النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال... ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) (1)

إنضم
15/04/2018
المشاركات
322
مستوى التفاعل
13
النقاط
18
الإقامة
السعودية
(النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال في الآيات التي فيها غموض أو إشكال وبيان القول الأقرب بالحجة والاستدلال) (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين منزل السبع المثاني والقرآن العظيم.
والصلاة والسلام على إمام المرسلين وحجة الله على العالمين محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه وأتباع هديه من الصالحين المهتدين المفلحين.
أما بعد:
فهذه سلسلة أسأل الله العظيم أن تكون خالصة لوجهه الكريم وأن يكتب لها الاستمرار وأن يجعل فيها العلم النافع الدائم.
أذكر فيها خلاف أشهر المفسرين في الآيات التي فيها غموض أو إشكال مشهور عند المفسرين أو خلاف يحير.
فأذكر الأقوال وأنسبها إلى من قال بها بالدقة والتفصيل والاختصار.
فإن ذَكَر المفسرُ القول دون ترجيح أو اقتصار قلت: (ذكره فلان)
فإن لم يذكر إلا هذا القول قلت: (اقتصر عليه فلان)
فإن لم يذكر هذا القول أحد سواه قلت: (انفرد به فلان)
فإن رجحه أو ضعفه أو مال إليه قلت: (رجحه أو.. أو..) ويعني أنه ذكر القول ضمنا, ويعني أيضاً أنه ذكر القول الآخر, فإن كان رجحه واقتصر عليه قلت: (رجحه واقتصر عليه) وهكذا لو ضعفه.

وأبين إن شاء الله بالحجة والدليل والتعليل القرب من هذه الأقوال.

والذين ستذكر أقوالهم من المفسرين هم من اشتهروا بتمييز الأقوال وفحصها وترجيحها وتعليلها ومن وهبهم الله الريادة وعلو الكعب في ذلك على تفاوت بينهم وهم:
(ابن جرير الطبري, والبغوي, والزمخشري, وابن عطية, والرازي, والقرطبي, وابن كثير).
وهؤلاء هم من أشهر قادة موكب المفسرين ومن أتى بعدهم فإنما هم منهم ينهلون وعلى أثرهم وخطاهم يسيرون ويدرجون, فالاكتفاء بهم فيه الغنية والكفاية والخير الكثير.
ومن قصد البحر اسْتَقَلَّ السواقيا
ومن المتأخرين المعاصرين الذين ستذكر آراؤهم (ابن عاشور, والشنقيطي, وصاحب الظلال) لتميزهم كما سيأتي.

وقبل أن أبدأ بالآية الأولى أنبه إلى أربعة أمور:
الأول:
بالنسبة للمفسرين المعاصرين الثلاثة لا يخفى وزنهم وتأثيرهم في بيان الراجح في المراد بالآية.
أما ابن عاشور فقد وهبه الله سعة في العلم وتحقيقاً وتدقيقاً وعمقاً يعلم ذلك من قرأ في تفسيره على أن له آراء غريبة ضعيفة انفرد بها عن بقية المفسرين.

وأما الشنقيطي فلا يخفى على من قرأ في تفسيره ما فيه من تحرير وتحقيق في مسائل كثيرة مما اختلف فيه المفسرون وإن كان تفسيره لا يحوي كل ما اختُلِف فيه من التفسير.

وأما صاحب الظلال فنَعَمْ هو لا يذكر خلاف المفسرين بل يقتصر على بيان ما يراه الصواب في الآية, لكن من سبر آراءه وفهمه للآيات وما ينثره في ظلالها يدرك ما لاختياره من وزن وقرب للصواب في أحيان كثيرة.

الثاني: المفسر قد يدمج بين القولين وقد يفهم منه أنه يذكر قولين وهما في الحقيقة قول واحد, وقد يشير إلى أحد الأقوال مجرد إشارة وقد يكون كلامه غامضاً محتملا يحتاج إلى تأمل وغير ذلك من أحوال المفسرين, ولهذا لا بد من تمحيص الأقوال وتأملها وتصفيتها وهذا ما أحاول القيام بما أستطيع منه.

الثالث: هذا العمل المتواضع يفيد في تصور الأقوال ومن قال بها ومن انفرد بالقول أو اقتصر عليه ولم يذكر غيره ومن رجحه ومن ضعفه وغير ذلك, فهو يمثل خريطة صافية مختصرة تسهل على القارئ تصور الخلاف بكل تفاصيله عن المفسرين, ولا أدعي الاتقان ولا ما يقاربه, فما أسرع النقص إلى أعمال البشر.
ولكنه جهد لا يخلو من فائدة إن شاء الله.

الرابع: في نهاية الكلام على تفسير كل آية سأذكر إن شاء الله فهرساً للآيات التي سبق تفسيرها حتى يسهل الرجوع إليها, فيكتب في البحث مثلا (النوال... الآية أو رقمها في الفهرس)

والآن إلى ذكر الخلاف في الآية.
قوله تعالى: (وأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)
القول الراجح أن الذي أسرُّوه بضاعة وشروه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين هم السيارة, وهذا واضح جداً في سياق الآيات, ولا يصح القول بأنهم إخوة يوسف.
ومما يدل على ذلك قوله بعد أن ذكر أنهم (شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ): (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ).
فالذين أسرُّوه بضاعة وباعوه هم الذين باعوه في مصر, وهم الرفقة السيارة, وهذا واضح جداً.

والآن أذكر الخلاف في الآية.
قوله: (وأسرُّوه) أي: أخفوه وكتموا أمره.
وقد اختلف المفسرون في الذين أسرُّوه منهم على ثلاثة أقوال:
الأول: أنهم إخوة يوسف كتموا حقيقة أمره وادعوا أنه عبد لهم آبق.

الثاني: أنهم الوارد وأصحابه الذين ذهبوا إلى البئر أخفوه عن بقية السيارة حتى لا يشاركوهم فيه.
(ذكر القولين دون ترجيح البغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن كثير*) (ورجح القول الثاني الطبري*, والرازي*)

الثالث: أنهم الرفقة السيارة أخفوه حقيقة حتى لا يراه أحد, أو أخفوا وكتموا حقيقة أمره وشأنه وأنهم وجدوه في البئر.
(اقتصر عليه ابن عاشور*, وصاحب الظلال*) وهذا هو القول الراجح.
والغريب أن البقية لم يذكروا هذا القول مع أنه هو القول الأقوى.

قال ابن عاشور: الضمير للسيارة لا محالة، أي أخفوا خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردى في الجب، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم... ولذلك كان قوله: {وَأَسَرُّوهُ} بأن يوسف أخبرهم بقصته، فأعرضوا عن ذلك طمعاً في أن يبيعوه.

وقوله تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)
(شروه) أي: باعوه.
واختلف المفسرون في الذين باعوه من هم كما اختلفوا في قوله: (وأسرُّوه بضاعة)
القول الأول: أنهم إخوة يوسف باعوه على الرفقة السيارة.
(ذكره الزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*) (واقتصر عليه البغوي*, والقرطبي*) (ورجحه الطبري*, وابن كثير*)

تنبيه:
الزمخشري حين ذكر هذا القول جوز أن يكون (شروه) بمعنى (اشتروه).
فقال: "يجوز أن يكون معنى وشروه واشتروه، يعنى الرفقة من إخوته وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم اعتقدوا أنه آبق".
لكن ابن عاشور قال: "ومن فسر (شروه) باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله: (وكانوا فيه من الزاهدين). وما ادّعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وهم إذ لا دليل يدل عليه"اهـ

وابن جرير رحمه الله رجح قوله بقول مرجوح من الأصل فقال: "وذلك أن الله عز وجل قد أخبر عن الذين اشتروه أنهم أسروا شراء يوسف من أصحابهم خيفة أن يستشركوهم بادعائهم أنه بضاعة, ولم يقولوا ذلك إلا رغبة فيه أن يخلص لهم دونهم، واسترخاصاً لثمنه الذي ابتاعوه به، ولو كان مبتاعوه من إخوته فيه من الزاهدين لم يكن لقيلهم لرفقائهم: هو بضاعة معنى ولا كان لشرائهم إياه وهم فيه من الزاهدين وجه إلا أن يكونوا كانوا مغلوباً على عقولهم, لأنه محال أن يشتري صحيح العقل ما هو فيه زاهد من غير إكراه مكره له عليه، ثم يكذب في أمره الناس بأن يقول: هو بضاعة لم أشتره مع زهده فيه, بل هذا القول من قول من هو بسلعته ضنين لنفاستها عنده، ولما يرجو من نفيس الثمن لها وفضل الربح".
وكذلك قال ابن كثير: "لأن السيارة استبشروا به وأسرُّوه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه".

والحقيقة أن الذين أسرُّوه بضاعة ليس هو الرجل الذي أرسل ليرد لهم الماء, وإنما هم القافلة السيارة أنفسهم, وهم ما اشتروه إنما التقطوه فلذلك باعوه بثمن بخس وكانوا زاهدين فيه.
فإن الوارد الذي أرسل إلى الماء واحد وليس جماعة, والذي قال: (يا بشرى هذا غلام) واحد وهو الوارد نفسه فأحضره إلى جماعته فأسرُّوه بضاعة, ثم ساروا به وباعوه في مصر بثمن بخس.
والآية تقول: (وأسرُّوه بضاعة) أي السيارة كلهم أخفوا حقيقته واعتبروه بضاعة وباعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين.
وأما إخوة يوسف فانتهى دورهم حين ألقوه في البئر.

القول الثاني: أنهم الوارد ومن معه (ذكره ابن عطية*, والرازي*)

القول الثالث: أنهم الرفقة السيارة أسرُّوه بضاعة ثم باعوه في مصر.
(ذكره الطبري*, والزمخشري*, وابن كثير*) (واقتصر عليه ابن عاشور*, وصاحب الظلال*)
وهذا القول هو القول الصحيح.
فقوله تعالى: (وأسرُّوه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين)
الضمائر في قوله: (وأسرُّوه) و(شروه) و(كانوا فيه من الزاهدين) كلها تعود إلى القوم السيارة أصحاب القافلة, وهو القول الصحيح الواضح.
قال الطاهر بن عاشور: ضمائر الجمع كلها للسيارة على أصح التفاسير.
فمعنى الآية أن أصحاب القافلة حين التقطوا يوسف من البئر اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقاً وباعوه بثمن قليل وكانوا فيه زاهدين لأنهم لا يعلمون حقيقة أمره, ولأنهم يريدون التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه.

وقوله: (وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) الضمير أيضاً يعود على السيارة, فإنهم إنما باعوه بثمن بخس لزهدهم فيه. هذا هو القول الصواب.(اقتصر عليه الزمخشري*, وابن عاشور*, وصاحب الظلال*)
وذكر بعض المفسرين احتمالاً آخر أن الضمير يعود على إخوة يوسف. (رجح هذا القول ابن عطية*) (ورجحه ابن كثير*, واقتصر عليه) (واقتصر عليه ابن جرير*, والبغوي*) (وذكر القولين الرازي*, والقرطبي*)
وهذا القول مرجوح بناء على سبق ترجيحه, فالضمائر في (أَسَرُّوهُ) و(شَرَوْهُ) و(كَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) كلها للرفقة السيارة.
 
بارك الله فيكم يا شيخ صالح ونفع بعلمكم ...

سلسلة علمية مباركة - إن شاء الله- ننتفع بها جميعاً وتثير النقاش العلمي الهادف بإذن الله ..

وأقترح عليكم إضافة كتاب (تأويلات أهل السنة) للماتريدي، وجامع البيان للإيجي ضمن مصادر الموازنة مع كتب التفسير التي ذكرتم.
 
حياكم الله فضيلة الدكتور عبد الرحمن.
جزاكم الله خيراً ومنكم إن شاء الله نستفيد.
اقتراح موفق جميل.
ولكن أخشى أن تزدحم أسماء المفسرين, فلعلي أكتفي بإضافة أبي منصور الماتريدي فهو متقدم جداً توفي في أوائل القرن الرابع وتفسيره كبير جليل.
وله عناية بالخلاف والأقوال والترجيح.
ونعفي الإيجي فهو متأخر جداً توفي في أول القرن العاشر.
ولا شك أنه تفسير قيم محكم لكنه مختصر في الجملة ولا يعتني بالترجيح والمناقشة وإن كان يذكر الأقوال.
وفقكم الله ورزقنا وإياكم العلم النافع والعمل به.

والماتردي في هذه الآية ذكر أن الجمهور ذهبوا إلى أن الذين أسروه وباعوه وكانوا فيه من الزاهدين هم إخوة يوسف.
ولكنه رجح القول الذي رجحته وهو أنهم الرفقة السيارة.
 
جزاكم الله تعالى خيرا الشيخ الفاضل صالح الراجحي موضوعكم مهم جدا يسر الله تعالى لكم ونفع بكم .
 
السلام عليكم
شيخنا الفاضل
موضوعكم شائق رائق جليل واسمح لي أن ألفت نظركم لأمرين:
الأول: إنكم اخترتم الزمخشري رحمه الله وتركتم تفسير أبي السعود رغم أن الزمخشري أخذ كثيرا عن أبي السعود رحمه الله، وإن كان الكشاف جليل أشهر، فإن الإرشاد أجل وإن جاء بعد الكشاف شهرة.
الثاني: أين فتح الشوكاني من شيوخ التفسير الذين اخترتهم وهو جامع شامل.
والأمر إليكم
سددكم الله ونفع الله بكم وأدام نفعكم أبدا
 

الأول: إنكم اخترتم الزمخشري رحمه الله وتركتم تفسير أبي السعود رغم أن الزمخشري أخذ كثيرا عن أبي السعود رحمه الله، وإن كان الكشاف جليل أشهر، فإن الإرشاد أجل وإن جاء بعد الكشاف شهرة.

لعلك وهمت في التواريخ يا دكتور محمد حفظكم الله ، فالكشاف أسبق حيث توفي الزمخشري كما تعلمون عام 538هـ في حين توفي أبو السعود العمادي 982هـ فهو الذي أخذ عن الزمخشري وهذب تفسيره وزاد أشياء كذلك.
 
نعم هو ذا دكتورنا الفاضل جزاكم الله خيرا، فقد ألبس على عقلي في ذلك تلبيسا غفر لي ولكم
وجزاكم الله عنا خيرا
 
عودة
أعلى