صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (48)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "مريم": (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)
القول الراجح أن المراد بقوله: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) جميع الخلق.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في قوله: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) من المراد بقوله: (منكم) على قولين:
القول الأول: أن المراد بذلك جميع الخلق.
(رجحه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*) (واقتصر عليه البغوي*, والشنقيطي*, وصاحب الظلال*) (وضعفه ابن عاشور*)
وهذا القول هو الراجح.
ويدل عليه دليلان.
الأول: حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند حفصة: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها. قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها, فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها}, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}. أخرجه مسلم وغيره.
فأقرها على فهمها بأن الكل سيردها, ولم يقل لها: هذه الآية في غير المؤمنين.
ولكن أفاد أن الورود لا يلزم منه الدخول فيها.
قال الرازي: "ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً".
الدليل الثاني: ظاهر قوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)
فالنص على نجاة المتقين وإبقاء الظالمين بعد التهديد بورود النار يدل على أن الكل متوعدون بالورود.
قال الرازي: "لقوله تعالى: وإن منكم إلا واردها فلم يخص. وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول, ويدل عليه قوله: (ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ) أي: من الواردين من اتقى, ولا يجوز أن يقال: (ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول".
وأما الاستدلال على ذلك بالحديث المتفق عليه (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحله القسم)
فسيأتي الكلام عليه في آخر الموضوع.
القول الثاني: أن المراد الكفار خاصة (ذكره الماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*) (ورجحه ابن عاشور*)
قال القرطبي: فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء، فقد عرف ذلك في قوله عز وجل: (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)
قال الزمخشري: "وإن أريد الكفرة وحدهم فمعنى (ثم ننجي الذين اتقوا) أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار، لا أنهم يواردونهم ثم يتخلصون"اهـ
ولابن عاشور كلام قوي في ترجيح هذا القول وفي المراد بهذه الآية (لولا أن القول الأول أقوى)
أذكر شيئاً منه.
قال رحمه الله: "الخطاب في {وَإِنْ مِنْكُمْ} التفات عن الغيبة في قوله: {لنحشرنهم} و{لنحضرنهم}, عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد.
والورود: حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء. ويطلق على الوصول مطلقاً مجازاً شائعاً، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يعرف إلا أن يكون مجازاً غير مشهور فلا بد له من قرينة.
وجملة {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النار بموقت بأجل.
و{ثُمَّ} للترتيب الرتبي، تنويها بإنجاء الذين اتقوا، وتشويهاً بحال الذين يبقون في جهنم جثيا.
فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتقوا من ورود جهنم.
وليس المعنى: ثم ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نجوا من الورود إلى النار. وذكر إنجاء المتقين أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين.
فليس الخطاب في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم على معنى ابتداء كلام, بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النار مع الكافرين ثم ينجون من عذابها، لأن هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة.
ولأن فضل الله على المؤمنين بالجنة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مساقاً واحداً، كيف وقد صدر الكلام بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ}
وهذه الآية مثار إشكال ومحط قيل وقال، واتفق جميع المفسرين على أن المتقين لا تنالهم نار جهنم. واختلفوا في محل الآية.
فمنهم من جعل ضمير {منكم} لجميع المخاطبين بالقرآن، ورووه عن بعض السلف فصدمهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب، فسلكوا مسالك من التأويل، فمنهم من تأول الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى، وهذا بعد عن الاستعمال، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المورد, لأن أصله من ورود الحوض. وفي آي القرآن ما جاء إلا لمعنى المصير إلى النار.
ومنهم من تأول ورود جهنم بمرور الصراط، وهو جسر على جهنم، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سرعة الاجتياز. وهذا أقل بعداً من الذي قبله"اهـ
قلت: الحقيقة أن هذا القول قوي وما ذكره ابن عاشور رحمه الله وجيه, لكن القول الأول أقوى منه, وهو أن المراد جميع الخلق وأن المراد بالورود العبور على الصراط كما سيأتي في القول الثالث بعد قليل, وقد ثبت أن الناس يمرون على الصراط المنصوب فوق جهنم, وهذا من الورود لها, والله تعالى أعلم.
والجمهور القائلون بأن ورود النار لجميع الخلق اختلفوا في المراد بالورود على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد الدخول في النار. (ذكره ابن جرير*, والماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, وابن كثير*, والرازي*) (ورجحه البغوي*, والشنقيطي*) (ومال إليه القرطبي*)
وقالوا: يطلق الورود على الدخول.
كما في قوله تعالى: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار)
وكما في قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون)
قال البغوي: بدليل قوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً} والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه.
قال الرازي: "ويدل عليه قوله تعالى: (أولئك عنها مبعدون) والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها.
ويدل عليه قوله تعالى: (ونذر الظالمين فيها جثياً) وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه, وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار".
وقال القرطبي: "قوله تعالى: (ثم ننجي الذين اتقوا) أي نخلصهم (ونذر الظالمين فيها جثيا) وهذا مما يدل على أن الورود الدخول, لأنه لم يقل: وندخل الظالمين".
وقال الشنقيطي: "في نفس الآية قرينة دالة على ذلك، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا)، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله: (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها)
أي: نترك الظالمين فيها، دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل: (ونذر الظالمين فيها) بل يقول: (وندخل الظالمين)، وهذا واضح كما ترى.
وكذلك قوله: (ثم ننجي الذين اتقوا) دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله: (وإن منكم إلا واردها) قوله: (ثم ننجي الذين اتقوا)".
قلت: هذ القول مرجوح.
ومما يدل على بُعْدِه حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند حفصة: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها. قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها, فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها}, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}. أخرجه مسلم وغيره.
فأفاد أن الورود لا يلزم منه الدخول فيها.
قال الرازي: "ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً".
وكذلك حديث جابر رضي الله عنه (أن عبداً لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت، لا يدخلها, فإنه قد شهد بدرا والحديبية).
فنفيه دخول حاطب يفهم منه أن قوله: (وإن منكم إلا واردها) ليس المراد به الدخول.
وكذلك مما يدل على ضعفه أن الله عز وجل أخبر أن من أدخل النار فقد أخزاه بقوله: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته).
قال الماتريدي: "قال الحسن: لا يحتمل أن يدخل أهل الإيمان النار, لأن الله عز وجل آمن المؤمنين أن يكون عليهم خوف أو حزن بقوله: (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فلو كانوا يدخلون النار لكان لهم خوف وحزن".
وأما الاستدلال على ذلك بالحديث المتفق عليه (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحله القسم)
فسيأتي الكلام عليه في آخر الموضوع.
القول الثاني: أن المراد بالورود الحضور والدنو والرؤية (ذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه صاحب الظلال*)
قال ابن عطية*: "قالت فرقة: بل هو ورود إشراف وإطلاع وقرب, كما تقول: وردت الماء إذا جئته، وليس يلزم أن تدخل فيه"أهـ
قالوا: كما قال الله تعالى: (ولما ورد ماء مدين) أراد به الحضور.
وقالوا: النار لا يدخلها مؤمن أبداً لقوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها)
والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها.
وقال تعالى: (وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ)
القول الثالث: أن المراد بالورود العبور على الصراط المنصوب على جهنم. (رجحه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, وابن كثير*, والقرطبي*, والشنقيطي*)
وهذا أقرب الأقوال.
تتمة:
استدل بعض المفسرين على أن الخطاب في قوله: (وإن منكم إلا واردها) للمؤمنين والكفار بدليل مشهور, وهو أيضاً دليل ـ لو صح الاستدلال به ـ على أن المراد بالورود الدخول, لكن اعترض عليه بعضهم.
وهو حديث (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحله القسم) متفق عليه.
قالوا: وأراد بالقسم قوله: {وإن منكم إلا واردها}
قال ابن عاشور: "هذا محمل باطل، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل، وإنما معنى الحديث: أن من استحق عذاباً من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النار إلا ولوجاً قليلاً يشبه ما يفعل لأجل تحله القسم، أي التحلل منه. وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه، فقوله تحله القسم تمثيل".
وقال الشنقيطي: "وما ذكره جماعة من أهل العلم من أن المراد بقوله: (حتما مقضيا) قسماً واجباً، كما روي عن عكرمة وابن مسعود ومجاهد وقتادة وغيرهم لا يظهر كل الظهور.
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم, لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم، ولا قرينة واضحة دالة على القسم، ولم يتعين عطفها على القسم، والحكم بتقدير قسم في كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه زيادة على معنى كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه.
وحديث أبي هريرة المذكور المتفق عليه لا يتعين منه أن في الآية قسماً, لأن من أساليب اللغة العربية التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة وإن لم يكن هناك قسم أصلاً، يقولون: ما فعلت كذا إلا تحلة القسم، يعنون إلا فعلا قليلاً جداً قدر ما يحلل به الحالف قسمه، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، فمعنى قوله r: «إلا تحلة» أي: لا يلج النار إلا ولوجاً قليلاً جداً لا ألم فيه ولا حر، كما قدمنا في حديث جابر المرفوع".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "مريم": (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)
القول الراجح أن المراد بقوله: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) جميع الخلق.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في قوله: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) من المراد بقوله: (منكم) على قولين:
القول الأول: أن المراد بذلك جميع الخلق.
(رجحه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*) (واقتصر عليه البغوي*, والشنقيطي*, وصاحب الظلال*) (وضعفه ابن عاشور*)
وهذا القول هو الراجح.
ويدل عليه دليلان.
الأول: حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند حفصة: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها. قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها, فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها}, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}. أخرجه مسلم وغيره.
فأقرها على فهمها بأن الكل سيردها, ولم يقل لها: هذه الآية في غير المؤمنين.
ولكن أفاد أن الورود لا يلزم منه الدخول فيها.
قال الرازي: "ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً".
الدليل الثاني: ظاهر قوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)
فالنص على نجاة المتقين وإبقاء الظالمين بعد التهديد بورود النار يدل على أن الكل متوعدون بالورود.
قال الرازي: "لقوله تعالى: وإن منكم إلا واردها فلم يخص. وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول, ويدل عليه قوله: (ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ) أي: من الواردين من اتقى, ولا يجوز أن يقال: (ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول".
وأما الاستدلال على ذلك بالحديث المتفق عليه (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحله القسم)
فسيأتي الكلام عليه في آخر الموضوع.
القول الثاني: أن المراد الكفار خاصة (ذكره الماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*) (ورجحه ابن عاشور*)
قال القرطبي: فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء، فقد عرف ذلك في قوله عز وجل: (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)
قال الزمخشري: "وإن أريد الكفرة وحدهم فمعنى (ثم ننجي الذين اتقوا) أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار، لا أنهم يواردونهم ثم يتخلصون"اهـ
ولابن عاشور كلام قوي في ترجيح هذا القول وفي المراد بهذه الآية (لولا أن القول الأول أقوى)
أذكر شيئاً منه.
قال رحمه الله: "الخطاب في {وَإِنْ مِنْكُمْ} التفات عن الغيبة في قوله: {لنحشرنهم} و{لنحضرنهم}, عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد.
والورود: حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء. ويطلق على الوصول مطلقاً مجازاً شائعاً، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يعرف إلا أن يكون مجازاً غير مشهور فلا بد له من قرينة.
وجملة {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنهم خالدون في العذاب، فليس ورودهم النار بموقت بأجل.
و{ثُمَّ} للترتيب الرتبي، تنويها بإنجاء الذين اتقوا، وتشويهاً بحال الذين يبقون في جهنم جثيا.
فالمعنى: وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتقوا من ورود جهنم.
وليس المعنى: ثم ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نجوا من الورود إلى النار. وذكر إنجاء المتقين أي المؤمنين، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين.
فليس الخطاب في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم على معنى ابتداء كلام, بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النار مع الكافرين ثم ينجون من عذابها، لأن هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة.
ولأن فضل الله على المؤمنين بالجنة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مساقاً واحداً، كيف وقد صدر الكلام بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ}
وهذه الآية مثار إشكال ومحط قيل وقال، واتفق جميع المفسرين على أن المتقين لا تنالهم نار جهنم. واختلفوا في محل الآية.
فمنهم من جعل ضمير {منكم} لجميع المخاطبين بالقرآن، ورووه عن بعض السلف فصدمهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب، فسلكوا مسالك من التأويل، فمنهم من تأول الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى، وهذا بعد عن الاستعمال، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المورد, لأن أصله من ورود الحوض. وفي آي القرآن ما جاء إلا لمعنى المصير إلى النار.
ومنهم من تأول ورود جهنم بمرور الصراط، وهو جسر على جهنم، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سرعة الاجتياز. وهذا أقل بعداً من الذي قبله"اهـ
قلت: الحقيقة أن هذا القول قوي وما ذكره ابن عاشور رحمه الله وجيه, لكن القول الأول أقوى منه, وهو أن المراد جميع الخلق وأن المراد بالورود العبور على الصراط كما سيأتي في القول الثالث بعد قليل, وقد ثبت أن الناس يمرون على الصراط المنصوب فوق جهنم, وهذا من الورود لها, والله تعالى أعلم.
والجمهور القائلون بأن ورود النار لجميع الخلق اختلفوا في المراد بالورود على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد الدخول في النار. (ذكره ابن جرير*, والماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, وابن كثير*, والرازي*) (ورجحه البغوي*, والشنقيطي*) (ومال إليه القرطبي*)
وقالوا: يطلق الورود على الدخول.
كما في قوله تعالى: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار)
وكما في قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون)
قال البغوي: بدليل قوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً} والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه.
قال الرازي: "ويدل عليه قوله تعالى: (أولئك عنها مبعدون) والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها.
ويدل عليه قوله تعالى: (ونذر الظالمين فيها جثياً) وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه, وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار".
وقال القرطبي: "قوله تعالى: (ثم ننجي الذين اتقوا) أي نخلصهم (ونذر الظالمين فيها جثيا) وهذا مما يدل على أن الورود الدخول, لأنه لم يقل: وندخل الظالمين".
وقال الشنقيطي: "في نفس الآية قرينة دالة على ذلك، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا)، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله: (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها)
أي: نترك الظالمين فيها، دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل: (ونذر الظالمين فيها) بل يقول: (وندخل الظالمين)، وهذا واضح كما ترى.
وكذلك قوله: (ثم ننجي الذين اتقوا) دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله: (وإن منكم إلا واردها) قوله: (ثم ننجي الذين اتقوا)".
قلت: هذ القول مرجوح.
ومما يدل على بُعْدِه حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند حفصة: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها. قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها, فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها}, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}. أخرجه مسلم وغيره.
فأفاد أن الورود لا يلزم منه الدخول فيها.
قال الرازي: "ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً".
وكذلك حديث جابر رضي الله عنه (أن عبداً لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت، لا يدخلها, فإنه قد شهد بدرا والحديبية).
فنفيه دخول حاطب يفهم منه أن قوله: (وإن منكم إلا واردها) ليس المراد به الدخول.
وكذلك مما يدل على ضعفه أن الله عز وجل أخبر أن من أدخل النار فقد أخزاه بقوله: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته).
قال الماتريدي: "قال الحسن: لا يحتمل أن يدخل أهل الإيمان النار, لأن الله عز وجل آمن المؤمنين أن يكون عليهم خوف أو حزن بقوله: (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فلو كانوا يدخلون النار لكان لهم خوف وحزن".
وأما الاستدلال على ذلك بالحديث المتفق عليه (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحله القسم)
فسيأتي الكلام عليه في آخر الموضوع.
القول الثاني: أن المراد بالورود الحضور والدنو والرؤية (ذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه صاحب الظلال*)
قال ابن عطية*: "قالت فرقة: بل هو ورود إشراف وإطلاع وقرب, كما تقول: وردت الماء إذا جئته، وليس يلزم أن تدخل فيه"أهـ
قالوا: كما قال الله تعالى: (ولما ورد ماء مدين) أراد به الحضور.
وقالوا: النار لا يدخلها مؤمن أبداً لقوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها)
والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها.
وقال تعالى: (وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ)
القول الثالث: أن المراد بالورود العبور على الصراط المنصوب على جهنم. (رجحه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, والزمخشري*, وابن عطية*, وابن كثير*, والقرطبي*, والشنقيطي*)
وهذا أقرب الأقوال.
تتمة:
استدل بعض المفسرين على أن الخطاب في قوله: (وإن منكم إلا واردها) للمؤمنين والكفار بدليل مشهور, وهو أيضاً دليل ـ لو صح الاستدلال به ـ على أن المراد بالورود الدخول, لكن اعترض عليه بعضهم.
وهو حديث (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحله القسم) متفق عليه.
قالوا: وأراد بالقسم قوله: {وإن منكم إلا واردها}
قال ابن عاشور: "هذا محمل باطل، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل، وإنما معنى الحديث: أن من استحق عذاباً من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النار إلا ولوجاً قليلاً يشبه ما يفعل لأجل تحله القسم، أي التحلل منه. وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه، فقوله تحله القسم تمثيل".
وقال الشنقيطي: "وما ذكره جماعة من أهل العلم من أن المراد بقوله: (حتما مقضيا) قسماً واجباً، كما روي عن عكرمة وابن مسعود ومجاهد وقتادة وغيرهم لا يظهر كل الظهور.
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم, لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم، ولا قرينة واضحة دالة على القسم، ولم يتعين عطفها على القسم، والحكم بتقدير قسم في كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه زيادة على معنى كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه.
وحديث أبي هريرة المذكور المتفق عليه لا يتعين منه أن في الآية قسماً, لأن من أساليب اللغة العربية التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة وإن لم يكن هناك قسم أصلاً، يقولون: ما فعلت كذا إلا تحلة القسم، يعنون إلا فعلا قليلاً جداً قدر ما يحلل به الحالف قسمه، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، فمعنى قوله r: «إلا تحلة» أي: لا يلج النار إلا ولوجاً قليلاً جداً لا ألم فيه ولا حر، كما قدمنا في حديث جابر المرفوع".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/