صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (6)
(اكتب في (قوقل) النوال. وأول الآية التي تريد معرفة تفصيل آراء المفسرين فيها)
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)
القول الراجح أنه هم بها فعلاً ولم يتجاوز إلى شيء بعد الهم, وإنما منعه من تنفيذ ذلك الهم أنه رأى برهان ربه.
والآن إلى تفصيل أقوال المفسرين .
اختلف المفسرون في قوله: (وهم بها) على أربعة أقوال مشهورة:
القول الأول:
أنه هم بها فعلاً وبدأ يتهيأ لينفذ ذلك الهم, وبدأ يحل ثيابه وسراويله, حتى قيل: جلس منها مجلس الرجل من امرأته.
(رجحه ابن جرير*, والبغوي*) (وضعفه الماتريدي*, والزمخشري*, والرازي*) (وذكره ابن عطية*, والقرطبي*, والشنقيطي*) (وأشار إليه ابن كثير*, وابن عاشور*)
وقد روي عن جماعة من السلف هذا كما نقله ابن جرير وغيره.
ونقل البغوي عن أبي عبيد القاسم بن سلام قوله: "وقد أنكر قوم هذا القول، والقول ما قال متقدموا هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم".
وهذا القول ضعيف.
قال الماتريدي: "ما قاله أهل التأويل إنها استلقت له (وَهَمَّ بِهَا) أي: حل سراويله، وأمثال هذا من الخرافات فهذا كله مما لا يحل أن يقال فيه شيء من ذلك، والدلالة على فساد ذلك من وجوه...
هذا كله يدل أن ما قاله أهل التأويل فاسد، لا يحل أن يتكلم فيه بشيء من ذلك، وليس في ظاهر الآية شيء مما قالوا لا قليل ولا كثير, إذ ليس فيه سوى أن همت به وهم بها".
وقال ابن تيمية: "ما ينقل من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضاً على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله, وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء وقدحاً فيهم, وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله, لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفاً واحداً".
وسأذكر في آخر البحث كلاماً متيناً للزمخشري وغيره في تضعيف هذا القول.
القول الثاني:
أنه لم يهم بها لأنه رأى برهان ربه, فالآية نافية للهم لا مثبته له.
والمعنى: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
(ضعفه ابن جرير*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, وابن كثير*) (ورجحه الرازي*, والشنقيطي*, وابن عاشور*) (وذكره الماتريدي*, والقرطبي*).
وهذا القول أيضاً ضعيف.
إذا قلت: ضربني زيد فهممت به لولا أن رأيت أباه.
هل أنت تنفي همك بضربه أم تنفي ضربه فعلاً.
لو قلت: هممت بالأكل لولا أن تذكرت أني صائم.
لا يمكن لأحد أن يفهم منك أنك لم تهم بالأكل لأنك تذكرت أنك صائم, ولو أردت هذا المعنى من كلامك لضحك منك السامعون.
وسأذكر في آخر البحث أقوال من ضعفوه.
القول الثالث:
أن المراد أنه هم بدفعها أو بضربها.
(ذكره الرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*) (وضعفه ابن جرير*, والماتريدي*, وابن عطية*, والشنقيطي*, وصاحب الظلال*)
وهذا القول أيضاً ضعيف.
قال ابن عطية: "ضعيف البتة".
قال ابن جرير: "هذا تأويل للقرآن بالرأي".
وقال الماتريدي: "يدخل عليه قوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)، لو كان همه بها هم دفع لم يكن لقوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) معنى".
وقال صاحب الظلال: "وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص".
القول الرابع:
أن المراد أنه هم بها فعلاً ولم يتجاوز إلى شيء بعد الهم فلم يحصل منه إلا الهم بها في نفسه فقط, وإنما منعه من تنفيذ ذلك الهم أنه رأى برهان ربه.
(ذكره ابن جرير*, والبغوي*, والقرطبي*, وابن كثير*, والرازي*, والشنقيطي*, وابن عاشور) (ورجحه الزمخشري*, وابن عطية*, وصاحب الظلال*) (ومال إليه القرطبي*).
قال الزمخشري: "هو كقولك: هممت بقتله لولا أني خفت الله, معناه لولا أني خفت الله لقلته".
والمراد بالهم أنه هم أن يبدأ بالتنفيذ, فهم في نفسه أن يقدم وحصل في قلبه خاطر أن يفعل.
هذا ما يدل عليه لفظ (هم).
وعبارات بعض من ذكر هذا القول أو رجحه تفيد أنه مجرد وجود الشهوة الطبيعة والميل النفسي والخاطر القلبي.
ولفظ (هم) يفيد صراحة أكثر من مجرد الشهوة والخاطر.
فيفيد أنه هم وقصد وأراد أن يفعل لولا أن رأى البرهان.
ولكنه لم يتجاوز الهم ولم يفعل أي شيء.
وهذا القول الرابع هو الصحيح الخالي من اتهام يوسف بأنه بدأ ينفذ الهم, والخالي من إخراج يوسف من بشريته بالزعم بأنه لم يحصل عنده أي هم في مثل تلك الحال التي تحرك الجبال, والخالي من التأويل المتكلف الردي بالقول بأن المراد أنه هم بضربها.
فهو لم يخرج عن بشريته ففي تلك الحال التي هزته هزاً وقع في نفسه هم كما أخبر الله لكن الله عصمه بأن أراه برهان ربه.
وهو مجرد هم لا عزم وتصميم على التنفيذ, وهذا أمر لا يملك دفعه بشر في مثل ذلك الموقف.
قال البغوي: وقال بعض أهل الحقائق: الهم همان: هم ثابت، وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا، مثل هم امرأة العزيز، والعبد مأخوذ به، وهم عارض وهو الخطرة، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم، مثل هم يوسف عليه السلام.
وقال الرازي: المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات.
وهذا كلام جميل لصاحب الكشاف وآخر لصاحب الظلال.
قال صاحب الكشاف الزمخشري:
فإن قلت : كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت : المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه ، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم.
وقال: ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين.
وقال صاحب الظلال رحمه الله:
"الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعد ما أوتيهما..
الذي خطر لي أن قوله تعالى: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ»..
هو نهاية موقف طويل من الإغراء، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم .. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة .. ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضاً يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك. فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعاً".
وأما القول الأول فهو ضعيف جداً, وفيه زيادة على ما ذكر الله تبارك وتعالى, فإن الله لم يذكر سوى الهم.
قال الشنقيطي: "هذه الأقوال التي رأيت نسبتها إلى هؤلاء العلماء منقسمة إلى قسمين :
قسم لم يثبت نقله عمن نقله عنه بسند صحيح، وهذا لا إشكال في سقوطه.
وقسم ثبت عن بعض من ذكر، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات".
قال الزمخشري: ولو وجدت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره، كما نعيت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب. وعلى ذي النون، وذكرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمى مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولى القوة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب سورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجده الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار".
وأما القول الثاني فضعيف أيضاً.
قال الطبري: ويفسده أن العرب لا تقدم جواب "لولا" قبلها، لا تقول: "لقد قمت لولا زيد"، وهي تريد": لولا زيد لقد قمت"، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله.
وقال البغوي: زعم بعض المتأخرين أن الكلام عند قوله: {ولقد همت به} ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام فقال: {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} على التقديم والتأخير، أي: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكنه رأى البرهان فلم يهم.
وأنكره النحاة وقالوا: إن العرب لا تؤخر {لولا} عن الفعل، فلا تقول: لقد قمت لولا زيد".
وقال ابن عطية: "وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف.
قال الزجاج: ولو كان الكلام: ولهم بها لولا لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام"
وقال الزمخشري: لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض.
وأما استدلال الرازي والشنقيطي بقوله تعالى {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِه لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} فهو استدلال ضعيف.
هنا لم يقل: أبدت به, ولكن كادت فهو إنما نفى إبداءها به بعد أن كادت لأن الله ربط على قلبها.
فيصح الاستدلال بهذه الآية لنفي حصول الهم لو كانت الآية هكذا: وكاد يهم بها لولا أن رأى برهان ربه.
وأما القول الثالث وهو أنه هم بضربها فضعيف واضح الضعف.
وقد ذكرت أقوال ابن عطية وابن جرير والماتريدي وصاحب الظلال في تضعيفه.
وجوز الزمخشري قولاً خامساً فقال:
"ويجوز أن يريد بقوله وهم بها وشارف أن يهم بها ، كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله ، يريد مشارفة القتل ومشافهته. كأنه شرع فيه".
وهذا الذي ذكره الزمخشري بعيد وهو يختلف عن القول الثاني.
قال الشنقيطي: "هذا غير ظاهر، بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه".
(اكتب في (قوقل) النوال. وأول الآية التي تريد معرفة تفصيل آراء المفسرين فيها)
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)
القول الراجح أنه هم بها فعلاً ولم يتجاوز إلى شيء بعد الهم, وإنما منعه من تنفيذ ذلك الهم أنه رأى برهان ربه.
والآن إلى تفصيل أقوال المفسرين .
اختلف المفسرون في قوله: (وهم بها) على أربعة أقوال مشهورة:
القول الأول:
أنه هم بها فعلاً وبدأ يتهيأ لينفذ ذلك الهم, وبدأ يحل ثيابه وسراويله, حتى قيل: جلس منها مجلس الرجل من امرأته.
(رجحه ابن جرير*, والبغوي*) (وضعفه الماتريدي*, والزمخشري*, والرازي*) (وذكره ابن عطية*, والقرطبي*, والشنقيطي*) (وأشار إليه ابن كثير*, وابن عاشور*)
وقد روي عن جماعة من السلف هذا كما نقله ابن جرير وغيره.
ونقل البغوي عن أبي عبيد القاسم بن سلام قوله: "وقد أنكر قوم هذا القول، والقول ما قال متقدموا هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم".
وهذا القول ضعيف.
قال الماتريدي: "ما قاله أهل التأويل إنها استلقت له (وَهَمَّ بِهَا) أي: حل سراويله، وأمثال هذا من الخرافات فهذا كله مما لا يحل أن يقال فيه شيء من ذلك، والدلالة على فساد ذلك من وجوه...
هذا كله يدل أن ما قاله أهل التأويل فاسد، لا يحل أن يتكلم فيه بشيء من ذلك، وليس في ظاهر الآية شيء مما قالوا لا قليل ولا كثير, إذ ليس فيه سوى أن همت به وهم بها".
وقال ابن تيمية: "ما ينقل من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضاً على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله, وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء وقدحاً فيهم, وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله, لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفاً واحداً".
وسأذكر في آخر البحث كلاماً متيناً للزمخشري وغيره في تضعيف هذا القول.
القول الثاني:
أنه لم يهم بها لأنه رأى برهان ربه, فالآية نافية للهم لا مثبته له.
والمعنى: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
(ضعفه ابن جرير*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, وابن كثير*) (ورجحه الرازي*, والشنقيطي*, وابن عاشور*) (وذكره الماتريدي*, والقرطبي*).
وهذا القول أيضاً ضعيف.
إذا قلت: ضربني زيد فهممت به لولا أن رأيت أباه.
هل أنت تنفي همك بضربه أم تنفي ضربه فعلاً.
لو قلت: هممت بالأكل لولا أن تذكرت أني صائم.
لا يمكن لأحد أن يفهم منك أنك لم تهم بالأكل لأنك تذكرت أنك صائم, ولو أردت هذا المعنى من كلامك لضحك منك السامعون.
وسأذكر في آخر البحث أقوال من ضعفوه.
القول الثالث:
أن المراد أنه هم بدفعها أو بضربها.
(ذكره الرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*) (وضعفه ابن جرير*, والماتريدي*, وابن عطية*, والشنقيطي*, وصاحب الظلال*)
وهذا القول أيضاً ضعيف.
قال ابن عطية: "ضعيف البتة".
قال ابن جرير: "هذا تأويل للقرآن بالرأي".
وقال الماتريدي: "يدخل عليه قوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)، لو كان همه بها هم دفع لم يكن لقوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) معنى".
وقال صاحب الظلال: "وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص".
القول الرابع:
أن المراد أنه هم بها فعلاً ولم يتجاوز إلى شيء بعد الهم فلم يحصل منه إلا الهم بها في نفسه فقط, وإنما منعه من تنفيذ ذلك الهم أنه رأى برهان ربه.
(ذكره ابن جرير*, والبغوي*, والقرطبي*, وابن كثير*, والرازي*, والشنقيطي*, وابن عاشور) (ورجحه الزمخشري*, وابن عطية*, وصاحب الظلال*) (ومال إليه القرطبي*).
قال الزمخشري: "هو كقولك: هممت بقتله لولا أني خفت الله, معناه لولا أني خفت الله لقلته".
والمراد بالهم أنه هم أن يبدأ بالتنفيذ, فهم في نفسه أن يقدم وحصل في قلبه خاطر أن يفعل.
هذا ما يدل عليه لفظ (هم).
وعبارات بعض من ذكر هذا القول أو رجحه تفيد أنه مجرد وجود الشهوة الطبيعة والميل النفسي والخاطر القلبي.
ولفظ (هم) يفيد صراحة أكثر من مجرد الشهوة والخاطر.
فيفيد أنه هم وقصد وأراد أن يفعل لولا أن رأى البرهان.
ولكنه لم يتجاوز الهم ولم يفعل أي شيء.
وهذا القول الرابع هو الصحيح الخالي من اتهام يوسف بأنه بدأ ينفذ الهم, والخالي من إخراج يوسف من بشريته بالزعم بأنه لم يحصل عنده أي هم في مثل تلك الحال التي تحرك الجبال, والخالي من التأويل المتكلف الردي بالقول بأن المراد أنه هم بضربها.
فهو لم يخرج عن بشريته ففي تلك الحال التي هزته هزاً وقع في نفسه هم كما أخبر الله لكن الله عصمه بأن أراه برهان ربه.
وهو مجرد هم لا عزم وتصميم على التنفيذ, وهذا أمر لا يملك دفعه بشر في مثل ذلك الموقف.
قال البغوي: وقال بعض أهل الحقائق: الهم همان: هم ثابت، وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا، مثل هم امرأة العزيز، والعبد مأخوذ به، وهم عارض وهو الخطرة، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم، مثل هم يوسف عليه السلام.
وقال الرازي: المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات.
وهذا كلام جميل لصاحب الكشاف وآخر لصاحب الظلال.
قال صاحب الكشاف الزمخشري:
فإن قلت : كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت : المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه ، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم.
وقال: ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين.
وقال صاحب الظلال رحمه الله:
"الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعد ما أوتيهما..
الذي خطر لي أن قوله تعالى: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ»..
هو نهاية موقف طويل من الإغراء، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم .. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة .. ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضاً يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك. فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعاً".
وأما القول الأول فهو ضعيف جداً, وفيه زيادة على ما ذكر الله تبارك وتعالى, فإن الله لم يذكر سوى الهم.
قال الشنقيطي: "هذه الأقوال التي رأيت نسبتها إلى هؤلاء العلماء منقسمة إلى قسمين :
قسم لم يثبت نقله عمن نقله عنه بسند صحيح، وهذا لا إشكال في سقوطه.
وقسم ثبت عن بعض من ذكر، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات".
قال الزمخشري: ولو وجدت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره، كما نعيت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب. وعلى ذي النون، وذكرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمى مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولى القوة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب سورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجده الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار".
وأما القول الثاني فضعيف أيضاً.
قال الطبري: ويفسده أن العرب لا تقدم جواب "لولا" قبلها، لا تقول: "لقد قمت لولا زيد"، وهي تريد": لولا زيد لقد قمت"، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله.
وقال البغوي: زعم بعض المتأخرين أن الكلام عند قوله: {ولقد همت به} ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام فقال: {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} على التقديم والتأخير، أي: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكنه رأى البرهان فلم يهم.
وأنكره النحاة وقالوا: إن العرب لا تؤخر {لولا} عن الفعل، فلا تقول: لقد قمت لولا زيد".
وقال ابن عطية: "وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف.
قال الزجاج: ولو كان الكلام: ولهم بها لولا لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام"
وقال الزمخشري: لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض.
وأما استدلال الرازي والشنقيطي بقوله تعالى {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِه لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} فهو استدلال ضعيف.
هنا لم يقل: أبدت به, ولكن كادت فهو إنما نفى إبداءها به بعد أن كادت لأن الله ربط على قلبها.
فيصح الاستدلال بهذه الآية لنفي حصول الهم لو كانت الآية هكذا: وكاد يهم بها لولا أن رأى برهان ربه.
وأما القول الثالث وهو أنه هم بضربها فضعيف واضح الضعف.
وقد ذكرت أقوال ابن عطية وابن جرير والماتريدي وصاحب الظلال في تضعيفه.
وجوز الزمخشري قولاً خامساً فقال:
"ويجوز أن يريد بقوله وهم بها وشارف أن يهم بها ، كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله ، يريد مشارفة القتل ومشافهته. كأنه شرع فيه".
وهذا الذي ذكره الزمخشري بعيد وهو يختلف عن القول الثاني.
قال الشنقيطي: "هذا غير ظاهر، بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه".