صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (76)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "طه": (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)
القول بأن المراد بالرسول موسى عليه السلام, وأن المراد بأثره سنته وهديه وشريعته, وأنه أخذ منها شيئاً قليلاً ثم نبذه وطرحه ورجع إلى دينه, ولذلك فعل ما فعل.
هذا القول مقبول جداً ولعله الأقرب في المراد بالآية, وقد قال به أبو مسلم الأصفهاني, ورجحه الرازي, ومال إليه ابن عاشور كما سيأتي.
ومال الماتريدي إلى عدم صحة ما اشتهر عن أكثر المفسرين كما سيأتي.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
وقبل ذلك أشير إلى اختلافهم في قوله: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)
فقد اختلفوا في ذلك على قولين:
الأول: علمت ما لم يعلموه, وهو (فعُلْت) من البصيرة: أي صرت بصيراً عالماً, ومنه قولهم: رجل بصير أي: عالم. (اقتصر عليه الزمخشري*)
القول الثاني: أن المراد أبصرت ما لم يبصروه. (اقتصر عليه الماتريدي*, والقرطبي*, وابن كثير*) (وذكر القولين ابن جرير*, وابن عطية*, والرازي*, وابن عاشور*) (ودمج بينهما البغوي*)
والقول الأول هو الأقرب.
وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فنَبَذْتُهَا) على قولين:
الأول: أن المراد بالرسول جبريل عليه السلام, وأن السامري رآه على فرس, فأخذ قبضة بكفه من أثر حافر الفرس. (اقتصر عليه أكثر المفسرين) (ومال الماتريدي* إلى عدم صحته كما سيأتي)
وقوله: (فَنَبَذْتُهَا) أي: فألقيتها مع الحلي.
قال الرازي: "ثم اختلفوا أنه متى رآه فقال الأكثرون: إنما رآه يوم فلق البحر. وعن علي عليه السلام أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى عليه السلام إلى الطور أبصره السامري من بين الناس".
قال الماتريدي: "عامة أهل التأويل يقولون: إنه قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل، وليس في الآية ذكر التراب ولا ذكر الفرس، ولا أن ذلك الرسول جبريل أو غيره.
فإن ثبت ما قالوا وإلا لم نزد على ما ذكر في الكتاب من هذه الأنباء والقصص التي كانت في كتبهم، فذكرت في القرآن... لذلك وجب حفظ ما حكى في الكتاب من الأنباء والأخبار من غير زيادة ولا نقصان مخافة الكذب، إلا إن ثبت شيء يذكر عن رسول الله أنه كان، فعند ذلك يقال، وإلا الكف أولى لما ذكرناه".
القول الثاني: أن المراد بالرسول موسى عليه السلام, والمراد بأثره سنته وهديه وشريعته, وأنه أخذ منها شيئاً قليلاً ثم نبذه وطرحه ورجع إلى دينه, ولذلك فعل ما فعل. (انفرد به الرازي* ورجحه, ونقله عن أبي مسلم الأصفهاني)
قال الرازي: "قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون, فههنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام, وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به, فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه, والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به، أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق, وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول, أي: شيئاً من سنتك ودينك فقذفته أي: طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا وبما ذا يأمر الأمير...".
قال الرازي: "واعلم أن هذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه:
أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه, فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر ...".
قلت: وهذا القول الذي قاله أبو مسلم وجه مقبول, والله أعلم, وقد رجحه الرازي كما سبق, (ومال إليه ابن عاشور*).
وقول الرازي: "ليس فيه إلا مخالفة المفسرين" من المعلوم أن المفسرين يأخذ بعضهم من بعض, وأبو مسلم الأصفهاني توفي سنة (322) هـ, فهو متقدم, ولو اشتهر قوله هذا عنه أو عن غيره لرأيت كثيراً منهم يذكره وقد ينصره, والله أعلم.
قال ابن عاشور: "وهذا الذي ذكروه لا يوجد في كتب الإسرائيليين ولا ورد به أثر من السنة, وإنما هي أقوال لبعض السلف ولعلها تسربت للناس من روايات القصاصين...
فإذا صُرفت هذه الكلمات الستُّ إلى معان مجازية كان (بصُرت) بمعنى علمتُ واهتديت، أي: اهتديت إلى علم ما لم يعلموه، وهو علم صناعة التماثيل والصور الذي به صنع العجل، وعلم الحِيل الذي أوجد به خوار العجل، وكانت القبضة بمعنى النصيب القليل، وكان الأثر بمعنى التعليم، أي الشريعة، وكان نبذت بمعنى أهملت ونقضت، أي: كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة فانخلعت عنها بالكفر. وبذلك يصح أن يحمل لفظ الرسول على المعنى الشائع المتعارف.
وكان المعنى: إني بعملي العجل للعبادة نقضت اتباع شريعة موسى"اهـ
(وانفرد صاحب الظلال*) فذهب إلى أن السامري ربما كذب في قوله هذا, وإنما قاله تملصاً من تبعة ما حدث.
قال صاحب الظلال: "والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث، إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية.. ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذراً من السامري وتملصاً من تبعة ما حدث. وأنه هو صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم، وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتاً كالخوار.
ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه، ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول".
قلت: هذا القول من صاحب الظلال بعيد جداً, والله أعلم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي: زينت لي نفسي.
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "طه": (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)
القول بأن المراد بالرسول موسى عليه السلام, وأن المراد بأثره سنته وهديه وشريعته, وأنه أخذ منها شيئاً قليلاً ثم نبذه وطرحه ورجع إلى دينه, ولذلك فعل ما فعل.
هذا القول مقبول جداً ولعله الأقرب في المراد بالآية, وقد قال به أبو مسلم الأصفهاني, ورجحه الرازي, ومال إليه ابن عاشور كما سيأتي.
ومال الماتريدي إلى عدم صحة ما اشتهر عن أكثر المفسرين كما سيأتي.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
وقبل ذلك أشير إلى اختلافهم في قوله: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)
فقد اختلفوا في ذلك على قولين:
الأول: علمت ما لم يعلموه, وهو (فعُلْت) من البصيرة: أي صرت بصيراً عالماً, ومنه قولهم: رجل بصير أي: عالم. (اقتصر عليه الزمخشري*)
القول الثاني: أن المراد أبصرت ما لم يبصروه. (اقتصر عليه الماتريدي*, والقرطبي*, وابن كثير*) (وذكر القولين ابن جرير*, وابن عطية*, والرازي*, وابن عاشور*) (ودمج بينهما البغوي*)
والقول الأول هو الأقرب.
وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فنَبَذْتُهَا) على قولين:
الأول: أن المراد بالرسول جبريل عليه السلام, وأن السامري رآه على فرس, فأخذ قبضة بكفه من أثر حافر الفرس. (اقتصر عليه أكثر المفسرين) (ومال الماتريدي* إلى عدم صحته كما سيأتي)
وقوله: (فَنَبَذْتُهَا) أي: فألقيتها مع الحلي.
قال الرازي: "ثم اختلفوا أنه متى رآه فقال الأكثرون: إنما رآه يوم فلق البحر. وعن علي عليه السلام أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى عليه السلام إلى الطور أبصره السامري من بين الناس".
قال الماتريدي: "عامة أهل التأويل يقولون: إنه قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل، وليس في الآية ذكر التراب ولا ذكر الفرس، ولا أن ذلك الرسول جبريل أو غيره.
فإن ثبت ما قالوا وإلا لم نزد على ما ذكر في الكتاب من هذه الأنباء والقصص التي كانت في كتبهم، فذكرت في القرآن... لذلك وجب حفظ ما حكى في الكتاب من الأنباء والأخبار من غير زيادة ولا نقصان مخافة الكذب، إلا إن ثبت شيء يذكر عن رسول الله أنه كان، فعند ذلك يقال، وإلا الكف أولى لما ذكرناه".
القول الثاني: أن المراد بالرسول موسى عليه السلام, والمراد بأثره سنته وهديه وشريعته, وأنه أخذ منها شيئاً قليلاً ثم نبذه وطرحه ورجع إلى دينه, ولذلك فعل ما فعل. (انفرد به الرازي* ورجحه, ونقله عن أبي مسلم الأصفهاني)
قال الرازي: "قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون, فههنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام, وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به, فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه, والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به، أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق, وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول, أي: شيئاً من سنتك ودينك فقذفته أي: طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا وبما ذا يأمر الأمير...".
قال الرازي: "واعلم أن هذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه:
أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه, فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر ...".
قلت: وهذا القول الذي قاله أبو مسلم وجه مقبول, والله أعلم, وقد رجحه الرازي كما سبق, (ومال إليه ابن عاشور*).
وقول الرازي: "ليس فيه إلا مخالفة المفسرين" من المعلوم أن المفسرين يأخذ بعضهم من بعض, وأبو مسلم الأصفهاني توفي سنة (322) هـ, فهو متقدم, ولو اشتهر قوله هذا عنه أو عن غيره لرأيت كثيراً منهم يذكره وقد ينصره, والله أعلم.
قال ابن عاشور: "وهذا الذي ذكروه لا يوجد في كتب الإسرائيليين ولا ورد به أثر من السنة, وإنما هي أقوال لبعض السلف ولعلها تسربت للناس من روايات القصاصين...
فإذا صُرفت هذه الكلمات الستُّ إلى معان مجازية كان (بصُرت) بمعنى علمتُ واهتديت، أي: اهتديت إلى علم ما لم يعلموه، وهو علم صناعة التماثيل والصور الذي به صنع العجل، وعلم الحِيل الذي أوجد به خوار العجل، وكانت القبضة بمعنى النصيب القليل، وكان الأثر بمعنى التعليم، أي الشريعة، وكان نبذت بمعنى أهملت ونقضت، أي: كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة فانخلعت عنها بالكفر. وبذلك يصح أن يحمل لفظ الرسول على المعنى الشائع المتعارف.
وكان المعنى: إني بعملي العجل للعبادة نقضت اتباع شريعة موسى"اهـ
(وانفرد صاحب الظلال*) فذهب إلى أن السامري ربما كذب في قوله هذا, وإنما قاله تملصاً من تبعة ما حدث.
قال صاحب الظلال: "والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث، إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية.. ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذراً من السامري وتملصاً من تبعة ما حدث. وأنه هو صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم، وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتاً كالخوار.
ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه، ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول".
قلت: هذا القول من صاحب الظلال بعيد جداً, والله أعلم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي: زينت لي نفسي.
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/