صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (88)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "المائدة": (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)
النصب هي الأنصاب المذكورة في قوله تعالى في "المائدة": (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)
وهي النصب المذكورة في قوله تعالى في "المعارج": (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)
والقول الأقرب أن النصب حجارة تنصب وتعظم ويذبحون عندها أو عليها ويضعون الدم عليها, ويشرحون عليها اللحم, وليست بأصنام.
فهي معبودات في الجملة, تعظم وقد يتقرب لها أو عندها بالذبح, ولكنها ليست كالأصنام المشهورة, وليست مصورة, بل هي درجة أقل.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
النصب يحتمل أن يكون جمعاً ومفرده نصاب, كحمار وحمر.
أو جمعاً ومفرده نصْب بسكون الصاد, كسقف وسقف.
ويحتمل أن يكون واحداً، وجمعه أنصاب, كعنق وأعناق.
قال الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحداً فقال:
ولا النصب المنصوب لا تنسكنه** لعاقبة والله ربك فاعبدا
وقد اختلف المفسرون في المراد بالنصب على قولين:
القول الأول: أنها حجارة تنصب وتعظم ويذبحون عندها أو عليها ويضعون الدم عليها, ويشرحون عليها اللحم, وليست بأصنام.
(اقتصر عليه ابن جرير* ورجحه) (واقتصر عليه الزمخشري*, والقرطبي*, وابن كثير*) (واقتصر عليه أيضاً ابن عاشور* ورجحه)
(واقتصر عليه ابن عطية* لكنه ذكر القولين عند آية المائدة)
وهذا القول هو الأقرب.
ويؤيده أنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله, فهذا يدل على أن المراد شيء آخر.
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: )النصب أنصاب يذبحون عليها).
وفي البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلمالوحي فقدمت إلى النبي سفرة فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم, ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه).
وفي البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً, فجعل يطعنها بعود في يده وجعل يقول: {جاء الحق وزهق الباطل} الآية.
وقال مجاهد: حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها.
وقال ابن جريج: "النصب ليس بأصنام, فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء".
قال ابن جرير: "و(النصب) جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقربون لها، وليست بأصنام.
وكان ابن جريج يقول في صفته: النصب ليست بأصنام، الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة...
ومما يحقق قول ابن جريج في أن الأنصاب غير الأصنام قول مجاهد: (وما ذبح على النصب) قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية".
وقال ابن كثير: "قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.
وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا, لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله".
وقال ابن عاشور: "والأصح أن النصب هو حجارة غير مقصود منها أنها تمثال للآلهة، بل هي موضوعة لأن تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرب بها للآلهة وللجن، فإن الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معينة تقصد للتقرب, وأما الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء...
ولهذا قال الله تعالى :{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} بحرف (على)، ولم يقل وما ذبح للنصب, لأن الذبيحة تقصد للأصنام والجن، وتذبح على الأنصاب، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك".
القول الثاني:
أنها أصنام تعبد ويتقرب لها كبقية الأوثان.
(اقتصر عليه الماتريدي*, وصاحب الظلال*) (وضعفه الرازي*)
(وذكر القولين البغوي*)
قال الرازي: "من الناس من قال: النصب هي الأوثان، وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله: (وما أهل لغير الله به) وذلك هو الذبح على اسم الأوثان، ومن حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه".
(ومع ذلك قال الرازي عند آية المائدة: "والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها").
وقال قتادة: النصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويذبحون لها.
قال ابن زيد: وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به هما واحد.
وقال ابن عطية:"{ما ذبح على النصب} جزء مما أهل به لغير الله لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له".
و(على) بمعنى (اللام) فالمعنى وما ذبح لأجل النصب.
أو على تقدير: وما ذبح على اسم النصب.
قال قطرب: على بمعنى اللام، أي: وما ذبح لأجل النصب.
قال الرازي: "واعلم أن قوله وما ذبح على النصب فيه وجهان: أحدهما: وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب، والثاني: وما ذبح للنصب، و(اللام) و(على) يتعاقبان، قال تعالى: (فسلام لك من أصحاب اليمين) أي: فسلام عليك منهم، وقال: (وإن أسأتم فلها) أي: فعليها".
والذي يظهر والله تعالى أعلم أن النصب هي معبودات في الجملة, تعظم وقد يتقرب لها أو عندها بالذبح, ولكنها ليست كالأصنام المشهورة, وليست مصورة, بل هي درجة أقل, والله تعالى أعلم.
وأما قوله تعالى: (يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون)
قوله: (يوفضون) الإيفاض هو الإسراع.
والمعنى: يسرعون إلى موقف الحساب كأنهم يسرعون إلى أنصابهم التي يعظمونها, فيبتدرون إليه أيهم يستلمه أولاً.
قال ابن كثير: "أي: كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يوفضون، يبتدرون أيهم يستلمه أول.
وهذا مروي عن مجاهد، ويحيى بن أبي كثير، ومسلم البطين, وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، وأبي صالح، وعاصم بن بهدلة، وابن زيد، وغيرهم".
وقال صاحب الظلال: "فهؤلاء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه .. وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا. لقد كانوا يسارعون إلى الأنصاب في الأعياد ويتجمعون حولها. فهاهم أولاء يسارعون اليوم ، ولكن شتان بين يوم ويوم".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "المائدة": (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)
النصب هي الأنصاب المذكورة في قوله تعالى في "المائدة": (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)
وهي النصب المذكورة في قوله تعالى في "المعارج": (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)
والقول الأقرب أن النصب حجارة تنصب وتعظم ويذبحون عندها أو عليها ويضعون الدم عليها, ويشرحون عليها اللحم, وليست بأصنام.
فهي معبودات في الجملة, تعظم وقد يتقرب لها أو عندها بالذبح, ولكنها ليست كالأصنام المشهورة, وليست مصورة, بل هي درجة أقل.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
النصب يحتمل أن يكون جمعاً ومفرده نصاب, كحمار وحمر.
أو جمعاً ومفرده نصْب بسكون الصاد, كسقف وسقف.
ويحتمل أن يكون واحداً، وجمعه أنصاب, كعنق وأعناق.
قال الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحداً فقال:
ولا النصب المنصوب لا تنسكنه** لعاقبة والله ربك فاعبدا
وقد اختلف المفسرون في المراد بالنصب على قولين:
القول الأول: أنها حجارة تنصب وتعظم ويذبحون عندها أو عليها ويضعون الدم عليها, ويشرحون عليها اللحم, وليست بأصنام.
(اقتصر عليه ابن جرير* ورجحه) (واقتصر عليه الزمخشري*, والقرطبي*, وابن كثير*) (واقتصر عليه أيضاً ابن عاشور* ورجحه)
(واقتصر عليه ابن عطية* لكنه ذكر القولين عند آية المائدة)
وهذا القول هو الأقرب.
ويؤيده أنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله, فهذا يدل على أن المراد شيء آخر.
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: )النصب أنصاب يذبحون عليها).
وفي البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلمالوحي فقدمت إلى النبي سفرة فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم, ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه).
وفي البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً, فجعل يطعنها بعود في يده وجعل يقول: {جاء الحق وزهق الباطل} الآية.
وقال مجاهد: حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها.
وقال ابن جريج: "النصب ليس بأصنام, فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء".
قال ابن جرير: "و(النصب) جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقربون لها، وليست بأصنام.
وكان ابن جريج يقول في صفته: النصب ليست بأصنام، الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة...
ومما يحقق قول ابن جريج في أن الأنصاب غير الأصنام قول مجاهد: (وما ذبح على النصب) قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية".
وقال ابن كثير: "قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.
وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا, لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله".
وقال ابن عاشور: "والأصح أن النصب هو حجارة غير مقصود منها أنها تمثال للآلهة، بل هي موضوعة لأن تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرب بها للآلهة وللجن، فإن الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معينة تقصد للتقرب, وأما الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء...
ولهذا قال الله تعالى :{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} بحرف (على)، ولم يقل وما ذبح للنصب, لأن الذبيحة تقصد للأصنام والجن، وتذبح على الأنصاب، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك".
القول الثاني:
أنها أصنام تعبد ويتقرب لها كبقية الأوثان.
(اقتصر عليه الماتريدي*, وصاحب الظلال*) (وضعفه الرازي*)
(وذكر القولين البغوي*)
قال الرازي: "من الناس من قال: النصب هي الأوثان، وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله: (وما أهل لغير الله به) وذلك هو الذبح على اسم الأوثان، ومن حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه".
(ومع ذلك قال الرازي عند آية المائدة: "والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها").
وقال قتادة: النصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويذبحون لها.
قال ابن زيد: وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به هما واحد.
وقال ابن عطية:"{ما ذبح على النصب} جزء مما أهل به لغير الله لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له".
و(على) بمعنى (اللام) فالمعنى وما ذبح لأجل النصب.
أو على تقدير: وما ذبح على اسم النصب.
قال قطرب: على بمعنى اللام، أي: وما ذبح لأجل النصب.
قال الرازي: "واعلم أن قوله وما ذبح على النصب فيه وجهان: أحدهما: وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب، والثاني: وما ذبح للنصب، و(اللام) و(على) يتعاقبان، قال تعالى: (فسلام لك من أصحاب اليمين) أي: فسلام عليك منهم، وقال: (وإن أسأتم فلها) أي: فعليها".
والذي يظهر والله تعالى أعلم أن النصب هي معبودات في الجملة, تعظم وقد يتقرب لها أو عندها بالذبح, ولكنها ليست كالأصنام المشهورة, وليست مصورة, بل هي درجة أقل, والله تعالى أعلم.
وأما قوله تعالى: (يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون)
قوله: (يوفضون) الإيفاض هو الإسراع.
والمعنى: يسرعون إلى موقف الحساب كأنهم يسرعون إلى أنصابهم التي يعظمونها, فيبتدرون إليه أيهم يستلمه أولاً.
قال ابن كثير: "أي: كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يوفضون، يبتدرون أيهم يستلمه أول.
وهذا مروي عن مجاهد، ويحيى بن أبي كثير، ومسلم البطين, وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، وأبي صالح، وعاصم بن بهدلة، وابن زيد، وغيرهم".
وقال صاحب الظلال: "فهؤلاء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه .. وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا. لقد كانوا يسارعون إلى الأنصاب في الأعياد ويتجمعون حولها. فهاهم أولاء يسارعون اليوم ، ولكن شتان بين يوم ويوم".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/