صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (29)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "غافر" (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)
اختلف في قوله: (بعض الذي يعدكم), فإنه إن كان صادقاً فسيصيبهم كل الذي يعدهم لا بعضه.
والقول الأقرب أنه قال ذلك مداراة وملاينة وملاطفة لهم, ليكون ذلك أدعى لقبولهم وتصديقهم وسماعهم منه.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في ذلك على خمسة أقوال:
القول الأول:
أن (بعض) بمعنى (كل).
(ذكره الماتريدي*, والبغوي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*) (وضعفه الزمخشري*)
وهو قول ضعيف.
ووجَّهَه الماتريدي فقال: "لأنه أراد بهذا البعض: الهلاك، وهو البعض الأقصى، فيدخل العالي فيه, لأنه إذا أوعده بأنواع من العذاب منها الهلاك يكون الهلاك هو البعض الأقصى, إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا يكون قبل الهلاك، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله، ويكون ذكره ذكراً للكل".
(وضعف هذا القول الزمخشري*) فقال: "فإن قلت: فعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد:
تراك امكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
قلت: إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له".
قال الرازي: "والجمهور على أن هذا القول خطأ، قالوا: وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه والله أعلم".
القول الثاني:
أنه حذرهم أنواعاً من العذاب, فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع.
(ذكره الماتريدي*, وابن عطية*, والقرطبي*)
القول الثالث:
أن المراد بقوله: (بعض) عذاب الدنيا, وقد وعدهم موسى بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة.
(اقتصر عليه ابن جرير*, وابن كثير* كما قد يفهم من قولهما) (وذكره الماتريدي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*)
(واقتصر عليه أيضاً ابن عاشور*) لكنه قال هكذا: "يصبكم بعض ما توعدكم به، أي: تصبكم بوارقه فتعلموا صدقه فتتبعوه، وهذا وجه التعبير بـ(بعض)"اهـ
فكأنه يرى أن المراد بالبعض أوائل ما وعدهم به من العقوبات.
القول الرابع: أنه وعدهم إن آمنوا بالنعيم, وإن كفروا بالعذاب.
فالعذاب بعض ما وعد به.
(رجحه ابن عطية*) (وذكره القرطبي*)
القول الخامس:
أنه قال ذلك مداراة وملاينة وملاطفة لهم, ليكون ذلك أدعى لقبولهم وتصديقهم وسماعهم منه.
(ذكره البغوي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*) (واقتصر عليه الزمخشري* لكنه ضعف القول الأول كما سبق) (واقتصر عليه أيضاً صاحب الظلال* كما يفهم من قوله)
وهذا القول هو الأقرب والله أعلم.
قال الزمخشري: "فإن قلت: لم قال: بعض الذي يعدكم وهو نبي صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه.
قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومناكريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من وجهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال: (وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم) وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقاً فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه (يصبكم بعض الذي يعدكم) ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً، فضلاً أن يتعصب له، أو يرمى بالحصا من ورائه".
وقال البغوي: "قال أهل المعاني: هذا على الظاهر في الحجاج, كأنه قال: أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم، فذكر البعض ليوجب الكل".
وقال ابن عطية: "قال الزجاج: هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إضافة الكل".
وقال الرازي: "من الوجوه: أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللجاج, لأن المقصود منه إن كان صادقاً فلا أقل من أن يصل إليكم بعض ما يعدكم، ونظيره قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)".
وقال القرطبي: "البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة, لدخوله في الوعيد, وهذا ترقيق الكلام في الوعظ. وذكر الماوردي أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام".
وقال صاحب الظلال: "وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه, وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "غافر" (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)
اختلف في قوله: (بعض الذي يعدكم), فإنه إن كان صادقاً فسيصيبهم كل الذي يعدهم لا بعضه.
والقول الأقرب أنه قال ذلك مداراة وملاينة وملاطفة لهم, ليكون ذلك أدعى لقبولهم وتصديقهم وسماعهم منه.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في ذلك على خمسة أقوال:
القول الأول:
أن (بعض) بمعنى (كل).
(ذكره الماتريدي*, والبغوي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*) (وضعفه الزمخشري*)
وهو قول ضعيف.
ووجَّهَه الماتريدي فقال: "لأنه أراد بهذا البعض: الهلاك، وهو البعض الأقصى، فيدخل العالي فيه, لأنه إذا أوعده بأنواع من العذاب منها الهلاك يكون الهلاك هو البعض الأقصى, إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا يكون قبل الهلاك، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله، ويكون ذكره ذكراً للكل".
(وضعف هذا القول الزمخشري*) فقال: "فإن قلت: فعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد:
تراك امكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
قلت: إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له".
قال الرازي: "والجمهور على أن هذا القول خطأ، قالوا: وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه والله أعلم".
القول الثاني:
أنه حذرهم أنواعاً من العذاب, فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع.
(ذكره الماتريدي*, وابن عطية*, والقرطبي*)
القول الثالث:
أن المراد بقوله: (بعض) عذاب الدنيا, وقد وعدهم موسى بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة.
(اقتصر عليه ابن جرير*, وابن كثير* كما قد يفهم من قولهما) (وذكره الماتريدي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*)
(واقتصر عليه أيضاً ابن عاشور*) لكنه قال هكذا: "يصبكم بعض ما توعدكم به، أي: تصبكم بوارقه فتعلموا صدقه فتتبعوه، وهذا وجه التعبير بـ(بعض)"اهـ
فكأنه يرى أن المراد بالبعض أوائل ما وعدهم به من العقوبات.
القول الرابع: أنه وعدهم إن آمنوا بالنعيم, وإن كفروا بالعذاب.
فالعذاب بعض ما وعد به.
(رجحه ابن عطية*) (وذكره القرطبي*)
القول الخامس:
أنه قال ذلك مداراة وملاينة وملاطفة لهم, ليكون ذلك أدعى لقبولهم وتصديقهم وسماعهم منه.
(ذكره البغوي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*) (واقتصر عليه الزمخشري* لكنه ضعف القول الأول كما سبق) (واقتصر عليه أيضاً صاحب الظلال* كما يفهم من قوله)
وهذا القول هو الأقرب والله أعلم.
قال الزمخشري: "فإن قلت: لم قال: بعض الذي يعدكم وهو نبي صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه.
قلت: لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى ومناكريه إلى أن يلاوصهم ويداريهم، ويسلك معهم طريق الإنصاف في القول، ويأتيهم من وجهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه، فقال: (وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم) وهو كلام المنصف في مقاله غير المشتط فيه، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه، وذلك أنه حين فرضه صادقاً فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه (يصبكم بعض الذي يعدكم) ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً، فضلاً أن يتعصب له، أو يرمى بالحصا من ورائه".
وقال البغوي: "قال أهل المعاني: هذا على الظاهر في الحجاج, كأنه قال: أقل ما في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم، فذكر البعض ليوجب الكل".
وقال ابن عطية: "قال الزجاج: هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إضافة الكل".
وقال الرازي: "من الوجوه: أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللجاج, لأن المقصود منه إن كان صادقاً فلا أقل من أن يصل إليكم بعض ما يعدكم، ونظيره قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)".
وقال القرطبي: "البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة, لدخوله في الوعيد, وهذا ترقيق الكلام في الوعظ. وذكر الماوردي أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام".
وقال صاحب الظلال: "وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه, وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/