صالح بن سليمان الراجحي
Member
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (111)
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الإسراء": (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)
القول الأقرب في المراد بقوله: (طَائِرَهُ) أي: عمله الذي طار وصدر عنه, فهو ملازم له محفوظ محاسب عليه.
ويدل على ذلك قوله تعالى بعدها: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بالطائر في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أنه ما قدر له من الخير والشر فهو ملازم له لا يحيد عنه.
وقد كانت العرب ينظرون إلى أحوال الطير فيعتبرونها ويستدلون بها على الخير والشر والسعادة والنحوسة، فسمي الخير والشر بالطائر.
(اقتصر على هذا القول ابن عطية*, وابن عاشور*) (ورجحه الرازي*)
قال الماتريدي: "على وجه التفاؤل والطيرة, كانوا يتفاءلون ويتطيرون بالطائر وغيره، ويقولون جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له بكذا من الشر, على طريق الفأل والطيرة, فخاطبهم على ما يستعملون".
وقال ابن عطية: "خاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة, وكثر ذلك حتى فعلته بالظبا وحيوان الفلاة، وسميت ذلك كله تطيراً، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء, وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه".
قال الرازي: "في تفسير لفظ الطائر قولان:
القول الأول: أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه، أو يحتاج إلى إزعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره, فقوله: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) أي: كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه".
قال الرازي: "القول الثاني: قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر.
والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة. والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه، بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية، فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه، فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر".
القول الثاني:
أنه عمله الذي طار وصدر عنه, فهو ملازم له محفوظ محاسب عليه.
وهذا هو الأقرب في المراد بالآية, ويدل على ذلك قوله تعالى بعدها: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
(اقتصر على هذا القول ابن كثير*, والزمخشري*, وصاحب الظلال*)
(واقتصر عليه ابن جرير*) فروى عن ابن عباس وابن جريج ومجاهد وقتادة أنهم قالوا: عمله.
لكن ابن جرير دمج معه القول الأول حين قال: "وكل إنسان ألزمناه ما قضي له أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه، وإنما قوله: (ألزمناه طائره) مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها، فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحساً كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيراً، أو كان سعداً يورده جنات عدن".
(وذكر القولين دون ترجيح البغوي*, والقرطبي*)
قال ابن كثير: "طائره: هو ما طار عنه من عمله، كما قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: من خير وشر يلزم به ويجازى عليه.
والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره، ويكتب عليه ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً".
وقال الزمخشري: "طائره عمله, يعنى: ألزمناه ما طار من عمله, والمعنى أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه".
وقال صاحب الظلال: وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله، أي ما يقسم له من العمل، وهو كناية عما يعمله, وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية. فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه.
(ورأى الماتريدي*) أن الأقوال ترجع إلى قول واحد.
فقال": قال بعضهم: (طائره): شقاوته وسعادته، ورزقه وعيشه.
وقال بعضهم: عمله الذي عمل من خير أو شر.
وقال بعضهم: حظه ونصيبه من عمله، وهو جزاؤه ونحو ذلك.
فذلك كله يرجع إلى معنى واحد, لأنه إنما يسعد ويشقى بعمله الذي يعمله، وكذلك جزاء عمله"
(وكذلك رجح الشنقيطي*) أن القولين كلاهما حق فقال: "والقولان متلازمان, لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة أو السعادة, والقولان كلاهما حق, وكلاهما يشهد له قرآن".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.
قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الإسراء": (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)
القول الأقرب في المراد بقوله: (طَائِرَهُ) أي: عمله الذي طار وصدر عنه, فهو ملازم له محفوظ محاسب عليه.
ويدل على ذلك قوله تعالى بعدها: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بالطائر في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أنه ما قدر له من الخير والشر فهو ملازم له لا يحيد عنه.
وقد كانت العرب ينظرون إلى أحوال الطير فيعتبرونها ويستدلون بها على الخير والشر والسعادة والنحوسة، فسمي الخير والشر بالطائر.
(اقتصر على هذا القول ابن عطية*, وابن عاشور*) (ورجحه الرازي*)
قال الماتريدي: "على وجه التفاؤل والطيرة, كانوا يتفاءلون ويتطيرون بالطائر وغيره، ويقولون جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له بكذا من الشر, على طريق الفأل والطيرة, فخاطبهم على ما يستعملون".
وقال ابن عطية: "خاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة, وكثر ذلك حتى فعلته بالظبا وحيوان الفلاة، وسميت ذلك كله تطيراً، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء, وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه".
قال الرازي: "في تفسير لفظ الطائر قولان:
القول الأول: أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه، أو يحتاج إلى إزعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره, فقوله: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) أي: كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه".
قال الرازي: "القول الثاني: قال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر.
والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة. والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه، بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية، فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه، فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر".
القول الثاني:
أنه عمله الذي طار وصدر عنه, فهو ملازم له محفوظ محاسب عليه.
وهذا هو الأقرب في المراد بالآية, ويدل على ذلك قوله تعالى بعدها: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
(اقتصر على هذا القول ابن كثير*, والزمخشري*, وصاحب الظلال*)
(واقتصر عليه ابن جرير*) فروى عن ابن عباس وابن جريج ومجاهد وقتادة أنهم قالوا: عمله.
لكن ابن جرير دمج معه القول الأول حين قال: "وكل إنسان ألزمناه ما قضي له أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه، وإنما قوله: (ألزمناه طائره) مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها، فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحساً كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيراً، أو كان سعداً يورده جنات عدن".
(وذكر القولين دون ترجيح البغوي*, والقرطبي*)
قال ابن كثير: "طائره: هو ما طار عنه من عمله، كما قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: من خير وشر يلزم به ويجازى عليه.
والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره، ويكتب عليه ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً".
وقال الزمخشري: "طائره عمله, يعنى: ألزمناه ما طار من عمله, والمعنى أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه".
وقال صاحب الظلال: وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله، أي ما يقسم له من العمل، وهو كناية عما يعمله, وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية. فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه.
(ورأى الماتريدي*) أن الأقوال ترجع إلى قول واحد.
فقال": قال بعضهم: (طائره): شقاوته وسعادته، ورزقه وعيشه.
وقال بعضهم: عمله الذي عمل من خير أو شر.
وقال بعضهم: حظه ونصيبه من عمله، وهو جزاؤه ونحو ذلك.
فذلك كله يرجع إلى معنى واحد, لأنه إنما يسعد ويشقى بعمله الذي يعمله، وكذلك جزاء عمله"
(وكذلك رجح الشنقيطي*) أن القولين كلاهما حق فقال: "والقولان متلازمان, لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة أو السعادة, والقولان كلاهما حق, وكلاهما يشهد له قرآن".
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/