النوال... (234) (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به)

إنضم
15/04/2018
المشاركات
322
مستوى التفاعل
13
النقاط
18
الإقامة
السعودية
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (234)

اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "آل عمران": (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)
القول الصحيح أن الواو في قوله: (والراسخون) واو الاستئناف، وتم الكلام عند قوله: (وما يعلم تأويله إلا الله)

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أن الواو في قوله: (والراسخون) واو العطف.
والمعنى: أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم (يقولون آمنا به)
ويكون قوله: (يقولون) حالاً أي: ويعلمه الراسخون في العلم قائلين آمنا به.(رجح هذا القول الزمخشري*, وابن عطية*, وابن عاشور*)

القول الثاني: أن الواو في قوله: (والراسخون) واو الاستئناف، وتم الكلام عند قوله: (وما يعلم تأويله إلا الله)(رجحه ابن جرير*, والبغوي*, والرازي*) (ومال اليه الشنقيطي*) (واقتصر عليه صاحب الظلال*)(وذكر القولين الماتريدي*, والقرطبي*, ابن كثير*)
وهذا قول جمهور العلماء وهو الصحيح.

قال البغوي: "وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم، ورواية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وأكثر التابعين، واختاره الكسائي والفراء والأخفش، وقالوا: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله".
قال البغوي: "وهذا القول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية".

والحجج على صحة هذا القول كثيرة بينة سأذكر منها بعض ما ذكره الرازي وما نقله القرطبي عن الخطابي وما نقله الشنقيطي عن ابن قدامة.

قال الرازي: "الحجة الثانية: وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم، حيث قال: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزاً لما ذم الله تعالى ذلك.

الحجة الثالثة: أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به، وقال في أول سورة البقرة: (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم)
فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح، لأن كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به.

الحجة الخامسة: قوله تعالى: (كل من عند ربنا) يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله، فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة".

وقال القرطبي: "قال الخطابي: اعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به. ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه.
ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به).
وإنما روي عن مجاهد أنه نسق (الراسخون) على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه. واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا، وزعم أن موضع (يقولون) نصب على الحال. وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه.
فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى.
وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك.
ألا ترى قوله عز وجل: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره.
وكذلك قوله تبارك وتعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله). ولو كانت الواو في قوله: (والراسخون) للنسق لم يكن لقوله: (كل من عند ربنا) فائدة. والله أعلم".

وقال الشنقيطي: "الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يؤول إليها.
كقوله: (هذا تأويل رؤياي من قبل)
وقوله: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله)
وقوله: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)
وقوله: (ذلك خير وأحسن تأويلا) "

قال: "وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة.
قال ابن قدامة في روضة الناظر: ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه متفرد بعلم المتشابه، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) لفظا ومعنى.
أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف الراسخين لقال: ويقولون آمنا به بالواو.
أما المعنى فلأنه ذم مبتغي التأويل، ولو كان ذلك للراسخين معلوماً لكان مبتغيه ممدوحاً لا مذموماً، ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا تبعوه بقولهم: (كل من عند ربنا) فذكرهم ربهم هاهنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره، وأنه صدر من عنده، كما جاء من عنده المحكم.
ولأن لفظة أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه إياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة، وهم الراسخون. ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل، وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرنا".

قال الشنقيطي: "ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئاً وأثبته لنفسه أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك.
كقوله: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله)
وقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو)
وقوله: (كل شيء هالك إلا وجهه)
فالمطابق لذلك أن يكون قوله: (وما يعلم تأويله إلا الله)، معناه: أنه لا يعلمه إلا هو وحده.
والقول بأن الوقف تام على قوله: (إلا الله)، وأن قوله: (والراسخون) ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا.
وممن قال بذلك عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وابن مسعود، وأبي بن كعب، نقله عنهم القرطبي وغيره، ونقله ابن جرير عن يونس، عن أشهب، عن مالك بن أنس، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد.
وقال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم: (آمنا به كل من عند ربنا) "

وقال الشنقيطي: "من جهات الإشكال المذكورة (يعني على القول بأن الواو عاطفة وأن جملة يقولون حالية)
هي: أن المعروف في اللغة العربية أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها، فيشكل تقييد هذا العامل الذي هو (يعلم) بهذه الحال التي هي (يقولون آمنا)
إذ لا وجه لتقييد علم الراسخين بتأويله بقولهم آمنا به، لأن مفهومه أنهم في حال عدم قولهم آمنا به لا يعلمون تأويله وهو باطل، وهذا الإشكال قوي وفيه الدلالة على منع الحالية في جملة يقولون على القول بالعطف".

تنبيه:
ذهب ابن عطية إلى الجمع بين القولين.
وقال: إن جعلنا قوله: (والراسخون) عطفاً على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال بل يعلمون تأويل المتشابه كل بقدره.
وإن جعلنا قوله: (والراسخون) رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله فالمعنى وما يعلم تأويله على الاستيفاء إلى الله، والقوم الذين يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه: (آمنا به كل من عند ربنا).

قلت: هذا الجمع بين القولين من ابن عطية بعيد وغير مراد والله أعلم.
بل المراد معنى واحد وهو نفي علم المتشابه عن غير الله تعالى.

شبهة وجوابها:
قال القرطبي: "قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب. وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع".

قال الشنقيطي: "يجاب عن كلام شيخ القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم ويقولون فيما لم يقفوا على علم حقيقته من كلام الله جل وعلا: (آمنا به كل من عند ربنا) بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وهذا ظاهر".

تنبيه مهم:
ذكر بعض المفسرين أن المراد بالمتشابه ما يخفى أو يغمض معناه من الآيات ويدركه العلماء بالنظر وهذا فيه نظر.
بل المراد بالمتشابه ما لا سبيل إلى معرفة حقيقته ولا إدراك ماهيته وطبيعته ولا قدرة للعقل أن يصل إليه كحقائق ما أخبر الله به في القرآن من المغيبات كالإخبار عن ما يجري في اليوم الآخر أو كيفيات صفات الله تعالى أو حقيقة كتابة القدر مع محاسبة المخلوقين ونحو ذلك.

قال الشاطبي: "التشابه حقيقي وإضافي.
فالحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية.
والإضافي: ما اشتبه معناه، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر. فإذا تقصى المجتهد أدلة الشريعة وجد فيها ما يبين معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جداً في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير" .

قال صاحب الظلال: "وأما الراسخون في العلم، الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له.. أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة:
«آمنا به، كل من عند ربنا» ..
يدفعهم إلى هذه الطمأنينة أنه من عند ربهم. فهو إذن حق وصدق. وما يقرره الله صادق بذاته. وليس من وظيفة العقل البشري ولا في طوقه أن يبحث عن أسبابه وعلله، كما أنه ليس في طوقه أن يدرك ماهيته وطبيعة العلل الكامنة وراءه.
والراسخون في العلم يطمئنون ابتداء إلى صدق ما يأتيهم من عند الله. يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة..
ثم لا يجدون من عقولهم شكاً فيه كذلك لأنهم يدركون أن من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه..
وهذا تصوير صحيح للراسخين في العلم.. فما يتبجح وينكر إلا السطحيون الذين تخدعهم قشور العلم، فيتوهمون أنهم أدركوا كل شيء، وأن ما لم يدركوه لا وجود له أو يفرضون إدراكهم على الحقائق، فلا يسمحون لها بالوجود إلا على الصورة التي أدركوها. ومن ثم يقابلون كلام الله المطلق بمقررات عقلية لهم! صاغتها عقولهم المحدودة! أما العلماء حقا فهم أكثر تواضعاً، وأقرب إلى التسليم بعجز العقل البشري عن إدراك حقائق كثيرة تكبر طاقته وترتفع عليها. كما أنهم أصدق فطرة فما تلبث فطرتهم الصادقة أن تتصل بالحق وتطمئن إليه".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
 
عودة
أعلى