صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (121)
اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "النجم": (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)
القول الأقرب والله أعلم أن الاستثناء متصل، وأن اللمم من الكبائر.
ومعنى الآية: إلا أن يلم بالكبيرة مرة ثم يتوب.
وأصل اللمم والإلمام ما يعمله ولا يكون له إعادة ولا إقامة عليه.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بقوله: (إِلَّا اللَّمَمَ) وهل الاستثناء متصل أو منقطع على قولين:
القول الأول: أن الاستثناء متصل، وأن اللمم من الكبائر.
ومعنى الآية: إلا أن يلم بالكبيرة مرة ثم يتوب.
وأصل اللمم والإلمام ما يعمله ولا يكون له إعادة ولا إقامة عليه.
قال البغوي: "وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن، ورواية عطاء عن ابن عباس"
فقد ثبت عن ابن عباس قوله: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب, ثم ذكر قول الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
(رجح هذا القول الماتريدي*, وصاحب الظلال*)
وهذا القول أقرب والله اعلم.
ومما يؤيده أنه أكثر تناسباً مع قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» .. فذكْر سعة المغفرة يناسب أن يشمل اللمم من أتى كبيرة ثم ندم وتاب.
ويؤيده أيضاً قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
فأدخل هؤلاء في «المتقين» ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض.
قال الماتريدي: "واللمم على هذا يجيء أن تكون من تلك الكبائر والفواحش, لأنه استثناها فيجب أن تكون من جنسها، لكنه استثناها وعفا عنها لما يقعون فيها عن غفلة وسهو، أو عن غلبة شهوة ونحوها، وهو الأشبه بتأويل الآية".
قال ابن عطية: "فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى، إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي"
وقال القرطبي: "ودليل هذا التأويل قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) الآية. ثم قال: (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم) فضمن لهم المغفرة، كما قال عقيب اللمم: (إن ربك واسع المغفرة) فعلى هذا التأويل يكون (إلا اللمم) استثناء متصل".
قال صاحب الظلال: "والذي نراه أن هذا القول أكثر تناسباً مع قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» .. فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش، ثم التوبة. ويكون الاستثناء غير منقطع. ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش. إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعاً ولا يلجوا ولا يصروا. كما قال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ- وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ- وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .. وسمى هؤلاء «المتقين» ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض .. فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة".
القول الثاني: أن الاستثناء منقطع، وأن المراد باللمم صغار الذنوب.
قال البغوي: "وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي، ورواية طاووس عن ابن عباس".
(رجحه ابن جرير*) (واقتصر عليه الزمخشري*, وابن عاشور*) (ورجحه الشنقيطي* عند تفسير قوله تعالى في "الشورى": (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)
(وذكر القولين البغوي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*)
قال الزمخشري: "واللمم: ما قل وصغر. ومنه: اللمم المس من الجنون، واللوثة منه.
وألم بالمكان إذا قل فيه لبثه. وألم بالطعام: قل منه أكله"
قلت: تعريف الزمخشري للمم صالح أيضاً للقول الأول.
ويستدل على هذا القول بقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
قلت: لكن من حافظ عمره على نفسه من الكبائر وكان بعيداً عنها ثم غلبته نفسه يوماً فوقع ثم تاب وندم ألا يعتبر من المجتنبين للكبائر.
وهل يستوي هذا ومن هو مقيم على الكبائر مكثراً منها غير مبال!
ويستدل على هذا القول أيضاً بقول ابن عباس: (ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) متفق عليه.
ولكن ابن عباس قد ثبت عنه ما يؤيد القول الأول أيضاً كما سبق.
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "النجم": (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)
القول الأقرب والله أعلم أن الاستثناء متصل، وأن اللمم من الكبائر.
ومعنى الآية: إلا أن يلم بالكبيرة مرة ثم يتوب.
وأصل اللمم والإلمام ما يعمله ولا يكون له إعادة ولا إقامة عليه.
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بقوله: (إِلَّا اللَّمَمَ) وهل الاستثناء متصل أو منقطع على قولين:
القول الأول: أن الاستثناء متصل، وأن اللمم من الكبائر.
ومعنى الآية: إلا أن يلم بالكبيرة مرة ثم يتوب.
وأصل اللمم والإلمام ما يعمله ولا يكون له إعادة ولا إقامة عليه.
قال البغوي: "وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن، ورواية عطاء عن ابن عباس"
فقد ثبت عن ابن عباس قوله: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب, ثم ذكر قول الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
(رجح هذا القول الماتريدي*, وصاحب الظلال*)
وهذا القول أقرب والله اعلم.
ومما يؤيده أنه أكثر تناسباً مع قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» .. فذكْر سعة المغفرة يناسب أن يشمل اللمم من أتى كبيرة ثم ندم وتاب.
ويؤيده أيضاً قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
فأدخل هؤلاء في «المتقين» ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض.
قال الماتريدي: "واللمم على هذا يجيء أن تكون من تلك الكبائر والفواحش, لأنه استثناها فيجب أن تكون من جنسها، لكنه استثناها وعفا عنها لما يقعون فيها عن غفلة وسهو، أو عن غلبة شهوة ونحوها، وهو الأشبه بتأويل الآية".
قال ابن عطية: "فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى، إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي"
وقال القرطبي: "ودليل هذا التأويل قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) الآية. ثم قال: (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم) فضمن لهم المغفرة، كما قال عقيب اللمم: (إن ربك واسع المغفرة) فعلى هذا التأويل يكون (إلا اللمم) استثناء متصل".
قال صاحب الظلال: "والذي نراه أن هذا القول أكثر تناسباً مع قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» .. فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش، ثم التوبة. ويكون الاستثناء غير منقطع. ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش. إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعاً ولا يلجوا ولا يصروا. كما قال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ- وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ- وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .. وسمى هؤلاء «المتقين» ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض .. فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة".
القول الثاني: أن الاستثناء منقطع، وأن المراد باللمم صغار الذنوب.
قال البغوي: "وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي، ورواية طاووس عن ابن عباس".
(رجحه ابن جرير*) (واقتصر عليه الزمخشري*, وابن عاشور*) (ورجحه الشنقيطي* عند تفسير قوله تعالى في "الشورى": (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)
(وذكر القولين البغوي*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*)
قال الزمخشري: "واللمم: ما قل وصغر. ومنه: اللمم المس من الجنون، واللوثة منه.
وألم بالمكان إذا قل فيه لبثه. وألم بالطعام: قل منه أكله"
قلت: تعريف الزمخشري للمم صالح أيضاً للقول الأول.
ويستدل على هذا القول بقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
قلت: لكن من حافظ عمره على نفسه من الكبائر وكان بعيداً عنها ثم غلبته نفسه يوماً فوقع ثم تاب وندم ألا يعتبر من المجتنبين للكبائر.
وهل يستوي هذا ومن هو مقيم على الكبائر مكثراً منها غير مبال!
ويستدل على هذا القول أيضاً بقول ابن عباس: (ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) متفق عليه.
ولكن ابن عباس قد ثبت عنه ما يؤيد القول الأول أيضاً كما سبق.
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/