النوال... (125) (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة)

إنضم
15/04/2018
المشاركات
322
مستوى التفاعل
13
النقاط
18
الإقامة
السعودية
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (125)

اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)

أقرب الأقوال في المراد بهذه الآيات والله أعلم أنه توبيخ لهم وحكاية عن قولهم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود وبيان أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
هذه الآيات أشكلت على المفسرين, ونقل الرازي عن الواحدي قوله: "هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء".

وملخص الإشكال ذكره الرازي بقوله: "كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول، ثم قال بعد ذلك: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر، هذا منتهى الإشكال".

ومعنى (منفكين) زائلين منفصلين، يقال: فككت الشيء فانفك أي: انفصل.
فانفكاك الشيء عن الشيء زواله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله.

وقد اختلف المفسرون في المراد بهذه الآيات على خمسة أقوال:
القول الأول: أن المراد لم يكونوا منفكين ومنتهين عن الكفر والضلال حتى تأتيهم البينة (ذكره ابن جرير*, والماتريدي*, والبغوي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*) (واقتصر عليه ابن كثير*, وصاحب الظلال*)

القول الثاني: أن المراد لم يكونوا تاركين صفة محمد في كتابهم حتى بعث، فلما بعث تفرقوا فيه. (ذكره ابن جرير*, والرازي*, والقرطبي*)

ونحوه قول من يقول: لم يكونوا منفكين عن معرفة صحة نبوة محمد عليه السلام حتى جاءتهم البينة فتفرقوا عند ذلك (ذكره ابن عطية*)

ونحوه ما رجحه ابن جرير* بقوله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: معنى ذلك: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد، حتى تأتيهم البيِّنة، وهي إرسال الله إياه".

القول الثالث: أن المراد لم يكونوا منفكين من أمر الله تعالى وقدرته حتى يبعث إليهم رسولاً، فما كانوا ليتركوا سدى (ذكره ابن عطية*) وقال: "ويتجه في معنى الآية هذا القول وهو بارع المعنى".
(ورجحه مكمل أضواء البيان*, وذكر عن ابن تيمية أنه يرجحه)

القول الرابع: أن معنى منفكين هالكين، ومعنى الآية: لم يكونوا هالكين معذبين إلا من بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتاب (ذكره الماتريدي* والقرطبي*)

القول الخامس: أنه توبيخ لهم وحكاية عن قولهم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود وبيان أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا (اقتصر عليه الزمخشري*) (وذكره الرازي* عن الزمخشري وقال: إنه أحسن الوجوه)

(ورجحه ابن عاشور*, وخالف الجميع في تفسير قوله (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) وكذلك صاحب الظلال وقولهما قوي كما سياتي.

وهذا القول الخامس أقرب الأقوال.
قال الزمخشري موضحاً لهذا القول: "كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) يعنى أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً، فيقول واعظه: لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار: يذكِّره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً"

قال الرازي: "وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد، وهو أن قوله: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة مذكورة حكاية عنهم، وقوله: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) هو إخبار عن الواقع، والمعنى أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا".

وقال ابن عاشور: "فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها، فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل: كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار...
وقريب منه قوله تعالى في أهل الكتاب: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به).
وحاصل المعنى: أنكم كنتم تقولون: لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة، أي: العلامة التي وعدنا بها".

تنبيه مهم:
المفسرون فسروا قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) بأن المراد ما حصل منهم التفرق والضلال الا بعد مجيء البينة. (وخالفهم ابن عاشور وصاحب الظلال كما سياتي).

واحتاج المفسرون أن يبنوا سبب إفراد أهل الكتاب في قوله: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) مع أنه جمع بينهم والمشركين أولاً.

قال الزمخشري مبيناً ذلك:
"فإن قلت: لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أولاً ثم أفرد أهل الكتاب في قوله: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب)؟
قلت: لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف".

وأما ابن عاشور وصاحب الظلال فلا يرد عندهم هذا الإشكال.
فإنهم فسروا قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) بأن المراد بالبينة هنا رسالة عيسى وأن المعنى كيف يزعمون أنهم سينفكون عن ما هم عليه من الدين حين تأتيهم البينة وقد جاءتهم بينة من قبل وهي بينة عيسى عليه السلام فتفرقوا في الإيمان به.

قلت: وهذا القول قوي ووجيه والله أعلم.
وهذا نقل لكلام ابن عاشور وصاحب الظلال:
قال ابن عاشور: "والمعنى: كيف يزعمون أن تمسكهم بما هم عليه من الدين مغيا بوقت أن تأتيهم البينة والحال أنهم جاءتهم بينة من قبل ظهور الإسلام وهي بينة عيسى عليه السلام فتفرقوا في الإيمان به فنشأ من تفرقهم حدوث ملتين اليهودية والنصرانية.
والمراد بهذه البينة الثانية مجيء عيسى عليه السلام فلما جاءهم عيسى كذبوه، أي: فلا يطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى وهم قد كذبوا ببينة عيسى، فتبين أن الجحود والعناد شنشنة فيهم معروفة.
والمراد بالتفرق: تفرق بني إسرائيل بين مكذب لعيسى ومؤمن به وما آمن به إلا نفر قليل من اليهود".

وقال صاحب الظلال: "يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد. إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم:
«وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» ..
وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام فقد انقسموا شعباً وأحزاباً. مع أن رسولهم هو موسى عليه السلام وكتابهم هو التوراة... ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم، مع أن كتابهم واحد ونبيهم واحد. تفرقوا واختلفوا أولاً في العقيدة. ثم تفرقوا واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقاتلة... وكان هذا الخلاف كله بين أهل الكتاب جميعاً «مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» .. فلم يكن ينقصهم العلم والبيان إنما كان يجرفهم الهوى والانحراف.
على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة:
«وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق".

قال ابن عاشور: "وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإسلام، أي: تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد صلى الله عليه وسلم, وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد, فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإسلام حاصل منهم ومن المشركين، وجعلوا المراد بالبينة الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمد صلى الله عليه وسلم".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
 
عودة
أعلى