صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (137)
اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "مريم": (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)
في المراد بقوله: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قولان وهما متقاربان في القوة.
إلا أن القول بأنه جبريل عليه السلام كأنه أقرب.
قالوا: وكانت مريم على أكمة ومرتفع من الأرض فناداها من أسفل منها.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المنادي في قوله: (فنادها من تحتها) على قولين:
القول الأول: أنه جبريل عليه السلام.
قالوا: وكانت مريم على أكمة ومرتفع من الأرض فناداها من أسفل منها.
قلت: يؤيد هذا قوله تعالى في سورة "المؤمنون": (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)
ويؤيده أيضاً قوله بعد هذا: (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً)
فإن المتبادر أن هذا من قول جبريل فيكون ما قبله أيضاً من قول جبريل لا من قول عيسى, والله تعالى أعلم.
وعن قتادة أن الضمير في قوله: "تحتها" للنخلة.
القول الثاني: أنه عيسى بعد أن ولدته. (رجحه ابن جرير*, والماتريدي*, والرازي*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه ابن عاشور*, وصاحب الظلال*)
(وذكر القولين البغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, وابن كثير*) (واقتصر القرطبي* على الأول)
قال الماتريدي: "لأنها كانت تحزن أن تشتم وتقذف به، فعيسى إذا تكلم وصار بذلك المحل تُسَرُّ هي بذلك، لما تعلم أنه ينفي عنها بعض ما طعنت به وقذفت".
وقال ابن عاشور: "وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمه عليهما السلام, وقيد {مِنْ تَحْتِهَا} لتحقيق ذلك، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة".
وذكر بعضهم أن مما يؤيد هذا القول أن أقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل, لأن الله قال: (فحملته فانتبذت به) يعني عيسى.
ثم قال: «فناداها» فيعود إلى أقرب مذكور وهو عيسى.
وقال بعضهم: يؤيده أيضاً أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام عند قومها بالكلام.
قلت: أما رجوعه إلى أقرب مذكور فليس بمتعين دائماً, وجبريل كان له الذكر الأكبر في السياق حين قال: (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) وأيضاً: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا).
وأما قولهم: إنه لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إليه عند قومها.
فيجاب عنه بأن مريم عليها السلام لا بد أنها تلقت وحياً بأن تشير إليه ليتكلم, ولم تكن لتعتمد في إشارتها إليه عندهم على كلامه لها حين ولادتها, إذ من الممكن أن لا يتكلم فيرتد الأمر عليها ولا تظهر براءتها, فجزمها بالإشارة إليه قرينة على أنها على يقين ووحي بذلك.
ولكن أقوى ما يرجح القول بأن المنادي لها عيسى هو قوله: (من تحتها) فيظهر أن هذا إشارة إلى أنه عيسى بعد ولادته مباشرة والله أعلم.
إلا أن يقال: إن قوله: (من تحتها) يناسب قوله: (تحتك سرياً) فجاءها النداء من الجهة التي فيها النهر وهو أسفل من الموضع الذي هي فيه.
فإن النهر لا يمكن أن يكون تحتها ملامساً لها بل المراد أنه في موضع أسفل من الموضع الذي هي فيه.
فكذلك المنادي وهذا يقوي أنه جبريل والله أعلم.
وقوله: {قد جعل ربك تحتك سريا} اختلف فيه أيضاً على قولين:
القول الأول: أن السري هو النهر الصغير. (رجحه ابن جرير*, وابن كثير*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه الماتريدي*, وابن عاشور*, وصاحب الظلال*)
(وذكر ابن عطية والقرطبي أنه قول الجمهور)
وقال الرازي: "سمي بذلك لأن الماء يسري فيه".
وهذا القول هو الراجح, يؤيده قوله: (فكلي واشربي)
قال الشنقيطي: "ومن القرينة على هذا قوله تعالى: (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين, لأن المعين الماء الجاري، والظاهر أنه الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية".
القول الثاني: أن المراد به عيسى عليه السلام.
ومعنى سرياً أي: رفيعاً سيداً عظيم الخصال نبيلاً جليلاً.
يقال فلان سري من قوم سراة.
ومنه قول الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
(رجحه القرطبي*) (وذكر القولين البغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*)
قال الرازي: "واحتج من حمله على عيسى بأن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها".
قلت: ليس المراد أنه تحت رجليها, ولكن قد يكون المراد أنه في مكان أسفل من مكانها, فإنها في ربوة كما ذكر في آية "المؤمنون".
قال الزمخشري: "فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسري والرطب؟
قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل، وأن لها أموراً إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "مريم": (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)
في المراد بقوله: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قولان وهما متقاربان في القوة.
إلا أن القول بأنه جبريل عليه السلام كأنه أقرب.
قالوا: وكانت مريم على أكمة ومرتفع من الأرض فناداها من أسفل منها.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المنادي في قوله: (فنادها من تحتها) على قولين:
القول الأول: أنه جبريل عليه السلام.
قالوا: وكانت مريم على أكمة ومرتفع من الأرض فناداها من أسفل منها.
قلت: يؤيد هذا قوله تعالى في سورة "المؤمنون": (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)
ويؤيده أيضاً قوله بعد هذا: (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً)
فإن المتبادر أن هذا من قول جبريل فيكون ما قبله أيضاً من قول جبريل لا من قول عيسى, والله تعالى أعلم.
وعن قتادة أن الضمير في قوله: "تحتها" للنخلة.
القول الثاني: أنه عيسى بعد أن ولدته. (رجحه ابن جرير*, والماتريدي*, والرازي*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه ابن عاشور*, وصاحب الظلال*)
(وذكر القولين البغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, وابن كثير*) (واقتصر القرطبي* على الأول)
قال الماتريدي: "لأنها كانت تحزن أن تشتم وتقذف به، فعيسى إذا تكلم وصار بذلك المحل تُسَرُّ هي بذلك، لما تعلم أنه ينفي عنها بعض ما طعنت به وقذفت".
وقال ابن عاشور: "وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمه عليهما السلام, وقيد {مِنْ تَحْتِهَا} لتحقيق ذلك، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة".
وذكر بعضهم أن مما يؤيد هذا القول أن أقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل, لأن الله قال: (فحملته فانتبذت به) يعني عيسى.
ثم قال: «فناداها» فيعود إلى أقرب مذكور وهو عيسى.
وقال بعضهم: يؤيده أيضاً أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام عند قومها بالكلام.
قلت: أما رجوعه إلى أقرب مذكور فليس بمتعين دائماً, وجبريل كان له الذكر الأكبر في السياق حين قال: (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) وأيضاً: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا).
وأما قولهم: إنه لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إليه عند قومها.
فيجاب عنه بأن مريم عليها السلام لا بد أنها تلقت وحياً بأن تشير إليه ليتكلم, ولم تكن لتعتمد في إشارتها إليه عندهم على كلامه لها حين ولادتها, إذ من الممكن أن لا يتكلم فيرتد الأمر عليها ولا تظهر براءتها, فجزمها بالإشارة إليه قرينة على أنها على يقين ووحي بذلك.
ولكن أقوى ما يرجح القول بأن المنادي لها عيسى هو قوله: (من تحتها) فيظهر أن هذا إشارة إلى أنه عيسى بعد ولادته مباشرة والله أعلم.
إلا أن يقال: إن قوله: (من تحتها) يناسب قوله: (تحتك سرياً) فجاءها النداء من الجهة التي فيها النهر وهو أسفل من الموضع الذي هي فيه.
فإن النهر لا يمكن أن يكون تحتها ملامساً لها بل المراد أنه في موضع أسفل من الموضع الذي هي فيه.
فكذلك المنادي وهذا يقوي أنه جبريل والله أعلم.
وقوله: {قد جعل ربك تحتك سريا} اختلف فيه أيضاً على قولين:
القول الأول: أن السري هو النهر الصغير. (رجحه ابن جرير*, وابن كثير*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه الماتريدي*, وابن عاشور*, وصاحب الظلال*)
(وذكر ابن عطية والقرطبي أنه قول الجمهور)
وقال الرازي: "سمي بذلك لأن الماء يسري فيه".
وهذا القول هو الراجح, يؤيده قوله: (فكلي واشربي)
قال الشنقيطي: "ومن القرينة على هذا قوله تعالى: (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين, لأن المعين الماء الجاري، والظاهر أنه الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية".
القول الثاني: أن المراد به عيسى عليه السلام.
ومعنى سرياً أي: رفيعاً سيداً عظيم الخصال نبيلاً جليلاً.
يقال فلان سري من قوم سراة.
ومنه قول الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
(رجحه القرطبي*) (وذكر القولين البغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*)
قال الرازي: "واحتج من حمله على عيسى بأن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها".
قلت: ليس المراد أنه تحت رجليها, ولكن قد يكون المراد أنه في مكان أسفل من مكانها, فإنها في ربوة كما ذكر في آية "المؤمنون".
قال الزمخشري: "فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسري والرطب؟
قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل، وأن لها أموراً إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/