صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (47)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الأعراف": (فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
القول الأقرب أن المراد بقوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ) آدم وحواء.
والمعنى: أنهما جعلا له شركاء في الاسم, حيث سميا ولدهما عبد الحارث بأمر من الشيطان.
والخبر عن آدم وحواء انقضى عند قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، ثم استؤنف قوله: (فتعالى الله عما يشركون) مراداً بهم مشركي العرب.
قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
قوله: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) كناية عن الجماع, والغشيان إتيان الرجل المرأة.
وقوله: (فَمَرَّتْ بِهِ) أي: لم تهتم ولم تكترث به لخفته.
قال ابن عاشور: "حقيقة المرور: الاجتياز، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء.
كقوله تعالى: (فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) أي: نسي دعاءنا، وأعرض عن شكرنا, لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله.
وقوله: (وإذا مروا باللغو مروا كراماً).
وقال تعالى: (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون).
فمعنى (فمرت به) لم تتفطن له، ولم تفكر في شأنه".
وقوله: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي: صارت ذات ثقل, فثقل الحمل ودنت الولادة.
وقوله: (لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا) أي: ولداً سوياً سليماً معافى.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: (جعلا له شركاء) على قولين.
وفي هذه الآية كان ابن جرير في كفة وأكثر المفسرين في كفة أخرى قد خالفوا ابن جرير.
ولكن القرائن تصب في كفة ابن جرير, فظاهر الآية والمتبادر منها يؤيد هذا القول وكونها تحكي حدثاً معيناً مفصلاً من أنه تغشاها ثم حملت فلما أثقلت دعوا الله لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين, فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء.
القول الأول: أن المراد بقوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ) آدم وحواء.
والمعنى: أنهما جعلا له شركاء في الاسم, حيث سميا ولدهما عبد الحارث بأمر من الشيطان.
وقوله تعالى: (فتعالى عما يشركون) المراد به مشركوا العرب من عبدة الأوثان.
فأما الخبر عن آدم وحواء فقد انقضى عند قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، ثم استؤنف قوله: (فتعالى الله عما يشركون) (رجح هذا القول ابن جرير*) (وضعفه الماتريدي* والرازي* بشدة كما سيأتي)
قال ابن جرير: وأولى القولين بالصواب قول من قال: عنى بقوله: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء) في الاسم لا في العبادة, وأن المعنيَّ بذلك آدم وحواء، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
قال الرازي: "واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه".
ثم ذكر ستة أوجه ثم قال: "فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه".
قلت: الوجوه التي ذكرها الرازي ليست قوية, وكثير منها باعتبار أن قوله: (فتعالى الله عم يشركون) راجع إلى آدم وحواء.
والأمر ليس كذلك كما سبق.
وقال الماتريدي: "على هذا حمل أهل التأويل الآية وإلى آدم وحواء صرفوها، وذلك وخش من القول، قبيح في آدم وحواء ذلك". (الوخش: الرديء)
ووصف هذا القول بأنه بعيد محال.
وقال: "ولو كانت القصة في آدم على ما يقول أهل التأويل فيكون للعرب بها تعلق واقتداء، فيقولون: إنه أشرك، ونحن نشرك".
ثم قال الماتريدي: "التأويل عندنا على غير ما ذهبوا إليه والله أعلم".
ثم ذهب إلى أن المراد بالآية الأزواج من ذريتهما وليس آدم وحواء, وأن هذه الآية كقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا)، فأخبر أن الأزواج خلقهن من نفس الأزواج، فلما أضاف الزوجات إلى أنفس الأزواج وأنهن من أنفسهم خلقهن كان قوله: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) كل زوجة وزوج إذا تغشاها وحملت, وأن دعاء آدم وحواء (لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) يدخل فيه أولادهما الذين يولدون إلى يوم القيامة إذ جميع الأولاد أولادهما.
وهذا الذي ذهب إليه الماتريدي وهو أن المراد الأزواج من ذريتهما هو اختيار الأكثرين من المفسرين كما سيأتي.
ولكن ما ذهب إليه ابن جرير هو الأقرب والله أعلم, لأنه المتبادر والظاهر من الآية في قوله تعالى: (لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا)
وقد جاء في بعض الآثار: "أن حواء كانت لا يعيش لها ولد، فحملت فجاءها الشيطان فقال لها: سمي هذا الولد عبد الحارث فإنه يعيش، والحارث من أسماء الشيطان، فسمته عبد الحارث, فقال تعالى: {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً} أي: ولداً إنساناً ذكراً جعلا له شركاء بتسميته عبد الحارث".
وليس المراد أن آدم وحواء وقعا في الشرك الأكبر شرك العبادة كلا.
إنما هو شرك في التسمية لا أكثر, وتأمل هذا الحصر (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا) فهو (فيما آتاهما) فحسب.
وآدم عليه السلام بشر يتعلم من الخطأ ويرشده ربه, كما قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)
القول الثاني: أن المراد بقوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ) ليس آدم وحواء, وإنما أولادهما.
فالمراد إذاً المشركون من ذريتهما وليس آدم وحواء أنفسهما.
(رجحه الماتريدي* كما سبق, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه الزمخشري*, وابن عاشور*) (وذكر القولين دون ترجيح البغوي*, وابن عطية*)
تنبيه:
كيف وجَّه القائلون بأن المراد ليس آدم وحواء قوله: (جعلا له شركاء)
قيل: لما أضاف الزوجات إلى أنفس الأزواج وأنهن من أنفسهم خلقهن كما في آية "الروم" كان قوله: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) كل زوجة وزوج إذا تغشاها وحملت (وهذا قول الماتريدي* كما سبق)
(ونحوه قول ابن عطية*): "قيل: الغرض تعديد النعمة في الأزواج وفي تسهيل النسل والولادة ثم ذكر سوء فعل المشركين بعقب ذلك... والمعنى فلما آتى الله هذين الانسانين صالحاً أي سليماً ذهبا به إلى الكفر وجعلا لله فيه شركاء".
(ونحوه قول القرطبي*): "قيل: المعنى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) من هيئة واحدة وشكل واحد (وجعل منها زوجها) أي: من جنسها (فلما تغشاها) يعني الجنسين, وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية".
(ونحوه قول الرازي*): "قال القفال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل, وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك.
وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين... الخ.
قال الرازي: "وهذا جواب في غاية الصحة والسداد".
(ونحوه قول ابن عاشور*): "جعل كثير من المفسرين النفس الواحدة آدم, وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد، وهو المأثور عن الحسن وقتادة".
وقيل: هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فقوله: (جعلا له شركاء) أي: جعل أولادهما له شركاء.
وكذلك (فيما آتاهما) أي آتى أولادهما (وهذا قول الزمخشري*, والبغوي*) (وذكره الرازي*)
قال الزمخشري: "والضمير في (آتيتنا) و(لنكونن) لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما".
وقال البغوي: "ومعناه: جعل أولادهما له شركاء, فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم, كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء، فقال: (ثم اتخذتم العجل) وكان ذلك الفعل من آبائهم".
وقيل: أسند فعل الذرية إلى آدم وحواء لأنهما أصل لذريتهما كما قال: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، أي: بتصويرنا لأبيكم آدم لأنه أصلهم. (وهذا قول الشنقيطي*)
تنبيه آخر:
(ذكر القولين ابن عطية* كما ذكرت من قبل) لكنه لما ذكر القول الأول اعترض على القول بأن الضمير في قوله: (فتعالى الله عما يشركون) يعود على غير آدم وحواء, وقال: "هذا تحكم لا يساعده اللفظ".
وقال: "ويتجه أن يقال: يبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام، وجاء الضمير في يشركون ضمير جمع لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث".
فائدة:
قال ابن جرير: "فإن قال قائل: فإن آدم وحواء إنما سميا ابنهما "عبد الحارث"، و"الحارث" واحد، وقوله:(شركاء) جماعة، فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما "جعلا له شركاء"، وإنما أشركا واحداً؟!
قيل: قد دللنا فيما مضى على أن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة، إذا لم تقصد واحداً بعينه ولم تسمِّه، كقوله:( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ )، وإنما كان القائل ذلك واحداً".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الأعراف": (فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
القول الأقرب أن المراد بقوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ) آدم وحواء.
والمعنى: أنهما جعلا له شركاء في الاسم, حيث سميا ولدهما عبد الحارث بأمر من الشيطان.
والخبر عن آدم وحواء انقضى عند قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، ثم استؤنف قوله: (فتعالى الله عما يشركون) مراداً بهم مشركي العرب.
قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
قوله: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) كناية عن الجماع, والغشيان إتيان الرجل المرأة.
وقوله: (فَمَرَّتْ بِهِ) أي: لم تهتم ولم تكترث به لخفته.
قال ابن عاشور: "حقيقة المرور: الاجتياز، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء.
كقوله تعالى: (فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) أي: نسي دعاءنا، وأعرض عن شكرنا, لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله.
وقوله: (وإذا مروا باللغو مروا كراماً).
وقال تعالى: (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون).
فمعنى (فمرت به) لم تتفطن له، ولم تفكر في شأنه".
وقوله: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي: صارت ذات ثقل, فثقل الحمل ودنت الولادة.
وقوله: (لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا) أي: ولداً سوياً سليماً معافى.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: (جعلا له شركاء) على قولين.
وفي هذه الآية كان ابن جرير في كفة وأكثر المفسرين في كفة أخرى قد خالفوا ابن جرير.
ولكن القرائن تصب في كفة ابن جرير, فظاهر الآية والمتبادر منها يؤيد هذا القول وكونها تحكي حدثاً معيناً مفصلاً من أنه تغشاها ثم حملت فلما أثقلت دعوا الله لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين, فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء.
القول الأول: أن المراد بقوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ) آدم وحواء.
والمعنى: أنهما جعلا له شركاء في الاسم, حيث سميا ولدهما عبد الحارث بأمر من الشيطان.
وقوله تعالى: (فتعالى عما يشركون) المراد به مشركوا العرب من عبدة الأوثان.
فأما الخبر عن آدم وحواء فقد انقضى عند قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، ثم استؤنف قوله: (فتعالى الله عما يشركون) (رجح هذا القول ابن جرير*) (وضعفه الماتريدي* والرازي* بشدة كما سيأتي)
قال ابن جرير: وأولى القولين بالصواب قول من قال: عنى بقوله: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء) في الاسم لا في العبادة, وأن المعنيَّ بذلك آدم وحواء، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
قال الرازي: "واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه".
ثم ذكر ستة أوجه ثم قال: "فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه".
قلت: الوجوه التي ذكرها الرازي ليست قوية, وكثير منها باعتبار أن قوله: (فتعالى الله عم يشركون) راجع إلى آدم وحواء.
والأمر ليس كذلك كما سبق.
وقال الماتريدي: "على هذا حمل أهل التأويل الآية وإلى آدم وحواء صرفوها، وذلك وخش من القول، قبيح في آدم وحواء ذلك". (الوخش: الرديء)
ووصف هذا القول بأنه بعيد محال.
وقال: "ولو كانت القصة في آدم على ما يقول أهل التأويل فيكون للعرب بها تعلق واقتداء، فيقولون: إنه أشرك، ونحن نشرك".
ثم قال الماتريدي: "التأويل عندنا على غير ما ذهبوا إليه والله أعلم".
ثم ذهب إلى أن المراد بالآية الأزواج من ذريتهما وليس آدم وحواء, وأن هذه الآية كقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا)، فأخبر أن الأزواج خلقهن من نفس الأزواج، فلما أضاف الزوجات إلى أنفس الأزواج وأنهن من أنفسهم خلقهن كان قوله: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) كل زوجة وزوج إذا تغشاها وحملت, وأن دعاء آدم وحواء (لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) يدخل فيه أولادهما الذين يولدون إلى يوم القيامة إذ جميع الأولاد أولادهما.
وهذا الذي ذهب إليه الماتريدي وهو أن المراد الأزواج من ذريتهما هو اختيار الأكثرين من المفسرين كما سيأتي.
ولكن ما ذهب إليه ابن جرير هو الأقرب والله أعلم, لأنه المتبادر والظاهر من الآية في قوله تعالى: (لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا)
وقد جاء في بعض الآثار: "أن حواء كانت لا يعيش لها ولد، فحملت فجاءها الشيطان فقال لها: سمي هذا الولد عبد الحارث فإنه يعيش، والحارث من أسماء الشيطان، فسمته عبد الحارث, فقال تعالى: {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً} أي: ولداً إنساناً ذكراً جعلا له شركاء بتسميته عبد الحارث".
وليس المراد أن آدم وحواء وقعا في الشرك الأكبر شرك العبادة كلا.
إنما هو شرك في التسمية لا أكثر, وتأمل هذا الحصر (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا) فهو (فيما آتاهما) فحسب.
وآدم عليه السلام بشر يتعلم من الخطأ ويرشده ربه, كما قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)
القول الثاني: أن المراد بقوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ) ليس آدم وحواء, وإنما أولادهما.
فالمراد إذاً المشركون من ذريتهما وليس آدم وحواء أنفسهما.
(رجحه الماتريدي* كما سبق, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه الزمخشري*, وابن عاشور*) (وذكر القولين دون ترجيح البغوي*, وابن عطية*)
تنبيه:
كيف وجَّه القائلون بأن المراد ليس آدم وحواء قوله: (جعلا له شركاء)
قيل: لما أضاف الزوجات إلى أنفس الأزواج وأنهن من أنفسهم خلقهن كما في آية "الروم" كان قوله: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) كل زوجة وزوج إذا تغشاها وحملت (وهذا قول الماتريدي* كما سبق)
(ونحوه قول ابن عطية*): "قيل: الغرض تعديد النعمة في الأزواج وفي تسهيل النسل والولادة ثم ذكر سوء فعل المشركين بعقب ذلك... والمعنى فلما آتى الله هذين الانسانين صالحاً أي سليماً ذهبا به إلى الكفر وجعلا لله فيه شركاء".
(ونحوه قول القرطبي*): "قيل: المعنى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) من هيئة واحدة وشكل واحد (وجعل منها زوجها) أي: من جنسها (فلما تغشاها) يعني الجنسين, وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية".
(ونحوه قول الرازي*): "قال القفال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل, وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك.
وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين... الخ.
قال الرازي: "وهذا جواب في غاية الصحة والسداد".
(ونحوه قول ابن عاشور*): "جعل كثير من المفسرين النفس الواحدة آدم, وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد، وهو المأثور عن الحسن وقتادة".
وقيل: هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فقوله: (جعلا له شركاء) أي: جعل أولادهما له شركاء.
وكذلك (فيما آتاهما) أي آتى أولادهما (وهذا قول الزمخشري*, والبغوي*) (وذكره الرازي*)
قال الزمخشري: "والضمير في (آتيتنا) و(لنكونن) لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما".
وقال البغوي: "ومعناه: جعل أولادهما له شركاء, فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم, كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء، فقال: (ثم اتخذتم العجل) وكان ذلك الفعل من آبائهم".
وقيل: أسند فعل الذرية إلى آدم وحواء لأنهما أصل لذريتهما كما قال: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، أي: بتصويرنا لأبيكم آدم لأنه أصلهم. (وهذا قول الشنقيطي*)
تنبيه آخر:
(ذكر القولين ابن عطية* كما ذكرت من قبل) لكنه لما ذكر القول الأول اعترض على القول بأن الضمير في قوله: (فتعالى الله عما يشركون) يعود على غير آدم وحواء, وقال: "هذا تحكم لا يساعده اللفظ".
وقال: "ويتجه أن يقال: يبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام، وجاء الضمير في يشركون ضمير جمع لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث".
فائدة:
قال ابن جرير: "فإن قال قائل: فإن آدم وحواء إنما سميا ابنهما "عبد الحارث"، و"الحارث" واحد، وقوله:(شركاء) جماعة، فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما "جعلا له شركاء"، وإنما أشركا واحداً؟!
قيل: قد دللنا فيما مضى على أن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة، إذا لم تقصد واحداً بعينه ولم تسمِّه، كقوله:( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ )، وإنما كان القائل ذلك واحداً".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/