النقد اللغوي ونقده .. نموذج للتفكير اللغوي

إنضم
22/03/2012
المشاركات
288
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
القاهرة
(1)
قرأت هذا البحث غير القصير الذي يحتاج إلى صبر على قراءته تعليقا على قول الشاعر:
أجاعل أنت بيقورا مسلعة * ذريعة لك بين الله والمطر​
قرأت ذلك في "رسالة الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية" للشيخ محمد بخيت المطيعي، ص81-98، مطبعة النيل بمصر، 1324هـ- فرأيت فيه نموذجا للتفكير النقدي اللغوي، فأردت إثراء الإخوة والأخوات فأوردته.
(2)
أقول: نص عبارة القاموس على ما في بعض النسخ هكذا، والتسليع في الجاهلية كانوا إذا سنتوا علقوا السلع مع العشر بثيران الوحش وحدروها من الجبال، وشعلوا في ذلك السلع والعشر النار يستمطرون بذلك. وقول الجوهري: بذنابى البقر- غلط، والصواب بأذناب. والبيت الذي استشهد به فيه تسعة أغلاط. اهـ. وقد استشكل من هذه العبارة أمران: أحدهما- وجه غلط ذنابى، والثاني اشتمال البيت على هذه العدة من الأغلاط فقيل في الأول: إن ذنابى إما جمع لذنب فالغلط في الجمعية؛ لأن فعل بالتحريك جمعه أفعال لا فعالي كقتب وأقتاب وسلب وأسلاب، وإما أن يكون اسم جنس لعقب كل شيء على ما في بعض كتب اللغة. وفي القاموس: الذنابى والذنبي بعضها والذنبي بالكسر الذنب، فالغلط في الحكاية. وبيان التسليع؛ لأنهم لم يكونوا يعلقون السلع بالأعقاب بل بالأذناب. قال الألوسي: ولعل العبارة أظهر في الشق الأول. اهـ. وأقول: قال الشيخ عبد القادر البغدادي في شرح شواهد المغني: وقال الجوهري: والسلع بالتحريك ومنه المسلعة؛ لأنهم كانوا في الجدب يعلقون شيئا من هذا الشجر ومن العشر بأذناب البقر ثم يضرمون فيها النار وهم يصعدونها بالجبل، فيمطرون. زعموا. قال الشاعر: أجاعل أنت ... البيت اهـ. ونقلته من نسخة صحيحة جدا وفي هامشها: قال ياقوت الموصلي: كان في الأصل بذنابى البقر، وقد أصلح من خط أبي زكريا بأذناب البقر، وهو الصواب؛ لأن الذنابى واحد. وفي هامش آخر: قال أبو سهل: قوله: بذنابى البقر- خطأ، والصواب بأذناب البقر؛ لأن الذنابى واحد مثل الذنب. اهـ. وقد تبعهما صاحب القاموس، فقال: وقول الجوهري: علقوا بذنابى البقر- غلط، والصواب بأذناب. اهـ.
وأقول: الغلط منهم لا منه؛ فإن غاية ما فيه التعبير بالواحد عن الجمع وهو سائغ شائع، قال الله تعالى: "سيهزم الجمع ويولون الدابري" الأدبار. وأما غلطهم فبجهلهم بصحة ذلك، وزعمهم أنه خطأ. على أن نسخ الصحاح غالبا كما نقلنا ولو كان فيها ذنابى كما زعموا لنبه عليها أبو محمد عبد الله البدري في أماليه على الصحاح، والصاغاني في العباب والصلاح الصفدي في كتابه "نفوذ السهم فيما وقع في صحاح الجوهري من الخطأ والوهم". ولم ينبه أحد منهم على ذلك، وهو دليل على أنه لم يقع في نسخهم ذنابى. اهـ.
وبذلك تعلم أن الشق الأول غير مراد، ولم يقل أحد منهم: إنه جمع، فضلا عن أن يكون أظهر. قال الألوسي: وقد اختلفوا في الثاني فقيل: لا غلط في البيت، وإن كانت العرب قد تغلط في كلامها. وقد عقد ابن جني في الخصائص بابا لأغلاطها، وذكر الجلال السيوطي في آخر المزهر كثيرا منها. وقيل: فيه غلط، لكن لا تبلغ أغلاطه تسعة. وقيل فيه ذلك. اهـ. وقال الشيخ عبد القادر البغدادي في شرحه المذكور: ثم إن في بعض نسخ القاموس زيادة على هذا الاعتراض، وهي "وفي البيت الذي استشهد به تسعة أغلاط". اهـ.
وعندي نسختان من القاموس وما فيهما شيء من هذا، والذي أجزم به أن هذه الزيادة ليست لصاحب القاموس بل هي مدرجة فيه لوجهين: أحدهما أن قائل الشعر عربي قح من بني مازن الطائي، وهو شاعر إسلامي قديم. وأظن أنه مخضرم ونسبه إليه صاحب العباب كما نقلنا وكذا نسبه إليه ابن بري. قال: والبيت الذي أنشده وداك الطائي وقبله: لا در در رجال خاب سعيهم ... البيت. وقال صاحب العباب: الودك اسم اللحم، والوداك الذي يبيع الودك. ووداك بن شميل المازني الطائي شاعر. اهـ. وشميل بضم المثلثة وفتح الميم وسكون المثناة التحتية، ومعلوم أن العربي الصريح لا يجوز أن ينسب إليه الغلط في الألفاظ، وإنما يجوز غلطه فيما يتعلق بالمعنى. يقال: غلط في منطقه غلطا من باب فرح- إذا أخطأ وجه الصواب. والوجه الثاني أن هذه الزيادة لو كانت لصاحب القاموس لبين وجوه الأغلاط إجمالا أو أحال بيانها على كتاب كما هو المعتاد في إطلاق مثله عند العلماء، وإلا كان نوعا من التكليف بعلم الغيب. اهـ.
وقال الألوسي في عد الأغلاط التسعة: الأول- إدخال الهمزة على غير محل الإنكار، والواجب إدخالها على المسلعة؛ لأنها محل الإنكار. والثاني- تقديم المسند الذي هو خلاف الأصل، فلا يرتكب إلا لسبب ولا سبب، فكان الواجب تقديم المسلعة وإدخال الهمزة عليه. والثالث- أن ترتيب البيت على ما قبله وهو قوله:
لا در در أناس خاب سعيهم * سيمطرون لدى الأزمات بالعشر
يقتضي أن القائل قصد الالتفات من الغيبة إلى الخطاب قطعا، وأنه بعد ما حكى لهم حالهم الشنيعة التفت إلى خطابهم ومواجهتهم بالتوبيخ حتى كأنهم يسمعون، وحينئذ فقد أخطأ في إيراد أحد اللفظين بالجمع والآخر بالإفراد. ولا شك أن شرط الالتفات الاتحاد.
والرابع- أن الجاعلين هم العرب الجاهلية الذين حكي عنهم في البيت الأول فلا وجه لتخصيص واحد منهم بالإنكار دون البقية من غير التفات إلى الالتفات. والخامس- تنكير المسند؛ إذ لا وجه له مع تقدم العهد حيث علم أن مراده بـ "أجاعل" هم الناس المذكورون في البيت الأول فكيف ينكر المعهود، فكان من حق الكلام أمسلعة أنتم الجاعلون. والسادس- البيقور اسم جمع كما في القاموس، واسم الجمع وإن كان يذكر ويؤنث لكن نقل عن الرضى أنه قال في بحث العدد ما محصله أن اسم الجمع كان مختصا بجمع المذكر كالنفر والرهط والقوم؛ فإنهم بمعنى الرجال، فيعطى حكم المذكر في التذكير فيقال: تسعة رهط كما تقول: تسعة رجال. وإن كان مختصا بالمؤنث فيعطى حكم الإناث نحو ثلاث من المخاض؛ لأنها بمعنى الحوامل من النوق. وإن كان احتملهما كالخيل والإبل والغنم؛ فإنها تقع على الذكور والإناث؛ فإن نصصت على أحد المحتملين فالاعتبار به. اهـ. فقد صرح بأنها إذا استعملت مرادا بها الذكور تعطى حكم الذكور.
وقد نص صاحب القاموس وغيره على أنهم كانوا يعلقون السلع على الثيران، فبهذا الاعتبار لا يسوغ وصف البيقور بالمسلعة. السابع- إيراد المسلعة صفة جارية على موصوف مذكر، والذي يظهر من عبارة الصحاح أنها اسم للبقرة التي يعلق عليها السلع للاستمطار لا صفة محضة حيث قال: ومنه المسلعة ... إلخ، ولم يقل: ومنه البقرة المسلعة، وحينئذ لا يجري على موصوف. كما أن لفظ الركب اسم لركبان الإبل مشتق من الركوب، ولم يستعمل جاريا على موصوف فلا يقال: جاء رجال ركب، بل جاء ركب. الثامن- أن المنصوص عليه في كتب اللغة أن الذريعة بمعنى الوسيلة لا غير، وأن الوسيلة تستعمل متعدية بإلى. وقد استعمل الذريعة في البيت بدونها مع لفظ بين، وهو مخالف لوضعها واستعمالها في التعدية.
التاسع: أن قوله: بين الله والمطر- صوابه بينك وبين الله لأجل المطر؛ وذلك لأنهم كانوا يشعلون النيران في السلع والعشر المعلقة على الثيران لتجأر فيرحمها الله تعالى وينزل المطر لإطفائها منها. اهـ. ونسب هذا للفاضل عبد الرحمن العمادي.
ولا يخفى أن في عد كل مما ذكره مساهلة، ومن تأمل أدنى تأمل أجاب عن أكثر ذلك فتأمل. اهـ. وأجاب الشيخ عبد القادر في الشرح المار ذكره عن تلك الأغلاط، فقال عن الأول: وأقول: المنكر إنما هو فعلهم، وإنكار المسلعة إنما هو بالتبعية، والقاعدة أن يلي همزة الإنكار ما كان منكرا بالأصالة.
وقد أورد الثاني بلفظ أطول مما ذكر، فقال: الثاني تقديم المسند الذي هو خلاف الأصل، فلا يرتكب إلا لسبب من الأسباب. قال في المطول: وأما تقديم المسند فلتخصيصه بالمسند إليه أي لقصر المسند إليه على المسند؛ لأن معنى قولنا: قائم زيد- أنه مقصور على القيام لا يتجاوزه إلى القعود. ثم قال: أو للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر، والتفاؤل أو التشويق إلى ذكر المسند إليه، ولا يخفى عدم مناسبة شيء من هذه الوجوه في هذا المقام. ولا يخفى أن نفس جعل الذريعة إليه تعالى ليس منكرا بدليل "وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" وإنما المنكر المسلعة فكان الواجب تقديمها وإدخال الهمزة عليها، فيقول: أمسلعة أنت تجعل ذريعة ... إلخ. اهـ. وقال عنه: وأقول: أراد بالتقديم تقديم ما حقه التأخير بدليل المثال الذي أورده من المطول، وهذا سهو منه وغفلة؛ فإن تقديم جاعل بحق الرتبة؛ لأنه مبتدأ وأنت فاعل سد مسد الخبر؛ فاستدلاله بكلام المطول يبقى ضائعا، يعني فيكون كقوله تعالى: "أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي".
وقوله: إنما المنكر المسلعة ... إلخ- قد قدمنا أن إنكار المسلعة إنما نشأ من إنكار فعلهم، فالمنكر بالأصالة إنما هو فعلهم، وإنكار المسلعة إنما هو بالتبعية.
وقال جوابا عن الثالث: وأقول: الاتحاد موجود؛ فإن المخاطب من الذين يفعلون ذلك الفعل فإنه دعا عليهم أولا ثم خص واحدا منهم بالخطاب اهـ. يعني وهو واحد غير معين، فالمراد أي واحد منهم يصلح للخطاب، فكان مخاطبا للجميع معنى إلا أنه أفرد في هذا الخطاب؛ ليفيد أنه كأنه خاطب كل واحد خطابا مستقلا، وأن هذا الفعل المنكر بلغ من الشهرة إلى حد أنه يصح أن يخاطب به كل واحد لا أنه خاطب الكل جملة.
وقال عن الرابع: وأقول: يلزم عليه الإنكار عليهم؛ لأنه أحد الفاعلين ذلك. اهـ. يعني وهو واحد غير معين كما سبق، فيلزم من الإنكار عليه الإنكار على الجميع بأبلغ وجه وأحسنه. وقال عن الخامس: هذا مبني على أن المنكر هو المسلعة، وقد رددناه. وتنكير جاعل هو مقتضى المقام؛ فإن المخاطب أحد من يجعل ذلك، ولو عرفه لاقتضى الحصر فيه وهو باطل. اهـ.
يعني حيث كان مراد الشاعر خطاب واحد منهم لا بعينه؛ لما ذكرنا، فكان المقام مقتضيا للتنكير لا للتعريف. وقال عن السادس: وأقول: إن قال صاحب القاموس: يعلقون السلع على الثيران- فقد قال غيره: يجمعون ما يقدرون عليه من البقر، ثم يعقدون في أذنابها كما تقدم في كلام ابن الشجري. وقال الأزهري في التهذيب: أبو عبيد عن الأصمعي قال: كانت العرب في جاهليتها تأخذ حطب السلع والعشر في المجاعات وقحوط القطر، فتوقر ظهور البقر منها، ثم توقد النار فيها؛ يستمطرون بلهيب النار المشبه بسنا البرق. اهـ. وقال حمزة الأصبهاني في آخر أمثاله في خرافات العرب: زعموا أن لاستجلاب المطر إذا أمسكت حيلة، فكانوا يعمدون إلى البقر، فيعقدون في أذنابها السلع والعشر ثم يضرمون فيها النار في الجبل فيمطرون لوقتهم. زعموا. اهـ.
وقال عن السابع: وقد زاد فيه: وقال السيوطي في شرح شواهد المغني نقلا عن أئمة اللغة: إن المسلعة ثيران وحش علق عليها السلع. وأقول: والمسلعة صفة جارية على موصوف، ومراد صاحب الصحاح. ومنه البقرة المسلعة بدليل أنه لم يذكر أحد من أهل اللغة أنها اسم. والنقل عن السيوطي لا أصل له، وإنما قال: والمسلعة بقر علق فيه السلع. وقال عن الثامن وزاد فيه: وأما اللام في لك فإنها للاختصاص، فلا دخل لها في التعدية. اهـ. وأقول: نص الرضى وغيره أنه لا يلزم من كون كلمة بمعنى أخرى أن تتعدى بما تعدت به، ولم تعد الذريعة بحرف وإنما سمع تعدي الوسيلة، على أنه لا مانع من ترك الصلة إذا كان معنى الكلام ظاهرا.
وقال عن التاسع: وأقول: هذا تحجير في التوسع بطرق الكلام الجائزة ولا قائل به. اهـ.
قال الألوسي: وقد عد شيخنا علاء الدين الموصلي الأغلاط، فقال: الأول- إعمال الوصف في المفعولين مع أنه بمعنى الماضي؛ لأن الشاعر موبخ للجاهلي على هذا الصنع الذي وقع منه. والثاني- أن لام لك لا تصلح للتعليل ولا للملك بالبداهة ولا للتخصيص أيضا؛ لأن الجاهلي لم يجعل ذلك وسيلة له دون غيره، بل جعله إما وسيلة له ولغيره أو وسيلة مطلقا سواء كان له ولغيره أم لا. والثالث- زيادة لفظ بين في البين؛ إذ لم يجئ لفظا للفظ الذريعة في الاستعمال بل للفظ الواسطة، وإن كان كلاهما بمعنى واحد. والرابع- نقصان لفظ إلى أو ما في معناها؛ إذ ذاك من مقتضيات لفظ الذريعة، فكان ينبغي أن يقول: إلى الله وإلى المطر. والخامس- عطف المطر على لفظ الجلالة وجعل البينية نسبة بين الله تعالى المطر مع أنه على تقدير إبدال الذريعة بلفظ الوسيلة المقتضية لكلمة بين كان الصواب أن يقول: بينك وبين الله، أو بينك وبين المطر. والسادس- أن التوبيخ إما بناء على ظاهر حال الجاهلية مع عدم إسناد الأشياء كلها إلى الله تعالى، فيكون لفظ الجلالة مقحما. وإما بناء على حقيقة حالهم من إرجاع الأشياء كلها إلى الله عز وجل حقيقة، فيكون لفظ المطر زائدا. وعلى تقدير عدم الزيادة كان ينبغي أن يقول: للمطر، أي لأجله.
والسابع- أن المسلعة هي الثيران لا البقر كما حكاه صاحب القاموس، ومعلوم أن الثيران غير البقر. والثامن- أن وسيلة الجاهلية هو التسليع لا المسلع نفسه. والتاسع- أن الجعل بمعنى التصيير وإطلاق الذريعة على الوسيلة حقيقة؛ لا ما يظن أنها وسيلة. والجاهلية لم يجعلوا المسلعة الوسيلة بل زعموا أنها وسيلة، ولم تصر بذلك وسيلة في الحقيقة. اهـ. ويرد عليه نحو ما ورد على العمادي والحق أنه إن أريد بالغلط ما هو خلاف الصواب وليس جواب فكلام صاحب القاموس ليس بشيء، ولو أنه بين هاتيك الأغلاط لتبين الحي من اللي. وإن أريد بالغلط ما هو خلاف الأولى بناء على أنهم قد يطلقون الغلط عليه؛ لأنه غلط في نظر البليغ، فيمكن أن تسلم صحة ذلك الكلام. ولعله يستخرج من مجموع ما ذكرنا ما يسلم كونه غلطا بهذا المعنى ذوو الأفهام، فتأمل ذاك. والله تعالى يتولى هداك. اهـ.
ونقول عن الأول: إن أعمال الوصف في المفعولين إنما هو لاستحضار حالهم الشنيعة وفعلهم القبيح؛ فإن الشاعر لم يرد مجرد الإخبار عن فعلهم الماضي حتى يكون الوصف بمعنى الماضي، وإنما أراد إنكار فعلهم فاستحضره. والعبرة في إعمال اسم الفاعل إلى ملاحظة كونه مفيدا للحدث الحالي مثلا ولو باعتبار الاستحضار عند الإخبار، وإن كان هو في ذاته ماضيا. ومقتضى المقام عند إرادة الإنكار كما هو قصد الشاعر هو ما ذكرنا، لا مجرد الإخبار عن جعلهم فيما مضى. على أنه بعد اعتماد الوصف على همزة الاستفهام الإنكاري لا يصح الاعتماد على همزات مدعي الغلط.
وعن الثاني أنا نختار أن اللام للاختصاص وقوله: لأن الجاهلي لم يجعل التسليع ... إلخ- مسلم، ولا ينافي ذلك جعل اللام للاختصاص إلا لو كان الخطاب لشخص معين منهم، وأما إذا كان الخطاب لشخص غير معين منهم فلا ينافي جعله وسيلة له ولغيره أو وسيلة مطلقا.
وعن الثالث بأن عدم مجيء لفظ بين لفظا للفظ الذريعة في الاستعمال لا يمنع من الاستعمال، وإلا كان تحجيرا في التوسع في طرق الكلام الجائزة ولا قائل به خصوصا إذا اقتضاه الحال كما هنا، على أن هذا لا يرد إن سلمنا أن الذريعة بمعنى الواسطة التي جاء معها لفظا لفظ بين في الاستعمال. وعن الرابع بأنه لا مانع من ترك الصلة إذا كان معنى الكلام ظاهرا كما هنا، وقد تقدم. وعن الخامس- إن جعل البينية نسبة بين الله والمطر وعطف المطر على لفظ الجلالة لا مانع منه لغة، ولو منع من ذلك لكان تحجيرا كما قلنا. وعن السادس أننا نختار الأول، ولا يكون لفظ الجلالة زائدا؛ لأن الجاهلية وإن لم يسندوا الأشياء إلى الله ظاهرا، لكنهم يسندونها إليه حقيقة، وهذا يكفي في أن لفظ الجلالة ليس مقحما. قال تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ". ولنا أن نختار الثاني، ولا يكون لفظ المطر زائدا؛ لأنهم وإن كانوا يرجعون الأشياء كلها إلى الله حقيقة، لكن جعلوا صنيعهم ذريعة بين الله ليفعل وبين المطر ليحصل، ويترتب عليه الخصب وزوال الجدب؛ فالله تعالى هو الفاعل الحقيقي في زوال الجدب، والمطر هو الفاعل ظاهرا عندهم.
وعن السابع بما تقدم في الجواب عن السادس في أغلاط العمادي. وعن الثامن بأن وسيلة الجاهلية هي المسلعة، ولا نسلم أنها التسليع كما زعمه هذا القائل لما تقدم في التاسع من أغلاط العمادي أنهم كانوا يشعلون النار في السلع والعشر الملعقة على الثيران لتجأر فيرحمها الله وينزل المطر لإطفائها. وعن التاسع أن الجاهلية جعلوها ذريعة بحسب زعمهم وإن لم تصر بذلك وسيلة في الحقيقة، وهذا القدر يكفي في إطلاق الذريعة؛ إذ لا يلزم من جعلها وسيلة بحسب الزعم أن تكون كذلك بحسب الواقع.
وقال الشيخ عبد القادر البغدادي في شرح تلك الشواهد: ثم رأيت رسالة لبعض الأروام يقال له: صنع الله بن القاضي إبراهيم زعم فيها أنه حقق الأغلاط التسعة، وها أن أسردها عليك لتحيط بها علما. قال: اعلم أنه لما قال: يستمطرون لدى الأزمات بالعشر- كان مظنة أن يسأل عن كيفية الاستمطار، فالتأدية عما يجاب عنه تستدعي أن يكون بالجملة الفعلية على طريقة الاستئناف البياني فأبرز الكلام في موقع الاستئناف بصورة الالتفات، وأنت خبير بأن عدوله عن الجملة الفعلية الدالة على التجدد والحدوث إلى الجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبوت يكون غلطا؛ لأن من المعلوم أن التسليع لا يستمر استمرار الدوام والثبات، بل كان مما يحدث في وقت دون وقت، فالصواب إذا التأدية عن هذا المعنى بالجملة الفعلية دون الاسمية كما لا يخفى. على أن مراده يتم بدون الجعل بأن يقول مثلا: يسلعون ثيران الوحش بينهم، وغير ذلك. ثم إن البيقور إن كان اسم جنس كما قاله الجوهري كان حقه أن يوصف بالمذكر كتمر طيب، فعلى هذا تأنيث وصفه يكون غلطا، وفيه بحث؛ لأن اسم الجنس على ما قيل يجوز في وصفه التذكير نظرا إلى اللفظ والتأنيث نظرا إلى معنى. قال التفتازاني في أوائل التلويح: الكلم من الكلمة بمنزلة التمر من التمرة، يفرق بين الجنس وواحده بالتاء، واللفظ مفرد إلا أنه كثيرا ما سمي جمعا نظرا إلى المعنى الجنسي. ولاعتبار جانبي اللفظ والمعنى يجوز في وصفه التذكير والتأنيث، قال الله تعالى: "كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ" أي منقطع عن مغارسه ساقط على وجه الأرض، وقال تعالى: "كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ" أي متآكلة الأجواف. فعلى هذا وصفه بالمؤنث لا يكون غلطا، وأما إذا كان اسم جمع كما يقول الفيروزبادي: فيستدعي أن يوصف بالجمع البتة كما في قوله تعالى: "هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ"، فعلى هذا إفراد وصف البيقور يكون غلطا، والصواب حينئذ مسلعات. وهو بالنظر إلى الوصفية الأصلية وإلا لا يصح وقوع الاسم صفة، ومن المعلوم أن الجمع المصحح في ذوات ما لا يعقل بالألف والتاء كما أنه في ذوات العقلا بالواو والنون. ثم إن ذكر البيقور مع توصيفه بالمسلعة غلط آخر؛ إذ المسلعة اسم للبقر المسلع منقولة من الوصفية إلى الاسمية كالنطيحة للمنطوح والذبيحة للمذبوح والفاتحة والخاتمة، وفي مثله يستوي المذكر والمؤنث. ولا يكون جاريا على الموصوف والتاء علامة لكون الوصف اسما للغلبة، يؤيده قول الجوهري: ومنه المسلعة حيث لم يقل: ومنه البقر المسلعة. ولا يذهب عليك أن التاء لتأنيث الموصوف دون علامة النقل مع أن الموصوف مذكر، علم ذلك مما مر من قول صاحب القاموس: كانوا إذا أسنتوا علقوا السلع مع العشر بثيران الوحش وهي الذكور من البقر دون الإناث. وكذا ذكره السيوطي في شرح شواهد المغني نقلا عن أئمة اللغة أن المسلعة ثيران الوحش علق فيها السلع. ثم لا يلتبس أن تنكير بيقور غلط أيضا؛ لتقدم ذكره كناية في البيت السابق؛ إذ الاستمطار بالعشر لدى الأزمات إنما يكون يتسليع البقور، نظيره قوله تعالى: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى" بعد قوله تعالى: "رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا" على أن جعل من أفعال القلوب، وهي تغير المبتدأ والخبر لفظا بنصبهما ومعنى لتأثيرها في كلا الجزئين، وصار الذي كان خبرا مفعولا ثانيا، فلا يصح تنكير البيقور حينئذ؛ لكونه مبتدأ في الحقيقة. فإن قلت: أليس يمكن أن يجعل بيقور نكرة مخصصة بمسلعة حتى تصلح أن تقع مبتدأ، ويجعل ذريعة مفعولا ثانيا لجاعل- قلت: يلزم إذا أن تكون التاء لتأنيث الموصوف، وقد علمت أن موصوفها مذكر. ثم لا يخفى عليك أن الذريعة في اللغة الوسيلة يقال: تذرع فلان بذريعة، أي توسل. وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل، والذريعة مستعملة بإلى. قال السكاكي في الحال التي يقتضي كون المسند إليه موصولا: ربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم، وربما جعل ذريعة إلى شأن الخبر. فهاهنا التسليع وسيلة، والمطر متوسل إليه، والجاهليون هم المتوسلون. فعلى هذا ترك صلة الذريعة غلط، واستعمال ذريعة مفعولا له بدون اللام غلط؛ لأنه شرط في انتصابه أن يكون مصدرا وفعلا لفاعل الفعل ومقارنا في الوجود، ومتى فقد شيء من ذلك فاللام واجب. وأيضا إبدال اللام من بين في قوله لك غلط، وإيراد العطف في غير محله غلط. وإذا كان التسليع بينهم وسيلة إلى المطر وجب أن يقول على طريقتهم المثلى: اتسلع البيقور تذرعا إلى المطر بينك وبين الله.
والحاصل أن أول الأغلاط التسعة فيه العدول عن حق الكلام الذي هو الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية، ثانيها تنكير ما حقه التعريف، ثالثها ذكر ما لزم تركه عرفا، رابعها إفراد ما لزم جمعه، خامسها تأخير ما حقه التقديم، سادسها إجراء بعض الأسما على الموصوف، سابعها ترك الصلة رأسا، ثامنها إبدال ما لا يصلح للإبدال، تاسعها إيراد حرف العطف في غير محله.
هذا غاية ما أمكن لنا في التقصي عن الأغلاط، وللباحث عنها مجال أن يمنع كل واحد منها، ويلاحظ فيها وجوها أخر. هذا آخر كلامه، ومن خط نقلت: وعرف ردها مما قد قدمناه.
وقوله: ترك الصلة غلط- لم يقل به أحد، وقوله: ذريعة مفعول له- سهو وغفلة؛ فإنه المفعول الثاني لجاعل كما قدمه هو. اهـ.
ومما أوضحنا لك تعلم ما قيل في تلك الأغلاط وردها، وأن الذي يغلب على الظن أن نسبتها إلى القاموس غلط؛ ولذا لم يذكرها صاحب الوشاح الذي ألفه بقصد المحاكمة بين القاموس والصحاح. ولو كانت هذه العبارة في القاموس ما ساغ له تركها، وما تركها.
 
عودة
أعلى