النوال... (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) (3)

إنضم
15/04/2018
المشاركات
322
مستوى التفاعل
12
النقاط
18
الإقامة
السعودية
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (3)

قال الله تعالى في سورة الرعد: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)
وفي سورة لقمان قال: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)

القول الصحيح في المراد بالآية أن الله رفع السماء بغير عمد كما نراها بكل وضوح.

والآن إلى تفصيل خلاف المفسرين في هذه الآية.
في قوله: (بغير عمد ترونها) قولان:
القول الأول: أن السماوات مرفوعة بعمد ولكنها غير مرئية, فالضمير في (ترونها) يعود للعمد, أي : بلا عمد مرئية, بل بعمد غير مرئية . (مال إلى هذا القول الماتريدي* كما سيأتي)

القول الثاني: مرفوعة بغير عمد, فالضمير يعود للسماء, فمعنى (بغير عمد ترونها) أي: بلا عمد كما ترونها.
كما تقول لصاحبك: أنا بغير سيف ولا رمح تراني.
وهذا القول هو الصحيح.
(رجح هذا القول ابن عطية*, والبغوي*, وابن كثير*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه ابن عاشور*, وصاحب الظلال*) (وذكر القولين دون ترجيح الزمخشري*, والقرطبي*)

قال ابن عطية: "وهذا قول الحسن والناس".
وقال: "هذا المعنى أصح والجمهور عليه أنه لا عمد للسماوات البتة".

ومال الماتريدي إلى القول الأول كما أشرت, فإنه قال في سورة الرعد: "ولكن اللطف والأعجوبة بما يمسكها بعمد لا ترى, كاللطف والأعجوبة فيما يمسكها بغير عمد, لأن في الشاهد لم يعرف ولا قدر على رفع سقف فيه سعة وبعد بغير عمد لا ترى، لكن ما يرفع إنما يرفع بعمد ترى, فاللطف في هذا كاللطف في الآخر".

وقال في سورة لقمان: "لكن الأعجوبة فيما خلقها بعمد لا ترونها ليست بدون الأعجوبة في خلقها بلا عمد, لأن رفع مثلها بعمد لا ترى أعظم في اللطف والقدرة من رفعها بلا عمد, إذ العمد لو كانت مقدار الريشة أو الشعرة ترى، فرفعها مع ثقلها وعظمها وغلظها على عمد لا ترى هو ألطف من ذلك وأعظم في الأعجوبة".

قلت: بل الأعجوبة في رفعها بلا عمد أعظم من رفعها بعمد لا ترى خلاف ما ذكر الماتريدي رحمه الله.
فالله تبارك وتعالى يريد أن يبين كمال قدرته برفع السماء بلا عمد, ولو كانت مرفوعة بعمد فليس فيه إلا أنها لا ترى, ويعني ذلك أن السماء تحتاج إلى عمد لئلا تقع على الأرض فأين قدرة الله!

(وذكر الرازي* القولين دون ترجيح, لكنه قال: وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل, ثم ذكر أن العمد التي لا ترى هو قدرة الله تعالى, قال: فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى).

وكذلك ذكر الزمخشري, فقال في تفسير سورة الفرقان: "يريد بغير عمد مرئية، وهو قدرته".
وقال في سورة لقمان: "بغير عمد مرئية، يعني: أنه عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته".

ولا تظن أن قول الزمخشري والرازي هو كقول الماتريدي, كلا, فعلى قول الماتريدي لها عمد لا ترى, وعلى قول الزمخشري والرازي ليس لها عمد لكنه وصف القدرة بعمد لا ترى.
وكلا القولين بعيد.

وأما ابن جرير* رحمه الله فترجيحه غامض, فهو كالمتوقف.
فهو يقول: "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى:(الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها) فهي مرفوعة بغير عمد نراها، كما قال ربنا جل ثناؤه, ولا خبر بغير ذلك".

قال ابن كثير رحمه الله: "وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد, وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق. والظاهر من قوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} فعلى هذا يكون قوله: {ترونها} تأكيدا لنفي ذلك، أي: هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها. هذا هو الأكمل في القدرة".

وقال ابن عاشور: "وجملة {تَرَوْنَهَا} في موضع الحال من {السَّمَاوَاتِ} ، أي لا شبهة في كونها بغير عمد".

وقال الشنقيطي: "وهذا القول يدل عليه تصريحه تعالى في سورة «الحج» أنه هو الذي يمسكها أن تقع على الأرض في قوله : (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه)".

الفهرس
النوال... (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (1)
النوال... (إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) (2)
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الترجيح: هو في اللغة يدل على الرزانة والزيادة، وفي اصطلاح الأصوليين: تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لدليل.
قال تعالى{ (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)}
قال ابن عطيه: وقوله تعالى : { بغير عمد ترونها } يحتمل أن يعود الضمير على { السماوات } فيكون المعنى أن السماء بغير عمد وأنها ترى كذلك ، وهذا قول الحسن والناس ، و { ترونها } على هذا القول في موضع نصب على الحال ، ويحتمل أن يعود الضمير على « العمد » فيكون { ترونها } صفة للعمد في موضع خفض ، ويكون المعنى أن السماء لها عمد لكن غير مرئية قاله مجاهد وقتادة ونحا إليه ابن عباس ، والمعنى الأول أصح والجمهور عليه ، ويجوز أن تكون { ترونها } في موضع رفع على القطع ولا عمد .
ونظير هذه الآية قوله تعالى{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}
انتهى
أجد والله أعلم أن الراجح عند الجمهور يؤيده مجرد النظر وعود الضمير على الأبعد (السماوات) والراجح عند الخلف يؤيده التجريب وعود الضمير على الأقرب (العمد) وهو مقصود لمراعاة المخاطبين ومعطياتهم وهذا بلا شك موطن من مواطن الإعجاز البياني.
فالترجيح نسبي ،
ولا غنى عن أحدهما بالآخر فالأول يلزم الحجة لعامة الناس والثاني لخاصتهم في عصر العلم.
هذا والله أعلم
 
كل الأقوال في الآية دالةٌ على عظمة الله وكمال قدرته وقيوميته، والجزم بأحدها فيها تكلف لعدم المرجح القاطع، فكونها بغير عُمُدٍ مطلقاً كما رجح أكثر المفسرين يدل على قدرة الله الباهرة بأنه هو الذي يمسكها بقدرته وأمره النافذ.
وكذلك القول الثاني أن لها أعمدةً خلقها الله لتمسك السماء، لكنها غير مرئية للبشر، فهذا وارد، والماتريدي عندما قدَّم هذا القول وذكر وجه مزيته، أراد أنَّ قدرة الله هنا شملت الأمرين :
- أمر إمساك السماء بقدرته لا بقدرة الأعمدة فقط، وهذا القول لا يجادل فيه حتى الذين يقولون بالقول الأول، أن الأعمدة لو وجدت فلا يعني ذلك أنها هي فقط التي تمسك السماء وحدها، بل بقدرة الله، وخلقه لهذه الأعمدة.
- أمر إخفاء هذه الأعمدة عن أعيننا، وهذه الأعمدة لا بد أن تكون عظيمةً جداً لأنها تمسك جرماً عظيماً وهي السموات، وإخفاء مثل ذلك عجيب.
فكأنه يقول إن هذا الاختيار أدل على قدرة الله من كونها بلا أعمدة.

وترك القولين في دائرة الاحتمال، هو الأكمل في فهم هذه الآية من وجهة نظري، لأسباب :
1- عدم وجود المرجح القاطع.
2- احتمال الآية وتعبيرها للأقوال التي قيلت في تفسيرها.
3- لعدم الحاجة للقطع بالترجيح في ذلك، فلا يترتب على ذلك حكمٌ شرعي يجب على المرء اعتقاده أو العمل به.
وأحسب أن الظن بأنه يجب الترجيح والاختيار في كل آية قرآنية ليس بصحيح ولا علمي، فهناك آيات كثيرة وقع فيها الاختلاف من أمثال هذه الآية، والأمر فيها واسع لطبيعة المسألة، لا لتقصير من المفسرين في بيانها.
وجزاك الله خيراً ونفع بعلمك.
 
أحسنتم فضيلة الدكتور وفقكم الله ونفع بفهمكم وحكمتكم.
كلام ثمين نافع في كبح جماح العجلة والاعتداد بالرأي والجزم وتفخيم العبارات.
فجزاكم الله خير الجزاء.

واسمح لي أن أبين رأيي حول مسألة الترجيح في مسائل الخلاف في فهم الآيات المختلف فيها اختلافاً متضاداً كهذه الآية ومثلها كثير.

غالب الظن أن الله تبارك وتعالى لا يريد أن نفهم أن الأمر يحتمل كذا ويحتمل كذا, بل الأصل أن الله يريد أن يبين لنا أمراً معيناً جلياً واضحاً.
وخفاء هذا الأمر على بعض المفسرين لا يلزم منه أن تبقى كل الأمة تطلق الاحتمالات في فهم كلام الله بدون قيد مع وجود قرائن واضحة تؤيد أحد القولين من أجل تعدد الآراء ووجود احتمالات غير متكافئة في فهم المفسر والمتأمل.

وعلى سبيل المثال هذه الآية إذا قلنا يحتمل أن لها أعمدة ويحتمل أنه ليس لها أعمدة ومنعنا الترجيح من أجل وجود الاحتمال فما الذي أراد الله أن يبين لعباده.
هل أراد أنهم يبقون في محيط من الشك لا يدرون هل هي بأعمدة أو بدون أعمدة.
هذا بعيد.
ليس من العادة أن يستدل الله بعظمته وقدرته على أشياء لا ترى!
بل بأشياء ترى بكل وضوح لكل الناس كالليل والنهار والشمس والقمر والسحاب ونزول المطر والرياح والجبال والبحار والأنهار والدواب ورفع السماء بلا عمد كما نراها.
فيبعد جداً أن يريد الله بيان عظمته وقدرته للكفار ولكل الناس بوجود أعمدة للسماء لا ترى.
بل يستدل بوجود سماء لا أعمدة لها يرونها عياناً فيعلموا قدرة الله يقيناً.

حين يختلف المفسرون مثلاً في قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)
ويكون المعنى الراجح أنه أهون عليه في نظر المخلوقين وتقديرهم, فخاطب الناس بحسب إدراكهم، ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته.
فيأتي قول من الأقوال أنها على ظاهرها, أي: وهو أيسر عليه, وكل عليه هين. (ذكر هذا القول ابن جرير, والرازي, وابن كثير)
هل يعني هذا أن نعتمد هذا القول ونقول يبقى الأمر محتملاً.

وإذا أراد أن يتدبر كلام الله فكلما أتى على آية تنازع فيها أهل التفسير تزاحمت الآراء في رأسه فلا يدري ما المراد ولا يميل إلى رأي فيتجاوز الآية وفي معناها قتام وقلق وغموض واحتمالات, فكيف ينتفع بالقرآن.

وما زال أئمة التفسير يرجحون ويصححون في مسائل الخلاف المحتملة متى لاح لهم ما يرون أنه الأصوب, وأحياناً بعبارات صارمة في التصحيح والتضعيف يفعل هذا ابن جرير وكثير ممن أتى بعده من أئمة التفسير من المتقدمين والمتأخرين.

بل حتى المفسرون من السلف الذين حفظت أقوالهم في التفسير الذين ينقل عنهم ابن جرير وغيره بالسند كبعض الصحابة والتابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل ابن حيان وغيرهم.
يندر أن تراهم يطلقون الاحتمالات في تفسير الآيات, بل يجزمون بالآراء.

وهؤلاء وأولئك هم القدوة لكل طالب علم أن يشارك في التأمل والتفهم وموازنة الآراء واختيار ما يؤيده الدليل منها.

واختلاف الفهوم ووجود آراء تدل الأدلة والقرائن على عدم قوتها لا يعني أن تجعل هذه الآراء في مصاف الآراء القوية المنيرة المتسلحة بالدليل والحجج العقلية.

لا يخفى على أي طالب علم وجود كم كثير من الآراء الضعيفة في التفاسير.
وإذا بقي طلبة العلم لا يتعدى دورهم تعداد الأقوال والاحتمالات والتهيب من تقوية بعضها وتضعيف بعضها بقيت هذه الآراء الضعيفة تزاحم الأقوال الراجحة وتحجب جمالها ونصاعتها.

هذا ما أميل إليه والعلم عند الله.
وما ذكرتم أيضاً من الرأي له وزنه وفيه حكمة وعمق ورزانة, نفعنا الله بعلمكم وتوجيهكم وتقويمكم.
وجزاكم الله خيراً كثيراً.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم فضيلة الدكتور وجزاك خيرا علي هذا المرور النافع.
ما قصدته هو الجمع بين القولين ويبدو أنني لم أوفق.

 
زادكم الله بصيرة وعلماً يا فضيلة الشيخ صالح ونفع بعلمكم .
كم أنا سعيدٌ بك، وبما تكتبه، ومسرورٌ لنشاطك، ومغتبطٌ بما تكتبه في الملتقى عموماً، وألمس فيما تكتبه جداً ورغبةً في الوصول لعلم وفهم أقرب للصواب، وهذا اجتهادٌ يثلج الصدر، لا سيما أنك تغلفه بحسن عبارتك، وجمال لفظك، ولا تجرح في طريقك أحداً.
غير أننا نحرص بقدر استطاعتنا في النقاش العلمي أن نعرض أفكارنا ووجهات نظرنا رغبةً في التعلم من بعضنا، وتعظيم الاستفادة من هذا الملتقى الذي أتاحه الله لنا ويسره فنحمده ونشكره.
وما تفضلتم به هو سبيل أهل العلم، وحياة العلم بمذاكرته ومدارسته، وتقليب وجهات الرأي في مسائله، لتتضح الأمور، وتنكشف المخبئات من الفرائد، تماماً كالذهب عند عرضه على النار لتنفي ما علق به مما ليس منه.
وما ذهبتم إليه رأي حكيم، ومنهج علمي مشكور، ولستُ إلا مجرد مستفيد، أرغب في التعاون معكم للوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة.

ولعلي أقترح فكرة في هذا الموضوع للمدارسة، وهي تأمل مسائل الاختلاف بين المفسرين، وتصنيف المسائل تصنيفاً موضوعياً.
فمثلاً يمكن تصنيفها إلى :
- مسائل يجب الترجيح فيها لأسباب علمية موضوعية كارتباط الترجيح بحكم شرعي لا بد من الأخذ به مثلاً، ونحو ذلك.
- مسائل يستوي الترجيح فيها وعدمه لعدم ترتب عمل على الترجيح أو اعتقاد.
ويمكن التأمل في هذا الأمر والخروج بتصنيف مفيد في هذا الأمر وترتيب مسائل البحث على هذا الأساس من التصنيف.
ولعل بعض من كتب في ترجيحات العلماء قد كتبوا في هذه النقطة ولم أطلع عليها وفقكم الله لكل خير.
 
جزاكم الله خيراً فضيلة الشيخ ونفع بكم.
وأنا سعيد جداً باقتراحاتكم وتوجيهاتكم وما أقتبسه من علمكم وحنكتكم وخبرتكم وسداد آرائكم.
أدام الله علينا نعمة الانتفاع بأمثالكم.
حفظكم وسلمكم.
 
عودة
أعلى