صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (34)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "ص" : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ)
أقرب الأقوال التي ذكرها المفسرون والله أعلم أن المراد بالجسد هو سليمان نفسه سلب قوته وعافيته وقدرته على تدبير الأمور وصار مجرد جسد لا حراك به.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
قوله: (ولقد فتنا سليمان) أي: اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه.
وقوله (ثم أناب) أي: تاب ورجع وارعوى. (هذا المعنى الصواب).
أما القول بأن المراد بقوله: (ثم أناب) رجع إلى ملكه فهو قول ضعيف. (ذكر هذا القول ابن جرير*, والبغوي*, وابن كثير*)
وقد اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على أربعة أقوال:
القول الأول: أن المراد بقوله:(ألقينا على كرسيه جسداً) أي: شيطاناً متمثلاً بصورة سليمان, فجلس على كرسي سليمان ولبس خاتمه وصار يتحكم في ملكه. (اقتصر على هذا القول ابن جرير*) (ومال إليه البغوي*) (ورجحه ابن عطية*) (وضعفه الزمخشري*, والرازي*, والقرطبي*) (وضعفه ابن كثير* واقتصر عليه) (وضعفه الشنقيطي* عند تفسير قوله تعالى في سورة "الكهف": (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (وذكره ابن عاشور*)
وذكروا روايات مطولة منكرة فيها تفاصيل هذا الحدث.
(ذكر هذه الروايات أو بعضها ابن جرير*, والبغوي*, والزمخشري* والقرطبي*, وابن كثير*)
ومن أشهرها قصة (جرادة زوجة سليمان) وملخصها:
أن سليمان عليه السلام غزا مدينة في جزيرة يقال لها صيدون، فقتل ملكها وسبى ما فيها, وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسناً وجمالاً، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه، وكانت في حزن دائم على أبيها, وطلبت من سليمان أن يأمر الشياطين فيصوروا لها صورت أبيها في دارها حتى يذهب حزنها, ففعل, ثم كانت إذا خرج سليمان تعبده وتسجد له هي وولائدها, واستمر ذلك أربعين يوماً, فلما علم سليمان كسر الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها.
وأقبل تائباً لله، وحين أمسى وضع خاتمه عند إحدى نسائه حتى يتطهر، فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان فقال: خاتمي فناولته إياه، فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان قد غيرت حاله وهيئته عند كل من رآه.
وعرف أن خطيئته قد أدركته، فكان لا يلتفت إليه أحد ولا يعبأ به أحد, وإذا قال لهم: إني سليمان بن داود يحثون عليه التراب ويسبونه، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين.
وكان الشيطان الذي تولى ملك سليمان يأتي نساء سليمان ولا يدع منهن امرأة ولو في دمها ولا يغتسل من الجنابة، ولما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين، فأعطى سليمان سمكتيه فوجد خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجداً، وعكفت عليه الطير والجن وأقبل عليه الناس، ورجع إلى ملكه.
قال البغوي: "أشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو صخر الجني، فذلك قوله عز وجل: (وألقينا على كرسيه جسداً)".
وقال ابن عطية: "قال الجمهور: هو الجني المذكور، سماه جسداً لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان وليس به, وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى".
قال ابن كثير: "إسناده إلى ابن عباس قوي, ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه- من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السلام, فالظاهر أنهم يكذبون عليه, ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء, وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين, وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله أعلم بالصواب".
وقال الزمخشري: "ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل. وتسليط الله إياهم على عباده حتى يقعوا في تغيير الأحكام وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهن قبيح... وقوله: (وألقينا على كرسيه جسداً نابٍ عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبواً ظاهراً".
وسوف أذكر نصوص أقوال بقية المفسرين الذين ضعفوا هذا القول في آخر الموضوع.
القول الثاني: أن سليمان قال يوماً: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله, فقيل له: قل: إن شاء الله, فلم يقل, فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق غلام. متفق عليه.
قالوا: فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه، فذلك قوله تعالى: (وألقينا على كرسيه جسداً). (ذكره البغوي*, والزمخشري*, والقرطبي*, والرازي*) (وضعفه ابن عطية*, وابن عاشور*) (ورجحه الشنقيطي* عند تفسير قوله تعالى في سورة "الكهف": (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)
وهذا القول فيه بعد.
قال ابن عطية: "وهذا غير متصل بمعنى هذه الآية"
وقال ابن عاشور: "وهذا تفسير بعيد, لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حياً ولا أنه جلس على كرسي سليمان. وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلف".
القول الثالث: أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش صار مسلطاً علينا مثل أبيه، فسبيلنا أن نقتله، فعلم ذلك فكان يغذوه في السحابة, فما راعه إلا أن ألقى على كرسيه ميتاً، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه. (ذكره الزمخشري*, والرازي*, والقرطبي*) (وضعفه ابن عطية*, وابن عاشور*)
وهذا القول ضعيف أيضاً.
قال ابن عطية: هذا غير متصل بمعنى هذه الآية.
وقال ابن عاشور: "واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه. ومن أغربها قولهم: إنه ولد له ابن فخاف عليه... " وذكر بقية القصة.
القول الرابع: أن الجسد هو سليمان نفسه سلب قوته وعافيته وقدرته على تدبير الأمور وصار مجرد جسد لا حراك به. (ذكره الرازي*, والقرطبي*) (وحام حوله الماتريدي*, وسأذكر قوله), (وضعفه ابن عطية*)
وهذا أقرب الأقوال والله أعلم.
وقد يكون سبب هذه الفتنة احتجاب سليمان عن الناس, وعدم النظر في أمورهم.
وقد روي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه: احتجبت عن الناس ثلاثة أيام؟ فلم تنظر في أمور عبادي؟ فابتلاه الله عز وجل. (ذكره البغوي*)
قال ابن عطية: "قال قوم: مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه بلا روح".
وقال الرازي: "بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه، وألقينا على كرسيه منه جسداً وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم وجسم بلا روح".
وقال القرطبي: "وقيل: إن الجسد كان سليمان نفسه، وذلك أنه مرض مرضاً شديداً حتى صار جسداً.
وقد يوصف به المريض المضنى فيقال: كالجسد الملقى".
قال الماتريدي: "وجائز أن يكون ألقى عليه جسداً يشبه جسد سليمان في الجسمية، لا في العلم والمعرفة والبصر, وما كان فيه من الكرامات, كقوله عز وجل: (عجلا جسداً له خوار)، أي: عجلاً مجسداً في الجسدية، لا أن جسد العجل الذي اتخذه هو جسد العجل المعروف, فعلى ذلك قوله: (على كرسيه جسداً) أن يشبه جسد سليمان في الظاهر في الجسدانية والله أعلم".
وأما صاحب الظلال فقال: "لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات فهي إما إسرائيليات منكرة، وإما تأويلات لا سند لها.
وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ما جاء في قصة سليمان حين قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأت، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق. ولكن هذا مجرد احتمال..
وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان عليه السلام في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم، ويبعد خطاهم عن الزلل".
وأخيراً هذه بقية نصوص أقوال المفسرين الذين ضعفوا القول الأول. (وقد ذكرت سابقاً قول الزمخشري وقول ابن كثير)
قال الرازي: "واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه. الأول: أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع. فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال، ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية.
الثاني: أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد...
الثالث: كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ ولا شك أنه قبيح.
الرابع: لو قلنا إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه، وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة، فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر عنه؟".
وقال القرطبي: "وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطان بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حق، وهم مع الشيطان في باطل".
وقال الشنقيطي: لا يخفى أنه باطل لا أصل له، وأنه لا يليق بمقام النبوة. فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة.
وقال ابن عاشور: "اختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة, فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه".
والغريب أن ابن عاشور قال هذا, ثم بعد أن ذكر إحدى الروايات المنكرة قال: "وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم, لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جسداً في قوله: (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار).
ويكون معنى إلقائه على كرسيه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه, إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه".
قلت هذا قول لا يصح بحال, وهو مبني على رواية باطلة.
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "ص" : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ)
أقرب الأقوال التي ذكرها المفسرون والله أعلم أن المراد بالجسد هو سليمان نفسه سلب قوته وعافيته وقدرته على تدبير الأمور وصار مجرد جسد لا حراك به.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
قوله: (ولقد فتنا سليمان) أي: اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه.
وقوله (ثم أناب) أي: تاب ورجع وارعوى. (هذا المعنى الصواب).
أما القول بأن المراد بقوله: (ثم أناب) رجع إلى ملكه فهو قول ضعيف. (ذكر هذا القول ابن جرير*, والبغوي*, وابن كثير*)
وقد اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على أربعة أقوال:
القول الأول: أن المراد بقوله:(ألقينا على كرسيه جسداً) أي: شيطاناً متمثلاً بصورة سليمان, فجلس على كرسي سليمان ولبس خاتمه وصار يتحكم في ملكه. (اقتصر على هذا القول ابن جرير*) (ومال إليه البغوي*) (ورجحه ابن عطية*) (وضعفه الزمخشري*, والرازي*, والقرطبي*) (وضعفه ابن كثير* واقتصر عليه) (وضعفه الشنقيطي* عند تفسير قوله تعالى في سورة "الكهف": (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (وذكره ابن عاشور*)
وذكروا روايات مطولة منكرة فيها تفاصيل هذا الحدث.
(ذكر هذه الروايات أو بعضها ابن جرير*, والبغوي*, والزمخشري* والقرطبي*, وابن كثير*)
ومن أشهرها قصة (جرادة زوجة سليمان) وملخصها:
أن سليمان عليه السلام غزا مدينة في جزيرة يقال لها صيدون، فقتل ملكها وسبى ما فيها, وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسناً وجمالاً، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه، وكانت في حزن دائم على أبيها, وطلبت من سليمان أن يأمر الشياطين فيصوروا لها صورت أبيها في دارها حتى يذهب حزنها, ففعل, ثم كانت إذا خرج سليمان تعبده وتسجد له هي وولائدها, واستمر ذلك أربعين يوماً, فلما علم سليمان كسر الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها.
وأقبل تائباً لله، وحين أمسى وضع خاتمه عند إحدى نسائه حتى يتطهر، فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة سليمان فقال: خاتمي فناولته إياه، فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان قد غيرت حاله وهيئته عند كل من رآه.
وعرف أن خطيئته قد أدركته، فكان لا يلتفت إليه أحد ولا يعبأ به أحد, وإذا قال لهم: إني سليمان بن داود يحثون عليه التراب ويسبونه، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين.
وكان الشيطان الذي تولى ملك سليمان يأتي نساء سليمان ولا يدع منهن امرأة ولو في دمها ولا يغتسل من الجنابة، ولما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين، فأعطى سليمان سمكتيه فوجد خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجداً، وعكفت عليه الطير والجن وأقبل عليه الناس، ورجع إلى ملكه.
قال البغوي: "أشهر الأقاويل أن الجسد الذي ألقي على كرسيه هو صخر الجني، فذلك قوله عز وجل: (وألقينا على كرسيه جسداً)".
وقال ابن عطية: "قال الجمهور: هو الجني المذكور، سماه جسداً لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان وليس به, وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى".
قال ابن كثير: "إسناده إلى ابن عباس قوي, ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه- من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السلام, فالظاهر أنهم يكذبون عليه, ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء, وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين, وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله أعلم بالصواب".
وقال الزمخشري: "ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل. وتسليط الله إياهم على عباده حتى يقعوا في تغيير الأحكام وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهن قبيح... وقوله: (وألقينا على كرسيه جسداً نابٍ عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبواً ظاهراً".
وسوف أذكر نصوص أقوال بقية المفسرين الذين ضعفوا هذا القول في آخر الموضوع.
القول الثاني: أن سليمان قال يوماً: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله, فقيل له: قل: إن شاء الله, فلم يقل, فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق غلام. متفق عليه.
قالوا: فجاءت به القابلة فألقته على كرسيه، فذلك قوله تعالى: (وألقينا على كرسيه جسداً). (ذكره البغوي*, والزمخشري*, والقرطبي*, والرازي*) (وضعفه ابن عطية*, وابن عاشور*) (ورجحه الشنقيطي* عند تفسير قوله تعالى في سورة "الكهف": (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)
وهذا القول فيه بعد.
قال ابن عطية: "وهذا غير متصل بمعنى هذه الآية"
وقال ابن عاشور: "وهذا تفسير بعيد, لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حياً ولا أنه جلس على كرسي سليمان. وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلف".
القول الثالث: أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش صار مسلطاً علينا مثل أبيه، فسبيلنا أن نقتله، فعلم ذلك فكان يغذوه في السحابة, فما راعه إلا أن ألقى على كرسيه ميتاً، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه. (ذكره الزمخشري*, والرازي*, والقرطبي*) (وضعفه ابن عطية*, وابن عاشور*)
وهذا القول ضعيف أيضاً.
قال ابن عطية: هذا غير متصل بمعنى هذه الآية.
وقال ابن عاشور: "واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه. ومن أغربها قولهم: إنه ولد له ابن فخاف عليه... " وذكر بقية القصة.
القول الرابع: أن الجسد هو سليمان نفسه سلب قوته وعافيته وقدرته على تدبير الأمور وصار مجرد جسد لا حراك به. (ذكره الرازي*, والقرطبي*) (وحام حوله الماتريدي*, وسأذكر قوله), (وضعفه ابن عطية*)
وهذا أقرب الأقوال والله أعلم.
وقد يكون سبب هذه الفتنة احتجاب سليمان عن الناس, وعدم النظر في أمورهم.
وقد روي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه: احتجبت عن الناس ثلاثة أيام؟ فلم تنظر في أمور عبادي؟ فابتلاه الله عز وجل. (ذكره البغوي*)
قال ابن عطية: "قال قوم: مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه بلا روح".
وقال الرازي: "بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه، وألقينا على كرسيه منه جسداً وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم وجسم بلا روح".
وقال القرطبي: "وقيل: إن الجسد كان سليمان نفسه، وذلك أنه مرض مرضاً شديداً حتى صار جسداً.
وقد يوصف به المريض المضنى فيقال: كالجسد الملقى".
قال الماتريدي: "وجائز أن يكون ألقى عليه جسداً يشبه جسد سليمان في الجسمية، لا في العلم والمعرفة والبصر, وما كان فيه من الكرامات, كقوله عز وجل: (عجلا جسداً له خوار)، أي: عجلاً مجسداً في الجسدية، لا أن جسد العجل الذي اتخذه هو جسد العجل المعروف, فعلى ذلك قوله: (على كرسيه جسداً) أن يشبه جسد سليمان في الظاهر في الجسدانية والله أعلم".
وأما صاحب الظلال فقال: "لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات فهي إما إسرائيليات منكرة، وإما تأويلات لا سند لها.
وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ما جاء في قصة سليمان حين قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأت، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق. ولكن هذا مجرد احتمال..
وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان عليه السلام في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم، ويبعد خطاهم عن الزلل".
وأخيراً هذه بقية نصوص أقوال المفسرين الذين ضعفوا القول الأول. (وقد ذكرت سابقاً قول الزمخشري وقول ابن كثير)
قال الرازي: "واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه. الأول: أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع. فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال، ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية.
الثاني: أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد...
الثالث: كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ ولا شك أنه قبيح.
الرابع: لو قلنا إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه، وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة، فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر عنه؟".
وقال القرطبي: "وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطان بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حق، وهم مع الشيطان في باطل".
وقال الشنقيطي: لا يخفى أنه باطل لا أصل له، وأنه لا يليق بمقام النبوة. فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة.
وقال ابن عاشور: "اختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة, فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه".
والغريب أن ابن عاشور قال هذا, ثم بعد أن ذكر إحدى الروايات المنكرة قال: "وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم, لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جسداً في قوله: (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار).
ويكون معنى إلقائه على كرسيه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه, إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه".
قلت هذا قول لا يصح بحال, وهو مبني على رواية باطلة.
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/