صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (16)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "النساء": (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)
(إن) نافيه. أي: ما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به.
القول الصحيح في المراد بالآية أن الضمير يعود إلى عيسى.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. أي: قبل موت عيسى.
فإذا نزل في آخر الزمان آمن به كل أهل الكتاب في ذلك الوقت.
فيؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأنه ليس ابن الله وأنه لم يصلب.
وتتحطم خرافة الصلب وخرافة أن عيسى ابن الله.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون إلى من يعود الضمير في قوله: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) وفي قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) على قولين:
القول الأول: أن الضمير يعود إلى عيسى.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. أي: قبل موت عيسى.
فإذا نزل في آخر الزمان آمن به كل أهل الكتاب في ذلك الوقت.
فيؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأنه ليس ابن الله وأنه لم يصلب.
فتصير الملل واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم. (رجح هذا القول ابن جرير*, وابن كثير*) (وذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وصاحب الظلال*)
(وانفرد ابن عاشور* بتضعيفه بحجة ضعيفة سيأتي بيانها)
وهذا القول الأول هو الصحيح.
(ورجحه الشنقيطي* في تفسير سورة "الزخرف" من أربعة أوجه كما سيأتي)
قال البغوي: "وهو قول أكثر المفسرين وأهل العلم".
وقال ابن كثير: "وهذا القول هو الحق، كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله".
وقال: "ولا شك أن هذا القول هو الصحيح, لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلَّم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولهذا قال: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} أي: قبل موت عيسى، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب".
وقال: "فالمراد تقرير أن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة, ليُكَذِّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتضادت وتعاكست وتناقضت، وخلت عن الحق، ففرط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النصارى: تنقصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه بما ليس فيه، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية، تعالى الله عن قول هؤلاء وهؤلاء علواً كبيراً، وتنزه وتقدس لا إله إلا هو"اهـ
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً, فيكسر الصليب, ويقتل الخنزير, ويضع الجزية, ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).
وفي رواية لمسلم: (ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته}.
فهذا الحيث يدل كما دلت الآية أن عيسى يبطل عقيدة الصلب الفاسدة, فيؤمن به على هذا الاعتقاد الصحيح جماعة أهل الكتاب في زمانه.
وسياق الآيات يؤيد هذا القول.
قال الله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا).
وذكر الشنقيطي أن هذا القول أرجح من أربعة أوجه.
وكان مما قال: "أن يكون الضمير راجعاً إلى عيسى يجب المصير إليه دون القول الآخر, لأنه
هو ظاهر القرآن المتبادر منه، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض.
والقول الآخر بخلاف ذلك... السياق القرآني الذي ترى ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه في أن الضمير في قوله: (قبل موته) راجع إلى عيسى".
ومما قال: إن القول الصحيح واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص، بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يَصْدُق إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره ظاهرة البعد والسقوط...
فما يذكر عن ابن عباس ـ من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب، فقال: إن رأسه يتكلم بالإيمان بعيسى، وإن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي ـ لا يخفى بعده وسقوطه، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى".
تنبيه:
شبهة ابن عاشور في تضعيف هذا القول هي أن عموم قوله: (وإن من أهل الكتاب) ينفي أن يكون الذين يؤمنون بعيسى هم فقط من سيوجدون في زمانه.
حيث يقول: "يلزم منه أن موته لا يقع إلا آخر الدنيا ليتم إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت، لأن الله جعل إيمانهم مستقبلاً وجعله قبل موته، فلزم أن يكون موته مستقبلاً, ولا يخفى أن عموم قوله: (وإن من أهل الكتاب) يبطل هذا التفسير, لأن الذين يؤمنون به على حسب هذا التأويل هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم".
قلت: لا شك أن هذا هو المراد, وهو أن الذين سيوجدون من أهل الكتاب هم الذين سيؤمنون به, لا جميع أهل الكتاب, فهو من العام الذي أريد به الخصوص, وإنما سيعرفون حقيقة عيسى إذا نزل وكسر الصليب وعاينوا الأمر على حقيقته.
القول الثاني: أن الضمير في قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) يعود إلى الكتابي.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي.
فإذا عاين الموت واليقين علم الحق من الباطل. (ضعفه ابن جرير*, والشنقيطي*) (وذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*)
(ومال إليه ابن عاشور*, وصاحب الظلال*)
روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال:("وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. قال: وإن ضرب بالسيف يتكلم به. قال: وإن هوى يتكلم به وهو يَهْوِي).
وللماتريدي رأي.
قال الماتريدي: "لكن التأويل إن كان هو الثاني فهو في رؤسائهم الذين كانت لهم الرياسة، فلم يؤمنوا خوفاً على ذهاب تلك الرياسة والمنافع التي كانت لهم، فلما حضرهم الموت أيقنوا بذهاب ذلك عنهم فعند ذلك يؤمنون".
قلت: هذا بعيد لعموم الآية, لكن القول بأصله ضعيف.
قال ابن عاشور: "وعندي أن ضمير (به) راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل (رفعه الله إليه)".
قلت: هذا أيضاً قول ضعيف.
وفي الآية قولان ضعيفان جداً.
الأول: أن الضمير يعود في قوله: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) إلى محمد.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم، قبل موت الكتابي. (ضعفه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن كثير*)
قال ابن جرير: "يدل على فساده أنه لم يَجْرِ لمحمد عليه السلام في الآيات التي قبل ذلك ذكر، وإنما قوله: (ليؤمنن به) في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود. فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها فأما الدعاوى فلا تتعذر على أحد".
الثاني : أن الضمير يعود إلى الله تعالى.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه. (ذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, والقرطبي*).
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "النساء": (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)
(إن) نافيه. أي: ما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به.
القول الصحيح في المراد بالآية أن الضمير يعود إلى عيسى.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. أي: قبل موت عيسى.
فإذا نزل في آخر الزمان آمن به كل أهل الكتاب في ذلك الوقت.
فيؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأنه ليس ابن الله وأنه لم يصلب.
وتتحطم خرافة الصلب وخرافة أن عيسى ابن الله.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون إلى من يعود الضمير في قوله: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) وفي قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) على قولين:
القول الأول: أن الضمير يعود إلى عيسى.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. أي: قبل موت عيسى.
فإذا نزل في آخر الزمان آمن به كل أهل الكتاب في ذلك الوقت.
فيؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأنه ليس ابن الله وأنه لم يصلب.
فتصير الملل واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم. (رجح هذا القول ابن جرير*, وابن كثير*) (وذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وصاحب الظلال*)
(وانفرد ابن عاشور* بتضعيفه بحجة ضعيفة سيأتي بيانها)
وهذا القول الأول هو الصحيح.
(ورجحه الشنقيطي* في تفسير سورة "الزخرف" من أربعة أوجه كما سيأتي)
قال البغوي: "وهو قول أكثر المفسرين وأهل العلم".
وقال ابن كثير: "وهذا القول هو الحق، كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله".
وقال: "ولا شك أن هذا القول هو الصحيح, لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلَّم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولهذا قال: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} أي: قبل موت عيسى، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب".
وقال: "فالمراد تقرير أن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة, ليُكَذِّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتضادت وتعاكست وتناقضت، وخلت عن الحق، ففرط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النصارى: تنقصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه بما ليس فيه، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية، تعالى الله عن قول هؤلاء وهؤلاء علواً كبيراً، وتنزه وتقدس لا إله إلا هو"اهـ
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً, فيكسر الصليب, ويقتل الخنزير, ويضع الجزية, ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).
وفي رواية لمسلم: (ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته}.
فهذا الحيث يدل كما دلت الآية أن عيسى يبطل عقيدة الصلب الفاسدة, فيؤمن به على هذا الاعتقاد الصحيح جماعة أهل الكتاب في زمانه.
وسياق الآيات يؤيد هذا القول.
قال الله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا).
وذكر الشنقيطي أن هذا القول أرجح من أربعة أوجه.
وكان مما قال: "أن يكون الضمير راجعاً إلى عيسى يجب المصير إليه دون القول الآخر, لأنه
هو ظاهر القرآن المتبادر منه، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض.
والقول الآخر بخلاف ذلك... السياق القرآني الذي ترى ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه في أن الضمير في قوله: (قبل موته) راجع إلى عيسى".
ومما قال: إن القول الصحيح واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص، بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يَصْدُق إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره ظاهرة البعد والسقوط...
فما يذكر عن ابن عباس ـ من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب، فقال: إن رأسه يتكلم بالإيمان بعيسى، وإن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي ـ لا يخفى بعده وسقوطه، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى".
تنبيه:
شبهة ابن عاشور في تضعيف هذا القول هي أن عموم قوله: (وإن من أهل الكتاب) ينفي أن يكون الذين يؤمنون بعيسى هم فقط من سيوجدون في زمانه.
حيث يقول: "يلزم منه أن موته لا يقع إلا آخر الدنيا ليتم إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت، لأن الله جعل إيمانهم مستقبلاً وجعله قبل موته، فلزم أن يكون موته مستقبلاً, ولا يخفى أن عموم قوله: (وإن من أهل الكتاب) يبطل هذا التفسير, لأن الذين يؤمنون به على حسب هذا التأويل هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم".
قلت: لا شك أن هذا هو المراد, وهو أن الذين سيوجدون من أهل الكتاب هم الذين سيؤمنون به, لا جميع أهل الكتاب, فهو من العام الذي أريد به الخصوص, وإنما سيعرفون حقيقة عيسى إذا نزل وكسر الصليب وعاينوا الأمر على حقيقته.
القول الثاني: أن الضمير في قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) يعود إلى الكتابي.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي.
فإذا عاين الموت واليقين علم الحق من الباطل. (ضعفه ابن جرير*, والشنقيطي*) (وذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*)
(ومال إليه ابن عاشور*, وصاحب الظلال*)
روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال:("وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. قال: وإن ضرب بالسيف يتكلم به. قال: وإن هوى يتكلم به وهو يَهْوِي).
وللماتريدي رأي.
قال الماتريدي: "لكن التأويل إن كان هو الثاني فهو في رؤسائهم الذين كانت لهم الرياسة، فلم يؤمنوا خوفاً على ذهاب تلك الرياسة والمنافع التي كانت لهم، فلما حضرهم الموت أيقنوا بذهاب ذلك عنهم فعند ذلك يؤمنون".
قلت: هذا بعيد لعموم الآية, لكن القول بأصله ضعيف.
قال ابن عاشور: "وعندي أن ضمير (به) راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل (رفعه الله إليه)".
قلت: هذا أيضاً قول ضعيف.
وفي الآية قولان ضعيفان جداً.
الأول: أن الضمير يعود في قوله: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) إلى محمد.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم، قبل موت الكتابي. (ضعفه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن كثير*)
قال ابن جرير: "يدل على فساده أنه لم يَجْرِ لمحمد عليه السلام في الآيات التي قبل ذلك ذكر، وإنما قوله: (ليؤمنن به) في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود. فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها فأما الدعاوى فلا تتعذر على أحد".
الثاني : أن الضمير يعود إلى الله تعالى.
والمعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه. (ذكره الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, والقرطبي*).
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/