنَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : احْفَظِ الصَّلَاةَ يَحْفَظْكَ اللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَا ، كَقَوْلِهِ : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) أَوْ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالصَّلَاةِ نَفْسِهَا; أَيِ : احْفَظُوهَا تَحْفَظْكُمْ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِتَنْزِيهِ نُفُوسِكُمْ عَنْهُمَا ، وَمِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ بِتَقْوِيَةِ نُفُوسِكُمْ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) .
5- وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ...........
قَالَ تَعَالَى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}
قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
وَبَعْدَهَا................
قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْبَلَاءِ- فَتَعَاقُبُ الْآيَتَيْنِ لَهُ ارْتِبَاطٌ مُحَقَّقٌ ....
6- إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ..........
فِي سُورَةِ" الْجُمُعَةِ .......
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}.
وَبَعْدَهَا النِّداءُ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ..............
قَالَ تَعَالَى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)}
فَتَعَاقُبُ الْآيَتَيْنِ لَهُ ارْتِبَاطٌ مُحَقَّقٌ ............
ثَانِيَاً: ثَوَابِتٌ فِي النَّوَازِلِ............................
1- قَالَ تَعَالَى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
2- قَالَ تَعَالَى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}
3- قَالَ تَعَالَى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}
4- قَالَ تَعَالَى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)}
قَالَ السَّعديُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ .....................
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبرًا عَنْ عُمُومِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ } وَهَذَا شَامِلٌ لِعُمُومِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ الْخَلْقَ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَكُلُّهَا قَدْ كُتِبَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ، بَلْ تَذْهَلُ عِنْدَهُ أَفْئِدَةُ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ، وَأَخْبَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ تَتَقَرَّرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ، وَيَبْنُوا عَلَيْهَا مَا أَصَابَهُم مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَا يَأْسُوا وَيَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَهُم، مِمَّا طَمَحَتْ لَهُ أَنْفُسُهُم وَتَشَوَّفُوا إِلَيْهِ، لِعِلْمِهِم أَنَّ ذَلِكَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، لَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِهِ وَوُقُوعِهِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ، وَلَا يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمُ اللهُ فَرَحَ بَطَرٍ وَأَشْرٍ، لِعِلْمِهِم أَنهُم مَا أَدْرَكُوهُ بَحَوْلِهِم وَقُوَّتِهِم، وَإِنَّمَا أَدْرَكُوهُ بِفَضْلِ اللهِ وَمَنِّهِ، فَيَشَتَغِلُوا بِشُكْرِ مَنْ أَوْلَى النِّعَمِ وَدَفَعَ النِّقَمِ، وَلِهَذَا قَالَ: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }.
5- قَالَ تَعَالَى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)}
قَالَ السَّعديُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ .....................
يَقُولُ تَعَالَى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } هَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمَصَائِبِ، فِي النَّفْسِ، وَالْمَالِ، وَالْوَلَدِ، وَالْأَحْبَابِ، وَنَحْوَهَم، فَجَمِيعُ مَا أَصَابَ الْعِبَادَ، فَبِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، قَدْ سَبَقَ بِذَلِكَ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى، وَجَرَى بِهِ قَلَمُهُ، وَنَفَذَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ ، هَلْ يَقُومُ الْعَبْدُ بِالْوَظِيفَةِ الَّتِي عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، أَمْ لَا يَقُومُ بِهَا؟ فَإِنْ قَامَ بِهَا، فَلَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَالْأَجْرُ الْجَمِيلُ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِذَا آمَنَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَسَلَّم لِأَمْرِهِ، هَدَى اللهُ قَلْبَهُ، فَاطْمَأَنَّ وَلَمْ يَنْزَعِجْ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، كَمَا يَجْرِي لِمَنْ لِمْ يَهْدِ اللهُ قَلْبَهُ، بَلْ يَرْزُقُهُ الثَّبَاتَ عِنْدَ وُرُودِهَا وَالْقِيَامِ بِمُوجِبِ الصَّبْرِ، فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ ثَوَابٌ عَاجِلٌ، مَعَ مَا يَدَّخِرُ اللهُ لَهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ عِنْدَ وُرُودِ الْمَصَائِبِ، بِأَنَّ لَمْ يَلْحَظْ قَضَاءَ اللهِ وَقَدَرَهُ ، بَلْ وَقَفَ مَعَ مُجَرَّدِ الْأَسْبَابِ، أَنَّهُ يُخْذَلُ، وَيِكِلُهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا وُكِلَ الْعَبْدُ إِلَى نَفْسِهِ ، فَالنَّفْسَ لَيْسَ عِنْدَهَا إِلَّا الْجَزَعُ وَالْهَلَعُ الذي هو عقوبة عاجلة عَلَى الْعَبْدِ ، قبل عُقُوبَةُ الآخِرَةِ ، عَلَى مَا فَرَّطَ فِي وَاجِبِ الصَّبْرِ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } فِي مَقَامِ الْمَصَائِبِ الْخَاصِّ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ أَيْ: الْإِيمَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ، مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، وَصَدَقَ إِيمَانُهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْقِيَامِ بِلَوَازِمِهِ وَوَاجِبَاتِهِ، أَنَّ هَذَا السَّبَبَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْعَبْدُ أَكْبَرُ سَبَبٍ لِهِدَايَةِ اللهِ لَهُ فِي أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ، وَأَفْعَالَهُ وَفِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ.
وَهَذَا أَفْضَلُ جَزَاءٍ يُعْطِيهِ اللهُ لِأَهْلِ الإِيمَانِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الأَخْبَارِ: أَنَّ الْمُؤمِنِينَ يُثَبِّتُهُم اللهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ.
وَأَصْلُ الثَّبَاتِ: ثَبَاتُ الْقَلْبِ وَصَبْرِهِ، وَيَقِينِهِ عِنْدَ وُرُودِ كُلِّ فِتْنَةٍ، فَقَالَ: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } فَأَهْلُ الإِيمَانِ أَهْدَى النَّاسِ قُلُوبَاً، وَأَثْبَتُهُم عِنْدَ الْمُزْعِجَاتِ وَالْمُقْلِقَاتِ، وَذَلِكَ لِمَا مَعَهُم مِنَ الإِيمَانِ.
6- قَالَ تَعَالَى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى..
الْخِطَابُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَجَمِيعُ الْخَلْقِ دَاخِلُونَ فِي هَذَا الْخِطَابِ بِالْعُمُومِ، وَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى. بِخِلَافِ قَوْلِهِ {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} فَإِنَّ هَذَا لَهُ خَاصَّةٌ. وَلَكِنْ مَنْ يُبَلِّغُ عَنْهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْخِطَابِ.
أَيْ مَا أَصَابَك مِنْ خِصْبٍ وَنَصْرٍ وَهُدًى فَاَللَّهُ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْك وَمَا أَصَابَك مِنْ حُزْنٍ وَذُلٍّ وَشَرٍّ فَبِذُنُوبِك وَخَطَايَاك وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ كَائِنَةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ الْعَبْدُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَأَنْ يُوقِنَ الْعَبْدُ بِشَرْعِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَبِالْحَسَنَاتِ: مَا يَسُرُّهُ مِنْ النِّعَمِ. كَمَا قَالَ: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}.
7- قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ ................
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَاوَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) }
قَالَ أَبُو الْبَقَاء الْكَفَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكُلِّيَّاتِ:
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ } أَيْ: مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، وَفِي (لَنَا) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُنَا نَعُدُّهُ نِعْمَةً لَنَا وَلَا نَعُدُّهُ نِقْمَةً عَلَيْنَا .
8- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلَامُ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ- وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيّ (صَحِيحٌ)
وَفِي رِوَايَةٍ :{ تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْك فِي الشِّدَّةِ }.
جَاءَ فِي تُحْفًةِ الأَحْوَذِيّ بِشَرْحِ جَامِعِ التُّرْمِذيّ............
( اِحْفَظْ اللَّهَ ) أَيْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ( يَحْفَظْك ) أَيْ يَحْفَظْك فِي الدُّنْيَا مِنْ الْآفَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ، وَفِي الْعُقْبَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ وَالدَّرَكَاتِ .
( اِحْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَك ) قَالَ الطِّيبِيُّ : أَيْ رَاعِ حَقَّ اللَّهِ وَتَحَرَّ رِضَاهُ تَجِدْهُ تُجَاهَك أَيْ مُقَابِلَك وَحِذَاءَك وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنْ الْوَاوِ كَمَا فِي تُقَاةٌ وَتُخَمَةٌ ، أَيْ اِحْفَظْ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَحْفَظَك اللَّهُ مِنْ مَكَارِهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
( إِذَا سَأَلْت ) أَيْ أَرَدْت السُّؤَالَ ( فَاسْأَلْ اللَّهَ ) أَيْ وَحْدَهُ لِأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَجَلْبِ النَّفْعِ ( وَإِذَا اِسْتَعَنْت ) أَيْ أَرَدْت الِاسْتِعَانَةَ فِي الطَّاعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ( فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ ) فَإِنَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ ( رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ ) أَيْ كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا كُتِبَ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ وَلَا يُكْتَبُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ ، فَعَبَّرَ عَنْ سَبْقِ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ بِرَفْعِ الْقَلَمِ وَجَفَافِ الصَّحِيفَةِ تَشْبِيهًا بِفَرَاغِ الْكَاتِبِ فِي الشَّاهِدِ مِنْ كِتَابَتِهِ .
قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ رَجَبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي كِتَابِهِ جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ .......
وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: «احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» " يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اتَّقَى اللَّهَ، وَحَفِظَ حُدُودَهُ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ فِي حَالِ رَخَائِهِ، فَقَدْ تَعَرَّفَ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، فَعَرَفَهُ رَبُّهُ فِي الشِّدَّةِ، وَرَعَى لَهُ تَعَرُّفَهُ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، فَنَجَّاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي قُرْبَ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَإِجَابَتَهُ لِدُعَائِهِ.
فَمَعْرِفَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْرِفَةُ الْعَامَّةُ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْإِقْرَارِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالثَّانِي: مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي مَيْلَ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ، وَالْأُنْسَ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِهِ، وَالْحَيَاءَ مِنْهُ، وَالْهَيْبَةَ لَهُ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي يَدُورُ حَوْلَهَا الْعَارِفُونَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَسَاكِينُ أَهْلِ الدُّنْيَا، خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قِيلَ لَهُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ أَيْضًا لِعَبْدِهِ نَوْعَانِ: مَعْرِفَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ، وَاطِّلَاعُهُ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ وَمَا أَعْلَنُوهُ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] [ق: 16] ، قَالَ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] [النَّجْمِ: 32] .
وَالثَّانِي: مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ تَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ لِعَبْدِهِ، وَتَقْرِيبَهُ إِلَيْهِ، وَإِجَابَةَ دُعَائِهِ، وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحْكَى عَنْ رَبِّهِ " «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي، لِأُعِيذَنَّهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «وَلَئِنْ دَعَانِي لِأُجِيبَنَّهُ» ".
وَفِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ عَامَلَ اللَّهَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي حَالِ رَخَائِهِ، عَامَلَهُ اللَّهُ بِاللُّطْفِ وَالْإِعَانَةِ فِي حَالِ شِدَّتِهِ.
وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ....}
8-قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي مَجمُوعِ الفَتَاوَى.....
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إلَّا بِذَنْبِ وَلَا رُفِعَ إلَّا بِتَوْبَةِ.
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفسيرِ المَنَارِ لَه .....
وَمَا أَجَلَّ مَا قَالَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي اسْتِسْقَائِهِ : " اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ ".
9- وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ..........................
قَالَ تَعَالَى :{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) }
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ..............
وَمَعْنَى (فَوْقَ عِبادِهِ) فَوْقِيَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، أَيْ هُمْ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ لَا فَوْقِيَّةَ مَكَانٍ، كَمَا تَقُولُ: السُّلْطَانُ فَوْقَ رَعِيَّتِهِ أَيْ بِالْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَفِي الْقَهْرِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي الْقُدْرَةِ، وَهُوَ مَنْعُ غَيْرِهِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فِي أَمْرِهِ (الْخَبِيرُ) بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ، أَيْ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ يَجِبُ أَلَّا يُشْرَكَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ:
الْقاهِرُ إِنْ أَخَذَ صِفَةَ فِعْلٍ أَيْ مُظْهِرُ الْقَهْرِ بِالصَّوَاعِقِ وَالرِّيَاحِ وَالْعَذَابِ، فَيَصِحُّ أَنَّ تُجْعَلَ فَوْقَ ظَرْفِيَّةً لِلْجِهَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تَعَاهُدُهَا لِلْعِبَادِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَإِنْ أَخَذَ الْقاهِرُ صِفَةَ ذَاتٍ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَفَوْقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِهَةِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعُلُوِّ الْقَدْرِ وَالشَّأْنِ، كَمَا تَقُولُ: الْيَاقُوتُ فَوْقَ الْحَدِيدِ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ ................
قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} أَيْ: هُوَ الَّذِي خَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَذَلَّتْ لَهُ الْجَبَابِرَةُ، وَعَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَانَتْ لَهُ الْخَلَائِقُ، وَتَوَاضَعَتْ لِعَظَمَةِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَعُلُوِّهِ وَقُدْرَتِهِ الْأَشْيَاءُ، وَاسْتَكَانَتْ وَتَضَاءَلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَحْتَ حُكْمِهِ وَقَهْرِهِ {وَهُوَ الْحَكِيمُ} أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ {الْخَبِيرُ} بِمَوَاضِعِ الْأَشْيَاءِ وَمَحَالِّهَا، فَلَا يُعْطِي إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ..
قَالَ فِي التَّحْريرِ وَالتّنْوِيرِ.................
وَمَعْنَى الْقَهْرِ فَوْقَ الْعِبَادِ أَنَّهُ خَالِقُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدَرِهِمْ بِحَيْثُ يُوجِدُ مَا لَا يُرِيدُونَ وُجُودَهُ كَالْمَوْتِ، وَيَمْنَعُ مَا يُرِيدُونَ تَحْصِيلَهُ كَالْوَلَدِ لِلْعَقِيمِ وَالْجَهْلِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ أُمُورًا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا وَأُمُورًا لَا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا وَأُمُورًا يَفْعَلُهَا تَارَةً وَلَا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا تَارَةً، كَالْمَشْيِ لِمَنْ خَدِرَتْ رِجْلُهُ فَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْقُدَرِ وَالِاسْتِطَاعَاتِ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْنَعُهَا، وَلِأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، ثُمَّ يَقِيسُ الْعَقْلُ عَوَالِمَ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ. وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْعَنَاصِرَ وَالْقُوَى وَسَلَّطَ بَعْضَهَا عَلَى بعض فَلَا يَسْتَطِيع الْمُدَافَعَةَ إِلَّا مَا خَوَّلَهَا اللَّهُ.
ثَالِثَاً: أَحَادِيثُ الْبَابِ..................
1- عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحَرْتُ هَهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ. وَوَقَفْتُ هَهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَوَقَفْتُ هَهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقَفٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
الرَّحْلُ : الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ وَالْمَنَازِلُ- وَالرِّحَالُ: جَمْعُ رَحْلٍ، وَهُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْبَعِيرِ مِنْ مَتَاعِ الرَّاكِبِ، وَلِذَا سُمِّيَ الْبَعِيرُ رَاحِلَةً.
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ...............................
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمِنًى كُلّهَا مَنْحَر فَانْحَرُوا فِي رِحَالكُمْ ) فَالْمُرَاد بِالرِّحَالِ الْمَنَازِل . قَالَ أَهْل اللُّغَة : رَحْل الرَّجُل مَنْزِله سَوَاء كَانَ مِنْ حَجَر أَوْ مَدَر أَوْ شَعْر أَوْ وَبَر .
2- عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِى سَفَرٍ فَمُطِرْنَا فَقَالَ « لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِى رَحْلِهِ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ
3- عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ ثُمَّ قَالَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَكَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ، أَوِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَر. (مُتَّفق عَلَيْهِ)
4- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ نَادَى بِالصَّلاَةِ فِى لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ وَمَطَرٍ فَقَالَ فِى آخِرِ نِدَائِهِ أَلاَ صَلُّوا فِى رِحَالِكُمْ أَلاَ صَلُّوا فِى الرِّحَالِ.ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ فِى السَّفَرِ أَنْ يَقُولَ أَلاَ صَلُّوا فِى رِحَالِكُمْ. (مُتَّفق عَلَيْهِ)
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ...............................
هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى تَخْفِيف أَمْر الْجَمَاعَة فِي الْمَطَر وَنَحْوه مِنْ الْأَعْذَار ، وَأَنَّهَا مُتَأَكِّدَة إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر ، وَأَنَّهَا مَشْرُوعَة لِمَنْ تَكَلَّفَ الْإِتْيَان إِلَيْهَا وَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّة ؛ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة : لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ فِي رَحْله ، وَأَنَّهَا مَشْرُوعَة فِي السَّفَر ، وَأَنَّ الْأَذَان مَشْرُوع فِي السَّفَر ، وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يَقُول : أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالكُمْ فِي نَفْس الْأَذَان ، وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ فِي آخِر نِدَائِهِ .
وَالْأَمْرَانِ جَائِزَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - فِي الْأُمّ فِي كِتَاب الْأَذَان ، وَتَابَعَهُ جُمْهُور أَصْحَابنَا فِي ذَلِكَ ، فَيَجُوز بَعْد الْأَذَان ، وَفِي أَثْنَائِهِ لِثُبُوتِ السُّنَّة فِيهِمَا ، لَكِنَّ قَوْله بَعْده أَحْسَن لِيَبْقَى نَظْم الْأَذَان عَلَى وَضْعه ، وَمِنْ أَصْحَابنَا مَنْ قَالَ : لَا يَقُولهُ إِلَّا بَعْد الْفَرَاغ ، وَهَذَا ضَعِيف مُخَالِف لِصَرِيحِ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ، وَلَا مُنَافَاة بَيْنه وَبَيْن الْحَدِيث الْأَوَّل حَدِيث اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ هَذَا جَرَى فِي وَقْت وَذَلِكَ فِي وَقْت ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح قَالَ أَهْل اللُّغَة : الرِّحَال : الْمَنَازِل سَوَاء كَانَتْ مِنْ حَجَر وَمَدَر وَخَشَب ، أَوْ شَعْر وَصُوف وَوَبَر وَغَيْرهَا ، وَاحِدُهَا : رَحْل .
5- عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَانْحَرَفَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ قَالَ: «عَلَيَّ بِهِمَا» فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟» . فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: «فَلَا تَفْعَلَا إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ (صَحِيح)
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالنَا ): جَمْع رَحْل بِفَتْحِ الرَّاء وَسُكُون الْمُهْمَلَة هُوَ الْمَنْزِل وَيُطْلَق عَلَى غَيْره وَلَكِنَّ الْمُرَاد هُنَا الْمَنْزِل.
رَابِعَاً: وَسَائِلُ التَّطْهِيرِ................
1- الصَّلَاةُ الَّتِي أُغْلِقَتْ أَمَاكِنُهَا ................
قَالَ تَعَالَى: { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
فِي الْمَسَاجِدِ أَبْوَابٌ لِرَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ......
عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ألَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ وَجَمِيعَ الْمُصَلِّينَ يَقُولُونَ فِي خِتَامِ كُلِّ صَلَاةٍ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ».
انْظُرْ كَمْ رَحْمَةٍ وَسَلَامَةٍ يَتَنَاقَلُونَهَا بَيْنَهُم – ثُمَّ يَنْقَلِبُونَ بِهَا إلَى أَهْلِيهِم وَذَوِيهِم .
وَانْظُرْ {السَّلَامُ عَلَيْكُمْ } بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِتَعُمَّ الرَّحْمَةُ كُلَّ مَنْ عَلَى جَانِبَي الْمُصَلِّي .
وَهَذَا الْحَالُ فِي كُلِّ حَالَةٍ فَتَنْتَشِرُ الرَّحْمَةْ فِي كُلِّ الْجِهَاتِ – {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا }.
قَالَ تَعَالَى: { فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)}
قَالَ تَعَالَى: { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)}
لَمْ تَمْنَعِ الصَّلَاةُ فِي الْحَرْبِ - صَلاَةُ الْخَوْفِ- ..........................
قَالَ تَعَالَى: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
2- دَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ .................
قَالَ تَعَالَى:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}
3- بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ .....
قَالَ تَعَالَى:{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)}
وَبَعِيدَاً عَنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ – فَإِنَّهُ يَسْتَوْقِفُكَ حَتْمَاً تًقْدِيمُ :{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } عَلَى :{ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }.
فَتَحْقِيقُ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَمرٌ لَازِمٌ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعَاً عَامَّاً لِكُلِّ الْخَلِيقَةِ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ – مَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ .
جَاءَ فِي كِتَابِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ..................
وَلَقَدْ دَخَلْتَ نَيِّفًا عَلَى أَلْفِ قَرْيَةٍ مِنْ بَرِيَّةٍ ، فَمَا رَأَيْتُ نِسَاءً أَصْوَنَ عِيَالًا ، وَلَا أَعَفَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ نَابُلُسَ الَّتِي رُمِيَ فِيهَا الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنَّارِ ، فَإِنِّي أَقَمْت فِيهَا أَشْهُرًا ، فَمَا رَأَيْت امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ ، نَهَارًا ، إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ مِنْهُنَّ ، فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ ، وَانْقَلَبْنَ إلَى مَنَازِلِهِنَّ لَمْ تَقَعْ عَيْنِي عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى .
وَقَدْ رَأَيْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِفَ مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهِنَّ حَتَّى اسْتَشْهَدْنَ فِيهِ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ..............
وَذَكَرَ أَنَّ سَوْدَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا قِيلَ لَهَا: لِمَ لَا تَحُجِّينَ وَلَا تَعْتَمِرِينَ كَمَا يَفْعَلُ أَخَوَاتُكِ؟ فَقَالَتْ: قَدْ حَجَجْتُ وَاعْتَمَرْتُ، وَأَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَقِرَّ فِي بَيْتِي. قَالَ الرَّاوِي: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجَتْ مِنْ بَابِ حُجْرَتِهَا حَتَّى أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهَا. رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا!
مَوْقِفٌ خَالِدٌ لِأُمِّ الْمُؤمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها...........
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي فَأَضَعُ ثَوْبِي، وَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُهُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي، حَيَاءً مِنْ عُمَرَ ...رَوَاهُ أَحْمد (صَحِيح) { مِشكَاةِ المَصَابيحِ}
قَالَ تَعَالَى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}
3- طَلَبُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ ....................
قَالَ تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)}
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ..............
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَاءً طَهُوراً" يُتَطَهَّرُ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: وَضُوءٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ. وَكُلُّ طَهُورٍ طَاهِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ طَاهِرٍ طَهُورًا. فَالطَّهُورُ (بِفَتْحِ الطَّاءِ) الِاسْمُ. وَكَذَلِكَ الْوَضُوءُ وَالْوَقُودُ. وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ.
قَالَ فِي التَّحْريرِ وَالتّنْوِيرِ.................
وَمَاءُ الْمَطَرِ بَالِغٌ مُنْتَهَى الطَّهَارَةِ إِذْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ شَيْءٌ يُكَدِّرُهُ أَوْ يُقَذِّرُهُ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْقَى الْمِيَاهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ جَمِيعِ الْجَرَاثِيمِ فَهُوَ الصَّافِي حَقًّا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ بَالِغُ نِهَايَةِ الطَّهَارَةِ فِي جِنْسِهِ مِنَ الْمِيَاهِ وَوَصْفُ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ إِذِ الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ إِلَى صِيغَةِ فَعُولٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي الْوَصْفِ، فَاقْتِضَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ اقْتِضَاءٌ الْتِزَامِيٌّ لِيَكُونَ مُسْتَكْمِلًا وَصْفَ الطَّهَارَةِ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، فَيَكُونَ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ إِدْمَاجًا لِمِنَّةٍ فِي أَثْنَاءِ المنن الْمَقْصُودَة، وَيكون كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَال: 11] وَصَفَ الطَّهَارَةَ الذَّاتِيَّةَ وَتَطْهِيرَهُ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ إِدْمَاجًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْأَحَقُّ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ وَصْفُ الْمَاءِ بِالصَّفَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)}
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفسيرِ المَنَارِ لَه .....
ذَكَرَ تَعَالَى لِذَلِكَ الْمَطَرِ أَرْبَعَ مَنَافِعَ :
(الْأُولَى) تَطْهِيرُهُمْ بِهِ ، أَيْ تَطْهِيرًا حِسِّيًّا بِالنَّظَافَةِ الَّتِي تَشْرَحُ الصَّدْرَ وَتُنَشِّطُ الْأَعْضَاءَ فِي كُلِّ عَمَلٍ ، وَشَرْعِيًّا بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ .
.
(الثَّانِيَةُ) إِذْهَابُ رِجْزِ الشَّيْطَانِ عَنْهُمْ . وَالرِّجْزُ وَالرِّجْسُ وَالرِّكْسُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُسْتَقْذَرِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى . وَالْمُرَادُ هُنَا وَسْوَسَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَأْثُورِ .
(الثَّالِثَةُ) الرَّبْطُ عَلَى الْقُلُوبِ ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَثْبِيتِهَا وَتَوْطِينِهَا عَلَى الصَّبْرِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا
عَلَى قَلْبِهَا } وَتَأْثِيرُ الْمَطَرِ فِي الْقُلُوبِ تُفَسِّرُهُ الْمَنْفَعَةُ .
(الرَّابِعَةُ) وَهُوَ تَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ بِهِ ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ فِي أَرْضٍ تَسُوخُ فِيهَا قَدَمُهُ كُلَّمَا تَحَرَّكَ وَهُوَ قَدْ يُقَاتِلُ فَارِسًا لَا رَاجِلًا لَا يَكُونُ إِلَّا وَجِلًا مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ .
قَالَ فِي التَّحْريرِ وَالتّنْوِيرِ.................
وَذَكَرَ اللَّهُ مِنَّةً أُخْرَى جَاءَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ: وَهِيَ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِسْنَادُ هَذَا الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِهِ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ نَزَلَ فِي وَقْتِ
احْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْمَاءِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ فِيهِ نُزُولُ الْأَمْطَارِ فِي أُفُقِهِمْ،
وَ (الرِّجُزُ) الْقَذَرُ، وَالْمُرَادُ الْوَسَخُ الْحِسِّيُّ وَهُوَ النَّجَسُ، وَالْمَعْنَوِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ بِالْحَدَثِ. وَالْمُرَادُ الْجَنَابَةُ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَعُمُّ الْجَيْشَ كُلَّهُ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّ غَالِبَ الْجَيْشِ لَمَّا نَامُوا احْتَلَمُوا فَأَصْبَحُوا عَلَى جَنَابَةٍ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ خَوَاطِرَ الشَّيْطَانِ يُخَيِّلُهَا لِلنَّائِمِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ طَهَارَتَهُ بِدُونِ اخْتِيَارٍ طَمَعًا فِي تَثَاقُلِهِ عَنِ الِاغْتِسَالِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلِأَنَّ فُقْدَانَ الْمَاءِ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْبَقَاءِ فِي تَنَجُّسِ الثِّيَابِ وَالْأَجْسَادِ وَالنَّجَاسَةُ تُلَائِمُ طَبْعَ الشَّيْطَانِ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أَيْ يُؤَمِّنَكُمْ بِكَوْنِكُمْ وَاثِقِينَ بِوُجُودِ الْمَاءِ لَا تَخَافُونَ عَطَشًا وَتَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ السَّيْرِ فِي الرَّمْلِ، بِأَنْ لَا تَسُوخَ فِي ذَلِكَ الدَّهْسِ الْأَرْجُلُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ حُصُوله بالمطر.
و (الرَّبْط) حَقِيقَتُهُ شَدُّ الْوَثَاقِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّثْبِيتِ وَإِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ وَلَهُ رَبَاطَةُ جَأْشٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ ". رَوَاهُ مُسلم
جَاءَ فِي تُحْفًةِ الأَحْوَذِيّ بِشَرْحِ جَامِعِ التُّرْمِذيّ............
( وَطَهُورًا ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّاهِرَ لَمْ تَثْبُتْ الْخُصُوصِيَّةُ ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا سِيقَ لِإِثْبَاتِهَا.
4- الطَّيِّبَاتُ وَالْخَبَائِثُ ..................
قَالَ تَعَالَى: { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ .............}
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ..............
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ هِيَ الْمُحَلَّلَاتُ، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطِّيبِ، إِذْ هِيَ لَفْظَةٌ تَتَضَمَّنُ مَدْحًا وَتَشْرِيفًا. وَبِحَسَبِ هَذَا نَقُولُ فِي الْخَبَائِثِ: إِنَّهَا الْمُحَرَّمَاتُ.
قَالَ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ ................
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ طَيِّبٌ نَافِعٌ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ، وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ، فَهُوَ خَبِيثٌ ضَارٌّ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ.
وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ يَرَى التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لَهُ.
وَكَذَا احْتَجَّ بِهَا مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي حِلِّ الْمَآكِلِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ عَلَى تَحْلِيلِهَا وَلَا تَحْرِيمِهَا، إِلَى مَا اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ فِي حَالِ رَفَاهِيَتِهَا، وَكَذَا فِي جَانِبِ التَّحْرِيمِ إِلَى مَا اسْتَخْبَثَتْهُ. وَفِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ الْقِيَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَدَارِجِ السَّالِكِينَ بَيْنَ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ...
بَلْ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ.
فَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ مَعْرُوفًا وَمُنْكَرًا وَخَبِيثًا وَطَيِّبًا إِنَّمَا هُوَ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحِلِّ وَالتَّحْرِيمِ بِهِ، لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا يُحِلُّ لَهُمْ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ! وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا؟ وَأَيُّ عِلْمٍ يَبْقَى فِيهِ لِنُبُوَّتِهِ؟ وَكَلَامُ اللَّهِ يُصَانُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ وَالْعِلْمُ الدَّالُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَشْهَدُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ حُسْنَهُ وَكَوْنَهُ مَعْرُوفًا، وَمَا يَنْهَى عَنْهُ تَشْهَدُ قُبْحَهُ وَكَوْنَهُ مُنْكَرًا، وَمَا يُحِلُّهُ تَشْهَدُ كَوْنَهُ طَيِّبًا، وَمَا يُحَرِّمُهُ تَشْهَدُ كَوْنَهُ خَبِيثًا، وَهَذِهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ بِخِلَافِ دَعْوَةِ الْمُتَغَلِّبِينَ الْمُبْطِلِينَ، وَالْكَذَّابِينَ وَالسَّحَرَةِ، فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ وَأَغْرَاضَهُمْ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ وَمُنْكَرٍ وَبَغْيٍ وَإِثْمٍ وَظُلْمٍ.
وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ وَقَدْ أَسْلَمَ، لَمَّا عَرَفَ دَعْوَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَيِّ شَيْءٍ أَسْلَمْتَ؟ وَمَا رَأَيْتَ مِنْهُ مِمَّا دَلَّكَ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ مَا أَمَرَ بِشَيْءٍ، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ نَهَى عَنْهُ، وَلَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ أَمَرَ بِهِ، وَلَا أَحَلَّ شَيْئًا، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ حَرَّمَهُ، وَلَا حَرَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ أَبَاحَهُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ، وَصِحَّةِ عَقْلِهِ وَفِطْرَتِهِ، وَقُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ بِمُطَابَقَةِ أَمْرِهِ لِكُلِّ مَا حَسُنَ فِي الْعَقْلِ، وَكَذَلِكَ مُطَابَقَةُ تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَلَوْ كَانَ جِهَةُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالطِّيبِ وَالْخُبْثِ مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ بِهِ لَمْ يَحْسُنْ مِنْهُ هَذَا الْجَوَابُ، وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ: وَجَدْتُهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَيُبِيحُ وَيُحَرِّمُ، وَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا؟
5- الْإِسْلَامُ عَيْنُ الطَّهَارَةِ ............
هَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا جِدَالَ فِيهَا وَلَا تَكَلُّفَ فِيهَا ...........
قَالَ تَعَالَى: { {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }.
قَالَ تَعَالَى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ..............
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرُهُ: بَلْ مَعْنَى الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُ.
قَالَ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ ................
وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمُشْرِكِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى طَهَارَةِ الْمُؤْمِنِ، وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ" وَأَمَّا نَجَاسَةُ بَدَنِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْبَدَنِ وَالذَّاتِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ أَبْدَانِهِمْ.
قَالَ فِي تَفْسيِرِ المَنَارِ............
أَيْ: لَيْسَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَالِهِمْ إِلَّا أَنْجَاسًا فَاسِدِي الِاعْتِقَادِ ، يُشْرِكُونَ بِاللهِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ ، فَيَعْبُدُونَ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ ، وَيَدِينُونَ بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ ، وَلَا يَتَنَزَّهُونَ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَلَا الْآثَامِ ، وَيَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ مِنَ الْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ ، وَيَسْتَحِلُّونَ الْقِمَارَ وَالزِّنَا مِنَ الْأَرْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ ، وَيَسْتَبِيحُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ . وَقَدْ تَمَكَّنَتْ صِفَاتُ النَّجَسِ مِنْهُمْ حِسًّا وَمَعْنَى حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَيْنُهُ وَحَقِيقَتُهُ - وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِنَجَاسَتِهِمْ تَلَبُّسُهُمْ بِهَا دَائِمًا لِعَدَمِ تَعَبُّدِهِمْ بِالطَّهَارَةِ كَالْمُسْلِمِينَ ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْمُرَادَ النَّجَاسَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ أَظْهَرُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعَمُّ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِهِمْ فَهُوَ لَا مَعْنَى لَهُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا قَذَارَتَهَا الذَّاتِيَّةَ وَنَتْنَهَا ، وَذَوَاتُ الْمُشْرِكِينَ كَذَوَاتِ سَائِرِ الْبَشَرِ بِشَهَادَةِ الْحِسِّ ، وَمَنْ كَابَرَ شَهَادَةَ الْحِسِّ كَابَرَ دَلَالَةَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَاللُّغَوِيِّ بِالْأَوْلَى ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَجَاسَةً تَعَبُّدِيَّةً إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِي إِيجَابِ غَسْلِ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبَلَلِ ، وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وُصِفُوا بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً كَأَنَّهُم عَيْنُ النَّجَاسَةِ أَوْ هُم ذُوو نَجَسٍ لِخُبْث بَاطِنِهِم أَوْ لِأَنَّ مَعَهُم الشِّرْكَ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّجَسِ أَوْ لِأَنَّهُم لَا يَتَطَهَّرُونَ وَلَا يَغْتَسِلُونَ وَلَا يَجْتَنِبُونَ النَّجَاسَاتِ فَهِي مُلَابِسَةٌ لَهُم .
قَالَ الرَّازِيِّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ ..........
إِنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا نَجَسَ إِلَّا الْمُشْرِكُ.
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَخَذَ بِيَدِي فمشيت مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ فَانْسَلَلْتُ فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَقَالَ: «أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَة» فَقُلْتُ لَهُ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ» . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ لَقِيتَنِي وَأَنَا جُنُبٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِلَ. وَكَذَا البُخَارِيّ فِي رِوَايَة أُخْرَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمُسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ حَيًّا ، وَلاَ مَيِّتًا. رَوَاهُ البُخَارِيّ
قَالَ تَعَالَى: { إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
قَاَلَ فِي البَحْرِ المُحِيطِ ..............
{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا دَنِسًا وَنَجِسًا فَطَهَّرَهُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ صُحْبَةَ الْأَشْرَارِ وَخَلْطَةَ الْفُجَّارِ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الدَّنَسِ فِي الثَّوْبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يُخَلِّصُهُ مِنْهُمْ، فَكَنَّى عَنْ إِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ وَتَخْلِيصِهِ بِالتَّطْهِيرِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الظَّاهِرِ لَا بِالضَّمِيرِ، وَهُوَ:الَّذِينَ كَفَرُوا، إِشَارَةً إِلَى عِلَّةِ الدَّنَسِ وَالنَّجَسِ وَهُوَ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ - وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» فَجَعَلَ عِلَّةَ تَطْهِيرِهِ الْإِيمَانَ.
وَقِيلَ: مُطَهِّرُكَ مِنْ أَذَى الْكَفَرَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَوَاحِشِ. وَقِيلَ: مِمَّا قَالُوهُ فِيكَ وَفِي أُمِّكَ. وَقِيلَ: وَمُطَهِّرُكَ أَيْ مُطَهِّرٌ بِكَ وَجْهَ النَّاسِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ.
6- مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ..................
قَالَ تَعَالَى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}
قَالَ فِي فَتْحِ القَدِيرِ ...............
وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ، وَفِيهِ لُطْفٌ بِعِبَادِهِ عَظِيمٌ وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِمْ جَلِيلٌ حَيْثُ تَوَعَّدَ مَنْ تَرَكَ طَلَبَ الْخَيْرِ مِنْهُ، وَاسْتِدْفَاعَ الشَّرِّ بِهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الْبَالِغِ، وَعَاقَبَهُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ. فَيَا عِبَادَ اللَّهِ وَجِّهُوا رَغَبَاتِكُمْ وَعَوِّلُوا فِي كُلِّ طَلَبَاتِكُمْ عَلَى مَنْ أَمَرَكُمْ بِتَوْجِيهِهَا إِلَيْهِ، وَأَرْشَدَكُمْ إِلَى التَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، وَكَفَلَ لَكُمُ الْإِجَابَةَ بِهِ بِإِعْطَاءِ الطِّلْبَةِ، فَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ، وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَمُلْكِهِ الْوَاسِعِ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ.
قَالَ السَّعديُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ .....................
هَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، وَنِعْمَتِهِ الْعَظِيمَةِ، حَيْثُ دَعَاهُم إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ دِينِهِم وَدُنْيَاهُم، وَأَمَرَهُم بِدُعَائِهِ، دُعَاءَ الْعِبَادَةِ، وَدُعَاءَ الْمَسْأَلَةْ، وَوَعَدَهُم أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُم، وَتَوَعَّدَ مَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْهَا فَقَالَ: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }.
قَالَ تَعَالَى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}.
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفسيرِ المَنَارِ لَه .....
(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) مِنْهُمْ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ (إِذَا دَعَانِ) وَتَوَجَّهَ إِلَيَّ وَحْدِي فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ ; أَيْ : يَجِبُ أَنْ يُدْعَى وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ تُعِينُهُ أَوْ تُسَاعِدُهُ أَوْ تَنُوبُ عَنْهُ فِي الْإِجَابَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ تُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ .
وَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَقُلْ : إِنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي حَتَّى قَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ : (إِذَا دَعَانِ).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةَ
قَالَ تَعَالَى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}
قَالَ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ ................
يُنَبِّهُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ المدعُوّ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، المرجُوّ عِنْدَ النَّوَازِلِ، كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الْإِسْرَاءِ: 67] ، وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النَّحْلِ: 53] . وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} أَيْ: مَنْ هُوَ الَّذِي لَا يَلْجَأُ الْمُضْطَرُّ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالَّذِي لَا يَكْشِفُ ضُرَّ الْمَضْرُورِينَ سِوَاهُ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ..............
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ، الْمَكْرُوبَ الْمَجْهُودَ، إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، الضُّرَّ.
قَالَ السَّعديُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ .....................
أَيْ: هَلْ يُجِيبُ الْمُضْطَرِبَ الَّذِي أَقْلَقَتْهُ الْكُرُوبُ وَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ وَاضْطَرَّ لِلْخَلَاصِ مِمَّا هُوَ فِيهِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ ؟ وَمَنْ يَكْشِفُ السُّوءَ أَيْ: الْبَلَاءَ وَالشَّرَّ وَالنِّقْمَةَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ.
قَالَ الشِّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي فَتْحِ القَدِيرِ ...............
وَالْمُضْطَرُّ : اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الِاضْطِرَارِ: وَهُوَ الْمَكْرُوبُ الْمَجْهُودُ الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُذْنِبُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي عَرَاهُ ضُرٌّ مِنْ فَقْرٍ أَوْ مَرَضٍ، فَأَلْجَأَهُ إِلَى التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ. وَاللَّامُ فِي الْمُضْطَرِّ لِلْجِنْسِ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَقَدْ لَا يُجَابُ دُعَاءُ بَعْضِ الْمُضْطَرِّينَ، لِمَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، بِسَبَبٍ يُحْدِثُهُ الْعَبْدُ، يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَإِلَّا فَقَدَ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِجَابَةَ دُعَاءِ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَاهُ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْوَجْهُ فِي إجابة الْمُضْطَرِّ أَنَّ ذَلِكَ الِاضْطِرَارَ الْحَاصِلَ لَهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْإِخْلَاصُ، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ فَقَالَ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ - وَقَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ - فَأَجَابَهُمْ عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ، وَإِخْلَاصِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَيَعُودُونَ إِلَى شِرْكِهِمْ .
وَيَكْشِفُ السُّوءَ أَيِ: الَّذِي يَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَقِيلَ: هُوَ الضُّرُّ، وَقِيلَ: هُوَ الْجَوْرُ.
7- الْمَخْرَجُ فِي التَّقْوَى ..................
قَالَ تَعَالَى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفسيرِ المَنَارِ لَه .....
وَالتَّقْوَى تَكُونُ سَبَبَ الْفُرْقَانِ وَالْمَخْرَجِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ اتِّقَاءِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ وَالْخُذْلَانِ فِي النَّفْسِ وَفِي الْخَارِجِ .
قُلْتُ : وَفَهْمِي لِلْمَعْنَى أَنَّ التَّقْوَى تَأْتِي بِأَمْرٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ وَلَا مَطْرُوحٍ وَلَا مَعْلُومٍ وَلَا مُتَوَقَّعٍ – فَهَذاَ هُوَ الْمَخْرَجُ .
قَالَ ابْنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ ................
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أَيْ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وتَرَك مَا نَهَاهُ عَنْهُ، يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، أَيْ: مِنْ جِهَةٍ لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} أَيْ: مِنْ شُبُهَاتِ الْأُمُورِ وَالْكَرْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَمِنْ حَيْثُ لَا يَرْجُو أَوْ لَا يَأْمُلُ.
قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ الْوَجِيزِ.....................
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَيْضًا مَعْنَى: { يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يُخَلِّصُهُ مِنْ كَرْبِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
قَالَ أَبُو السُّعُودِ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ ........................
فَالْمَعْنَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَمُخَلِّصَاً مِنْ غُمُومِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَا نَحْنُ فِيهِ انْدِرَاجَاً أَوْلِيَّاً .
قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ..............
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَاقَ عَلَى النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنْ كُلِّ شِدَّةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَخْرَجاً عَمَّا نَهَاهُ اللهُ عَنْهُ.
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، يَتَّقِ اللَّهَ فِيمَا نَابَهُ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ.
قَاَلَ فِي البَحْرِ المُحِيطِ ..............
وَقَرَأَ مَالِكٌ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَالْمَعْنَى مَخْرَجًا فِي الدِّينِ مِنَ الضَّلَالِ.
وَقِيلَ: وَمَنْ يَتَّقِ الْحَرَامَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا إِلَى الْحَلَالِ. وَقِيلَ: مَخْرَجًا مِنَ الشِّدَّةِ إِلَى الرَّخَاءِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ: أَيْ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ حَسْبُهُ: أَيْ كَافِيهِ.
8- وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ....................
قَوْلُهُ تَعَالَى...{ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ...
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وِلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَكُمْ بِمَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْوُضُوءِ مِنَ الأَحْدَاثِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ , وَالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ , فَتَنَظَّفُوا وَتَطَهَّرُوا بِذَلِكَ أَجْسَامَكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ .
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفسيرِ المَنَارِ لَه .....
(وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى ، وَمِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ ; فَتَكُونُوا أَنْظَفَ النَّاسِ أَبْدَانًا ، وَأَزْكَاهُمْ نُفُوسًا ، وَأَصَحَّهُمْ أَجْسَامًا ، وَأَرْقَاهُمْ أَرْوَاحًا (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بِالْجَمْعِ بَيْنَ طَهَارَةِ الْأَرْوَاحِ وَتَزْكِيَتِهَا ، وَطَهَارَةِ الْأَجْسَادِ وَصِحَّتِهَا ، فَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ رُوحٌ وَجَسَدٌ ، لَا تَكْمُلُ إِنْسَانِيَّتُهُ إِلَّا بِكَمَالِهِمَا مَعًا.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُ " الطَّهَارَةِ " فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ الْبَدَنِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ ، وَفِي بَعْضِهَا بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ النَّفْسِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ.
قَالَ فِي التَّحْريرِ وَالتّنْوِيرِ.................
وَقَوْلُهُ: {وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ وَالْوُضُوءِ التَّطْهِيرَ وَهُوَ تَطْهِيرٌ حِسِّيٌّ لِأَنَّهُ تَنْظِيفٌ، وَتَطْهِيرٌ نَفْسِيٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ لَمَّا جَعَلَهُ عِبَادَةً فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عِدَّةِ أَسْرَارٍ: مِنْهَا مَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ وَنُعَبِّرُ عَنْهَا بِالْحِكْمَةِ وَمِنْهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَكَوْنِ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَإِذَا ذُكِرَتْ حِكَمٌ لِلْعِبَادَاتِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحِكَمَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ وَظَنٌّ لَا يَبْلُغُ مُنْتَهَى الْعِلْمِ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْمَاءُ عَوَّضَ بِالتَّيَمُّمِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَرَجَ لَكَلَّفَهُمْ طَلَبَ الْمَاءِ وَلَوْ بِالثَّمَنِ أَوْ تَرْكَ الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يُوجَدَ الْمَاءُ ثُمَّ يَقْضُونَ الْجَمِيعَ. فَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ فِيهِ تَطْهِيرٌ حِسِّيٌّ وَفِيهِ التَّطْهِيرُ النَّفْسِيُّ الَّذِي فِي الْوُضُوءِ لَمَّا جُعِلَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ.
وَخِتَامَاً ..................
آخِذِينَ فِي الِاعْتِبَارِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }.
وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{ إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا فَقُلْتُ أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ سَعْدًا ، وَلاَ يُنْكِرُهُ قَالَ نَعَمْ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ ».رَوَاهُ مُسْلِمٌ
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
نفع الله بك شيخنا.. وجزاكم الله خيرا
ارسل من Mi 9 Lite using ملتقى أهل التفسير
يرفع للفائدة
ارسل من Mi 9 Lite using ملتقى أهل التفسير
الحمد لله أن هذا الموضوع لم يُحذف