النوال... (55) (أَتَذَرُ موسى وقوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)

إنضم
15/04/2018
المشاركات
322
مستوى التفاعل
12
النقاط
18
الإقامة
السعودية
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (55)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الأعراف": (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)

المراد بقوله: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) قيل: إن قوم فرعون كان لهم أصنام يعبدونها (ذكر هذا القول ابن جرير*, والماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن عاشور*)

فكان القبط يعبدون آلهة متنوعة وكان فرعون يقول: أنا أعظم هذه الآلهة (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)
ولما جاء موسى بدعوته إلى الله رب السموات والأرض قال فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) نفياً لما ادعاه موسى من وجود إله للسموات والأرض.
وقال لموسى: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)

ويدل على أن القبط كان لهم أصنام وآلهة قول قوم فرعون له: (ويذرك وآلهتك)
ونسبة الآلهة لفرعون بقولهم: (وآلهتك) لأنه المهيمن عليها ومتولي أمرها.

وقيل: كان فرعون يعبد الآلهة أيضاً. (ذكر هذا القول ابن جرير*, والماتريدي*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*, وصاحب الظلال*)

وادعاء فرعون للألوهية وأنه الرب الأعلى بناء على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة.

قال ابن عاشور: "كان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صوراً عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار...
كان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعون إلى بنوته وخدمته، وكان فرعون معدوداً ابن الآلهة, وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول، ففرعون هو المنفذ للدين، وكان يعد إلاه مصر"

وقال عند تفسير قوله: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى): "والقول الذي نادى به هو تذكير قومه بمعتقدهم فيه, فإنهم كانوا يعتبرون ملك مصر إلاها, لأن الكهنة يخبرونهم بأنه ابن (آمون رع) الذي يجعلونه إلاهاً ومظهره الشمس.
وصيغة الحصر في (أنا ربكم) لرد دعوة موسى.
فوصف نفسه بالرب الأعلى لأنه ابن (أمون رع) وهو الرب الأعلى، فابنه هو القائم بوصفه".

وقد نبه الرازي وصاحب الظلال إلى أنه ليس مراده بادعاء الربوبية أنه خالقهم وخالق السموات والأرض ومدبر الكون, ولم يكونوا يعتقدون ذلك فيه أيضاً.
وسوف أنقل نص كلامهما:

(والخلاصة ـ قبل نقل كلامهما ـ أن فرعون وقومه كان لهم آلهة, وكانت تحت هيمنة وتدبير وتصرف فرعون, ولذلك قالوا: (ويذرك وآلهتك), وفرعون يدعي أنه هو الإله الأكبر والأعلى الذي تجب طاعته المطلقة وتعظيمه, مستمداً ذلك من بعض الأساطير السائدة, ويفرض هذه الأسطورة والاعتقاد بالقوة. وقيل: إن فرعون كان يعبد الآلهة أيضاً, ولذلك قالوا: "ويذرك وآلهتك")

وهذا نص كلام الرازي.
قال الرازي: "أقول: الذي يخطر ببالي أن فرعون إن قلنا: إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه, وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض, ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل.
بل الأقرب أن يقال: إنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع, وكان يقول: مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب, وأما المجدي في هذا العلم للخلق ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه.
فقوله: (أنا ربكم الأعلى) أي: مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم.
وقوله: (ما علمت لكم من إله غيري) أي: لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلا أنا, وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب, وعلى هذا التقدير: فلا امتناع في حمل قوله تعالى: (ويذرك وآلهتك) على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب. والله أعلم".

فالرازي يرى أنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: (ويذرك وآلهتك)
وأما قول الرازي في تفسير قوله: (أنا ربكم الأعلى) أي: مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم. فهو قول بعيد.

وقال أيضاً عند تفسير قوله تعالى في سورة "النازعات": (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى): "واعلم أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسان في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض والجبال والنبات والحيوان والإنسان، فإن العلم بفساد ذلك ضروري، فمن تشكك فيه كان مجنوناً، ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الأنبياء والرسل إليه، بل الرجل كان دهرياً منكراً للصانع والحشر والنشر، وكان يقول: ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي إلا لي، فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهي، أو يبعث إليكم رسولاً".

ونبه إلى ذلك صاحب الظلال أيضاً (لكنه يرى أن الناس في مصر لم يكونوا يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له, وما كان ادعاء فرعون للربوبية والألوهية بهذا المعنى, وما قصد بقوله: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء والذي يتبعون كلمته بلا معارض).

وقول صاحب الظلال: "إنه إنما قصد أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء" فيه نظر.
بل إنه كان يدعي الإلهية فعلاً, ويدعي أن له نسباً إلى الآلهة, وفرض عليهم تعظيمه واتخاذه الرب الاعلى. كما سيأتي.
ولذلك اختلف كلامه بعض الشيء كما سأبين.

وهذا نص كلام صاحب الظلال.
قال صاحب الظلال: "إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره أو أن له سلطاناً في عالم الأسباب الكونية. إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل! بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه وأنه بإرادته وأمره تمضي الشئون وتقضى الأمور. وهذا ما يدعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقانونه، وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره- وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي- كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له- فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك، كما هو ظاهر من قول الملأ له: «ويذرك وآلهتك» وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية.
إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم، لا يعصون له أمراً، ولا ينقضون له شرعاً.. وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة.. فأيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه، وذلك هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن اليهود والنصارى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية» عند ما سمعها منه عدي بن حاتم- وكان نصرانياً جاء ليسلم- فقال: يا رسول الله ما عبدوهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» ... (أخرجه الترمذي)...
وما قصد بقوله: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء والذي يتبعون كلمته بلا معارض! والحاكمية على هذا النحو ألوهية كما يفيد المدلول اللغوي!"

ولكن صاحب الظلال اختلف قوله بعض الشيء عند تفسير قوله: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) وعند تفسير قوله: (يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)

فهاهو يقول: "وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضراً ولا رشداً! فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» .. وما كان ليقولها أبداً لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء. وإن يسلبه الذباب شيئاً لا يستنقذ من الذباب شيئاً!".

وقال عند تفسير قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي):
"كلمة فاجرة كافرة، يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم. ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة. ثم على القهر الذي لا يدع لرأس أن يفكر، ولا للسان أن يعبر. وهم يرونه بشراً مثلهم يحيا ويموت، ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب!"اهـ

وعلى أي حال فالأمر كما قال (الرازي وصاحب الظلال): إن فرعون ليس مراده بادعاء الربوبية أنه خالقهم وخالق السموات والأرض ومدبر الكون ولم يكونوا يعتقدون ذلك فيه.
ولم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له- فقد كانت لهم آلهتهم وظاهر قوله تعالى: (ويذرك وآلهتك) أنه كان لفرعون أيضاً آلهته التي يعبدها.

ولكن الأمر أيضاً ليس كما ذكر الرازي من أن المراد بقوله"(أنا ربكم الأعلى) أي: مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم".
وليس كما ذكر صاحب الظلال من أن المقصود بقوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه وأنه بإرادته وأمره تمضي الشئون وتقضى الأمور.
وأنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء والذي يتبعون كلمته بلا معارض.

بل الأقرب أنه كان يدعي الإلهية فعلاً, ويدعي أن له نسباً إلى الآلهة, وفرض عليهم تعظيمه واتخاذه الرب الأعلى.
ولذلك قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)
وقال: (يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)
وقال لموسى: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
 
عودة
أعلى