النوال... (103) (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)

إنضم
15/04/2018
المشاركات
322
مستوى التفاعل
13
النقاط
18
الإقامة
السعودية
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (103)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)

القول الأقرب والله أعلم أن ذلك قد وقع وانتهى وذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يأخذهم بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة، والمراد بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان، وكذلك اختلفوا في المراد بـ(الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى)
فأما المراد بالدخان فاختلفوا فيه على قولين:

القول الأول: أن ذلك قد وقع وانتهى وذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يأخذهم بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة، والمراد بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان.
(رجح هذا القول ابن جرير*, والماتريدي*) (ومال اليه ابن عطية*) (ورجحه ابن عاشور* واقتصر عليه)
وهذا قول ابن مسعود وغيره.

واستدل من يذهبون إلى هذا القول بحديث ابن مسعود رضي الله عنه.
فعن مسروق قال: (كنا عند عبد الله جلوساً وهو مضطجع بيننا فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن إن قاصاً عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجئ فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام, فقال عبد الله وجلس وهو غضبان: يا أيها الناس اتقوا الله من علم منكم شيئاً فليقل بما يعلم ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم, فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم, فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً فقال: اللهم سبع كسبع يوسف قال: فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع, وينظر إلى السماء أحدهم فيرى كهيئة الدخان, فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم, قال الله عز وجل: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ... يغشى الناس هذا عذاب أليم} إلى قوله: {إنكم عائدون} قال: أفيكشف عذاب الآخرة؟) متفق عليه.

وهذا القول أقرب والعلم عند الله تعالى.

قال ابن جرير مبيناً سبب ترجيحه لهذا القول:
"لأن الله جل ثناؤه توعد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)
ثم أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) أمراً منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديداً للمشركين, فهو بأن يكون إذ كان وعيداً لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم".

قال الزمخشري: "(بِدُخانٍ مُبِينٍ) ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان. (يَغْشَى النَّاسَ) يشملهم ويلبسهم"

قال ابن عاشور: "قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين) تمثيلاً لهيئة ما يراه الجائعون من شبه الغشاوة على أبصارهم حين ينظرون في الجو بهيئة الدخان النازل من الأفق"

قال ابن عاشور: "وأنه يكشف زمناً قليلاً عنهم إعذاراً لهم لعلهم يؤمنون، وأنهم يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا عليه، وأن الله يعيده عليهم كما يؤذن بذلك قوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً).
وأما قوله: (يوم نبطش البطشة) فهو عذاب آخر. وكل ذلك يؤذن بأن العذاب بالدخان يقع في الدنيا وأنه مستقبل قريب"

قال الرازي مبيناً حجج القائلين بضعف هذا القول: "احتج القائلون بهذا القول بوجوه:
الأول: أن قوله: (يوم تأتي السماء بدخان) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء، فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز.

الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونها دخانا مبيناً.

الثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس، وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشى الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل"

وكذلك قال ابن كثير: "قال الله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي: بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه: إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد.
وهكذا قوله: {يغشى الناس} أي: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: {يغشى الناس}"

القول الثاني: أنه لم يقع حتى الآن بل هو واقع قرب الساعة وهو من أشراطها, وهو آية من آيات الله يرسلها على عباده قبل مجيء الساعة، فيدخل في أسماع أهل الكفر حتى يكون كالرأس الحنيذ، ويعتري المؤمنين منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار.
(رجحه الرازي*, وابن كثير*, وصاحب الظلال*) (وذكر القولين البغوي*, والزمخشري*, والقرطبي*)
وهذا قول ابن عباس وغيره.

واستدل من يذهبون إلى هذا القول بالأحاديث التي ذكرت الدخان وأنه من أشراط الساعة.
ومنها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: (اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة قال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات: فذكر الدخان, والدجال, والدابة, وطلوع الشمس من مغربها, ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم, ويأجوج ومأجوج, وثلاثة خسوف خسف بالمشرق, وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب, وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) أخرجه مسلم.

وقوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
قال ابن عطية: "هذا عذاب أليم يحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى، كأنه يعجب منه على نحو من قوله تعالى لما وصف قصة الذبح: (إن هذا لهو البلاء المبين)
ويحتمل أن يكون هذا عذاب أليم من قول الناس، كأن تقدير الكلام: يقولون هذا عذاب أليم، ويؤيد هذا التأويل سياقه حكاية عنهم أنهم يقولون: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)"
قلت: والاحتمال الثاني أقرب.

قال ابن جرير: "يعني أنهم يقولون مما نالهم من ذلك الكرب والجهد: هذا عذاب أليم.
وترك من الكلام (يقولون) استغناء بمعرفة السامعين معناه من ذكرها".

وقوله: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى)
قال ابن عطية: "اختلف الناس في ذلك، فقال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة: هو يوم القيامة.
وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس أيضاً وأبي بن كعب ومجاهد: هو يوم بدر".
(رجح أأنه يوم القيامة الرازي*, وابن كثير*) (ورجح أنه يوم بدر ابن جرير*) (واقتصر عليه ابن عاشور*)
(وذكر القولين الماتريدي*, البغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*)

قال صاحب الظلال: "ونحن نختار قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الدخان بأنه عند يوم القيامة، وقول ابن كثير في تفسيره. فهو تهديد له نظائره الكثيرة في القرآن الكريم، في مثل هذه المناسبة. ومعناه: إنهم يشكون ويلعبون.
فدعهم وارتقب ذلك اليوم المرهوب. يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس. ووصف هذا بأنه عذاب أليم.
وصور استغاثتهم: «ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون» .. ورده عليهم باستحالة الاستجابة، فقد مضى وقتها: «أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين. ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون» .. وفي ظل هذا المشهد الذي يرجون فيه كشف العذاب فلا يجابون يقول لهم: إن أمامكم فرصة بعد لم تضع، فهذا العذاب مؤخر عنكم قليلاً وأنتم الآن في الدنيا. وهو مكشوف عنكم الآن فآمنوا كما تعدون أن تؤمنوا في الآخرة فلا تجابون. وأنتم الآن في عافية لن تدوم. فإنكم عائدون إلينا «يوم نبطش البطشة الكبرى»..
يوم يكون ذلك الدخان الذي شهدتم مشهده في تصوير القرآن له. «إنا منتقمون» من هذا اللعب الذي تلعبون، وذلك البهت الذي تبهتون به الرسول صلى الله عليه وسلم إذ تقولون عنه: «معلم مجنون» .. وهو الصادق الأمين..
بهذا يستقيم تفسير هذه الآيات كما يبدو لنا، والله أعلم بما يريد".

تنبيه:
قال الشنقيطي عند تفسير قوله تعالى في سورة "النحل": (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً): "وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة. ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين: الدخان الذي مضى، والدخان المستقبل جمعاً بين الأدلة".

قلت: هذا القول فيه نظر، ولهذا لم يقل به أحد من الصحابة ولا المفسرين، فقد أطبقوا على ذكر القولين دون القول بحمل الآية على الدخانين، فالمراد بالآية بخصوصها أحدهما قطعاً وإن كان الدخان الذي عند الساعة ثابت لا شك فيه.
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/
 
عودة
أعلى