النص الكامل لمحاضرة الكشاف بين مراقي التحليل ومهاوي التأويل

إنضم
24/08/2005
المشاركات
270
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض
فيما يلي النص الكامل لمحاضرة أقامتها الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه (تبيان) بعنوان (الكشاف بين مراقي التحليل ومهاوي التأويل - نظرات في تفسير الكشاف للزمخشري) للدكتور عبدالمحسن بن عبدالعزيز العسكر.

وهذا الجهد أحد ثمار مقرر (البلاغة القرآنية) الذي تشرفت بتدريسه لطالبات مرحلة الماجستير (الموازي)/ تخصص (القرآن الكريم وعلومه) في (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)؛ فقد كان من ضمن التقارير الأسبوعية للمقرر تلخيص هذه المحاضرة المتميزة، فقامت إحدى الطالبات بتفريغ المحاضرة كاملة.

وقد استأذنتها في نشرها على صفحات الملتقى فقبلت مشكورة، بشرط عدم ذِكْرِ اسمها. وهأنذا أنشرها سائلاً الله عز وجل أن يجزل الأجر للدكتور العسكر ولكل من ساهم في تفريغها.

الحمد لله وحده وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأشكر بَادئ بدء الجمعية السعودية للقرآن وعلومه مُمثلة في فضيلة رئيسها الأستاذ الدكتور محمد السريع الذي ألجأني بخُلقِه وهمته إلى الجلوس أمام علماء التفسير وأهل القرآن وأقول جزاه الله خيرا على كل حال وأشكر صاحب الفضيلة أخي الأستاذ الدكتور محمد بن ابراهيم الحمد العالم المشارك والأديب الأريب على ما تقدم به من كلمات وكنت أود أن أصغي لما يقوله فإني أعلمه أديباً أريباً ومتحدثاً لبقاً وصاحب فوائد كثر الله فوائده ونفعنا وإياكم بهذا العلم.

أيها الاخوة حينما سألني وخاطبني أخي الدكتور محمد السريع و أراد أن أُقيم هذه المحاضرة بين أيديكم قال لك أسبوع وهذا أيها الاخوة لا يمكن أن يكون بحال لأن الحديث عن الزمخشري وعن كتابه الكشاف يحتاج إلى وقت طويل وتذكرت حينئذ كلمة قالها الزمخشري لبعض أساتذته حينما سأله مسألة وعاجله فيها قال: أبلعني ريقي، فقال له شيخه: أبلعتك الرافدين.. وذكر هذا الزمخشري في أساس البلاغة في مادة (بَلَعَ) ثم أمهلني جزاه الله خيرا أسبوعين وأمهلني أيضا ضعف ذلك فجزاه الله خيرا ومهما كان فإن الحديث يبقى طويلا حول هذا الكتاب لأن الكشاف أيها الاخوة الحديث فيه واسع الأطراف متعدد الجوانب ويكفيه أنه أحد أعظم كتب التفسير بالرأي ويكفيه شرفا عند مؤلفه أنه ألفه أولا لجماعته العدلية ويريد بهم المعتزلة ولكن الكتاب كما يقال في التعبير الدارج فرض نفسه وصار أهل الفرق الأخرى يرجعون إليه ويفيدون منه لاسيما في شقه المهم في علم العربية وفي بلاغة كتاب الله عز وجل وذكر ذلك الزمخشري نفسه في فاتحة كتابه حينما يقول:

رأيت إخواننا في الدين من أفاضل الفئة الناجية العدلية الجامعين بين علم العربية والأصول الدينية كلما رجعوا إلي في تفسير آية فأبرزت لهم بعض الحقائق من الحجب أفاضوا في الاستحسان والتعجب واستطيروا شوقا إلى مصنف يضم أطرافا من ذلك حتى اجتمعوا إليمقترحين أن أملي عليهم الكشف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل فاستعفيت فأبوا إلا المراجعة والاستشفاع بعظماء الدين وعلماء العدل والتوحيد إلى آخر كلامه..

إذن صنف كتابه لأصحابه ولكن الكتاب طار في الآفاق وأَتْهم وأنجد وشَرق وغَرب يكفي الزمخشري فخرا عند نفسه أن يكون صاحب مدرسة في التفسير البلاغي وأن يكون اكبر دارس في بلاغة القرآن من المفسرين ولقد حاكاه كثيرون وترسم خطاه جماعات ومن أبرز السائرين على سَنَنِه المقتبسين من ناره: البيضاوي والنسفي وأبو السعود ومن بعدهم من أصحاب التفسير البلاغي إلى يوم الناس هذا..

أحدث الكشاف دَوِياً في ساحات العلم وقامت على هذا التفسير دراسات مختلفة كما تجدون شيئا من ذلك في كشف الظنون فمن ذلك ما كتب عليه من حواش كتبت عليه شارحة ومنها محاكمات له في اعتزاله ومنها محاورة له في إعراباته ومنها تخريج لأحاديثه ومنها دراسات مقارنه ومن أجلِّ ما كتب على الكشاف فيما أرى تخريج أحاديثه كما فعل الحافظان الزيلعي وابن حجر رحمهما الله تعالى ولا يمكن أن ينسى فضل الحواشي الأخرى كما سيأتي ذكرها.

بلغ من إعجاب بعض العلماء بالكشاف أنه ألف عليه حاشيتين كما فعل ذلك الفاضل اليمني المتوفى في سنة خمسين وسبع مائة فله درر الاصداف وله تحفة الأشراف وهما كتابان خطيان موجودان.

أفرغ الزمخشري جهدا كبيرا في تفسير كتاب الله سبحانه وتعالى وتمدح في مطلع تفسيره أنه أنهاه في مدة خلافة أبي بكر قال: وهو يستاهل أن يؤلف في ثلاثين سنة ولكن هذه كما يقول هي بركة بيت الله الحرام.

كان أكبر هم الزمخشري استخراج الوجوه البلاغية في القرآن لأن كل وجه بلاغي في القرآن هو من أدلة إعجازه وهذه مسألة مهمة صرَّح الزمخشري بأن نظم القرآن هو أم الإعجاز والقانون الذي وقع عليه التحدي وأن مراعاته أهم ما يجب على المفسر وذكر في مقدمة أساس البلاغة أن الله عز وجل أنزل كتابه مختصا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العِثاق السُّبق وونت عليها خطى الجياد القُّرح ولاحظوا أيها الاخوة أن الزمخشري رجع ولا أقول أرجع إعجاز القرآن إلى نظمه وهذه مسألة تريد منكم انتباها.

الزمخشري يرى أن الاعجاز من جهة النظم هو الأهم وأن نظم القرآن هو مناط التحدي ومعنى ذلك أنه يرى أن الاعجاز البلاغي للقرآن هو الأهم وأنه قطب الرحى وأن بلاغة القرآن كانت مناط التحدي وتبعا لذلك فعلم البلاغة عنده هو الوسيلة إلى إدراك اعجاز القرآن من جهة نظمه كما صرح بذلك في فاتحة كشافه حينما قال: إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح وأنهضها بما يظهر الألباب القوارح من غرائب النكت يلطف مسلكها ومستودعات أسرار يدق سربها علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجادة النظر فيه كل ذي علم إلا رجل برع في علمين مختصين في القرآن وهما علم المعاني وعلم البيان إلى آخر كلامه.

اعترف كثير من العلماء بما قدمه الزمخشري من الحديث عن بلاغة القرآن وسلموا له بأنه سلطان هذه الطريقة والإمام السالك في هذا المجاز إلى الحقيقة وبالغ بعضهم فقال: لولا الأعرجان لذهبت بلاغة القرآن سمعته من طائفة من أساتذتي يريدون الزمخشري والسَّكَّاكي وأورد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله هذه الكلمة عن شيخه المتفنن محمد الناشد الحلبي لكنه ذكرها بقوله: ( لولا الأعرج والكوسج لظل القرآن بكرا) أي لم تتبين بلاغته على وجهها الأكمل.

وهذه في نظري وإن سلم بها كثيرون مبالغة كما قلت فإن معاصر الزمخشري الواحدي الذي هو صاحب الوجيز والوسيط والبسيط له جهد كبير في بلاغة القرآنوابراز خصائص نظمه مع ان بسيط الواحدي يعادل حجم الكشاف مرتين وأزيد والواحدي كما هو معلوم خير من الزمخشري في عقيدته على ما سياتي.

كان الكشاف أول تفسير يصل الينا هدفه الكشف عن بلاغة القران فلهذا أقبل عليه العلماء ودار علية النظر إذ لم يكن له نظير في هذا الضرب كما يقول صاحب نواهد الابكار وطار في أقصى الشرق والغرب..صار الكشاف ذكر بين المشارقة فانتفعوا به وفتح لهم بابا من العلم تقدموا به ولما تكلم ابن خلدون عن علم البيانونشاته والمؤلفات فيه قال وأحوج ما يكون الى هذا الفن أي البلاغة المفسرون واكثر تفاسير المتقدمين غُفلٌ منه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير وتتبع أي القران بأحكام هذ الفن بما يبدي البعض من اعجازة فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير وقال ابن خلدون بعد كلام (وبالجملة فالمشارقة بعد هذا الفن أي البلاغة أقوم من المغاربة وسببه والله أعلم أنه كما لي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر عمرانًا من المغرب كما ذكرنا. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق بتفسير الزمخشري وهو كله مبنى على هذا الفن وهو أصله..)

إذن ابن خلدون يرى أن رواج علم البلاغة كان من أسبابه اشتهار تفسير الزمخشري وانتشاره بين أهم العلم. هذا ما قاله ابن خلدون وقد توفي سنة ثمان وثمان مائة ولكن الكتاب الكشاف دخل المغرب في عصره وبعد عصره وانتشر في المغرب كما انتشر في المشرق وانتفع الناس به هناك إلى يومنا هذا ويكفيكم شاهدا أيها الاخوة تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور التونسي رحمه الله فإنه ألفه على منهج الزمخشري وترسم فيه خطاه وهو معدود من أتباع مدرسته.

أبدع الزمخشري في الكشف عن بلاغة القرآن أولا ثم في إعرابه حتى اعترف له الكثير بالفضيلة في ذلك وحتى أن كثيرا مما نجد من اللطائف البلاغية والأسرار البيانية والنِكات الإعرابية في كتب التفسير منقولة من الزمخشري مباشرة أو منقولة من أتباعه وأهل مدرسته السائرين على طريقته سواء أشير إلى ذلك أم لم يشر إليه وأحسب أن إجادة الزمخشري في تفسيره راجعة إلى أمرين:

الأول: قوته في علوم العربية وتمكنه منها.

ومعلوم أن معرفة العربية هي المدخل لفهم القرآن وإدراك إعجازه ولهذا قال شيخ البلاغيين عبدالقاهر الجرجاني:( ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله) انتهى.

قلت: والزمخشري من أئمة العلم بالعربية والنحو وله فيها اختيارات معروفه وقد ألف المفصل في النحو وهو – أعني المفصل – مدرسة في النحو مستقلة وقامت عليه شروح وصنف أيضا الزمخشري في اللغة أساس البلاغة وهو معجز والزمخشري نفسه معتز بكونه من علماء العربية استمع إلى قوله في مقدمة المفصل يقول:( الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية وجبلني على الغضب للعرب والعصبية) انتهى.

ونجده يفتخر في الكشاف وتأخذه النشوة في بعض المواضع التي يقرر فيها مسألة من مسائل النحو فيشير إلى أن هذا وأمثاله أي التقرير الذي قرره مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه وهو يعني نفسه..

قلت: فتظل عُجار الله من النحو أعانه على فهم أسرار التراكيب وبلاغة الأساليب ومعرفة مقتضيات الأحوال ولهذا فإنه يؤكد على المفسر في ديباجة تفسيره وفي أثناء تفسيره يؤكد عليه أن يعني بأوضاع اللغة استمع إليه يقول في الكشاف يقول في أواسط المجلد الأول ( ومن حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدي سلم من القادح فإذا لم يتعاهد المفسر أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل.)

ويذكر في موضع آخر من الكشاف أيضا: أن من يتناول التفسير ولا يد له في العربية أنه قد يلحد في آيات الله وهو لا يشعر.

وذكر في مقدمة المفصل عن علم الإعراب: (أنه المرقاة المنصوبة إلى علم البيان والمطلع على نكت نظم القرآن وأنه الكافل بإبراز محاسنه الموكل بإثارة معادنه.)

قلت: والعلماء على كثرتهم مقرون بالزمخشري بالتقدم في العربية وانظروا إلى نقلهم عنه حتى خصومه الذين أكثروا من التعقب عليه ومناقشاته كأبي حيان رحمه الله فإنه بعد أن ساق كلمة الزمخشري السابقة التي تكلم فيها على مسألة الجثو بين يدي سيبويه قال أبو حيان في معنى كلامه: نعم وهو قرأ سيبويه كله على الإمام أبي عبدالله الغساني وأجازه به..

ياأيها الاخوة.. قرأ الزمخشري الكتاب على الغساني في الحرم وعمره خمسون سنة بعد أن طار اسمه في الآفاق.

ومما يجمل أن نورده هنا أن مناقشات أبي حيان للزمخشري أو كثيرا منها فيها نظر.

وذكر ابن هشام في مغني اللبيب: أن الزمخشري يستعمل مصطلحات البيانيين – يريد البلاغيين – فيعترض عليه أبو حيان ظنا منه أنه يتكلم في النحو وأبو حيان كما يقول أبو هشام ليس من علماء البلاغة.

وكان أستاذي الدكتور محمد أبو موسى حيّاه الله يقول في كتابه بلاغة الزمخشري في الكشاف: يقول ان ابن حيان متحامل على الزمخشري سطحي في مناقشاته له..

من قوة الزمخشري في العربية وتعظيمه لها أنه ليس بمقلد لأصحابه المعتزلة فيما يتعلق بمسائل العربية كما ذكر ذلك الشهاب في حاشيته على البيضاوي.

كما أنه ليس بمقلد لهم في مسألة الاعجاز فإن كثيرا من المعتزلة – وهذا ما أومأت إليه سلفا – يقولون: أن القرآن معجز بالصرفة أما الزمخشري فيرى أنه معجز بنظمه وما فيه من الاخبار بالغيوب. وقرر ذلك في مواضع من الكشاف ذكرته عندي في الأوراق.

والحاصل أيها الكرام أن الزمخشري علامة في العربية فيؤخذ عنه فيها كما يؤخذ عنه في البيان.

وثاني الأمرين في إجادة الرجل/ أنه ترسم خطى العالم الجهبذ والبلاغي الكبير عبد القاهر الجرجاني رحمه الله.

وطبق في تفسيره الكشاف كل ماكتبه عبد القاهر في كتابيه الدلائل والأسرار لأنه اكتشف في هذين الكتابين عبقرية العربية ودلائل عظمتها ولقد كانت آراء عبد القاهر ونظريته في النظم واضحة كل الوضوح في ذهن جار الله ولهذا صرَّح بأن أسرار القرآن ونكته لا يبرزها إلا علم البلاغة وإلا بقيت محتجبة في أكمامها ومن هنا مضى الزمخشري في كشافه يحلل آي الذكر الحكيم ويكشف عن روعته وجماله ليبين وجه الاعجاز مهتما خاصة بعلمي المعاني والبيان لتشابكهما في دلالات الألفاظ والتراكيب وفي أسرار التنزيل القرآني ولطائفه الدقيقة وإن كانت عناية الزمخشري بالعلم الأول المعاني أتم وأكمل لأنه رأس علوم البلاغة ولأن عبد القاهر وغيره عللوا به اعجاز القرآن فهومدار الحجة القاطعة والدلالة الساطعة.

أفاد الزمخشري أيها الاخوة أيما فائدة من علم عبد القاهر في كل ما عرضه في الكشاف من خصائص التعبير مستعينا بما عنده من عقل ثاقب ومن محفوظ من كلام العرب مع أنه لم يذكر عبد القاهر - وهذا عجيب – إلا مرة واحدة في سورة ق والله أعلم بذلك.
وإنك إذا قرأت الكشاف بتركيز فإنك تجد الزمخشري يطل عليك من بين السطور بحماسته وتوثبه وقد جمع نفسه وعقله وعلومه وتراه وهو يستثير ذهنك ويحرك عقلك بطريقة السؤال والجواب فإن قلت (قلت) استعمل هذه أكثر من ألف وخمس مائة مرة، وبقوله ( ألا ترى ) استعمل هذه أربع عشرة ومائتي مرة وغير ذلك من أساليب الاستثارة.
يفعل ذلك ليطلعك على دقة القرآن واعجازه وجمال اسلوبه في مناسباته وفي معانيه الإضافية من تقديم وتأخير وتنكير وتعريف وذكر وحذف وقصر ووصل وفصل وما إلى ذلك من خصائص العبارات وما يكمل ذلك من علوم البيان في تشبيهاته وكناياته ومجازاته ووجوه الحسن اللفظية والمعنوية.
مازال الزمخشري يعالج بلاغة القرآن في تفسيره الكشاف حتى أتى بإضافات مهمة تحسب له في تاريخ هذا العلم من وضع طائفة من المصطلحات البلاغية كالالتفات والاستدراج واللف والكلام المنصف والإلهاب والتهييج إلى غير ذلك من المصطلحات.
وأهم شيء وضعه إضافة على ما وضعه البلاغيون أنه هو الذي قسم علوم البلاغة إلى ثلاثة علوم: المعاني والبيان والبديع. ولم تكن معروفة بهذا التقسيم وإنما كانت تسمى بالبديع كما سمى ذلك ابن المعتز في كتابه البديع أو تسمى بالبيان كما يقول عبد القاهر وعلي ابن خلف الكاتب: (فجاء الزمخشري ورأينا البلاغة عنده تعني علوماً ثلاثة..)
وإن كان ثمة تداخل في هذه الموضوعات لديه إلا أن له فضل الريادة في ذلك التقسيم ولهذا تابع جمهور البلاغيين الزمخشري على هذا التقسيم. وأياً ما كان أيها الاخوة فإن الزمخشري في كتابه الكشاف قد أحدث دوياً كما قلت هائلا وحركة علمية في الساحة العلمية ولاسيما عند البلاغيين ولهذا كان الكشاف أحد المراجع التي اعتمد عليها الخطيب القزويني في كتابه المشهور بالإيضاح وقد سماه الخطيب القزويني في كتابه قرابة ثلاثين مرة.. كما كان من آثار الكشاف أنه كان دافعا ليحيى بن حمزة العلوي بتأليف كتابه الكبير الطراز الذي يعد من كتب البلاغة المهمة. فكأن هذا الكتاب الطراز مرقاة لفهم الكشاف ولهذا ذكر العلوي في أول كتاب الطراز أن جماعة من الإخوان شرعوا يقرأون عليه الكشاف فاحتاجوا إلى فهم علم البلاغة لأنه بنى كتابه على هذا العلم قال: فألفت هذا الكتاب فصار كتاب الطراز من كتب البلاغة المشهورة المهمة – واقرأوا ذلك في مقدمته فقد فصله _.
الطراز إذن سلم ومدخل لفهم الكشاف واستيعاب مباحثه وذلك مشعر بدقة مسالك الكشاف ولطف اشاراته وهذا ما أدركه مؤلفه نفسه جار الله ولهذا فإن جار الله الزمخشري فيما بعد تأليفه للكشاف أحس أن قارئ الكشاف سيبذل فيه جهدا في قراءته وفهمه وأن بعض أهل العلم ستخفى عليه بعض عباراته ولهذا رأيت أنا رسالة كتبها عضد الدين الإيجي المتكلم الأشعري الشافعي المشهور كتب رسالة إلى أهل العلم في الآفاق يسألهم عن عبارة لم يفهمها في الكشاف..
لاحظوا أنه يسأل أهل العلم وهو من كبرائهم وهذه الرسالة أوردها السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر في النحو.
لهذا أيها الاخوة لهذه الصعوبة التي أدركها الزمخشري في كتابه ولقوة عباراته أحس أن قراء الكشاف بحاجة إلى استجمام وراحة بعد أن يقرؤوا في الكشاف فماذا صنع؟! ألف لهم كتابا يستريحون فيه كتب لهم كتابه المشهور ( ربيع الأبرار ) وهو كتاب حافل بالأخبار والحكم والطرائف يقول في مقدمته: ( هذا كتاب قصدت به إجمام خواطر الناظرين في الكشاف عن حقائق التنزيل وترويح قلوبهم المتعبة بإجالة الفكر في استخراج ودائع علمه وخباياه والتنفيس عن أذهانهم المكدودة باستيضاح غوامضه وخفاياه وأن تكون مطالعته ترفيها لمن مل والنظر فيه إحماضاً لمن اختل فأخرجته لهم روضة مزهرة وحديقة مثمرة.. إلى آخر أسجاعه هناك.
وبهذا أيها الاخوة يكون للكشاف مدخل هو الطراز واستجمام هو ربيع الأبرار كتابان صنفا من أجله وهذا من النوادر في كتب أهل العلم.
لقد كتبت دراسات عن الكشاف كتب الدكتور أحمد الحوفي وكتب أستاذنا درويش الجندي رحمه الله كتاباً بعنوان نظم القرآن في الكشاف وألف أستاذنا الدكتور محمد أبو موسى مصنفه البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وهي رسالة دكتوراه وكان أستاذنا أبو موسى يقول: لو جاءني طالب يريد التسجيل في بلاغة الكشاف لم أمانع.
وتذكرني هذه العبارة بما في كشف الظنون حين ذكر حاجي خليفة شروحات الكشاف وحواشيه قال: ( والكشاف حصن حصين ) وقال مرة أخرى: ( هو مهرة لم تركب ودرة لم تثقب)
ولايزال الكشاف أيها الاخوة مرجعا معتبرا عند العلماء يرجعون إليه وبخاصة أهل التفسير والعربية وكان من العلماء من يقرأ الكشاف في المساجد والمدارس وممن لهم عناية بذلك علماء اليمن كما تجدون ذلك في تراجمهم في البدر الطالع وغيره فإنهم يقرأون الكشاف.
وحين دخلت صنعاء اليمن في منتصف ربيع الآخر سنة 1417 وجدت حلقة جماعة من الزيدية في جامع صنعاء يقرأون الكشاف ومعروف أن الزيدية معتزلة في أصول الدين فلهذا هم معنيون بالكشاف وغيره من تراث المعتزلة ولهذا فإن كتاب عبد الجبار المغني الكبير وجدت جل مجلداته في اليمن وما يزال المفسرون منذ ألف الزمخشري كتابه حتى عصرنا الراهن يراجعونه على اختلاف مذاهبهم ويعتمدونه في توجيه الآيات وفي اعرابها وفي بلاغة القرآن حتى الذين يردونه وينتقدونه ويخالفونه فكلهم يعول عليه وينقل منه كابن حيان والرازي مع أن الرازي شديد في بعض عباراته عليه.
قال فيه ذات مرة: ( الزمخشري فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف ) مع أن اسم الزمخشري وكتابه ورد في تفسير الرازي قرابة الثمان مائة مرة.
والحاصل أن الكشاف مرجع للمتقدمين والمتأخرين وكذلك عول عليه أهل السنة وذكروه في مؤلفاتهم وأخذوا بقوله في مسائل ورجحوا بترجيحاته كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وابن كثير المفسر إلى غيرهم من المفسرين إلى عصرنا هذا وحسبنا أيها الاخوة في هذا العصر شيخا التفسير وحبراه النحريران المحمدان؛ ابن عاشوروالأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى فقد اعتمدا على الكشاف اعتماداً واضحاً في كتابهما ونَهيِّك بهما وقد ورد اسم الكشاف واسم صاحبه في التحرير والتنوير أكثر من ألف مرة كما ورد اسم الزمخشري وكتابه في أضواء البيان 240 مرة تقريبا..
-طبعا سهلت علينا هذه التقنيات الحديثة ولله الحمد فالإحصاءات في لحظات أو في ثانية-
أخبرني صديقنا العالم الجليل المفسر الدكتور عبدالله الأمين بن محمد الأمين الشنقيطي أن والده العلامة محمد الأمين صاحب أضواء البيان كان كثير الرجوع للكشاف في تحضيره لدروسه التي كان يلقيها في المسجد النبوي وفي الجامعة الاسلامية وأن محمد الأمين والده يشيدبقوة في فهمه ودقة اختياره وكان كثيراً ما يصوب رأي الزمخشري ويقدمه على غيره من كتب التفسير التي كانت تقدم إليه في بيته ليحضر منها..
وأخبرني الشيخ عبد الله أن والده قال: لم يفهمها فلان ولا فلان وإنما فهمها هذا الرجل ويشير إلى الكشاف بيده.
للكشاف أيها الاخوة مزايا أخرى يذكرها العلماء سوى ما ذكرت من عنايته بالبلاغة والعربية فمن ذلك خلوه من الحشو والتطويل ومنها عنايته ببدع التفاسير والرد على أصحاب الأقوال الضعيفة وبيان سقوطها لاسيما في الإعراب والمعاني.
ومن مزاياه سلامته في الغالب من الإسرائيليات ومن القصص, ومنها أيضا عنايته في بيان المعاني على لغة العرب, ومن مزاياه الكشاف أيها الاخوة تعظيمه للشريعة ومصاولته للمبتدعة الصوفية كما ترون ذلك عند حديثه عن آيتي المحبة في آل عمران والمائدة.
ومنها أيضا عيبه على الناس تساهلهم بالأحكام وذلك في مواضع من تفسيره استمع إليه يقول: ( وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به) ، وقال مرة: ( هذا مما الناس عنه في غفلة وهو عندهم كالشريعة المنسوخة )
ومن ذلك تعظيمه لآيات الله الكونية وذم الغفلة عنها كتعليقه على آيات سورة الأنبياء (وجعلنا السماء سقفا محفوظا ) ولن أنقل ما نقلته من نصوص وهي لطيفة بديعة.

منها أيضا اجلاله للصحابة ومنها دفاعه عن عائشة رضي الله عنها فاقرؤوه في تفسير سورة النور.
وله أيضا استنباطات بديعة وتعليقات جياد وتحليلات نافعة في بيان لطائف النظم كقوله تعالى على قول المشركين: ( فقالوا أبشر يهدوننا ) قال أنكروا أن تكون الرسل بشرا ولم ينكروا أن يكون الله حجرا.
ومن استنباطاته اللافتة قوله عند آية المائدة: ( مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ) قال وفيه فائدة جليلة وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا عن أكثرهم علما وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج لأن يضرب عليهم أكباد الابل, فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله.انتهى.
إلى غير ذلك من كلامه وتحليله وهو كثير مطرب معجب. حتى إن ابن المغير على قسوته في بعض المواضع الذي ألف الكتاب في الرد عليه–ألف انتصاف كما سيأتي- لم يستطع أن يكتم اعجابه بكتابات الزمخشري.. فقال مرة عند أحد تحليلاته: ( هذا كلام نفيس يستحق أن يكتب بالسدر لا بالحبر) ، وقال في موضع من تعقيباته: ( هذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب رددته على سمعي فزاد رونقا للترديد واستعادة الخاطر كأني بطيء الفهم حين يفيد ) وقال في مرة ثالثة عند قوله تعالى: ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ) قال بعد تحليل الزمخشري لهذه الآية: وهذا من محاسن نكته الدالة على أنه كان مريا بالحذاقة في علم البيان ) انتهى كلامه.
فقد ذكرت أيها الاخوة آنفا أن كثيرا من الأسرار والنكات البيانية المتداولة في كتب المفسرين بعد الزمخشري هي مأخوذة عنه أو عن فكرة أثارها ونماها من بعده وقد قيل إن الفكرة كالشجرة تنمو وتكبر بتعاهد اللاحق بعد السابق..
والكلام على مزايا الكشاف يطول ونقولاته بديعة وأنا نقلت أشياء قد ترونها إن شاء الله لاحقا انتقيتها لكم واختيار الانسان دليل على عقله كما يقال.
أيها الاخوة أنصفنا الرجل أو قاربنا أن ننصفه فيما أرى والعلم عند الله تعالى ونترك هذه الجوانب التي رأيناها مشرقة عند الرجل والله عز وجل أمرنا بالعدل مع كل أحد ( وإذا قلتم فاعدلوا ) واذا كانت هذه الجوانب مضيئة في الكشاف فإن ثمة جوانب هي في الحقيقة مظلمة أذهبت بهجته وأفسدت حسنته ألا وهي ما دس فيه من أصول المعتزلة بطرق ظاهرة وأخرى خفية والرجل مجاهر بمذهبه ونقل ابن خلكان أنه كان إذا زار أحدا فإنه يطرق الباب فإذا قيل له من بالباب؟ قال: أبو القاسم المعتزلي, وهذه المجاهرة موجودة في الكشاف ظاهرة من أولى صفحاته ولهذا ذكر في الديباجة كما تقدم أنه ألفه بناء على طلب اخوانه من الفرقة العدلية ولهذا كان للكشاف هدفان – أنا لا أدري أيهما الأكبر في ذهن الزمخشري – الهدف الأول الكشف عن بلاغة القرآن.
والثاني: نصرة الاعتزال والدعوة إليه.
فإن الزمخشري جعل تفسيره لكتاب الله ديوانا يعرض فيه عقيدة أصحابه المعتزلة ويستدل فيه لأصولهم الخمسة المعروفة: العدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وقصر الآيات على ذلك قصرا لتوافق أصولهم واستعمل في ذلك دهائه البالغ وإذا مرت به آية تخالف مذهبه لوى عنقها وجعل يدور عليها من كل جهة ليبطل دلالتها كما يدور السبع على فريسته, فالكشاف هو في نظر أهل العلم كتاب المعتزلة وهو وكر المعتزلة, وأرى أنا أن الزمخشري خلد مذهب الاعتزال بتفسيره بعد أن كاد يتقلص وبعد أن انحسر ظله ولهذا لم يبعد الذهبي رحمه الله حين وصف الزمخشري في سير النبلاء بأنه كبير المعتزلة.
مصداق ذلك أيها النبلاء أننا رأينا الرجل متعصبا جدا للاعتزال نسأل الله العافية ووجدنا تفسيره من أوله إلى آخره يدور في هذا الفلك ولا عجب فإنه صرح في سورة آل عمران بأن الاسلام هو العدل والتوحيد وهو الدين عند الله وما عداه فليس عنده بشيء من الدين. ويظهر أن التعصب سمة عند الزمخشري وأنه لا يعرف التوسط فكما كان متعصبا في الاعتزال فهو متعصب في انتسابه لمذهب أبي حنيفة ولهذا كان يقول: ( وتدَّ الله الأرض بالأعلام المنيفه كما وتدَّ الدين بعلوم أبي حنيفة)
وإذا قرأنا تفسير الكشاف وجدنا الرجل يقبل ويدبر في نصرة مذهبه وآية ذلك أنه نظر إلى القرآن نظرة عامة فجعل الآيات المؤيدة ظاهرها للمذهب الاعتزالي محكمة وتلك التي تخالفها متشابهة ثم طفق يرد المتشابه إلى المحكم في نظره ليخضع تفسير هذا الرأي الاعتزالي وهذا النحو من التفسير ما يعرف بالتأويل وهذا نفسه ماصنعه سلفه القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي الذي ألف من أجل ذلك كتابه متشابه القرآن.
وقرر هذا الكلام الذي أقول لكم في المحكم والمتشابه الزمخشري في مطلع سورة آل عمران فمقصودي هنا أيها الاخوة من هذه النقطة أن أبين لكم أن الزمخشري أيد الاعتزال بكل ما استطاع من فكر وعلم وعقل واستنجد باللغة والنحو والبلاغة واستنجد بكل شيء أمامه ليصحح عقيدته وما زال كذلك حتى جعل يستشهد بكلام السائلين الشّحاذين من أهل مكة فإنه قال في تفسير قوله تعالى: ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام ) وجه ربك: ذاته والوجه يعبر عنه عن الجملة والذات ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان؟ أراد بذلك نفي صفة الوجه الثابتة لله تعالى.
وقال في قوله تعالى: ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) قال وسمعت سَرْويّة – السرويّة نسبة إلى السرو محل في حِمْيَرْ – قال سمعت سروية مستجدية بمكة في وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عيينتينويظرة إلى الله وإليكم والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. أراد الزمخشري بذلك نفي رؤية الله في الآخرة حيث حمل النظر على التوقع.
مضى الزمخشري على هذا النحو يقرر عقائد المعتزلة ولم يدع سورة من سور القرآن إلا دس فيها من معتقده كما قال ابن المغير.
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله إما الزمخشري تفسيره محشو بالبدعة وعلى طريقة المعتزلة من انكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد وغير ذلك من أصول المعتزلة.
ولست في حاجة أيها الاخوة لأن أورد إليكم شيئا من نماذجهفهو معروف في الكشاف وهو موجود ولاجرم أنه مر بكم وأنتم من أهل الفن كثير منه في قراءتكم للكتاب وجميعكم يعلم أن الزمخشري يؤوّل الآيات تأويلا يوافق مذهبه ولا يهمه أن يواجه القارئ بذلك لأنه في الأصل إنما كتب التفسير لأصحابه ولا يضره أن يكون استدلاله بعيدا عن الحق حيث يتعامى عن أصول العلم, وربما –أقول- يستغفل القارئ أو كأنه لم يعبأ بأحد ولهذا رأيت الطاهر ابن عاشور رحمه الله على أدبه الجم وعلى عفة لسانه المعروفة كما يعرف ذلك الجميع ومنهم أخونا الدكتور محمد بن ابراهيم الحمد المتخصص في التحرير والتنوير يقول ابن عاشور: الزمخشري دأبه كثير ما يرغم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزوعصبيته وتنزوي عبقريته.. انتهى كلامه.
ومن العجب أيها الاخوة أن الزمخشري حين يخلي بين نفسه وبين ما فطرت عليه فإنه يكون مع الحق ويرجع إليه ومصداق ذلك أنه تضرع في آخر الكشاف كما أشار أخي الدكتور محمد بدعاء طويل بديع في كلامه. قال: (أسأل الله تعالى بخضوع العنق وخشوع البصر ووضع الخد لجلاله الأعظم الأكبر مستشفعا إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام متوسلا بالتوبة الممحصة للآثام وبما عنيت به من المهاجرة إليه ومجاورتي ومرابطتي لمكة ومصابرتي على تواكل من القوى وتخاذل من الخطى ثم أسأله تعالى بحق صراطه المستقيم وقرآنه المجيد الكريم وبما لقيته من كدح اليمين وعرق الجبين في عمل الكشاف.... ثم بعد كلام قال... أسأله تعالى أن يهب لي خاتمة الخير ويقيني مصارع السوء ويتجاوز عن فرطاتي يوم التناد ولا يفضحني بها على رؤوس الأشهاد ويحلني دار المقامة من فضلة بواسع قوله وسابق نوله إنه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.) انتهى.
لاحظوا أيها الاخوة قوله: ( ويحلني دار المقامة من فضله ) أي الجنة ( بواسع قوله) مع أنه قال عند قوله تعالى في الأعراف: ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) قال بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقوله المبطلة .... انتهى
ولو رجع الزمخشري إلى معتقده وحقق مذهب المعتزلة حينما جعل يتضرع لوجد أن سؤاله الجنة من الله عبث لا فائدة فيه لأنه إن كان عاملا بما كلفه فالجنة له حق واجب كما تقوله المعتزلة فلا يصح من الله الاخلال به لأن الله لا يخلف وعده وإن لم يكن عاملا فليس له حق في أن يسأل الله الجنة لأنه حينئذ يسأل مالا يستحق فتبين أن دعاء الزمخشري هذا اقتضته منه الفطرة وهو دليل على أن مذهب أهل السنة هو فطرة الله التي فطر الناس عليها وأن الخصوم يرجعون إليها يشعرون أو لا يشعرون ودعاء الزمخشري هذا بالمناسبة ذكرني بدعاء سلفه في نحلته ( أبي عثمان الجاحظ ) فإنه قال في ديباجة البيان والتبين قال: ( اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف فيما لانحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن ) انتهى كلامه
أقول معقبا على كلام الجاحظ العجب والتكلف من أفعال العبد الاختيارية وعلى أصول المعتزلة والجاحظ منهم فالله لا يقدر أن يصرف العبد عن فعله ولاأن يجعله فاعلا فكيف يقول الجاحظ نعوذ بك اللهم من العجب والتكلف ولكن ذلك من الجاحظ رجوع إلى الفطرة من حيث لا يعلم أو من حيث لا يشعر نعم لو قال أعوذ بالله من الجنون والمصائب فما أشبه ذلك فإن ذلك مستقيم على أصولهم لأن النعم والمصائب فعل الله وخلقه.
أيها الاخوة أيا ما كان الزمخشري معتزلي صلب ونحن الآن لا نحاكم الرجل فقد رجع إلى ربه وما ربك بظلام للعبيد ولا تضيع عند الله الحسنات وإن كان بعض علمائنا الكبار أفتى بعدم الترحم عليه وسمعت ذلك منه فإن هذا ليس تكفيرا للرجل بل يكون من جنس ترك الصلاة على المبتدع والعاصي. وهذه مسألة مهمة والمعنى أنه لا يخص بدعوة ولكن يدعى لعموم المسلمين فيدخل فيهم فمن ترك الترحم عليه فإن هذا منزعة.
ويرى بعض العلماء أن الزمخشري تاب من اعتزاله وقد صنف أبو عبد الله الصغير المعروف بالإفراني من علماء القرن الثاني عشر ألف صنف رسالة اسمها ( طلعة المشتري في ثبوت توبة الزمخشري) و لا أعلم شيئا عن هذه الرسالة ولكن نقل المبقري في نفح الطيب أن أبو الحسن الأندلسي رحمه الله أنه يقول: شيئان لا يصحان إسلام إبراهيم بن سهل وتوبة الزمخشري من الاعتزال, أما أنا أقول الله أعلم بذلك والذي يهمنا الآن أيها الاخوة هو الكشف عن الكشاف والحديث عنه باعتباره مرجعا معتبرا في التفسير فلا بد من الحديث فيه وبيان الحق.
فأقول إن الذي استوقفني أيها الاخوة في الكشاف مع ما فيه من العظمة في جوانب البلاغة والعربية ما دسه فيه مؤلفه من الاعتزال حتى إنه يروج على كثير من العلماء والمفسرين الذين يعتقدون فساد قوله كما ذكر ذلك شيخ الاسلام فينقلون كلامه ولا يهتدون إلى باطله.
وذكر ابن المنير في أحد تعقيباته على الكشاف أن اعتزاله في الكشاف خفي أدق من دبيب النمل حتى ذكر أن الاطلاع على الاعتزال في الكشاف يكاد يكون من الكشف والزمخشري بدهائه وبلاغته وسعة علمه يغلب القارئ حتى إنه ليروج عليه هذا الاعتزال ولهذا راج اعتزاله على طائفة من أهل العلم وهذا ما صدق ما ذكره فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه داعية للاعتزال فإنك إذا قرأت الكشاف أعجبك الكلام لأنه من الكلام الذي يملأ الفم ويعرض في الأذن وعليه رواء ولو قدر أن طرقت بيدك الكشاف لوجدت له رنينا ولكن في داخله السم كما يقولون.
استمع إلى مقاله عند قوله تعالى: ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) قال: وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق دلق أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه فتبارك الله أحسن الخالقين أراد ماذا؟! أن القرآن مخلوق,ولهذا تناقل الناس عبارة الوقيني المشهورة: استخرجت من الكشاف اعتزامابالمناقيش منها عند قوله تعالى: ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) قال: أي فوز أعظم؟أشارإلى عدم الرؤية.
أيها الاخوة جاء الحديث الآن المهم الذي أريده فأرجوا أن يمهلني الاخوة قليلا..
من أكبر الوسائل التي استخدمها الزمخشري لتأويل الآي وعزفها إلى معتقده من أكبر الوسائل علم البلاغة فإن الرجل لا يزال يستعمل قواعد هذا العلم ولا يفتأ يحاول فيها كل محاولة حتى وإن كانت لا تطاوعه في صلب القواعد فيعمد إليها مستنجدا لنصرة مذهبه ولهذا فإن هناك أبوابا بلاغية استعان بها الزمخشري وجعلها في كمة حتى يروج ما يريد أن يقوله.
فمن ذلك ماذكره السبكي في عروس الأفراح أن الزمخشري أكثر الناس أخذا بالاختصاص لخدمة مذهبه.
وأنا أقول: والزمخشري من أكثر الناس أخذا بالمجاز لهذا الغرض فإنه حمل صفات الله عز وجل على المجاز لا على الحقيقة كما جعل اضافة فعل الخلق إلى الله من قبيل المجاز فصرح في أساس البلاغة أن قولهم ( خلق الله الخلق) مجاز، و( خلق الخراز الأديم والخياط الثوب ) حقيقة. ليخرج أفعال العباد عن قدرة الله ومشيئته منزها الله بزعمه عن أن يخلق المعصية والشر, وهذا معنى نفي القدر الذي يعرف عند المعتزلة بالعدل. والرد عليهم أيها الاخوة معروف.
كما لجأ الزمخشري أيضا في نصرة مذهبه إلى التخييل وقال عنه لا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء.
ومن الأمثلة على ذلك عند الزمخشري ما قاله في تفسير قوله تعالى: ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) قال: نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيفعلى كل جلاله لا غير من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين لا جهة حقيقة ولا جهة مجاز.. انتهى.
وتابعه على هذا القول الفاسد في التخييلبأن الصفات محمولة على التخييل صاحب كتاب الطراز الذي استمعتم إليه.
أيها الاخوة جعل نصوص الصفات من الاستعارة التخييلية يقتضي أنها لا حقيقة لها بظاهرها وليس لها تأويل يخالف ظاهرها يراد من المخاطب فهمه بل المراد أن يتخيل السامع والمخاطب مالا حقيقة له في الخارج وفي نفس الأمر. وقد سلك الزمخشري في قوله هذا في آية الصفات مسلك أهل التخييل من الفلاسفة لا مسلك أهل التأويل من المتكلمين النفاة من أصحابه المعتزلة وغيرهم فهؤلاء وإن كانوا على ضلال فإنهم خير منه.
كما استعان الزمخشري بفن التخييل في تأويل الصفات استعان به أيضا في تأويل طائفة من نصوص الغيب وأحوال المعاد والمعجزات والكلام الصادر من الجنة والنار وهناك نصوص نقلتها هنا وعلقت عليها.
وعلى كل حال فإن الرازي على جهميته انتقد الزمخشري في حمله كلام الله على التخييل ولم يرتضي مسلكه ذلك. ولا شك أن الرازي خير من الزمخشري في هذا الباب.
ويقول الرازي بعد أن نقد الزمخشري في حمله هذه الأبواب على التخييل: ( لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضا يقولون المراد من قوله تعالى: ( فاخلع نعليك ) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل..) انتهى كلامه.
وصفوة القول أيها الاخوة أن الزمخشري سخر البلاغة لخدمة عقيدته ولهذا لم يزل يثني على علم البلاغة في كتابه بعد تأويلاته العقدية وفي طي كلامه تعريض لرسوخهم في ذلك العلم ولا شك كقوله: ( ومن أحس بعظم مضار فقد هذا العلم علم مقدار عظم منافعه ).
كما أنه يرى الجهل بالبلاغة سبب للضلال وله في ذلك كلام مبثوث في تفسيره الكشاف وإن أراد الزمخشري أن الجهل بهذا العلم – علم البلاغة – يورث الخطأ في التفسير فهذا كلامه قد يقبل وإن أراد أن البلاغة تصحح مذهب الاعتزال فذلك باطل ولا شك.
وفي الكشاف أيها الاخوة جوانب سيئة غير حسنة من ذلك أنه تكلم على أهل السنة وسلقهم بلسانه الحاد ولهذا تراه يصف أهل السنة بالمكابرة وأنهم مفترون مبتدعة يعكسون الحقائق وأنهم يستدلون بالحديث المرقوق – بالقاف – أي المفترى الموضوع, وهجاهم بأبيات في تفسير سورة الأعراف ولا يهمه أيا كان مخالفه. ولهذا لما ساق قول من يرى فناء النار وأتبعه بحديث يروى عن طريق عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما تكلم في عبد الله بن عمرو بكلام بذيء وفي مقابل ذلك أشاد الزمخشري بإخوانه وأصحابه المعتزلة ومدحهم كثيرا في كتابه الكشاف, واقرأوا كلامه في مدح عمرو بن عبيد عند قوله تعالى: ( إن ربك لبالمرصاد).

للزمخشري أيضا كلام قبيح في حق نبي الله نوح قاله عند قوله تعالى: ( إنه ليس من أهلك) وله أيضا في كلامه تفسير وجرأة, والظاهر أن الزمخشري يغيبعنه إدراكه في بعض الأحيان فما يحسب لمن أمامه حسابا ولهذا تصدر منه الكلمات البذيئة في حق الصالحين وفي حق أهل الفضل بل إنه قال عند قوله تعالى: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) قال: إنه كناية عن الجناية ولأن العفو رادف لها قال: ومعناه أخطأت وبئس ما فعلت .
وله كلام قريب من هذا عند قوله تعالى: ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) حتى قال السيوطي عن هذه الآية : قال ومن ألطفه ما عاتب الله به خير خلقه بقوله عفا الله عنك لم أذنت لهم ولم يتأدب الزمخشري بأدب الله في هذه الآية على عادته في سوء الأدب.
وقال ابن منير معلقا على كلام للزمخشري تعرض فيه للنبي r قال: بلغ الزمخشري من سوء الأدب إلى حد يوجب عليه الحد وسماه مرة (الجلف), إذا سمعتم اغلاظ أهل العلم أيها الإخوة على الزمخشري فإنه هو الذي تسبب في ذلك لأنه أوقع نفسه فيما يوجب أن يعرضه لمثل ذلك.
لهذا أيها الاخوة ولغيره من هذه المخالفات في الكشاف انبرى العلماء للرد عليه لا سيما أن كتابه استطار كما ذكرنا وكشفوا اعتزالياته, وصنف ابن المنير كتابه الانتصاف وهو مطبوع وألف أبو علي السكوني كتابه الكبير التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في تفسير الكتاب العزيز وطبع طبعة رديئة مع الأسف جدا لا يوثق بها ولا أذكره إلا على سبيل التحذير منها طبعته دار الكتب العلمية والكتاب فيه قواعد وفوائد وهو موجود في مكتبة جامعة الإمام وهو عندي أنا أفيد منه من زمن طويل, ومن كلامه الجيد قال في وسط الكتاب في الورقة 122 قال: لفظ ( كي ) عند الزمخشري من اعتزالياته فليُحذَر منه حيث وقع في كلامه.. انتهى كلامه.
كانت أيها الاخوة حدة الزمخشري وتعصبه الشديد لنحلته سببا في اغلاظ العلماء القول له والتحذير من كتابه حتى أفتى العلماء بعدم القراءة في الكشاف وحتى قال ابن الحجر الهيثمي كلمة قاسية في حقه قال: (الزمخشري حامل راية المعتزلة إلى النار), وهذه الكلمة شديدة جدا, وقال زبرق المالكي في النصيحة الكافية : ويحرم الثناء على أهل البدع والأهواء كالزمخشري وكتابه, قطع ابن أبي جمرة شارح البخاري بتحريم النظر في الكشاف سواء أكان الناظر عالم بالاعتزال أو غير عالم, وكلمته فيها تفصيل فقرأوها في كتابه في شرح البخاري ونقلها عنه ابن حجر رحمه الله في لسان الميزان.
وأيضا ذكر تاج الدين السبكي في كتابه معيد النعم قصة والده تقي الدين أنه أقرأ الكشاف ثم أمسك عنه بسبب الإساءة للنبي r مع ما في هذا الكتاب من النكت والفوائد البديعة , وذكر أنه صنف كتابا سماه الانكفاف عن اقراء الكشاف وهو في طريقه إلى الخروج إلى الناس.
ومما أخذ على الزمخشري إيراده للأحاديث الضعيفة والموضوعة ومعلوم أن الرجل ليس له خبرة بالحديث, ومما أخذ عليه أيضا وهذا قد لا ينتبه إليه بعض الناس استخفافه بتوهيم القراء كما يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير وتخيل هو أن القراء إنما يقرأون من محض اجتهادهم وهذه آبدة عظيمة.
أيها الاخوة ما لابد من بيانه فيما مضى أهم ما للزمخشري وأهم ما وقفت عليه من كلام أهل العلم وليس موقفي الآن موقف محاكمة للرجل ولا للموازنة بين حسناته وفرطاته ولكن الذي يهمني الآن بيانه أمور وسأذكرها باختصار.
أولها: أن الكشاف بحاجة إلى تحقيق علمي صحيح بعد جمع نسخه وهي كثيرة ولا بد من اختيار أفضلها وأصحها بدءً من نسخة المؤلف إن وجدت أو من نسخة قرأت عليه أو صححت على نسخته وذلك لأن جميع نسخ الكشاف التي اطلعت عليها مطبوعة فيها تحريف وتصحيف ولا أستبعد السقط -وأنا أذكر لكم نموذجا واحدا الآن- خطأ في جميع المطبوع من تفسير الكشاف بدءً من طبعة كَلَكُوتا التي طبعت سنة 1276 إلى آخر طبعة فيما وقفت عليه وهي طبعة دار الكتاب العربي التي حققها كما يقال تحقيقا تجاريا أبو عبد الله الزهراوي كما يقول وطبعت سنة 2012 من الميلاد, لاحظوا كم بين الطبعتين؟! 160 سنة, طبع الكشاف عشرات الطبعات وفي جميع الطبعات إلا طبعة بولاق وجدت لاحظوا هذا الخطأ:
يقول الزمخشري عند فوائد تقطيع القرآن سورا عند قوله تعالى: ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) قال ومن فوائده أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون بيانا واحدا, هكذا ورد في جميع نسخ الكشاف المطبوعة وهي بالعشرات. كذا جاء بيانا.
وهذا أيضا وجدته في النسخ التي غير تفسير الكشاف عند النسفي وعند المعاصرين وعند الزحيلي.
والصواب أيها الاخوة أنه أفخم من أن يكون بَبَّاناً واحداً بباء واحدة يريد شيئا واحدا وهذا يستقيم مع كلامه ويعطي البلاغة التي أراد كما بين ذلك الشارح الطيبي والجرجاني.
أقول أيها الإخوة هذا الكلام كنت قلته قبل أن أطلع على حاشية الطيبي التي طبعت قريبا في دبي مع الكشاف فإنهم حققوا الكشاف لأول مرة تحقيقا علميا ومقابل علىنسخة خطية أحدمجلديها مقابل على نسخة المصنفكما نص عليه ناسخها في المقدمة.
وبذلك أسدواللعلم خدمة جليلة ولقد كشفوا في تحقيقهم أن في الكشافسقطا وتحريفاوأخطاء وعلى هذا فلا ينبغي لطالب العلم أن يرجع إلى نسخة الكشاف المطبوعة الحالية إلا أن يرجع إلى الطيبي.
الأمر الثاني الذي أريد بيانه أيها الاخوة أنه لا ينبغي أن يطالع الكشاف إلا من كان له دراية بالعلم الشرعي ومن له تمييز بين الحق والباطل وبخاصة في المسائل التي بنى عليها المعتزلة أصولهم وخالفوا بها أهل السنة وعلى هذا فلا ينبغي أن يوصى بقراءة الكشاف لا لعوام الناس ولا للمثقفين بل ولا على طلاب الجامعة فضلا عمن دونهم ولا أن يكلف بالرجوع إلى الكشاف ولا بالنقل عنه, بل يقرأه طلاب الدراسات العليا وبإشراف أساتذتهم فإنه ربما قرأ انسان عادي واطلع على مبعثه فاستقرت في قلبه ولهذا حذر العلماء من مطالعته.
فمن ذلك ما ذكره تاج السبكي قال والقول عندنا فيه ( أنه لا يسمح عندنا بالنظر إلا من سار على منهج السنة حتى لا تزحزحه شبهات القدرية).
وذكر أيضا قريبا من هذا الكلام السيوطي في التحبير وذكر أيضا قريبا من هذا الكلام ابن أبي جمرة وذكره غيرهم من أهل العلم.
والأمر الثالث أن الكشاف بحاجة إلى ما يرد عليه اعتزاله ويبطله ويبين فساد هذا المذهب وضلاله ردا على وفق منهج أهل السنة والجماعة إذ لا يوجد رد كذلك فيما أعلم, والمطبوع الموجود من الردود على الكشاف رد ابن المنير الموسوم بالانتصاف ورد ابي عمر السكوني المسمى التمييز وهما أشعريان فلا يمثلان أهل السنة والجماعة, نعم يستفاد من كتبهما في مسائل كالقدر وانفاذ الوعيد والتخييل الذي حمل الزمخشري عليه الآيات وغير ذلك من المسائل.
لكن أهل العلم يعلمون أن ثمة اتفاقا بين المعتزلة والأشاعرة في قضايا عقدية فاصلة وفي أصول الاستدلال عليها وهي مسائل توافقت عليها الطائفتين لفظا ومعنى, وإليكم شيئا من الاتفاق بين الطائفتين – أنا جمعت ما حضرني من هذه الاتفاقات :
في أصول الاستدلالأولا: الأشاعرة والمعتزلة عندهم أن الله لا يعرف وجوده إلا بالنظر فلا يعرف بالفطرة ولا بنظرة العقل.
وعندهم أن النظر والاستدلال على وجود الصانع سبحانه إنما وقع بدليل بدعي وهو حدوث الأجسام بحلول الأعراض فيها .. إلى آخر الكلام.
وعندهم أيضا عند الطائفتين تقديم دلالة العقل على النقل عند التعارض.
وثانيا: في أصول العقيدة والتوحيد: عندهم عدم ذكر توحيد الألوهية في أنواع التوحيد.
وعندهم إثبات أسماء الله تعالى وأنها أعلام محضة لا تتضمن وصفا قائما به سبحانه ماعدا الأسماء التي تشتق من الصفات السبع الذاتية عند الأشاعرة.
وعندهم أيضا ثالثا: نفي قيام الصفات الاختيارية لله تعالى سواء أكانت فعلية أو فعلية ذاتية,
وعندهم نفي تسلسل المخلوقات, وعندهم نفي الجهة عن الله, وعندهم نفي علو الله على خلقه, وعندهم أيضا نفي النزول الإلهي’ وهذا داخل في نفي الأفعال الاختيارية.
ولزم من اشتراك الطائفتين المعتزلة و الأشاعرة في نفي الصفات اتفاقهما في المسائل من جهة الحقيقة والمعنى وإن اختلفا فيهما اختلافا لفظيا.
فمن ذلك القول بخلق القرآن فإن قول الأشاعرة لا سيما المتأخرين في معنى قول المعتزلة إن وافقوهم على أن كلام الله الذي هو القرآن المتلو والمسموع مخلوق فليس لله في الأرض بيننا كلام, وكلامنا في هذا معروف بل صرح عضد الدين الإيجي في كتابه المواقف وهو من أئمة الأشاعرة كما سلف أنهم – أي الأشاعرة – لا ينكرون قول المعتزلة أي في كون القرآن مخلوقاً.
وثانيا من الاتفاقات بين الطائفتين القول بنفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة من جهة العلو فهو عند المعتزلة لا يرى مطلقا وعند الأشاعرة يرى لكن لا من جهة العلو ولا من أي جهة فكأنهم نفوا صفة الرؤية بردها على صفة العلم فوافقوا المعتزلة فهذا اتفاق بين الطائفتين.
إذن فأهل السنة بحاجة إلى رد على الكشاف وأقترح هنا اقتراحين اثنين أولهما: أن يقوم أحد علماء السنة المعاصرين بالرد على الكشاف أو أن يقسم الكشاف بين ثلة من طائفة الدراسات العليا النابهين للرد عليه في جامعات أهل السنة ويكون للطالب مشرفان أحدهما شرعي والآخر من أهل اللغة والبلاغة لأن المؤلف دس كثير من اعتزاله عن طريق البلاغة وهي من الجهة نفسها التي اعجب الناس من أجلها بالكشاف ولابد أن يفيد لهؤلاء ممن عني بالرد على الزمخشريكالذين سميناهم آنفا كأبي حيان والطيبي وغيره من المفسرين فإذا لم يتيسر تنفيذ ذلك فإن اقتراحي الثاني هو أن يتولى أحد أن علماء السنة اختصار الكشاف وتنقيته من الاعتزال والاختصار كما هو معلوم أحد فنون التأليف السبعة التي لا يؤلف عالم عاقل إلا في واحد منها كما قال ذلك ابن حزم ومن العجب أنني على ما قرأت من مختصرات الكشاف وهي كثيرة أنني لم أجد أحدا من أهل السنة اختصر الكشاف مع أنهم يرجعون إليه وينقلون منه ويحتجون بإعراباته وباختياراته وهذا مما يحتم المبادرة بذلك.
والأمر الرابع الذي انبه عليه أيها الاخوة أن علم البلاغة وهو الأساس الذي بنى عليه الزمخشري تفسيره ونفد من خلاله لتأييد اعتزاله هذا العلم بريء كل البراءة من البدعة والاعتزال فإنه علم آلة وضع ليخدم علوم الشريعة لا ليهدمها فهو كعلم النحو وعلم أصول الفقه ومصطلح الحديث, والزمخشري وإن استغل علم البلاغة في نصرة مذهبه كما تقدم بيانه فإنه لا حجة له بذلك وهو محجوج بكل ما استنصر به من هذا العلم في باطل.
بل الذي أجزم به ويجزم به كم من درس البلاغة أن هذا العلم يؤيد الحق وينصر مذهب أهل السنة في أبواب الاعتقاد والزمخشري بتعصبه الشديد لا يهمه أن يرد الحق ويتعامى عن الأصول الصحيحة وما تقتضيه قواعد العلم الواضحة ومسلماته المعروفة ولهذا تجده يراوغ عند النصوص التي تبطل مذهبه ويستعمل اسلوب اللف والدوران كما يقال.
ومن أوضح الشواهد في ذلك وأجلاها أنه قال في قوله تعالى: ( وما هم بخارجين من النار) قال (هم ) أي الضمير بمنزلته في قوله (هم يفرشون الرده)كل طمرة أو يُفرشون روايتان في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص فالزمخشري يجعل مجيء الضمير المسند إليه ( هم ) المسبوق بالنفي ( ما ) والمخبر عنه باسم الفاعل ( خارجين ) يجعل غرضه التقوية لا الاختصاص والذي عليه البلاغيون أن مثل هذا التفكير يفيد الاختصاص فيكون المعنى أن هؤلاء الكفار غير خارجين من النار فيلزم منه خروج غيرهم ممن دخل النار وهو غير كافر وهذا خلاف معتقد المعتزلة فإنهم يرون أن أصحاب الكبائر لا يخرجون من النار ولهذا لجأ الزمخشري كما ترى إلى القول بأن تقديم الضمير هنا ليس للاختصاص وإنما هو للتأييد والتقوية والتأكيد, وهذا تراجع منه عن القاعدة البلاغية الشهيرة التي قررها هو نفسه في مواضع.
وقد أجاد ابن المنير في الرد عليه وألزمه بما قاله في مواضع أخرى مما يخالف قوله هنا بل قال ابن المنير عند هذه الآية قال سبحانه من امتحن الزمخشري بهذه المحنة على حذقه وفطنته والله ولي التوفيق.
وشاهد آخر ساقه السبكي في عروس الأفراح في أن الزمخشري ناقض نفسه في تقرير قاعدة بلاغية في كتابه ثم رجع ينقضها حينما استدل بها على عقيدته والحاصل أن الزمخشري يتعسف في مخالفة القواعد لخدمة مذهبه ولا يضيره عند نفسه أن يخالف الجماهير.
ومما يذكر له في ذلك اختياره في الكشاف أن ( لن ) تفيد تأييد تأبيد النفي لتدل عن امتناع رؤية الله المذكور في قول جل وعلا ( قال لن تراني ) فإنه قال عند هذه الآية فإن قلت ما معنى ( لن )؟ قلت تأكيد النفي الذي تعطيه ( لا ) وذلك أن (لا) تنفي المستقبل تقول ( لا أفعل غدا ) فإذا أكدت نفيها قلت ( لن أفعل غدا ) ثم فسر هذا التوكيد بما يفيد التأبيد ولا شك أن هذا القول منه باطل وهو مخالف لما عليه الجماهير والرد عليه مشهور معلوم.
وللحق والحقيقة أيها الاخوة هذا القول ينسب للزمخشري وقرره ابن مالك رحمه الله وغيره حينما قال في شرح بيته في الكافية الشافية قال: ومن رأى النفي من المؤبدة فقوله بد وسواه فاعبداقال قاله بذلك الزمخشري.
وفي الحقيقة انصافا للرجل ليس هو أول من قال بها بل وجدت عالما قبل الزمخشري جزم بذلك وهذا هو أبو منصور ابن الجبّان كان حيا سنة 416 وحديثه عن (لن) في كتابه شرح الفصيح وهو في اللغة وهو مطبوع حديثا في العراق ولعل هذا من الاضافات الحسنة في هذه المحاضرة في هذا المكان أن تنسب لأهلها.
والأمر الخامس الذي انبه عليه وهو تتميم لما ذكرته آنفا أن عبارة الزمخشري على سلاستها وقوتها سهلة مأنوسة في مجملها يفهمها القارئ المتوسط هذا في الغالب وقد يعرض في كلامه مصطلحات بلاغية وقد يجمل القول ويوجز في بعض تحليلاته البيانية فيصعب فهم مراده ليترك للقارئ فرصة كي يتأمل ويعاود القراءة وهذا يعرفه قراءه وحينئذ يراجع الباحث الحواشي التي وضعت عليه ولا سيما حاشية الطيبي الموسومة بفتوح الغيب التي طبعت قريبا وطبعها غنيمة فإنها أجل حواشي الكشاف على الاطلاق فإن لم تجد فيها يا طالب العلم ما يشفيك من فهم كلام الزمخشري فأوصيك بمراجعة المفسرين من أتباع مدرسة الكشاف الذين سلكوا طريقته وعنوا بالبلاغة القرآنية فإن لهم اهتماما ببيان مبهماته وبسط موجزاته ولا سيما أصحاب حواشي البيضاوي كشهاب الخفاجي والقونوي والشيخ زاده لأن هؤلاء يعالجون عبارات تفسير البيضاوي وهو مختصر من الكشاف وذكرت نماذج فيهاكلمات حسنه في ايضاح كلام الزمخشري لكن للوقت أدع ما ذكرته من النماذج لفرصة أخرى.
وبعد أيها الاخوة فهذه كلمات كاشفة عن كشاف الزمخشري استطعت أن أوجزها في هذا المكان وفي القول سعة وكم كنا نود أيها الاخوة لو أن الزمخشري قصر كتابه على بلاغة القرآن وترك التعرض لمسائل الاعتزال مما شان كتابه وهذه أمنية قديمة تمناها قبلي ابن المنير في كتابه في الانتصاف الذي رد به عليه فإنه قال في بعض كلامه حينما علق على كلام الزمخشري الذي أعجبه قال: ( ليت الزمخشري لم يتحدث في تفسير القرآن إلا من حيث علم البيان فإنه فيه أفرس الفرسان لا يجارى في ميدانه ولا يمارى في بيانه ).. انتهى كلام ابن المنير.
نسأل الله أن يغفر للجميع ويتولاهم برحمته ونسأل الله عز وجل أن يعامل الزمخشري بعفوه ويتجاوز عن زلته لقاء نصحه في تفسيره لكلام الله عز وجل كما نسأله تبارك وتعالى أن لا يجعل علينا تبعة فيما قلنا أو نقلنا.. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
وأشكر للحاضرين حضورهم وأرجوا أن أكون قد جئت بجديد يفيدهم ويمتعهم ولو قليلا والله يتولانا برحمته وعفوه وصلى الله وسلم على محمد.
"تمت بحمد الله"
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...اما بعد...جزاكم الله تعالى خيرا...ارجو ان تسمحوا لي بهذه
المشاركة....(
الزمخشري صاحب تفسير " الكشّاف " نسبة إلى " زَمَخْشَر " وهي قرية كبيرة من قرى " خوارزم " ، واسمه محمود ، وكنيته أبو القاسم ، توفي عام 538 هـ ، وهو من دعاة الاعتزال الكبار ، والمعتزلة فرقة مبتدعة من أبرز عقائدها : القول بخلق القرآن ، وبنفي رؤية الله تعالى يوم القيامة ، والقول بتعطيل الصفات ، والقول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار في الآخرة إذا لقي الله تعالى ولم يتب منها أو لم يقم عليه الحد في الدنيا ، وغير ذلك من أقوال الضلال .قال الذهبي رحمه الله : " الزمخشري ، العلامة ، كبير المعتزلة ، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي النحوي ، صاحب " الكشاف " و " المفصل " – في النحو - .
... .
وكان داعية إلى الاعتزال ، الله يسامحه " انتهى مختصراً من "سير أعلام النبلاء" (20/151 – 156) .
ثالثاً :
كتاب الزمخشري " الكشاف " هو في تفسير القرآن ، ولأهل السنَّة عليه ملاحظات كثيرة ، أبرزها :
1. نشر عقائد المعتزلة من خلال التعسف في فهم الآيات القرآنية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وأما " الزمخشري " فتفسيره محشو بالبدعة وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن ، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد ، وغير ذلك من أصول المعتزلة ... وهذه الأصول حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها ولا لمقاصده فيها ، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة ، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين " انتهى من "مجموع الفتاوى" (13 /386 ، 387) .
وقال الذهبي رحمه الله – في ترجمة الزمخشري - : " صالح ، لكنه داعية إلى الاعتزال أجارنا الله , فكن حذراً من " كشَّافه " انتهى من "ميزان الاعتدال" (4/78) .
2. إنكار قراءات صحيحة مشهورة .
قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله : " وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم " انتهى من "تفسير البحر المحيط" (2 /225) .
3. التعرض لمقام النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء .
فعند قوله تعالى ( عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) التوبة/ 43 : قال الزمخشري : ( عَفَا اللَّهُ عَنكَ ) كناية عن الجناية ؛ لأن العفو رادف لها ، ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت ! .
" تفسير الكشاف " (2 /261) . ) منقولة من موقع الاسلام سؤال وجواب. كما ارجو التذكير ان بعض الكلام في المحاضرة من الافضل
الاعراض عنه وعدم ذكره مثلا...(
اعترف كثير من العلماء بما قدمه الزمخشري من الحديث عن بلاغة القرآن وسلموا له بأنه سلطان هذه الطريقة والإمام السالك في هذا المجاز إلى الحقيقة وبالغ بعضهم فقال: لولا الأعرجان لذهبت بلاغة القرآن سمعته من طائفة من أساتذتي يريدون الزمخشري والسَّكَّاكي وأورد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله هذه الكلمة عن شيخه المتفنن محمد الناشد الحلبي لكنه ذكرها بقوله: ( لولا الأعرج والكوسج لظل القرآن بكرا) أي لم تتبين بلاغته على وجهها الأكمل.)
فمثل هذا الكلام لايليق بالقرآن الكريم....وان بلاغته باقية سواء ظهر الكشاف ام لم يظهر...والله تعالى اعلم.

 
عودة
أعلى