صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (18)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الأنبياء": (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)
الرتق: الملتحم والمتصل بعضه ببعض الذي هو خال من الصدع والخرق.
والفتق: ضده وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.
والقول بأن المراد بالرتق العدم مجازاً، والمراد بالفتق الإيجاد هو قول قوي والله أعلم رغم أنه قول متأخر ورغم قلة القائلين به.
والقرائن تشهد له كما سيأتي. أي: كانت السموات والأرض عدماً فأوجدناهما.
فالرتق كناية عن عدم وجود شيء, فالكل عدم متصل ليس فيه شيء, ثم حصل الفتق, فكأن وجود السموات والأرض فتق في ذلك العدم المتصل.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على خمسة أقوال:
القول الأول: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففرج الله بينهما.
القول الثاني: أن السماوات كانت متلاصقة طبقة واحدة، ففتقها الله فجعلها سبع سماوات وكذلك الأرض.
(كلهم ذكر هذين القولين إلا ابن عطية* فقد ذكر الثاني منهما, وقوى الرازي* الأول, ولم يذكر صاحب الظلال* أياً منهما)
القول الثالث: أن السماوات كانت رتقاً لا تمطر، والأرض كذلك رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. (كلهم ذكر هذا القول سوى صاحب الظلال*) (ورجحه ابن جرير*, والشنقيطي*, ومال إليه ابن عطية*)
واستدل ابن جرير بقوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فقال: "إنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه".
وهذا بعيد, فإن المراد بالآية على القول الراجح أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء, كقوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء).
وكقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا)
القول الرابع: أن السماوات والأرض كانتا رتقاً بالظلمة ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر (ذكره ابن عطية*, وابن عاشور*, والشنقيطي*) (وقال الرازي*: إنه مرجوح)
القول الخامس: أن الرتق المراد به العدم مجازاً، والفتق المراد به الإيجاد، أي: كانتا عدما فأوجدناهما. وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني (ذكره ابن عاشور* وذكره الرازي*, وقال إنه مرجوح, وذكره الشنقيطي*, وقال: إنه ظاهر السقوط)
قلت: بل هو القول الأقرب, والله أعلم.
فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق, فالرتق كناية عن عدم وجود شيء فالكل عدم متصل ليس فيه شيء, ثم حصل الفتق, فكأن وجود السموات والأرض فتق في ذلك العدم المتصل.
قال الرازي: "وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود"اهـ
وهذا كقوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض), وكقوله: (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن)
ويؤيد هذا القول أن الله تبارك وتعالى قال عقبها: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فبعد أن ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق الأحياء من الماء فقال: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)
ثم قال: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
وهكذا ذكر خلق السموات والأرض والأحياء ثم ذكر بعض الدلائل الكبرى التي يراها الناس كالجبال والسبل والليل والنهار والشمس والقمر.
فسياق الآيات يؤيد أن المراد بفتق السموات والأرض إيجادهما من العدم.
فهذا القول هو الخالي من الإشكال, أما الأقوال الأخرى فلا تسلم من الإشكال.
فالقول بأنها كانت ملتصقة ثم فتقها الله بعيد, فإن الله تعالى بهذه الآية إنما يخاطب الكفار بقوله: (أولم يرى الذين كفروا), وهم مكذبون بكل ما جاء به القرآن, فلا يمكن أن الله يقول: أولم يروا أن السموات والأرض كانتا متلاصقتين, وهم لم يروا ذلك, فلا حجة على الكفار بمثل هذا إذا كانوا لم يروه بأعينهم, وكيف يتم الاستدلال عليهم بشيء غائب لم يروه .
ولكنه يستدل عليهم بشيء يرونه عياناً بأعينهم ويقرون به وهو إيجاد السموات والأرض من العدم.
أما كون السموات والأرض ملتصقة فأمر لا يمكن أن يدركوه ببصرهم ولا بعقولهم فكيف يستدل عليهم به.
فالله تبارك وتعالى يستنكر عليهم ويقول: أولم يروا. يعني يشاهدوا أو يعلموا علماً مؤكداً, فهو يذكر لهم مسلمات يعرفونها ويقرون بها.
والآيات التي فيها احتجاج على الكفار وإلزام لهم تأتي غالباً أو دائماً بذكر الآيات التي يرونها عياناً.
انظر على سبيل المثال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ)
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ)
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)
قال الرازي: "الحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا السمع، والمناظرة مع الكفار الذين ينكرون الرسالة، فكيف يجوز التمسك بمثل هذا الاستدلال"اهـ
ثم إنه من المعلوم أن الأرضين السبع ليس بينها فضاء وفواصل, بل سبع متصلة.
وكذلك القول بأن المراد أن السموات كانت رتقاً لا تمطر هو قول مرجوح, فإن المطر لا ينزل من السموات.
ومما يؤيده أيضاً أن (فتق) كـ(فطر) وزناً ومعنى.
والله تعالى ذكر في عدة آيات أنه فطر السموات والأرض, فالفطر هو الفتق.
قال تعالى: (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)
وقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)
وقال: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
فهذا القول تؤيده شواهد الآيات الأخرى كما سبق.
كما يؤيده السياق وما بعد الآية من الآيات كما سبق.
كما يؤيده أنه لا يشكل عليه شيء بخلاف الأقوال الأخرى كما سبق.
كما يؤيده أن الله تعالى ذكر في آيات أخرى أنه فطر السموات والأرض, والفطر بمعنى الفتق كما سبق.
وفي ظني أن هذا القول ما كتب له الشهرة عند المفسرين ولو كان معروفاً مذكوراً لرأيت من يؤيده وينصره.
والله تعالى أعلم.
أما قول الرازي: "الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه والأرض على ما هي عليه كانتا رتقاً، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان"اهـ
فجوابه أن الرتق هو الاتصال, فكانت السموات والأرض (رتقاً) أي: متصلة بهذا العدم المتصل فليس ثَمَّ شيء.
فلا يلزم ما قاله الرازي, لأن الرتق كناية عن العدم والفتق كناية عن الإيجاد.
ورجح ابن عاشور* أن الآية تشمل كل ما قيل من الأقوال.
فقال: "والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً"اهـ
وكأن ابن كثير* يميل إلى هذا حيث يقول: "كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه. فجعل السموات سبعاً، والأرض سبعاً، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض".
قلت: وما ذهب إليه ابن عاشور وابن كثير بعيد, لما مر من الدلائل على أنه يبعد أن الله تبارك وتعالى يستدل عليهم بأمور لم يروها بأعينهم ولا يدركونها بعقولهم.
وأما صاحب الظلال فقال: "النظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر .. كانت سديماً. ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية. تقوم اليوم وقد تنقض غداً... ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن. وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض. أو فتق السماوات عن الأرض".
والله تعالى أعلم.
تنبيه:
إن قال قائل: كيف يكون هذا القول فيه قوة وهو قول متأخر! وأكثر المفسرين من السلف والقدماء ما قالوا به؟!
فما قال به إلا أبو مسلم الأصفهاني في أول القرن الرابع.
قلت: القول بحد ذاته فيه قوة, والقرائن تقويه كما سبق.
والجواب كما يلي:
أولاً: المفسرون من السلف رحمهم الله ما كانوا في هذه الآية متفقين بل كانوا على أقوال شتى في المراد بهذه الآية.
وكل قول من الأقوال تجد جماعة من السلف أو جمهورهم على خلافه.
فالقول بأن السماوات كانت طبقة، ففتقها الله إلى سبع سماوات وكذلك الأرض (نسب إلى مجاهد, وأبي صالح, والسدي).
والجمهور على خلافه.
والقول بأن بأن السماوات كانت لا تمطر، والأرض لا تنبت (نسب إلى عكرمة, وعطية, وابن زيد).
والجمهور على خلافه.
والقول بأن السماوات والأرض كانتا رتقاً بالظلمة ففتقهما الله بإظهار النهار (نسب إلى ابن عباس).
والجمهور على خلافه.
والقول بأن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين (نسب إلى ابن عباس, وقتادة, والحسن, وعطاء, والضحاك, وكعب, وسعيد بن جبير).
وقال بخلافه أصحاب الأقوال الأخرى كما سبق.
ثانياً: قد يذهب جمهور السلف إلى قول ويخالفهم جماهير المتأخرين ولا يأخذون بقول هؤلاء الجمهور من السلف.
وخذ مثالاً واحداً على ذلك.
قوله تعالى: (وهم بها)
قال جماعة من السلف: إنه هم بها وبدأ يخلع ثيابه وسراويله وجلس منها مجلس الرجل من امرأته.
نسب هذا القول إلى جماعة من السلف.
ونقل البغوي عن أبي عبيد القاسم بن سلام قوله: "وقد أنكر قوم هذا القول، والقول ما قال متقدموا هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم".
فهذا القول رده كثير من المفسرين وغيرهم بكل صراحة مع أنه مشهور عند المفسرين من السلف.
ثالثاً: لست بهذا أُزَهِّدُ في أقوال السلف الكرام في التفسير كلا ومعاذ الله.
فأقوالهم هي الأصل وهي المستقى العذب لمن جاء بعدهم ويجب الأخذ بها ورفعها فوق الرؤوس.
ولكن حين يختلف السلف على أقوال كثيرة فليس قول بعضهم حجة على بعض, ولا على من جاء بعدهم.
وكثرة الاختلاف يدل على أن الآية فيها غموض واحتمالات فلا مانع من النظر في أقوال من جاء بعدهم وتقوية ما تدل القرائن وشواهد الآيات على قوته.
ومن أغلق الباب بإحكام سيصددم ببعض الأقوال الغريبة كما في المثال السابق وغيره.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الأنبياء": (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)
الرتق: الملتحم والمتصل بعضه ببعض الذي هو خال من الصدع والخرق.
والفتق: ضده وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.
والقول بأن المراد بالرتق العدم مجازاً، والمراد بالفتق الإيجاد هو قول قوي والله أعلم رغم أنه قول متأخر ورغم قلة القائلين به.
والقرائن تشهد له كما سيأتي. أي: كانت السموات والأرض عدماً فأوجدناهما.
فالرتق كناية عن عدم وجود شيء, فالكل عدم متصل ليس فيه شيء, ثم حصل الفتق, فكأن وجود السموات والأرض فتق في ذلك العدم المتصل.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على خمسة أقوال:
القول الأول: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففرج الله بينهما.
القول الثاني: أن السماوات كانت متلاصقة طبقة واحدة، ففتقها الله فجعلها سبع سماوات وكذلك الأرض.
(كلهم ذكر هذين القولين إلا ابن عطية* فقد ذكر الثاني منهما, وقوى الرازي* الأول, ولم يذكر صاحب الظلال* أياً منهما)
القول الثالث: أن السماوات كانت رتقاً لا تمطر، والأرض كذلك رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. (كلهم ذكر هذا القول سوى صاحب الظلال*) (ورجحه ابن جرير*, والشنقيطي*, ومال إليه ابن عطية*)
واستدل ابن جرير بقوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فقال: "إنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه".
وهذا بعيد, فإن المراد بالآية على القول الراجح أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء, كقوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء).
وكقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا)
القول الرابع: أن السماوات والأرض كانتا رتقاً بالظلمة ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر (ذكره ابن عطية*, وابن عاشور*, والشنقيطي*) (وقال الرازي*: إنه مرجوح)
القول الخامس: أن الرتق المراد به العدم مجازاً، والفتق المراد به الإيجاد، أي: كانتا عدما فأوجدناهما. وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني (ذكره ابن عاشور* وذكره الرازي*, وقال إنه مرجوح, وذكره الشنقيطي*, وقال: إنه ظاهر السقوط)
قلت: بل هو القول الأقرب, والله أعلم.
فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق, فالرتق كناية عن عدم وجود شيء فالكل عدم متصل ليس فيه شيء, ثم حصل الفتق, فكأن وجود السموات والأرض فتق في ذلك العدم المتصل.
قال الرازي: "وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود"اهـ
وهذا كقوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض), وكقوله: (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن)
ويؤيد هذا القول أن الله تبارك وتعالى قال عقبها: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فبعد أن ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق الأحياء من الماء فقال: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)
ثم قال: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
وهكذا ذكر خلق السموات والأرض والأحياء ثم ذكر بعض الدلائل الكبرى التي يراها الناس كالجبال والسبل والليل والنهار والشمس والقمر.
فسياق الآيات يؤيد أن المراد بفتق السموات والأرض إيجادهما من العدم.
فهذا القول هو الخالي من الإشكال, أما الأقوال الأخرى فلا تسلم من الإشكال.
فالقول بأنها كانت ملتصقة ثم فتقها الله بعيد, فإن الله تعالى بهذه الآية إنما يخاطب الكفار بقوله: (أولم يرى الذين كفروا), وهم مكذبون بكل ما جاء به القرآن, فلا يمكن أن الله يقول: أولم يروا أن السموات والأرض كانتا متلاصقتين, وهم لم يروا ذلك, فلا حجة على الكفار بمثل هذا إذا كانوا لم يروه بأعينهم, وكيف يتم الاستدلال عليهم بشيء غائب لم يروه .
ولكنه يستدل عليهم بشيء يرونه عياناً بأعينهم ويقرون به وهو إيجاد السموات والأرض من العدم.
أما كون السموات والأرض ملتصقة فأمر لا يمكن أن يدركوه ببصرهم ولا بعقولهم فكيف يستدل عليهم به.
فالله تبارك وتعالى يستنكر عليهم ويقول: أولم يروا. يعني يشاهدوا أو يعلموا علماً مؤكداً, فهو يذكر لهم مسلمات يعرفونها ويقرون بها.
والآيات التي فيها احتجاج على الكفار وإلزام لهم تأتي غالباً أو دائماً بذكر الآيات التي يرونها عياناً.
انظر على سبيل المثال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ)
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ)
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)
قال الرازي: "الحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا السمع، والمناظرة مع الكفار الذين ينكرون الرسالة، فكيف يجوز التمسك بمثل هذا الاستدلال"اهـ
ثم إنه من المعلوم أن الأرضين السبع ليس بينها فضاء وفواصل, بل سبع متصلة.
وكذلك القول بأن المراد أن السموات كانت رتقاً لا تمطر هو قول مرجوح, فإن المطر لا ينزل من السموات.
ومما يؤيده أيضاً أن (فتق) كـ(فطر) وزناً ومعنى.
والله تعالى ذكر في عدة آيات أنه فطر السموات والأرض, فالفطر هو الفتق.
قال تعالى: (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)
وقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)
وقال: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
فهذا القول تؤيده شواهد الآيات الأخرى كما سبق.
كما يؤيده السياق وما بعد الآية من الآيات كما سبق.
كما يؤيده أنه لا يشكل عليه شيء بخلاف الأقوال الأخرى كما سبق.
كما يؤيده أن الله تعالى ذكر في آيات أخرى أنه فطر السموات والأرض, والفطر بمعنى الفتق كما سبق.
وفي ظني أن هذا القول ما كتب له الشهرة عند المفسرين ولو كان معروفاً مذكوراً لرأيت من يؤيده وينصره.
والله تعالى أعلم.
أما قول الرازي: "الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه والأرض على ما هي عليه كانتا رتقاً، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان"اهـ
فجوابه أن الرتق هو الاتصال, فكانت السموات والأرض (رتقاً) أي: متصلة بهذا العدم المتصل فليس ثَمَّ شيء.
فلا يلزم ما قاله الرازي, لأن الرتق كناية عن العدم والفتق كناية عن الإيجاد.
ورجح ابن عاشور* أن الآية تشمل كل ما قيل من الأقوال.
فقال: "والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعاً"اهـ
وكأن ابن كثير* يميل إلى هذا حيث يقول: "كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه. فجعل السموات سبعاً، والأرض سبعاً، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض".
قلت: وما ذهب إليه ابن عاشور وابن كثير بعيد, لما مر من الدلائل على أنه يبعد أن الله تبارك وتعالى يستدل عليهم بأمور لم يروها بأعينهم ولا يدركونها بعقولهم.
وأما صاحب الظلال فقال: "النظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر .. كانت سديماً. ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية. تقوم اليوم وقد تنقض غداً... ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن. وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض. أو فتق السماوات عن الأرض".
والله تعالى أعلم.
تنبيه:
إن قال قائل: كيف يكون هذا القول فيه قوة وهو قول متأخر! وأكثر المفسرين من السلف والقدماء ما قالوا به؟!
فما قال به إلا أبو مسلم الأصفهاني في أول القرن الرابع.
قلت: القول بحد ذاته فيه قوة, والقرائن تقويه كما سبق.
والجواب كما يلي:
أولاً: المفسرون من السلف رحمهم الله ما كانوا في هذه الآية متفقين بل كانوا على أقوال شتى في المراد بهذه الآية.
وكل قول من الأقوال تجد جماعة من السلف أو جمهورهم على خلافه.
فالقول بأن السماوات كانت طبقة، ففتقها الله إلى سبع سماوات وكذلك الأرض (نسب إلى مجاهد, وأبي صالح, والسدي).
والجمهور على خلافه.
والقول بأن بأن السماوات كانت لا تمطر، والأرض لا تنبت (نسب إلى عكرمة, وعطية, وابن زيد).
والجمهور على خلافه.
والقول بأن السماوات والأرض كانتا رتقاً بالظلمة ففتقهما الله بإظهار النهار (نسب إلى ابن عباس).
والجمهور على خلافه.
والقول بأن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين (نسب إلى ابن عباس, وقتادة, والحسن, وعطاء, والضحاك, وكعب, وسعيد بن جبير).
وقال بخلافه أصحاب الأقوال الأخرى كما سبق.
ثانياً: قد يذهب جمهور السلف إلى قول ويخالفهم جماهير المتأخرين ولا يأخذون بقول هؤلاء الجمهور من السلف.
وخذ مثالاً واحداً على ذلك.
قوله تعالى: (وهم بها)
قال جماعة من السلف: إنه هم بها وبدأ يخلع ثيابه وسراويله وجلس منها مجلس الرجل من امرأته.
نسب هذا القول إلى جماعة من السلف.
ونقل البغوي عن أبي عبيد القاسم بن سلام قوله: "وقد أنكر قوم هذا القول، والقول ما قال متقدموا هذه الأمة، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم".
فهذا القول رده كثير من المفسرين وغيرهم بكل صراحة مع أنه مشهور عند المفسرين من السلف.
ثالثاً: لست بهذا أُزَهِّدُ في أقوال السلف الكرام في التفسير كلا ومعاذ الله.
فأقوالهم هي الأصل وهي المستقى العذب لمن جاء بعدهم ويجب الأخذ بها ورفعها فوق الرؤوس.
ولكن حين يختلف السلف على أقوال كثيرة فليس قول بعضهم حجة على بعض, ولا على من جاء بعدهم.
وكثرة الاختلاف يدل على أن الآية فيها غموض واحتمالات فلا مانع من النظر في أقوال من جاء بعدهم وتقوية ما تدل القرائن وشواهد الآيات على قوته.
ومن أغلق الباب بإحكام سيصددم ببعض الأقوال الغريبة كما في المثال السابق وغيره.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/