النوال... (117) (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله)

إنضم
15/04/2018
المشاركات
322
مستوى التفاعل
12
النقاط
18
الإقامة
السعودية
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (117)

اكتب في (قوقل) (النوال. وكلمة من الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في آخر سورة "الحديد": (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ الله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

القول الأقرب أن المراد بقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) المؤمنون من أمة محمد.
وأن قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ الله) (لا) صلة زائدة مؤكدة فقوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب) أي: ليعلم.

والمعنى: يعطيكم الله هذا الفضل أيها المؤمنون ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فهو بيد الله يؤتيه من يشاء, لأن أهل الكتاب يرون أن الله قد فضلهم على غيرهم.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في هذه الآيات في موضعين:
الأول: من هم المعنيون بقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ)
الثاني: المراد بقوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ الله)

فأما الأول فاختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: أنهم الذين آمنوا من أهل الكتاب. (اقتصر عليه ابن جرير*, والبغوي*, والرازي*, والقرطبي*) (وضعفه الماتريدي*)

واستدلوا على هذا القول بحديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران...) الحديث. متفق عليه.

قال الرازي: "اعلم أنه لما قال في الآية الأولى: (فآتينا الذين آمنوا منهم) أي: من قوم عيسى (أجرهم) قال في هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا) والمراد به أولئك, فأمرهم أن يتقوا الله ويؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام, ثم قال: (يؤتكم كفلين) أي: نصيبين من رحمته لإيمانكم أولاً: بعيسى، وثانياً: بمحمد عليه الصلاة والسلام، ونظيره قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين)"

قال الماتريدي: "هذا ضعيف وتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا بالرسل جملة آمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم"

القول الثاني: أن المراد المؤمنون من أمة محمد.
(رجحه الماتريدي*) (ومال اليه ابن كثير*) (واقتصر عليه صاحب الظلال*) (وذكر القولين الزمخشري*, وابن عطية*)
وهذا القول هو الأقرب.

قال ابن كثير: "قال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} أي: ضعفين، وزادهم: {ويجعل لكم نوراً تمشون به}"

قال الزمخشري: "إن كان خطاباً لغير الذين آمنوا من أهل الكتاب فالمعنى: اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله: {أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} ولا ينقصكم من مثل أجرهم، لأنكم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله".

قال ابن عطية: "قيل: المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله}، أي: اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، وهذا هو معنى الأمر أبداً لمن هو متلبس بما يؤمر به".

قال ابن كثير: "ومما يؤيد هذا القول حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً؟ قال: قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء) أخرجه البخاري.

(وذهب ابن عاشور*) إلى أن كليهما مراد.
فقال: "الغالب في القرآن أن الذين آمنوا لقب للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن لما وقع (يا أيها الذين آمنوا) هنا عقب قوله: (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، أي: من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام احتمل قوله: (يا أيها الذين آمنوا) أن يكون مستعملاً استعماله اللقبي أعني: كونه كالعلم بالغلبة على مؤمني ملة الإسلام.
واحتمل أن يكون قد استعمل استعماله اللغوي الأعم، أعني: من حصل منه إيمان، وهو هنا من آمن بعيسى.
والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودان ليأخذ خلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليستكملوا ما سبق من اتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجهاً إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى.
وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإطلاق اللقبي فيأخذ منه المؤمنون من أهل الملة الإسلامية بشارة بأنهم لا يقل أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب، لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤمني أهل مللهم، ويكون قوله: (وآمنوا) مستعملاً في الدوام على الإيمان كقوله: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله)"

وأما المراد بقوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ الله) فاختلفوا فيه كذلك على قولين:

القول الأول: أن (لا) صلة زائدة مؤكدة فقوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب) أي: ليعلم (اقتصر عليه ابن جرير*, والماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن كثير*, وصاحب الظلال*) (واقتصر عليه الشنقيطي* عند تفسير قوله تعالى في سورة "طه": (قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن)
وعند تفسير قوله تعالى في سورة "النمل": (أَلَّا يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (وضعفه ابن عاشور*)
وهذا القول هو الراجح.

والمعنى: يعطيكم الله هذا الفضل أيها المؤمنون ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فهو بيد الله يؤتيه من يشاء, لأن أهل الكتاب يرون أن الله قد فضلهم على غيرهم لأنهم أهل علم بالكتاب، ويرون لأنفسهم خصوصية ليست لغيرهم.

قال الماتريدي "أجمع أهل التأويل واللغة أن حرف (لا) زيادة هاهنا وصلة، أي: ليعلم أهل الكتاب، وقد يزاد في الكلام حرف (لا) ويسقط بحق الصلة، يعرف ذلك أهل الحكمة والفقه كقوله تعالى: (يبين الله لكم أن تضلوا)، ليس يبين لنا أن نضل، ولكن يبين لنا لنعلم ونهتدي، فعرف الحكماء والفقهاء أن كلمة (لا) أسقطت هاهنا, فعلى ذلك عرفوا أن حرف (لا) هاهنا في قوله: (لئلا يعلم) زيادة، معناه: ليعلم أهل الكتاب: أن لا يقدرون على شيء من فضل الله".

وقال الشنقيطي عند تفسير قوله تعالى في سورة "طه": (قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن): "قد عرف في اللغة العربية أن زيادة لفظة «لا» في الكلام الذي فيه معنى الجحد لتوكيده مطردة.
كقوله هنا: (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني) أي: ما منعك أن تتبعني.
وقوله: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) بدليل قوله في «ص»: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)
وقوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله) أي: ليعلم أهل الكتاب.
وقوله: (فلا وربك لا يؤمنون)، أي: فوربك لا يؤمنون.
وقوله: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)"

قال ابن عاشور: "وعندي: أن القول بأنها زائدة لا يعطي معنى, لأن إخبار القرآن بأن للمسلمين أجرين لا يُصدِّق به أهل الكتاب فلا يستقر به علمهم بأنهم لا فضل لهم, فكيف يعلل إخبار الله به بأنه يزيل علم أهل الكتاب بفضل أنفسهم فيعلمون أنهم لا فضل لهم".

قلت: لكن قد يقال جواباً على هذا الإيراد: إن أهل الكتاب لا سيما اليهود وان كانوا لا يُصدِّقون ظاهراً فهم في الباطن يعلمون صدق النبي فيما جاء به
لكنهم أهل عناد وجحود وتعصب.

القول الثاني: (أن لا) غير صلة وغير زائدة. (رجحه الرازي*, وابن
عاشور*) ثم اختلفا في المراد.

أما الرازي فيوافق الجمهور في المعنى فالخلاف بينه وبينهم لفظي كما سيتبين من كلامه.
قال الرازي: "القول الثاني: وهو أن لفظة (لا) غير زائدة، اعلم أن الضمير في قوله: ألا يقدرون عائد إلى الرسول وأصحابه، والتقدير: لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله، وأنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه، ثم قال: وأن الفضل بيد الله أي: وليعلموا أن الفضل بيد الله، فيصير التقدير: إنا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوام معينين، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله"

قال ابن عاشور: "ويَرَد على هذا التفسير ما ورد على الذي قبله لأن علم أهل الكتاب لا يحصل بإخبار القرآن لأنهم يكذبون به".
قلت: لكن سبق الجواب عن هذا الإيراد.

وأما ابن عاشور فالخلاف بينه وبين الجمهور حقيقي فهو يرى أن اللام للعاقبة، أي: أعطيناكم هذا الفضل فبقي أهل الكتاب في جهلهم وغرورهم بأن لهم الفضل، واستمروا على الاغترار بأن لهم الفضل على غيرهم.

وهذا نص قوله.
قال ابن عاشور: "وأنا أرى أن دعوى زيادة (لا) لا داعي إليها، وأن بقاءها على أصل معناها وهو النفي متعين، وتجعل اللام للعاقبة، أي: أعطيناكم هذا الفضل وحرم منه أهل الكتاب، فبقي أهل الكتاب في جهلهم وغرورهم بأن لهم الفضل المستمر ولا يحصل لهم علم بانتفاء أن يكونوا يملكون فضل الله ولا أن الله قد أعطى الفضل قوماً آخرين وحرمهم إياه فينسون أن الفضل بيد الله، وليس أحد يستحقه بالذات.
وبهذا الغرور استمروا على التمسك بدينهم القديم... والمعنى: لا تكترثوا بعدم علم أهل الكتاب بأنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وبأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، أي: لا تكترثوا بجهلهم المركب في استمرارهم على الاغترار بأن لهم منزلة عند الله تعالى"

قال صاحب الظلال: "«لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله. وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء» .. فقد كان أهل الكتاب يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه: «وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا» .. «وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى» ..
فالله يدعو الذين آمنوا إلى استحقاق رحمته وجنته وهبته ومغفرته حتى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على احتجاز شيء من فضله، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، غير مقصور على قوم، ولا محجوز لطائفة، ولا محدود ولا قليل: «والله ذو الفضل العظيم» ..
وهي دعوة فيها تحضيض واستجاشة واستشارة للسباق إلى الجنة والرحمة. تختم بها السورة ختاماً يتناسق مع سياقها كله، ومع الهتاف المكرر فيها لهذه القلوب كي تحقق إيمانها وتخشع لربها وتستجيب لتكاليف الإيمان في الأموال والأرواح. في تجرد وإخلاص".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
 
عودة
أعلى