النظريات اللغوية المعاصرة وموقفها من العربية.. للدكتور عبده الراجحي

إنضم
12/11/2011
المشاركات
99
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
الإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم
النظريات اللغوية المعاصرة وموقفها من العربية
[محاضرة ألقيت في النادي الأدبي بالرياض، يوم الثلاثاء الموافق 24 - 4 -
1408 هـ ، ونشرت في مجلة )ثقافة اليوم ( بالرياض، العدد 7123، السنة الرابعة
والعشرون، الخميس 4 جمادى الأولى 1408 هـ، 24 ديسمبر 1987م]
قد يكون مفيداً أن نوضح عناصر هذا العنوان؛ أما النظريات اللغوية المعاصرة فنعني بها: ما استقر عليه «علم اللغة» في الغرب -أوربا وأمريكا- منذ دي سويسر حتى الآن، وأما «العربية» فنعني بها شيئين؛ «العربية» التي هي «اللغة» في حياتها الممتدة منذ العصر الجاهلي إلى وقتنا الحالي، و«العربية» باعتبارها «مصطلحاً» أطلقه القدماء على «النحو» بمعناه العام مشتملاً على وصف العربية أصواتاً وصرفاً وتراكيبَ.
وأما «موقف» هذه النظريات فلا نعني به موقف أصحابها من العربية، وإنما نقصد أصحاب العربية ممن اتصل بهذه النظريات، واتخذ من «لغته» و«نحوها» موقفاً ما.
ولعلي أسرع هنا -على غير ما ينبغي- إلى شيء من «الحكم»؛ نحدده في نقطتين؛ أولاهما أن «الموقف» هنا موقف «ناقد» في الأغلب الأعم، يسعى إلى إظهار ما يراه هؤلاء الباحثون من «خلل» في النحو، أو في «طبيعة» اللغة ذاتها.
وثانيتها أن هذه المواقف تستند -في الأغلب أيضاً- إلى نظرية بعينها مما قد يكون التطور العلمي قد تخطاها في الغرب ذاته، والعجيب أن الآراء التي تعبر عن هذه «المواقف» لا يزال بعض أصحابها يرددها، ويرددها كذلك بعض المخالفين لهم، رغم ما جرى للأصول من تغيير.
لا شك أن القرن العشرين هو قرن «العلم» بمعناه «التجريبي»، وأن غلبة «العلم» عليه قد أثرت في المعارف الإنسانية تأثيراً بالغاً، وانتهى التقسيم الثنائي «إنسانيات/ علوم» إلى تقسيم ثلاثي «إنسانيات/ علوم إجتماعية/ علوم»، وتسابقت العلوم الاجتماعية إلى الإفادة من مناهج العلم وبخاصة في «التجريب» فيما يعرف بالدراسات «الحقلية» أو«الإمبيريقية». على أن «علم اللغة» هو أشهر هذه العلوم جميعاً، وهو الذي استطاع أن يؤسس «نظرية» علمية متناسقة، «بمصطلحات» قوية، و«إجراءات» منتظمة في البحث. وأصبح لعلم اللغة كلمة عالية في الغرب، بل إن كثيراً من العلوم الاجتماعية كان عليه أن يحدد موقفه من هذا العلم، واستلهم بعضها أصول النظرية اللغوية أو بعض إجراءاتها.
وحين بدأ هذا القرن كانت النظرية اللغوية تتشكل على أيدي دي سويسر، وظلت تنمو وتتغير إلى يومنا هذا، لكن الصفة التي لا تتخلى عنها أنها نظرية «علمية».
والحق أن التطور الذي أصاب هذه النظرية يعد الآن تطوراً حاسماً، بحيث تتمايز الآن لدينا نظريتان واضحتان:
- النظرية البنائية.
- والنظرية التحويلية التوليدية.
أما النظرية البنائية، أو علم اللغة البنائي Structural Linguistics ، فقد خلفت الدراسات الفيلوجية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، وكانت هذه الدراسات -كما نعلم- تاريخية مقارنة تهدف إلى معرفة العلاقات الوراثية بين اللغات وما يترتب على ذلك من الكشف عن قوانين «التطور» فيها [انظر كتابنا: فقه اللغة في الكتب العربية].
وقد بدأ علم اللغة البنائي بما وضعه دي سويسر في محاضراته عن علم اللغة العام، ثم غلب هذا العلم على البحث اللغوي إلى آخر الخمسينيات، ولم يختف اختفاء كاملاً من بعض دوائر الدرس إلى اليوم. على أن هذا العلم لم يبق على صورته التي خدمها دي سويسر، وإنما ظل يتوسع ويتفرع إلى اتجاهات ومدارس تختلف في الإجراءات والمصطلحات وطرائق التحليل، لكنها جميعها تعمل في إطار واحد هو ما يطلق عليه النظرية البنائة؛ ومن ثم فإننا نعني بهذه النظرية هنا كل ما تمثله من المبادئ العامة للمنهج؛ باعتبار اللغة «وقائع اجتماعية» عند سويسر، وحقيقة «ثقافية» عند سابير، ثم باعتبار المنهج «السلوكي» عند بلومفيلد، و«الوظيفي» عند مدرسة براغ، ثم باعتبار «نحو الخانات» Tagmemics عند بايك Pike و«معهد اللغة الصيفي» Summer Institute of Linguistics ، و«النحو العَلاقي» Relational grammar عند هلمسلف Helmslev ، و«سياق الحال» Context of situation عند فيرث Firth ومدرسة لندن.
كل أولئك يمثل النظرية البنائية، ولسنا هنا بصدد تقديم شيء عن تفصيلاتها، وإنما نقصد إلى بيان «الخصائص» العامة للنظرية، وهي التي اتخذ منها بعض أساتذتنا وزملائنا سنداً لموقفهم من العربية.
ولعلي أوجز أهم هذه الخصائص فيما يلي:
(1) أن دراسة اللغة «علم» Science تتخذ من «المادة» اللغوية «موضوعاً» له، ومن
ثم فهي دراسة «موضوعية» Objective لا ذاتية Subjective ، على أن التأكيد الأكبر كان على «استقلال» علم اللغة عن العلوم الأخرى وبخاصة الفلسفة والمنطق، وهذا مبدأ أساسي عندهم، لا يدحضه ما نعرفه عن تأثر كبارهم بمناهج علمية غير لغوية؛ مثل تأثر دي سوسير بدور كايم في الاجتماع، وتأثر سابير بفرانز بوعز Boaz في الأنثروبولوجيا، وتأثر بلومفيلد بالاتجاه السلوكي behavior iotic في علم النفس.
(2) أن اللغات الإنسانية مختلفة، وأن هذا الاختلاف لا نهاية له، وتلك مسألة مركزية في
تفكيرهم. فكل لغة لها طبيعتها الخاصة ومن ثم وصفها الخاص، وقد يترتب على ذلك ما يؤكده بعض الباحثين من أنه لا توجد «نظرية واحدة» عن «اللغة» بصفة عامة، وليس «علم اللغة» «تصوراً»، أو«اعتفاراً» ما عن «اللغة»، وإنما هو «إطار» من «تقنيات» الوصف العلمي لأي لغة.
(3) ويترتب على هذين المبدأين أن الدرس اللغوي درس «وصفي» لا «تاريخى»، وهو
وصفي يصف حالة للغة etat dn langue في وضعها الراهن؛ لأن ذلك وحده الذي يقدم للعلم «مادة» يمكن رصدها وفحصها، و يجب أن يكون الوصف موجها للغة في مظهر المنطوق لا المكتوب، وأن تكون «مادة» الوصف مادة عامة، وليس مادة مختارة من المستوى الأدبي أو المستوى العالي للغة، ومن ثم فإن الوصف يجب أن يكون وصفا للغة « في ذاتها ومن أجل ذاتها»، أي اللغة بما هي عليه لا بما ينبغي أن تكون عليه، ومن ثم لابد من استبعاد كل ماهو «معياري» والتمسك فقط بما هو «وصفي».
(4) وهذا الوصف اللغوي يخضع للتفسير «الآلي» للظواهر اللغوية، ويرفض رفضا كاملا
أي تفسير «عقلي» لها، ولعل ذلك كان من تأثير الاتجاه السلوكي الذي يفسر الحدث الكلامي في ضوء المثيراتstimuli والاستجابات responses. ومبدأ التفسير الآلي جعلهم يرفضون «التعليل» اللغوي، وجعل بعضهم يبعد دراسة «المعنى» من علم اللغة؛ أو على أقل تقدير لا يجعل «المعنى» أساسا في تحليل الظواهر.
وقد وجه أصحاب هذا الاتجاه نقدا عنيفا للنحو الأوروبي القديم، أو ما يعرف بالنحو«التقليدى» traditional grammar استنادا إلى المبادئ السابقة، بل إن بعضهم كان يبدأ عرضه لعلم اللغة بإخراج ماليس منه what lingnistics is not قبل أن يقدم ما هو منه what lingnistics is. وكانت أوجه النقد تتركز في أن النحو الأوروبي التقليدي يصدر عن الفلسفة، وعن المنطق الأرسطي، ويجعل «المعنى» أساس التحليل، ويختار مادته من المستويات الأدبية العالية، ويصف اللغات الأوروبية -على اختلافها- في ضوء النحو اللاتيني.
وفي الأربعينات ابتعث عدد من الباحثين العرب إلى الغرب لدراسة علم اللغة في إطاره البنائي، وقد أعد معظمهم دراسته عن «لهجة» عربية ما، ثم عادوا يطبقون المنهج الجديد على درس العربية، ووجهوا إلى الدرس العربي القديم نقدا عنيفا، لم يكن جديدا في حد ذاته، وإنما هو ترجمة أمينة للنقد الذي وجهه البنائيون الغربيون للنحو الأوروبي التقليدي.
وتركز نقد هؤلاء لنحو العربية في القضايا العامة الآتية:
1- أن النحو العربى ليس نحوا لغويا صرفا، وإنما هو صادر عن تفكير فلسفي بصفة عامة،
وعن منطق أرسطو القياسي بصفة خاصة، و«المنطق القياسي غير صالح للدراسات العلمية لأنه يُوجِد القاعدة أولا ثم يفكر في ما يمكن أن يدخل تحتها من مفردات».
2- ويترتب على ذلك أن النحو العربي نحو «عقلى» لا يتوجه إلى تحليل «الأشكال» اللغوية
بما هي عليه، وإنما«المعنى» هو الأساس في التحليل، وقد رأينا كيف أن علم اللغة البنائي يشك في إمكان إدراج «المعنى» في الدرس «العلمي».
3- أن النحو العربي لم يدرس «العربية» بمستوياتها المختلفة، وإنما اعتمد على نصوص
«مختارة » من المستوى الأدبي «العالي»، وقد ترتب على ذلك أن هذا النحو «معياري» لا «وصفي»، و«النظرة المعيارية تتخذ القاعدة معيارا للاستعمال».
وفي تطبيقهم لهذه الأحكام العامة ركز الناقدون على جوانب أساسية في المنهج النحوي العربي؛ أبرزها مسألة «العامل» التي رأوا فيها تفكيرا فلسفيا بعيدا عن واقع اللغة، ثم ما ترتب على العامل من «التقدير» النحوي الذي أكدوا أنه « بلية فلسفية ميتافيزيقية ومنطقية ابتلي بها النحو العربي» ثم «التعليل» اللغوي الذي اشتهر به النحاة القدماء. وقد شرعوا بعد ذلك يُمسكون بجزئيات التقعيد العربي واحدة في إثر أخرى يثبتون بُعدها عن واقع اللغة؛ من ذلك ما أكثروا الكتابة فيه عن التقسيم الثلاثي للكلمة، وخاصة أن بعض القدماء قد أكد أن هذا التقسيم «عقلي» لا تخرج عنه لغة من اللغات، وفيه ما كتبوه عن «الإعلال والإبدال» ومن«شبه الجملة» و«جملة النداء» وغير ذلك من مسائل.
ولقد انتهت النظرية اللغوية البنائية في العالم أو كادت، لكن هذا الموقف الذي بيناه لا يزال يسيطر على كتابات كثيرة في العالم العربي، رغم أن الذي ينهض بذلك هم من الجيل الثاني الذي لم يتصل بأصول النظرية اللغوية في مظانها اتصال الأساتذة الذين أشرنا إليهم، بل إنهم أخذوا عن هؤلاء وتوقفوا عند ما كتبوه رغم أن النهر قد جرت فيه مياه كثيرة جديدة.
وفي سنة )1957 (ظهرعلى الناس ذلك الشاب اليهودي نوعم شومسكي Chomsky حين أصدر كتابه «البنى التركيبية»syntactic structures ومنذ ذلك الحين أقام دنيا البحث اللغوي ولم يقعدها إلى اليوم، وبدأت نظرية جديدة أجمع العلماء على أنها «نظرية» حقيقية، هي النظرية التحويلية التوليدية transformational gerevatire grammar، وقد تكاملت معالمها في كتابات شومسكي وزملائه وتابعيه. على أني أود أن أشير إلى ثلاثة كتب تمثل النظرية خير تمثيل، وهي كتب شومسكي:
(1) مظاهر من نظرية التركيب .
Aspects of the theory of syntax (1965).
(2) علم اللغة الديكارتي.
Carfesian linguistics (1966).
(3) اللغة والعقل.
Language and Mind (1968).
ولست أريد هنا أن أقحم على الموضوع شيئا قد يفتقد التوثيق العلمي، لكنه - في الوقت نفسه- قد يكون مفيدا أن نشير إليه؛ ذلك أن شومسكي قد أكد غير مرة إعجابه بالدراسات اللغوية «القديمة» وقد ظهر ذلك جليا في كتابه عن علم اللغة الديكارتي، بل إنه قرر أن الدرس القديم أكثر أصالة من علم اللغة البنائي، وأنه يتضمن «جوهر» الفكر اللغوي الصحيح، ثم إن أباه كان أستاذا للغة العبرية، وقد شغل شومسكي نفسه في صدر شبابه ببحث عن النحو العبري، ولا نزاع في أن النحو العبري الوسيط قد كتب في الأندلس وفي المغرب على نسق النحو العربي، منهجا، وأبوابا، ومصطلحات، بل إن نحاة العبرية عنونوا كتبهم بعناوين كتب النحو العربي المشهورة. ولست أريد أن أستنتج من هذه الإشارة استنتاجا ما، فالحق أن النظرية التحويلية التوليدية نظرية «علمية» «عالمية» ذات شأن، والحق أيضا أن الإجماع منعقد على أنها ثورة حقيقية في الدرس اللغوي إذ إنها قوضت المنهج البنائي من أساسه وأقامت منهجا جديدا فتح آفاقا للنظرية لم تكن معروفة آنذاك.
ولعل أهم ما جاء به شومسكي أنه أعاد «علم اللغة» إلى «الفلسفة» وإلى «المنطق»، أي إنه أعاده إلى «العقل» وهو يرى أن وصف «الأشكال» اللغوية في وضعها «الظاهر» لنا لا يقدم «علما»، ثم إن الوصف المحض للظواهر دون تفسير لها ودون تعليل لا يعين على فهم «طبيعة» اللغة.
إن اللغة هي التي تميز الإنسان من الحيوان؛ ولا يمكن أن يكون ذلك راجعا إلى اختلافات بيولوجية بينهما، وإنما يرجع إلى الفرق الجوهري بينهما، وهو امتلاك الإنسان «للعقل»، وقد استعار شومسكي عبارة فون همبولدت Von Humboldt إن «اللغة عمل العقل»، وعليه فإن التفسير الآلي ليس شيئا، ولا بديل عن التفسير«العقلي».
وبعيدا أيضا عن التفصيل نوجز الخصائص العامة للنظرية التحويلية فيما يلي:
(1) إن اللغات الإنسانية ليست مختلفة على ماذهب إليه البنائيون، وما يبدو لنا من الاختلاف إنما
هو اختلاف في «أشكالها» الظاهرة فحسب، أما ما هو تحت هذه الأشكال فهو مشترك بين اللغات، ومن ثم شغل التحويليون «بالكليات اللغوية» universals التي تدل عندهم على توحد الإنسانية جميعها في « الطبيعة » اللغوية. ومن مظاهر هذه الكليات أن الأطفال «يكتسبون» اللغة بطريقة واحدة لا تختلف من لغة لأخرى ولا من مجتمع لآخر، وأن اللغات جميعها لها نظامان؛ أحدهما «للأصوات» وثانيهما «للمعاني»، وأن الأصوات فيها جميعا تشتمل على صوامت consorants وصوائت vowels ومجهورة voiced ومهموسة voiceless، وإن الأصوات تجري في الكلام وفق قوانين متشابهة، ولا توجد جملة لغوية إلا وفيها نظام «للإسناد»...، إلى غير ذلك من الكليات اللغوية التي تكشف الدراسات المتتابعة عن بعض مظاهرها كل يوم.
وهذه المسألة جوهرية في النظرية التحويلية؛ لأن هذا الاشتراك بين اللغات الإنسانية لا يمكن أن يكون «اعتباطيا» وإنما هو برهان قوي على أن «الطبيعة» اللغوية واحدة عند الناس جميعا.
ويترتب على ذلك أن الإنسان يولد ومعه «قدرة» على اللغة، أو فطرة لغوية competence ، أو إذا استعرنا لغة الحاسب- إن الإنسان يولد «مبرمجا» للغة، ولولا ذلك لما أمكن لنا أن نتعلم لغات أجنبية.
(2) وهذه الفطرة competence هي التي يجب أن تحظى بالاهتمام العلمي؛ لأنها تمثل
البنية العميقة للغة deep structure ، وهي بنية متشابهة في اللغات؛ لأنها تنتظم «المعاني» التي ينتوي المتكلم أن ينقلها، وهي التى تتجسد -وفق نظام معين من «التحويل»- في كلام منطوق يظهر في بنية سطحية surface structure فيما يعرف بالأداء performance . لقد كان عمل المدرسة البنائية محصورا في هذا الأداء في الظاهر السطحي للغة، أما التحويليون فكل همهم هو محاولة الوصول إلى قواعد العمق.
(3) وحيث إن قواعد العمق قواعد محدودة، وحيث إن ما يظهر على السطح لا يحده حصر؛ فقد ترتب على ذلك مقولة التحويليين إن اللغات تتكون من عناصر «محدودة» ولكن «الجمل» التي تنتجها«لا نهاية لها»؛ أي إن اللغة بطبيعتها إبداعية منتجة creative ، وليس أدل على ذلك من أن الطفل في الخامسة من عمره ينتج كل يوم مئات من الجمل الجديدة لم ينطقها من قبل، ويسمع كل يوم مئات من الجمل الجديدة لم يسميها من قبل، ويتلقى ما تنقله إليه بفطرة واضحة على الفهم.
(4) ولما كان الوصف اللغوي لا يتوقف عند ظاهر السطح وإنما يسعى إلى فهم قواعد العمق، فإنه
لا مندوحة عن«التفسير» العقلي، ولا عن«التقدير» و«التعليل». ومن ثم عاد «المعنى» ليتصدر التحليل اللغوي؛ بل ذهب بعضهم إلى التأكيد أن التحليل النحوي إنما هو تحليل:
A syntactic analysis is a semantic analysis.
والملحوظ أن الجيل الذي نقد النحو العربي في ضوء النظرية البنائية لم يتابع التطور الذي حدث في علم اللغة، ولم يتصل بالنظرية التحويلية في أصولها من الدارسين العرب إلا عدد قليل؛ كان معظمهم من المتخصيصن في دراسته اللغات الأوربية.
وبالرغم من جوانب الالتقاء -وبخاصة في قضايا المنهج- بين النحو التحويلي والنحو العربي القديم، فقد كان موقف أتباع النظرية الجديدة من «العربية» -وبخاصة في المغرب العربي- موقفا ناقدا كذلك، وقد ركزوا هذه المرة على «اللغة» أكثر من تركيزهم على منهج التحليل النحوي عند العرب. والقضية الأساسية في موقفهم الناقد تدور حول مصطلح شومسكي عن «اللغات الطبيعية»، وهي التي يجسدها «المتكلم - السامع المثالي في مجتمع متجانس» وهم يرون أن العربية الفصحى ليست لغة «طبيعية» معتمدين على بعض الظواهر السلبية في «أداء» العرب لها. وحين يعرضون للنحو العربي يتغافلون عن قضايا المنهج الكبرى، ويتوقفون عند جزئيات النظر عند الأوائل، وعند جزئيات الحواشي عند المتأخرين واصفين العمل النحوي العربي -في معظمه- بأنه ينبني على«الوهم».
ومهما يكن من أمر فإن النقد الذي وجهه البنائيون للنحو العربي هو الذي ظل سائدا في كتابات كثير من الباحثين، وحين نضعه موضعه في إطار التطور الحادث في النظرية اللغوية الغربية ذاتها نجد أركانه تتهافت واحدا في إثر آخر، وذلك:
1- أن «العقل» لا يمكن إبعاده عن التحليل اللغوي؛ لأنه -بمقتضى العلم- مصدر الأحداث الكلامية،ولعل النحو العربي قد أثبت حياته عبر القرون بما فيه من أصول «عقلية».
2- وأن «المعنى» بداية التحليل اللغوي، وغايته، لأننا لا نتكلم من أجل أن ننتج «ضجيجا» صوتيا، وإنما لكي «نوصل» «معاني» إلى غيرنا.
3-وحيث إن «المعاني» تكمن في العمق فلا مندوحة عن «التقدير» ولا عن«التعليل»، ومن ثم فإن الوصف اللغوي لا يمكن أن يتوقف عند السؤال بـ«ما؟» و«كيف؟» وإنما لابد من السؤال بـ«لم؟».
ولعلنا نشير إلى «العامل» النحوي الذي تركزت عليه سهام الناقدين يعد في الحق إنجازا فكريا عربيا، والتحليل النحوي عند التحويليين لا يكاد يبتعبد عن«مفهوم» العامل عند العرب.
4- وأما مقولة «أرسطية» النحو العربي فمقولة يقصد بها إثبات أن النحو العربي نحو «صوري»؛ أي إنه نحو لا يصدر عن «واقع» العربية، وإنما عن «تصورات» ذهنية مجردة، وقد ناقشنا هذا القضية في موضعها فليرجع إليها من يشاء.
5-ولنأخذ «جزئية» واحدة مما أثاروه عن أرسطية النحو العربي وبعده عن واقع اللغة ماكتبوه عن التقسيم الثلاثي للكلمة الذي جاء عند سيبويه وظل مستمرا في النحو العربي إلى اليوم؛ فهم يرون -أولاً- أن هذا التقسيم مأخوذ عن أرسطو، ولم نجد في كتابات الرجل ما يثبت هذه الدعوى. و يرون -ثانياً- أن هذا التقسيم لايمثل أنواع الكلمة تمثيلا واقعيا، ومن ثم يقترحون تقسيما آخر للكلمة منقولا في معظمه عن التقسيم المعروف في اللغات الأوروبية، فيقترح أستاذنا الدكتور تمام حسان -مثلا- تقسيم الكلمة إلى سبعة أقسام، هي: الاسم، والصفة، والفعل، والضمير، والخوالف، والظرف، والأداة. ومن اللافت أنه جعل المصدر نوعا من أنواع الاسم، وهو عند الأوروبيين نمط من أنماط الفعل، وهذا اتباع صحيح للمنهج العربي رغم )منطقية( ضم «الضمائر، والصفات، والظروف»، إلى الأسماء قبل المصادر.
وحين نطبق الأدوات البنائية التي اتخذوها وسيلة للنقد نجد أن «المصدر» -مثلا- من فصيلة «الأسماء» لا من فصيلة «الأفعال»، استنادا إلى القيم «البنائية» والقيم «الوظيفية»، ولنضرب أمثلة من اللغات الأوربية:
1- I would like to go.
2- J’ai le plaisir d’inviter M. Ahmed.
3- Du lrauchet micht das zu machen.
فالجمل الثلاثة استخدمت المصدر مسبوقا «بحرف جر» To في الإنجليزية،وDe في الفرنسية، وZu في الألمانية، وحروف الجر من القيم البنائية للأسماء في هذه اللغات.
1- to auccoed needs hard working.
2- Aller a ulayya est tris facile.
3- Er lernt das lesen and das schreiben.
فالمصدر في الجملتين الأوليين ورد مسندا إليه، وفي الجملة الثالثة مفعولا به، وكلها من القيم الوظيفية للأسماء. أما النحو التحويلي فيؤكد أن القاعدة «العلمية» لها خصائص معينة، منها أن تكون قوية powerful أي اقتصادية economical ، تحتوي على أكبر عدد من الحقائق بأقل عدد من مواد القاعدة. وحين دخل الحاسب الآلي ميدان البحث اللغوي أثبتت هذه المقولة صحتها وفاعليتها.
وبعد، فلعلنا في نهاية هذا الحديث نشير إلى بعض المسائل:
(1) إن النظرية البنائية في علم اللغة قد اختفت أو تكاد تختفي من البيئة التي نشأت فيها، لكن هناك في العالم العربي من لا يزال يتفاخر بالمنهج البنائي على أنه شيء جديد، وبالرغم من خفوت صوته في البحث اللغوي، فإنه يثير ضجيجا لدى بعض الكاتبين -عندنا- في النقد الأدبي.
(2) أن «المواقف» التي أشرت إليها فيما سبق لا تمثل في الحقيقة «مواقف» بالمعنى الدقيق للكلمة، وأحسب أن صورتنا العامة تشبه صورة الإنسان «المستسلم» الذي ألقى بذراعيه إلى جانبيه، «ينتظر» كل ما يأتي به «الغرب» من جديد، وهكذا نتحدث عن «الملاحقة» و«المتابعة» )! (، ومن حسن الحظ أن مثل هذه الصورة لا تضرب بجذورها في الأرض. على أننا جميعا مسئولون عن هذه الحالة، ولست أبرئ أحدا، بل لعل مسئولية أهل «التراث» أكبر وأعظم، والحق أننا حتى الآن «أقصر» قامة من مستوى التراث العربي، ومعظم دراساتنا لا يزال يدور حول جزئيات، ولم نستطع أن نضع أيدينا على «الأصول العامة» للمنهج، ولا أن ندرس «النظرية» العربية في العمل اللغوي، ونحن نؤكد تأكيد قويا أن النحو العربي صدر عن «نظرية» متماسكة. وتلك قضية كبيرة تقتضي عملا مفصلا، أرجو أن ننهض به إن شاء الله.
والله من وراء القصد.
 
عودة
أعلى