النسخة الكاملة من التفسير التحليلي لسورة الناس

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
[h=1]{بسم الله الرحمن الرحيم } [/h]الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، مما يعلمه المتخصصون في فن التفسير أن استقصاء الدقائق البلاغية والتحقيقات اللغوية والآراء والأقوال والمناسبات بين الآيات والترجيح في التفسير في كل آية يستغرق أوقاتا طويلة ، ولذلك فكرت بعمل تفسير يلخص زبدة كلام العلماء مع الاستقصاء التام والتحرير والتحقيق والترجيح بحيث يحوي معظم ما كتبه العلماء في هذا الفن فهذه السورة جزء من هذا التفسير الذي أرجو من الله تعالى أن يتممه بكرمه سبحانه ، وهو ملخص من معظم الكتب المطبوعة بما فيها حواشي الكشاف والبيضاوي وغيرها من تفاسير علمائنا رحمهم الله .
[h=1]سورة الناس: [/h][h=1]المبحث الأول: مقدمات السورة: [/h][h=1]وفيه اثنتا عشرة مسألة : [/h]
[h=1]المسألة الأولى : أسماء السورة:[/h]1. "سورة الناس" وبه عرفت في المصاحف وكتب التفسير، ووجه التسمية بذلك افتتاحها بقوله تعالى { قل أعوذ برب الناس} وذكر الناس فيها خمس مرات.
2. "سورة {قل أعوذ برب الناس}" وقد عنون البخاري لها بذلك.
3. تسمى الفلق والناس بـ"المعوِذتين" (بكسر الواو والفتح خطأ)[1] لأنها اسم فاعل من «عوَّذ»لأنهما تعوِّذان التالي لهما أي تعصمهما من كل سوء ، وعنونهما الترمذي : "بالمعوذتين "، بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَة وَفِي رِوَايَةٍ: « أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ" وَقَدْ سَمَّاهَا جماعة من المفسرين المعوذة الثانية [2].
4. سورة الناس والفلق تُسَمِّيَانِ «المقشقشتين» (بِتَقْدِيم القافين عَلَى الشِّينَيْنِ) : مِنْ قَشْقَشَهُ : إِذَا أَبْرَاهُ مِنَ الْمَرَضِ وقيل تُبَرِّئَانِ مِنَ النِّفَاقِ[3] أقول الأحسن أن يقال : لأنهما مبرئتان من شرور الدنيا والآخرة ، يقول علي هاني:و المشهور بين العلماء أن المقشقشقة هي سورة براءة (التوبة) وهذا ذكره كثير من العلماء، وأن المقشقشتين سورتا الإخلاص والكافرون[4] لا الفلق والناس، ومن تأمل مضمون سورة (الكافرون والإخلاص) ، و(الفلق والناس) وجد أن أحق سورتين باسم المقشقشتين (الإخلاص والكافرون) ؛ لأنهما اللتان تبرئان من الشرك والنفاق وهذا الذي عليه جمهور العلماء .
5. وتسميان أي الفلق والناس{المشقشقتين}بتقديم الشين على القافين مِنْ قَوْلِهِمْ خَطِيبٌ مُشَقْشِقٌ أَيْ: مُسْتَرْسِلُ الْقَوْلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْفَحْلِ الْكَرِيمِ مِنَ الْإِبِلِ يَهْدِرُ بِشِقْشَقَه: َهِيَ كَاللَّحْمِ يَبْرُزُ مِنْ فِيهِ إِذَا غَضِبَ،قال ابن دريد في المحكم :" والشًقَاشِقً: الخُطَباءُ الفُصَحاءُ. وأصْلُ الشَّقْشَقَةِ: جَهَارَةُ الصَّوْتِ."اهـ يقال: فلَان شقشقة قومه: زعيمهم المتحدث عَنْهُم ، وهذا الاسم ذكره: الزمخشري، والسخاوي والسيوطي ، قال ابن عاشور: " ، ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك" ، يقول علي هاني: لعل وجه التسمية أن السورتين لما حوتا من المعاني البليغة الكثيرة الحافظة للإنسان من شرور الدنيا والآخرة وكانتا من الأوراد القصيرة الجامعة،شبهتا بالخطيب البليغ الفحل ، وكأنها المتحدثة عن القرآن بتلخيص معانيه لما سنذكر من المعاني الكثيرة التي تضمنتها السورتين مع الإيجاز البليغ .
المسألة الثانية : عدد الآيات[5]:
القول الأول: وهو الأصح أن هناك خلافا في عد سورة الناس بين أهل العدد: فهي سبع آيَات فِي الْمَكِّيّ والشامي وست فِي عدد البَاقِينَ (أي عند المدني الأول، والأخير، والكوفي، والبصري).
ذكره أبو عمرو الداني في البيان، وابن الجوزي في فنون الأفنان، والسخاوي في جمال القراء، وعبد الفتاح القاضي في الفرائد ، والفيروزآبادي في البصائر، والسفاقسي في الغيث، وابن عبد الكافي في البيان، والمخللاتي في القول الوجيز والبقاعي في مصاعد النظر .
قال أبو عمرو الداني والبقاعي : وَهِي سبع آيَات فِي الْمَكِّيّ والشامي ، وست فِي عدد البَاقِينَ ، اختلافها آيَة ( {الوسواس} ) عدهَا الْمَكِّيّ والشامي ، وَلم يعدها الْبَاقُونَ
وقال عبد الفتاح القاضي في نفائس البيان شرح الفرائد الحسان:
والعصر دع للثان عكس الحق... جوع نفى العراق والدمشقي
وهم يراءون عراق حمصهم... يلد مع الوسواس مك شامهم
أي في سورة الناس واحد وهو {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ}.
القول الثاني: قالوا هي ست آيات بلا خلاف:
قال الطوسي هي ست آيات بلا خلاف ،قال ابن عاشور:" وذكر في الإتقان قولا: أنها سبع آيات وليس معزوا لأهل العدد" ، وقال الآلوسي: "وآياتها ست لا سبع وان اختاره بعضهم".
يقول علي هاني الراجح :هو القول الأول ؛لأنه الذي عليه المتخصصون في هذا الفن أعني فن عد الآي ، وبه يظهر ما في كلام ابن عاشور والطوسي ـ رحمهما الله ـ من خلل.
[h=1]عدد الكلمات: وعشرون كلمة.[/h][h=1]رويها: السين.[6][/h][h=1]المسألة الثالثة: هل هي مكية أو مدنية: [/h][h=1]القول الأول: قالوا إنها مكية [/h]اختاره: جابر بن زيد و الحسن وعطاء وعكرمة ومقاتل والزمخشري وابن عاشور وابن جزي والطوسي والطبرسي والسمرقندي والنيسابوري والثعالبي والميرغني والمراغي وإبراهيم القطان وحسنين مخلوف وسيد قطب والشربيني والقاسمي وجعفر المرتضى والأمثل ودروزة والهواري و رواه أبو كريب عن ابن عباس.
قال ابن عاشور: واختلف فيها أمكية هي أم مدنية، وروى أنها مكية كريب عن ابن عباس. وروى كونها مدنية أبو صالح عن ابن عباس، والأصح أنها مكية لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلم، قال دروزة: وبعض الروايات تذكر أنها مكية، وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها، ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول، وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها، وتبكير نزولها ، .قال الأمثل: السّورة كما هو مشهور مكّية، ولحنها مثل لحن السور المكّية.
[h=1]الأدلة: [/h]1) قالوا ألفاظ الآية وقصرها وموضوعها يزيد احتمال مكّيتها ، وروح السورة وأسلوبها يجعلان النفس مطمئنة إلى ذلك.
2) ومعظم روايات ترتيب السور التي ذكرها السيوطي في الإتقان تذكر هذه السورة في السور المكية .
3) فيها تصوير لما كان يجري بين الكفار إزاء الدعوة النبوية؛ حيث كان زعماؤهم يبثون الدعاية والوساوس ضدها، ويكيدون لها، ويتآمرون عليها ليلا ونهارا ؛ ولذا ذكر فيها الاستعاذة من شياطين الإنس والجن { الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} .
4) أن شيخ المفسرين الطبري لم يذكر في تفسيره للفلق والناس أنها نزلت في سحر النبي صلى الله عليه وسلم وإن تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بهما ، وكذلك الزمخشري وقال ابن عاشور: أصح الروايتين عن ابن عباس أنها مكية .
5) الأحاديث الصحيحة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي غير مصرحة بنزول المعوذتين في هذه القصة وما ورد في بعض الروايات أنها نزلت في هذه القصة فضعيف كما سيأتي فغاية الأمر أن الملك قرأهما على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدل على أنهما نزلتا لأجل هذه القصة.
[h=1]القول الثاني: قالوا إنها مدنية [/h]قاله: عبد الله بن الزبير و الضحاك ومجاهد والخازن وابن كثيرو مكي و الآلوسي والسمعاني والثعلبي وابن الجوزي و الواحدي والمظهري والسعدي و الطباطبائي و الماتريدي وابن عجيبة و الطباطبائي وحقي وعبد الكريم الخطيب واختاره السيوطي في الإتقان[SUP]([7])[/SUP] وابن الملقن.
قال الآلوسي: مكية في قول ـ ـ مدنية في قول ابن عباس في رواية أبى صالح وقتادة وهو الصحيح لأن سبب نزولها سحر اليهود كما سيأتي إن شاء الله تعالى وهم إنما سحروه عليه الصلاة والسلام بالمدينة كما جاء في الصحاح فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية وكذا في الكلام في سورة الناس، قال الخازن مدنية، وقيل: مكية، والأول أصح .
[h=1]الأدلة: [/h]استدلوا:
· بما ورد في سبب النزول قالوا المستفاد من الروايات أن السورتين نزلتا معا ، وسبب نزول الفلق سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
· يدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر وهو مع عائشة رضي الله عنها ، فنزلت عليه المعوذتان ، قال البقاعي: والأول أصح، ويدل عليه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر وهو مع عائشة رضى الله عنها، فنزلت عليه المعوذتان.
· وقد قال الإمام النووي إن هناك روايات تذكر أن نزول السورتين كان عند قصة السحر حيث قال: "وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَنَزَلَ رَجُلٌ فَاسْتَخْرَجَهُ وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي الطَّلْعَةِ تِمْثَالًا مِنْ شَمْعٍ تِمْثَالُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا فِيهِ إِبَرٌ مَغْرُوزَةٌ وَإِذَا وُتِرَ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فَكُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ وَكُلَّمَا نَزَعَ إِبْرَةً وَجَدَ لَهَا أَلَمًا ثُمَّ يَجِدُ بَعْدَهَا رَاحَةً " ، وَفِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ نَحْوُهُ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ ، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ[8] وَغَيْرِهِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ."
[h=1]الراجح: [/h]الراجح عندي ما رجحه الحسن وعطاء وعكرمة و الزمخشري ومن معهم من أنها مكية ؛لأن موضوعها أنسب بالفترة المكية الذي أنزلت الآية التي تشبهها فيه وهي: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} فسورة الناس فيها استعاذة من شر الوسواس الخناس الذي هو من الجنة والناس، وهذا يحتمل النزول في مكة والمدينة لكن الأقرب أن يكون في مكة التي يكثر فيها شياطين الإنس، وأما الروايات التي في البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد والنسائي فليس فيها تصريح بأن السورتين نزلتا في وقت سحر النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح، قال محقق كتاب البسيط للواحدي:" ومن خلال ما ورد في الصحيحين يتبين أنه ليس فيه ما يدل على نزول المعوذتين على الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سحر".
· وأما الرواية التي في الثعلبي التي فيها " فأنزل الله تعالى السورتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة، "فقد قال عنها ابن كثير " هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم"[9] .
· وأما الروايات التي أوردها الإمام النووي التي فيها التصريح بنزول المعوذتين في قضية سحر النبي صلى الله عليه وسلم فضعيفة وإليك بيان ذلك :
· أما رواية عمرة عن عائشة التي ذكرها النووي رحمه الله فقد رواها البيهقي في دلائل النبوة قال أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ابن حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ ـ ـ وَإِذَا وَتَرٌ فِيهِ إِحْدَى عَشَرَةَ عُقْدَةً فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ" وهذا السند فيه محمد بن عبيد ضعيف جدا (متروك) [10].
· وأما الروايات التي عن ابن عباس رضي الله عنما فقد ضعفها ابن حجر في الفتح ، والعراقي في تخريج الإحياء : قال ابن حجر : " وَقد وَقع فِي حَدِيث بن عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ فِي آخِرِ قِصَّةِ السِّحْرِ الَّذِي سُحِرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا وِتْرًا فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً وَأُنْزِلَتْ سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ وَجُعِلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّت عقدَة "، وَأخرجه بن سعد بِسَنَد آخر مُنْقَطع عَن بن عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا وَعَمَّارًا لَمَّا بَعَثَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاسْتِخْرَاجِ السِّحْرِ وَجَدَا طَلْعَةً فِيهَا إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً فَذَكَرَ نَحْوَهُ"، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء وفي الباب عن ابن عباس وزيد بن أرقم أما حديث ابن عباس فأخرجه ابن مردويه في تفسيره من رواية عصام عن سليمان بن عبد الله عن عكرمة عنه وعصام ضعيف" .اهـ
· وأما رواية زيد بن أرقم التي رواها بن حميد و فيها " فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ" فلا يصلح الاستدلال بها ، لأنه قد روى حديث زيد بن أرقم أحمد بن يونس ، وهو ثقة ولكنه خالف من هو أوثق منه فقد رواه عن زيد بن أرقم ابن أبي شيبية ، وأحمد بن حنبل [11]، والبغوي[12] وغيرهم عمن هو أوثق من أحمد بن يونس بدون ذكر هذه زيادة: "أنه نزل بالمعوذتين"،إضافة إلى أن هذه الزيادة لم تذكرها الكتب المعتبرة التي روت الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما ، فهذه الزيادة شاذة لمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ولو سلم صحتها تحمل على أنها اجتهاد ، كما في كثير مما قيل فيه نزل في كذا ومعناه انطبق على كذا.والله أعلم.
· وإليك بعض الروايات في الكتب المعتبرة ليتبين لك ما ذكرت:
· َقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي "كِتَابِ الطِّبِّ" مِنْ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابنُ جُرَيْج، يَقُولُ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَة، عَنْ عُرْوَةَ، فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ، فحدثَنا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحر، حَتَّى كَانَ يُرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ -قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، إِذَا كَانَ كَذَا -فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، أَعْلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا استفتيتُه فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيِّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ[13]. قَالَ: وَمَنْ طَبَّه؟ قَالَ: لَبيد بْنُ أَعْصَمَ -رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيق حَليف ليهُودَ، كَانَ مُنَافِقًا-وَقَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشط[14] ومُشاقة. قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُف[15] طَلْعَة ذَكَرٍ[16] تَحْتَ رَعُوفَةٍ [17]فِي بِئْرِ ذي أروان [18]". قَالَتْ: فَأَتَى [النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ فَقَالَ: "هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعة الحنَّاء، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ". قَالَ: فَاسْتَخْرَجَ. [قَالَتْ]. فَقُلْتُ: أَفَلَا؟ أَيْ: تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: "أمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا" .
· وَأَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَأَبِي ضَمْرة أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، وَأَبِي أُسَامَةُ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ وَفِيهِ: "قَالَتْ: حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ". وَعِنْدَهُ: "فَأَمَرَ بِالْبِئْرِ فَدُفِنَتْ".
· وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ رَبَاحٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هشَام، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يُرى أَنَّهُ يَأْتِي وَلَا يَأْتِي، فَأَتَاهُ مَلَكَانِ، فَجَلَسَ أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا بَالُهُ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
ونحن إذ نقول إن السورة لم تنزل في هذه القصة لا ننكر حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم كما ذهبت إليه المعتزلة ومن وافقهم ، ولا ننكر السحر كما تقول المعتزلة وإليك الرد على المنكرين لأهمية هذا الموضوع :
[h=1]المسألة الرابعة : الرد على هذا الحديث وإنكار حقيقة السحر :[/h][h=2]أولا الرد على المعتزلة ومن وافقهم في إنكارهم السحر [19]:[/h]· مذهب أهل السّنة، وجمهور علماء الأمة إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثّابتة، خلافاً لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلا خيالات باطلة لا حقائق لها.
· وقد ذكره الله في كتابه، وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن أن يكون مما لا حقيقة له.
· قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} يعني اللاتي ينفثن بالرقي والعزائم، فلولا أن لشرهن تأثيرًا وإلا لم يؤمر بالاستعاذة من شرهن.
· لا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق، أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوى لا يعرفها إلا الساحر، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى على يد من يشاء من عباده.
[h=2]ثانيا الرد عليهم في إنكارهم لحديث سحر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: [/h]قد أنكر بعض الناس حديث عائشة المتفق عليه واستدلوا بأدلة منها:
1. أنه يحط منصب النّبوة، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثّقة بالشّرع .
2. لا يجوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- مسحورًا، لأن الكفار كانوا يعيرونه بذلك، فلو قلنا: إنه سحر، وجوزنا ذلك كنا قد أجزنا ما عير به، ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز.
3. لأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر لجميع الأنبياء والصالحين، ولقَدرُوا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل.
[h=1] رد هذا القول: [/h]1. أن هذه القصة قد ثبتت صحتها عند المحدثين و المفسرين، وأهل النقل، والعلم بالرواية .
2. أن الدّلائل القطعية والنقلية قد قامت على صدقه صلى الله عليه وسلم، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل من أنه يمكن أن يؤثر السحر على عقله باطل ، ولم يكن الله ليسلط عليه شيطانًا أو جنيًّا أو انسيًّا فيما يؤدي إلى الضرر في الدين والنبوة وبيان الدعوة، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا والجسد وهو ما يعرض للبشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد ثبتت الرواية الصحيحة بسحر اليهود له صلى الله عليه وسلم وثبت في الروايات نفسها أن هذا التأثير كان تأثيرا على جسمه صلى الله عليه وسلم ، فالروايات جاءت مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه، لا على اعتقاداته الإيمانية أو الشرعية أو التبليغية ، وليس في ذلك ما يوجب لبساً على الرسالة، ولا طعناً لأهل الزّيغ والضّلالة، فقد ورد : أنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته، وليس واطئا ، وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة ولا حقيقة له، فالإضرار ببدنه صلى الله عليه وسلم حاصل جائز ، فقد صح أن وجهه شج، وأن رباعيته كسرت يوم أحد، ولم يقدح ذلك في نبوته كذلك السحر المتعلق بالجسد لا التبليغ جائز عليه صلى الله عليه وسلم .
3. لا يجوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم-مسحورًا على الوجه الذي عيره به الكفار، فإنهم كانوا يريدون أنه مخدوع مجنون سحر بتخبيل عقله فلذلك خالفهم في الدعاء إلى توحيد الله، فأما أن يكون مسحورًا بوصف يجده في بدنه، فذلك ما لا ينكره أحد.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتُ هَذَا الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةً أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ واعتقاده ويكون معنى قوله فى الحديث حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن وَيُرْوَى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَيْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن فاذا دنى مِنْهُنَّ أَخَذَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ فَلَمْ يَأْتِهِنَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَرِي الْمَسْحُورَ وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَنَّهُ يُخَيَّلُ إليه فعل شيء لم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل تَطَرَّقَ إِلَى الْعَقْلِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يدخل لبسا على الرسالة ولا طعنا لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ.
[h=1]المسألة الخامسة: فضائل السورة: [/h]· روى البخاري أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَنْفُثُ [20]عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْت أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا ». قُلْت لِلزُّهْرِيِّ: كَيْفَ يَنْفُثُ ؟ قَالَ: يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ، وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ ".
· وروى الإمام مالك:، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده عليه، رجاء بركتها".
· وفي صحيح البخاري: " عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ".
· . وعن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرأ بالمعوذتين، فإنك لن تقرأ بمثلهما ".
· وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن الضريس وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ».
· وأخرج ابن سعد والنسائي و البغوي والبيهقي عن أبي حابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا حابس، ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوّذون ؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } هما المعوّذتان ».
· وكان صلى الله عليه وسلم يعوِّذ بهما الحَسَن والحُسَيْن كما ثبت في الصحيح.

[h=1]المسألة السادسة : المعوذتان من القرآن بإجماع المسلمين وأما ما ورد عن ابن مسعود أنه لم يعد الفلق والناس من القرآن فمردود أو مؤول : [/h][h=1]الإجابة عن الراوية التي رويت عن ابن مسعود أنه لم يعد الفلق والناس من القرآن[21]: [/h]روى الإمام أحمد وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن عاصم: (أن عبد الله بن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه) وأخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه[22] عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه انهما ليستا من كتاب الله تعالى انما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتعوذ بهما.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عاصم بن بَهْدَلة، عن زر بنُ حُبَيش قال: قلت لأبي بن كعب: إن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه ؟ فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل، عليه السلام، قال له: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } فقلتها، قال: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } فقلتها فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عَبدَةُ بن أبي لُبَابة، عن زر بن حُبَيش - وحدثنا عاصم عن زر - قال: سألت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال: إني سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " قيل لي، فقلت ". فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإجابة عن ذلك:
للعلماء في الإجابة عن هذه الرواية طريقتان:
[h=1]الطريقة الأولى: رد هذه الرواية.[/h][h=1]الطريقة الثانية: التسليم بصحة الرواية لكن مع تأويلها.[/h]وإليك تفصيل الطريقتين:
الطريقة الأولى: رد هذه الرواية.
· قال الإمام فَخَرُ الدِّينِ قَالَ: نُقِلَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُنْكِرُ كَوْنَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذِتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ كَانَ حَاصِلًا فِي عصر الصحابة بكون ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنْكَارُهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَيَلْزَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ فِي الْأَصْلِ. قَالَ: وَإِلَّا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ نَقْلَ هَذَا الْمَذْهَبِ عن ابن مسعود نَقْلٌ بَاطِلٌ وَبِهِ يَحْصُلُ الْخَلَاصُ عَنْ هَذِهِ الْعُقْدَةِ.
· وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍالباقلاني: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا حُفِظَ عَنْهُ، إِنَّمَا حَكَّهَا وَأَسْقَطَهَا مِنْ مُصْحَفِهِ إِنْكَارًا لِكِتَابَتِهَا لَا جَحْدًا لِكَوْنِهَا قُرْآنًا ؛لِأَنَّهُ كَانَتِ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَلَّا يُكْتَبَ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِثْبَاتِهِ فِيهِ وَلَمْ يَجِدْهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَلَا سَمِعَهُ أَمَرَ بِهِ.
· وقال أيضا: (وأما المعوذتان فكل من ادعى أن عبد الله بن مسعود أنكر أن تكونا من القرآن، فقد جهل وبعد عن التحصيل؛ لأن سبيل نقل القرآن ظاهرا مشهورا.. وكيف ينكر كونها قرآنا منزلا ولا ينكر عليه الصحابة، فلو أنكرها لم يستبعد ممن قرأ عليه أن يروي ذلك عنه ويذكره، فلما لم يرو عنه، ولا نقل مع جريان العادة دل على بطلانه وفساده) .
· وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهَا شَيْئًا كَفَرَ وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاطِلٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
· وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى: هَذَا كَذِبٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَوْضُوعٌ وَإِنَّمَا صَحَّ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْهُ وَفِيهَا الْمُعَوِّذَتَانِ وَالْفَاتِحَةُ".
· وفي شرح المواقف: أن اختلاف الصحابة في بعض سور القرآن مروى بالآحاد المفيدة للظن ، ومجموع القرآن منقول بالتواتر المفيد لليقين الذي يضمحل الظن في مقابلته، فتلك الآحاد مما لا يلتفت اليه.
ومما يقوي رده أن قراءة عاصم مروية عن ابن مسعود ونقلها عن ابن مسعود صحيح ، وقراءة عاصم ثبت فيها المعوذتان والفاتحة.
[h=1]الطريقة الثانية: إثبات صحتها مع تأويلها والإجابة عنها : [/h]َقالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: قَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنْكَارُ ذَلِكَ فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفِهِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْمُصْحَفِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَعَوَّذَ بهما وكان لَا يَقْرَأُ بِهِمَا " أَسَانِيدُهُ صَحِيحَةٌ.
قال ابْنُ حَجَرٍ: فَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ وَالطَّعْنُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَا يُقْبَلُ بَلِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةٌ وَالتَّأْوِيلُ مُحْتَمَلٌ"اهـ.
[h=1]وقد أجاب العلماء عن هذه الرواية على تسلم صحتها بإجابات:[/h][h=1]الإجابة الأولى: أنك تعلم أنه وقع الإجماع على قرآنيتهما فالمسلمون أَجْمَعَوا عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةَ مِنَ الْقُرْآنِ ، وقد أجمعوا على كتابتهما في مصحف عثمان أجمع عليه المهاجرون والأنصار ، ولم يتابع أحد من الصحابة ابن مسعود على هذا القول ، و لم يوافقوه عليه، ولا كان من المرضي عنه فيه، فهو أنه رأي واحد يقابله إجماع الصحابة وروايات متواترة ، فلا يعارض القطعي الثابت بالتواتر ، فظن ابن مسعود أنهما ليستا من القرآن لا يطعن في قرآنيتهما ولا ينقض تواتر القرآن.[/h][h=1]الإجابة الثانية: أنه صح عن النبي صلى أنه قرأ بهما في الصلاة.[/h]قال البزار: لم يُتَابِعِ ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاة" ولا يمكن شرعا أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بغير القرآن ، روي في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر: (فإن استطعت أن لا تفوتك قراءتهما [أي المعوذتين]في الصلاة فافعل)، وروي عن عقبة بن عامر الجهني أيضا في صحيح ابن خزيمة، قال: كنت أقود ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فقال: يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ فعلمني: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، فهذه أخبار بنص الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها قرآن منزل.
[h=1]الإجابة الثالثة: [/h]أنه رجع عن هذا القول إلى رأي الجماعة ، وقد ذكر كثير من العلماء رجوع ابن مسعود عن رأيه: منهم ابن الصباغ ، والزركشي ، وابن كثير ، وسيد قطب ، ومجموعة من كتب علوم القرآن .
قال ابْنُ الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ [ أي عند ابن مسعود] الْقَطْعُ بِذَلِكَ ثُمَّ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ " ، قال الزركشي في ذكر عدد سور القرآن: (باتفاق أهل الحل والعقد مائة وأربع عشرة سورة، قال: وكان في مصحف ابن مسعود اثنا عشرة لم يكن فيها المعوذتان لشبهة الرقية، وجوابه: رجوعه عنه)[23] ، وليس أدل على ذلك من أن الذين تعزى قراءاتهم إلى ابن مسعود متفقون على أن المعوذتين من القرآن، فيستخلص من ذلك ثبوت المعوذتين سورتين قرآنيتين عند جميع المسلمين بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم.، قال ابن كثير: هذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء: أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة، رضي الله عنهم، كتبوهما في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنة "وقال سيد قطب: وكان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف".
[h=1]المسألة السابعة: مقصود سورة الناس: [/h]تعليم المسلمين خلاصة العبودية وهو الالتجاء والفقر إلى الله سبحانه، الذي هو رب الناس وملكهم وإلههم دون غيره في دفع شر عظيم يخفى على كثير من الناس إدراكه، وتعليمهم خطر عدوهم الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها و منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة ، الموسوس الملازم للإكثار من الوسوسة والخنوس سرا في أخطر الأماكن ، وتعريفهم أنه من الجنسين الجنة والناس ليتقوه ويلتجئوا إلى الله تعالى من شره .
[h=1]المسألة الثامنة: الربط بين سورة الناس وسورة الفلق: [/h]1) سورة الفلق ركزت على الشرور الآتية من الخارج وسورة الناس على الشرور الداخلة من الداخل ،فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشرور كلها ، وخصت منها الشر الوارد على الإنسان من الخارج : من الغاسق إذا وقب ـ وهو من الأوضاع الكونية المحيطة بالإنسان ـ ومن السحر والحسد من قبل الآخرين ، وسورة الناس خصت الكلام على الوسواس الخناس الذي يأتي إما من داخل صدره أو يوصل وسوسته إلى داخل صدره
2) سورة الناس كذكر الخاص بعد العام. فبعد أن استعاذ من جميع الشرور، وخص ثلاثة أمور لأهميتها وخطرها: الغاسق، النفاثات، الحاسد، خص خطر وسوسة الشيطان الذي هو أشدها خطرا الذي يوسوس في صدور الناس الذي هو أساس الشرور بسورة مستقلة ، وذكر معها ثلاث صفات: الرب والملك والإله، بيانا لشدة خطر الوسواس وتحذيرا منه ،ففيه المبالغة بذكر الخاص بعد العام ، والمبالغة بذكر ثلاث صفات للرب سبحانه .
3) يوجد تناسق بين السورتين : فالمستعاذ به مذكور في سورة الفلق بصفة واحدة، وهو أنه رب الفلق، وخص من المستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: الغاسق والنفاثات والحاسد، وأما في سورة الناس فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث وهي: الرب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، فاختلفت أوصاف المستعاذ به: لأن الأمر بالغ الأهمية والحساسية، لأنه يؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة، ، وفيه إشارة إلى أن حفظ الدين من أهم من حفظ البدن الدنيا من المضرة وإن عظمت؛ بل الثاني مطلوب بالعرض، والأوّل مقصود بالذات فلخطره وأهميته جاءت الصفات الثلاث.
4) السورتان مكلملتان لبعضهما من حيث إنهما استوفتا أقسام النفوس الشريرة : فقد ذكرت السورتان ثلاثة أقسام من النفوس الشريرة:
أ- قسم يصدر عنه الضرر الخارجي ويعمله ومنه النفاثات في العقد.
ب- وقسم لا يريد الخير، فيسعى في سلبه وانتزاعه،ومنه الحاسد إذا حسد.
ت- وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى داخل الإنسان وإلى سلطان الجوارح، ومالك هديها، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، فهو يحسن له الأشياء القبيحة، ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح، وإرادة الخير، ويزين للإنسان كل ما يرد به من القبائح، ويأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله قريبا منه متصلا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح، حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك، ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرا، وأكثر شرا، وأخسر عاقبة، خصص التعوذ منه بسورة كاملة.
5) وفي سورة الفلق الاستعاذة من الشر العام، ومن ثلاثة أنواع منه خصت من العموم وفي سورة الناس الاستعاذة من شر واحد، لكنه سبب في شرور كثيرة.
6) السورتان مشتركتان في التسمية بالمعوذتين، وفي الافتتاح بقل أعوذ، وفي أنهما تعوذ بالله من شرور والتجاء إليه سبحانه، واعتراف بأنه الرب المتصرف دون غيره، وتحذير من أخطار قوية .
وقد أبدع الإمام البقاعي في الربط بين السورتين فجمع معظم ما ذكر هنا بأحسن مما ذكرت حيث قال:" لما جاءت سورة الفلق للاستعاذة من شر ما خلق من جميع المضار البدنية وغيرها العامة للإنسان وغيره، وذلك هو جملة الشر الموجود في جميع الأكوان والأزمان، ثم وقع فيها التخصيص بشرور بأعيانها من الفاسق والساحر والحاسد، فكانت الاستعاذة فيها عامة للمصائب الخارجة التي ترجع إلى ظلم الغير، والمعايب الداخلة التي ترجع إلى ظلم النفس، ولكنها في المصائب أظهر، وختمت بالحسد فعلم أنه أضر المصائب، وكان أصل ما بين الجن والإنس من العداوة الحسد، جاءت سورة الناس متضمنة للاستعاذة من شر خاص، وهو الوسواس، وهو أخص من مطلق الحاسد، ويرجع إلى المعايب الداخلة اللاحقة للنفوس البشرية التي أصلها كلها الوسوسة، وهي سبب الذنوب والمعاصي كلها، وهي من الجن أمكن وأضر، والشر كله يرجع إلى المصائب والمعايب".
[h=1]المسألة التاسعة: وجه تأخر سورة الناس عن شقيقتها الفلق: [/h]وجه التأخير عموم الأولى، وخصوص الثانية، ألا ترى عموم قوله { من شر ما خلق }، وإبهام { ما }، وتنكير { غاسق }، و { حاسد }، والعهد فيما استعيذ من شره في سورة الناس وتعريفه ونعته، فبدأ بالعموم، ثم أتبع بالخصوص، ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت الاستعاذة منه، وأوفى بالمقصود، ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم، ثم إتباعه بالأخص بتناول الدقائق والجلائل.
[h=1]المسألة العاشرة: علاقة المعوذتين بسورة الإخلاص:[/h]هو أنه سبحانه لما ذكر أنه سبحانه وتعالى الأحد في ذاته وصفاته وأفعال ، وأنه الصمد الذي تصمد إليه جميع الخلائق حوائجها ، جاء في هاتين السورتين توجيه العباد إلى أن يستعيذوا ويلوذوا به، فهو وحده الذي يعيذهم ويحفظهم، وهو الذي يلجؤون إليه سبحانه.
[h=1]المسألة الحادية عشرة: السر في ختم القرآن بسورة الناس : [/h]ختم الله تعالى بهذه السورة الشريفة كتابه العزيز وبدأ بسورة الفاتحة ؛ ليجمع بين حسن البدء وحسن الختم ، وذلك غاية الحسن والجمال:
1. لأن العبد يستعين بالله تعالى ويلتجئ إليه من بداية الأمر إلى نهايته {إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم } ، { قل أعوذ برب الناس ـ ـ من شر الوسواس الخناس } .
2. بعد أن بين سبحانه جميع أحكام دينه وشرعه في القرآن الكريم ، كان من المناسب أن يختم بالاستعاذة بالله سبحانه من شر الوسواس الذي يفسد على الإنسان دينه ويمنعه من العمل بشرعه وقرآنه ؛فلذا ختم سبحانه كتابه الكريم بالاستعاذة به تعالى من شر الوسواس.
3. لما تقرر في جميع القرآن أنه الإله الحق، وأنه لا شركة لغيره في الإلهية بوجه من الوجوه ، وكان كثير من البشر قد ضل في نسبة الربوبية والملك والألوهية لغير الله ، ختم القرآن الكريم بالاستعاذة به وحده سبحانه ، وبيان أنه سبحانه الرب الملك الإله الحق لا غير.
4. ختم سبحانه كتابه الكريم بالاستعاذة به تعالى من شر الوسواس للإشارة كما في الفاتحة إلى جلالة حفظ الإيمان والتقوى الناتجة عن الحفظ من الوسواس، وبها يحصل حسن الخاتمة .
5. ختم بالمعوذتين لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما: " أنزلت علي آيات لم يُر مثلهن قط " كما قال في فاتحة الكتاب: " لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتم بسورتين لم يرَ مثلهما، للجمع بين حسن الافتتاح والاختتام ، ألا ترى أن الخُطب والرسائل والقصائد، وغير ذلك من أنواع الكلام، يُنظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها.
وبما سبق يظهر حسن الخاتمة، فسبحانه من ملك جليل ما أجل كلمته ولله در التنزيل ما أحسن فاتحته وخاتمته.
[h=1]المسألة الثانية عشرة: ربط هذه السورة الكريمة بالفاتحة: [/h][h=1]نظر هذه السورة إلى الفاتحة والتحامها أنه :[/h]1) لما كان مقصود سورة الناس تعليم المسلمين خلاصة العبودية وهو الالتجاء إلى الله سبحانه الذي هو رب الناس وملكهم وإلههم دون غيره، وتعليمهم خطر عدوهم الموسوس الملازم للإكثار من الوسوسة سرا والخنوس في أخطر الأماكن ، وأنه من الجنسين الجنة والناس ليتقوه ويلتجئوا إلى الله تعالى من شره ، ختم بهذه السورة ؛لأنها تلتقي في ذلك مع سورة الفاتحة التي فيها محض العبودية لله سبحانه في الثناء على الله تعالى بأعظم صفاته وتوحيده والعبادة له وحده والاستعانة به وحده { إياك نعبد وإياك نستعين} ، ولأنها كالمتتمة لسورة الفاتحة ففي سورة الفاتحة طلب الهداية للصراط المستقيم وهنا الاستعاذة من الشيطان الذي يحرف عن الطريق المستقيم.
2) من جهة أن الفاتحة اشتملت على ثلاثة أسماء: (الله والرب والملك)[24]، وزادت بـ(الرحمن الرحيم)، وسورة الناس اشتملت على (الرب والملك والإله) فصار الاختتام مما كان به الافتتاح على الوجه الأجلى والترتيب الأولى ، فيصير النظم إذا ألصقت آخر الناس بأول الفاتحة : «الله، رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ملك يوم الدين، رب الناس، ملك الناس، إله الناس ) ، فالناس كالمتتمة لها ، ويلاحظ ابتداء القرآن باسم (الله) وختمه بـ(إله الناس) إعلاماً بأن مسمى الاسم الأعظم هو الإله الحق.
3) سورة الناس فيها الاستعاذة بهذا الرب الموصوف من وسوسة الصدر، المثمرة للعمل بكتابه والاستقامة على طريقه، كما أن سورة الفاتحة فيها فراغ السر من الشواغل المقتضي لقصر الهمم عليه سبحانه وتعالى والبقاء في حضرته الشماء بالاستقامة على طريقه المستقيم { إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم }.
وبذلك اتصل الآخر بالأول أيّ اتصال بلا ارتياب، واتحد به كل اتحاد فرجع مقطع القرآن على مطلعه، والتحم مبدؤه بمرجعه على أحسن وجه.
[h=1]المبحث الثاني: التفسير التحليلي: [/h][h=1]قُلْ :[/h]· هذا أمر وتوجيه من الله تعالى لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته ؛ رحمة منه، يأمرهم بالعياذ به والالتجاء إليه ، مع استحضار معاني صفاته ـ ربِ الناس ملكِ الناس إلهِ الناس ـ من شرٍ خفيِّ الدبيب يوسوس في صدور الناس ، لا قِبَل لهم بدفعه إلا بعونه سبحانه، فالوساوس سواء أكانت تلك التي تأتي في أعماق النفس وعناصر الشر الخفية، أم تلك التي تأتي عن طريق ألسنة الشر وأعوان السوء من البشر ـ من شأنها أن تثير مختلف الهواجس ونوازع الشر والإثم، وتسبب نتائج خطيرة في علاقات الناس ببعضهم، وتزلزل الخير والمعروف والثقة والتضامن والسكينة والطمأنينة فيهم ، فكان الأمر بهذه الاستعاذة رحمة منه لعباده ، فالأمر من الله تعالى بالاستعاذة بالله منها ومن شر مسببها يتضمن ثلاثة أمور مهمة :
· الأمر الأول: تعليم وأمر للمسلمين الاستعاذة و الالتجاء والاعتصام بالله وحده ، في الفكر والاعتقاد والعمل، ، فإنهم كلهم مربوبون مقهورون ، لا نجاة لهم في شيء من الضرر إلا بعصمته سبحانه وتعالى ، فعلى كل منهم أن يفزع أول ما تصيبه المصيبة إلى مولاه القادر على كشفها تصحيحاً لتوكله ، ولا يأخذ في الاعتماد على جلادته وتدبيره بحوله وقوته ، فإنه يشتد أسفه ، ولا يرد ذلك عنه شيئاً .
· الأمر الثاني: التحذير منها والتنبيه على خطرها ، والدعوة إلى الازورار عن الموسوسين ونبذهم وعدم الاستسلام لسوء الظن الذي تثيره الوساوس، والابتعاد عن الطرق الشيطانية وأفكارها ومناهجها المضللة، والمجالس والمحافل الشيطانية .
· الأمر الثالث: تلقين تغليب نوازع الخير وإقامة الناس علاقاتهم فيما بينهم على أساس الروح الطيبة، والنية الحسنة، وحسن الظن والتواثق وعدم الاستجابة للموسوسين .
* ****
إثبات (قل):
· إثبات ( قُلْ) في القراءة ـ و (قل) تمثل أمرا من الله تعالى بالاستعاذة ـ وعد من الله تعالى بالإعاذة والإجابة فإجابتُها مرجوة لأنه سبحانه ما أمرنا بهذه الاستعاذة إلا ليجيبها سبحانه
· إثبات قل يدل على أهمية هذه الاستعاذة وخطر تركها حيث أبقى الله سبحانه هذا الأمر مثبتا .
* ****

· (قل أعوذ) (تعوذوا):
استعمال (قل أعوذ) أبلغ وأقوى في الأمر من "تعوذوا" أو "تعوذ أيها الإنسان برب الناس" ؛لأن في توجيه الأمر لكل مخاطب يقصد به إظهار المزيد من الاهتمام والتحضيض على هذا الأمر الخطير، وأن كل فردٍ فردٍ مخاطب بذلك ، وعليه أن يفعل ذلك ، لأن أمر صيغة "تعوذوا " قد تحمل على أن المراد الأكثر لا كل فرد فرد ، بخلاف صيغة (قل) ، نظير {علمت نفس ما أحضرت}.
1. وأيضا فيها إشعار بكونه مستهدفاً بالضرر والخطر محتاجا، بخلاف صيغة الجمع فقد يظن أن المستهدف هو الآخرون دونه ، و أن الخطر على المجموع دون الجميع بخلاف صيغة (قل) ، والإنسان بحاجة إلى هذا التأكيد على شخصه ؛ لأن وسوسة الشيطان وخطورة الدور الذي يقوم به من الأمور الخفية التي لا يشعر بها الإنسان عادة بل ربما يحس معها بالأنس واللذة، إذا كانت تداعب مشاعره، وتوقظ أحلامه وتتناغم مع غرائزه وأهوائه ،فكان الخطاب بصيغة المفرد إيقاظا وتنبيها .
*****
[h=1]أَعُوذُ: [/h]الأصل في المادة: هو التجاء واعتصام وتحرز الشيء الغض الطريّ إلى شيء قويّ متين يمنع ويعوق أخذه وتناوله وإصابة الشر المواجه له ويعصمه ، ومن لوازم الأصل ؛اللصوق والملازمة.
يقال : العُوذ من اللحم: ما عاذ من اللحم أي لزم ولصق بالعظم فلم يتخلص منه ؛ لأنه اعتصم به ، واستمسك به ، والعُوذ من الكلأ: ما لم يرتفع إلى الأغصان ومنعه الشجر من أن يُرعى ؛ لأنه نبت في أصل شجر سمي بذلك لأنه اعتصم به ، واستمسك به فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به ، واعتصم به ، ولزمه قد استمسك قلبه به ولزمه.
فالعَوْذ: اللجأ إلى شيء يقِي من يلجأُ إليه ما يخافه مع لصوق وملازمة واعتصام، يُقال: عاذ بفلان، وعاذ بحصن، ولفظة أعوذ تشعر بأن شيئا يَخاف منه، وبأن المستعيذ عاجز عنه لا يملك القوة، وأنه يحتاج إلى غيره، فيعوذ بمن يدفع عنه غائلة ما يخاف منه، ويتقوى به على ما يعجز عنه.
معنى (أعوذ): أستجير وألتجئ وأعتصم به سبحانه محتميا مع الملازمة واللصوق، من الوسواس الذي هو من الجن والإنس.
والمضارع: للدلالة على استمرار صدور العياذ متجددا وعدم انقطاعها.
*****
[h=1]بِرَبِّ النَّاسِ[/h]الرب في الأصل إما:
1. مصدر من ربَّه ربَّا بمعنى التربية: وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا وتعهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل.
2. وإما صفة مشبهة على وزن فَعْل مِنْ رَبَّه يَرُبُّه بمعنى رباه فهو رَب بمعنى مُرَبَ .
[h=1]{رب الناس}: مربيهم شيئا فشيئا ليبلغهم إلى كمالهم ، ومصلح أمورهم بإِفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم، و مالك أُمورهم .[/h][h=1] وكلمة الرب تشير إلى العلاقة بين الرب ومربوبه والرعاية والعناية والتدبير واللطف من جهة الرب، والمحبة والتعلق من قبل العبد . [/h]وصفة الرب تتضمن أمورا كثيرة ، تتضمن : خلقهم، وتدبيرهم، وإصلاحهم، وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر عنهم، وحفظهم مما يفسدهم ، قال الملوي: " والرب من له ملك الرِّق، وجلب الخيرات من السماء والأرض، وإبقاؤها، ودفع الشرور ورفعها، والنقل من النقص إلى الكمال، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب ؛ إذ الرب هو الذي يقوم بتدبير أمر غيره، وإصلاح حاله، ـ ـ هو مربيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود ما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما من به عليهم فيما ينفعهم". اهـ ويتضمن أيضا: قدرته سبحانه التامة، ورحمته الواسعة، وإحسانه، وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإحاطته بكل حالاتهم وشؤونهم، وإجابة دعواتهم، وكشف كرباتهم.
*****
[h=1]سر تقديم رب الناس على ملك الناس وإله الناس:[/h][h=1] إن الله - عز وجل - قد بدأ بتعليم الإنسان بأن يتعوذ برب الناس، فذكر الربوبية أولاً، ثم ذكر الملك ثانيا ثم الألوهية ثالثا ، لأن الإعاذة من المضار أليق شيء بصفة الربوبية لأنها أعظم تربية ، فبدأ بصفة الربوبية وقدمها؛ لأن الربوبية تشير إلى الحماية والإعانة والرعاية والتدبير والإصلاح واللطف بالعبد، وحفظه وتبليغه لدرجة الكمال وإبعاده عن كل ضرر وفساد وأعظمه الوساس الخناس ، وأنه يحسن إليهم الإحسان الشامل مع علمه الكامل فلذلك قدمها سبحانه فقال قال تعالى: { برب الناس}. [/h]*****
[h=1]سر إضافة رب إلى الناس:[/h][h=1]أضيف (رب، ملك، إله)إلى الناس خاصة دون غيرهم مع دخول جميع العالمين في ربوبيته تعالى و ملكوتيته وألوهيته لعدة أمور:[/h]1. لأنّ الاستعاذة وقعت من شرّ الموَسْوِسِ في صدور الناس المعروفِ بعداوتهم وإغوائهم ، فالناس هدفه ومرمى وسوسته ، وهم المُعَوَّذون بهذا التعويذ ، والمقصودون هنا دون غيرهم ، والشر المستعاذ منه منصب عليهم، فناسب أن يُستحضر المستعاذُ إليه بعنوان أنه رب من يُوسْوَس إليهم ، يملك عليهم أمورهم، ويستحق عبادتهم وهو إلههم ومعبودهم ليصرف عنهم أذاه، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ووالي أمرهم فكأن المعنى يارب الناس وملكهم وإلههم أعذ الناس من الخطر الذي يداهمهم .
2. الإرشاد إلى طريقة الاستعاذة المرضية عنده تعالى الحقيقة بالإِعاذة فإن الإعاذة مع هذه الطريقة أتم ؛ لأن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمة والرأفة، ورمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطِق به قوله تعالى {إِن عبادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} ، فكأنه قيل: أعوذ وأتوسل برب الناس الذين أنا فرد منهم لا رب لنا سواك ، و يا ملكهم وإلههم لا ملك ولا إله لنا سواك ، أعوذ من شرّ الموسوِس إلى فنحن مربوبون لك مملوكون لك عابدون لك فأعذنا .
3. إضافة الصفات الثلاث (رب ، ملك ، إله )إلى الناس يجعلهم يحسون بالقرب في موقف العياذ والاحتماء .
4. لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم،في قوله { من الجنة والناس} فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يُعيذ منهم، فكأنه قيل يا رب الناس نعوذ بك من الموسوسين من الناس .
5. لأن الناس قد ضل منهم كثير في نسبة الربوبية والملك والألوهية لغير الله تعالى كالذين عبدوا الأصنام والنجوم والنار وغيرها ، ففي ذكر أنه سبحانه هو وحده رب الناس وملكهم وإلههم :
أ- الاعتراف له بالربوبية والملك والألوهية وكمال التوحيد.
ب- وفيها الطلب من الناس أن يفزعوا إليه ذاكرين لذلك، واصفين بأنه الرب لهم، الملك عليهم، المستحق للعبادة لا غيره ، وفي هذا حسن ختم وبراعة مقطع حيث ختم القرآن بهذا الأمر الخطير المهم .
6. لأن الناس أشرف الخلق فإضافة ربوبيته لهم وملكيته وإلوهيتهم زيادة في الثناء على الله تعالى والتعظيم والتبجيل له سبحانه .
*****
[h=1]سر إضافة الرب في سورة الفلق للفلق وفي سورة الناس للناس: [/h]الفلق ـ عند الجمهور ـ هو الصبح؛ سمي بذلك لأنّ الليل يفلق عنه ويفرق، و لما كانت الاستعاذة في سورة الفلق من شر كل شيء لا سيما الأشياء الثلاثة: الغاسق، والنفاثات، والحاسد، وكلها يحتاج الإنسان أن تزول وتفلق عنه ناسب أن يضيف الرب للفلق ؛ لأن الفلقِ ينبئ عنِ النورِ عقيبَ الظلمةِ، والسَّعةِ بعدَ الضيقِ، والفتقِ بعدَ الرتقِ، ففيه عدةٌ كريمةٌ بإعاذةِ العائذِ مِمَّا يعوذُ منْهُ، وإنجائِهِ منْهُ، وتقويةٌ لرجائِهِ بتذكيرِ بعضِ نظائِرِهِ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقيا لطلوع صباح النجاح ، وفيه مزيدُ ترغيبٍ لَهُ في الجدِّ، والاعتناءِ بقرعِ بابِ الالتجاءِ إليهِ تعالَى، ولما كانت الاستعاذة في سورة الناس من شر الوسواس لم يضف إلى كل شيء أضاف الرب إلى الناس الذي الذين المستعيذ فرد منهم لما ذكر في المبحثين السابقين من الفوائد.
*****







[h=1]ملك الناس:[/h][h=1]إعراب ملك الناس:[/h][h=2]في إعراب قوله تعالى { ملك الناس، إله الناس } ثلاثة أقوال: [/h][h=1]1) القول الأول: أنهما بدلان من (رب الناس)، وهما وإن لم يكونا جامدين، فهما في حكم الجامد قد جريا مجرى الجوامد ؛ لأنهما تجري عليهما الصفات (أي يكونان موصوفين) ، نحو قولنا: إله واحد ، وملك عظيم.[/h]دعاس ، وأحمد الخراط ،أجازه السمين و محمود صافي في الجدول
2) القول الثاني: أَنْ يكونا نعتين لـ «ربِّ الناسِ» ؛ لأنهما مشتقان.
رجحه أبو حيان وابن هشام واطفيش والنحاس وأجازه صاحب الجدول .
3) القول الثالث: عطف بيان من (رب الناس)، كقولك: سيرةُ أبي حفصٍ عمرَ الفاروقِ، وكذلك (إله الناس) عطف بيان ثان لـ(برب الناس) ، وهو الأرجح الذي تقتضيه البلاغة أنه .
واعترض عليه بعض العلماء بأنَّ عطف البيان لا بد أن يكون جامدا، ويُجابُ عنه: بأنَّ هذا جارٍ مجرى الجوامِدِ.

اختار هذا القول: الجمهور: الزمخشري والبيضاوي وأبو السعود والنسفي والشوكاني والرازي وحقي وابن جزي وابن عجيبة والوسيط مجمع البحوث.
قال الإمام الرازي: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَلِكِ النَّاسِ، إِلهِ النَّاسِ هُمَا عَطْفُ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ: سِيرَةُ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ الْفَارُوقِ، فَوُصِفَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ ثُمَّ الرَّبُّ قَدْ يَكُونُ مَلِكًا وَقَدْ لَا يَكُونُ، كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ وَرَبُّ الْمَتَاعِ قَالَ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 31] فَلَا جَرَمَ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: مَلِكِ النَّاسِ ثُمَّ الْمَلِكُ قَدْ يَكُونُ إِلَهًا وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَا جَرَمَ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: إِلهِ النَّاسِ لِأَنَّ الْإِلَهَ خَاصٌّ بِهِ وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
*****
[h=1]فائدة ذكر عطف البيان (ملك الناس، إله الناس):[/h][h=1]1) الفائدة الأولى:أن ما يستعيذون به جامع لكل الصفات التي تجعل من هذه الاستعاذة استعاذة حقيقية لأنها بالمتصف بالصفات التي تدفع هذا الشر، ليس فيها أي ضعف أو عجز ؛ لأن المستعاذ به رب ملك إله ،فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات جميعا؛لاستحضار الصفات التي كل صفة منها لها مدخل في الإعاذة، فذكر رب الناس ثم بينه بملك الناس ثم بإله الناس ؛ فالاستعاذة تستحضر من صفات الله- سبحانه- ما به يدفع شر الوسواس الخناس: [/h]فالرب هو: المربي والموجه والراعي والحامي رب كل شيء.
والملك هو: ملكهم المتصرف فيهم المدبر لهم الذي له السلطان التام القاهر ، القادر على أن يعيذهم من شر ما استعاذوا منه ، وهم عبيده ومماليكه، فإليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب وهو مستغاثهم ومعاذهم إذا دهمهم العدو كالشيطان ، فلا صلاح لهم ولا قيام، إلا به وبتدبيره.
والإله هو: المستعلي المستولي المتسلط له الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي، وهذه الصفات فيها حماية من الشر الذي يتدسس إلى الصدور.. وهي لا تعرف كيف تدفعه لأنه مستور.
فـ( الربوبية والمالكية والألوهية ) ترتبط كلها ارتباطاً مباشراً بتربية الإِنسان ونجاته من براثن الموسوسين.
2) الفائدة الثانية:
لبيان أَن تربيته تعالى إِياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر{ملك الناس}، و أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمورهم وسياستهم والتولي لترتيب مبادىء حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجاداً وإعداماً { إله الناس}؛ لأنه قد يقال لغيره:رب الناس، كقوله { اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } وقد يقال: ملك الناس. وأمّا (إِلهِ النَّاسِ) فخاصٌّ لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان.
3) الفائدة الثالثة : ذكرت هذه الصفات لدفع شرك المشركين وعبادة غير الله سبحانه لأنه إذا كان وحده هو رب الناس وملك الناس وإله الناس الحق ليس لهم غيره غيره ، فهو الأحق بالتعظيم والعبادة والخضوع والطاعة ، ، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يعبد سواه ؛ لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه: إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، ومولي شأنك وهو ربك، فلا رب سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك، وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين؛ بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك.
[h=1]4) الفائدة الرابعة : لأن هذه الصفات قد تضمنت معاني أسمائه الحسنى فحسن ختم القرآن الكريم بها وبيان ذلك:
أن الرب: هو القادر الخالق، البارئ المصور، الحي القيوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم، الجواد المعطي، المانع، الضار النافع، المقدم المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى.
وأما الملك: فهو الآمر الناهي، المعز المذل، الذي يصرف أمور عباده كما يحب، ويقلبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى، كالعزيز، الجبار، المتكبر، الحكم، العدل، الخافض، الرافع، المعز، المذل، العظيم، الجليل، الكبير، الحسيب، المجيد، الوالي، المتعالي، مالك الملك، المقسط، الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.
وأما الإله: فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال.
[/h] فيدخل في هذه الأسماء جميع الأسماء الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ، ويمنع من الوسواس الخناس، ولا يسلط عليه.
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وإن باديه بالمقارنة بالخافي يسير.
*****
[h=1]سر تكرار الناس في عطف البيان:[/h]فإن قيل: فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة فيقول مثلاً: رب الناس ملكهم إلههم ؟
الجواب : أن تَكْرِيرُ لَفْظِ النَّاسِ دُونَ اكْتِفَاءٍ بِضَمِيرِهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لفوائد[25]:
1) لأنّ "عطف البيان" للبيان والتوضيح والكشف، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار لمزيد الكشف والتقرير بالإضافة وتوضيح المعنى .
2) تحقيقاً وتقوية لافتقارهم بإعادة اسمهم الدال على الافتقار والحاجة .
3) تَأْكِيدِا وتسجيلا لرُبُوبِيَّته سبحانه تَعَالَى وَمِلْكِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ ، و إلفاتا للنفس إليه ، فهو مربيكم أيها الناس وملككم وإلهكم الحق الذي دون سواه ، فلا مفزع لكم في الشدائد سواه، ولا ملجأ لكم إلا إليه، ولا معبود غيره، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى، ولا يذل لغير رب الناس وملكهم وإلههم ، وفيه تأكيد الرد على من اتخذ من دون الله أندادا وشركاء.
4) لِيَكُونَ الِاسْمُ الْمُبَيِّنُ (بِكَسْرِ الْيَاءِ) مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ؛ تقريرا لأسمائه تعالى الدالة على الكمال المقتضية للغنى المطلق ؛ للإشارة إلى كون كل من الصفات سببا مستقلا في دفع الشر : كونه ربا للناس ، وكونه ملكا للناس، وكونه إلها ، كل منها يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها .
5) للتشريف كأنه عرف ذاته في خاتمة كتابه الكريم بكونه ربا وملكا وإلها لجنس الإنسان على سبيل التشريف والتكريم و التبجيل لهم فكرر ذكر الناس.
*****
[h=1]سر إجماع القراء على قراءة (ملك) هنا بدون ألف، وإجماعهم في آل عمران على قراءتها مع ألف في {قل اللهم مالك الملك } وأما في الفاتحة فقرئ بهما ملك، مالك في قوله تعالى {مالك يوم الدين} :[/h]القراءة كلها متلقاة من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تلقاها من جبريل عن رب العزة جل جلاله، وهنا يبحث عن سر اختيار كل لفظة في مكانها فيقال:
· قد أجمع القراء في هذه السورة سورة الناس على إسقاط الألف من {ملك} بخلاف الفاتحة ؛لأن القرآن أراد أن يذكر في الفاتحة أن لله سبحانه الملك بضم الميم والملك بكسر الميم، لأنه الملِك لليوم، وهو المالك فله الاختصاص بملك اليوم وملك جميع ما فيه من جوهر وعرض ، فله سبحانه التصرف التام لا مشاركة في شيء من ذلك لأحد.
· وأما إضافة الملك إلى الناس في هذه السورة:
أ- فلأن مجرد كونه مالكاً لا يكفي لتحقيق العوذ، فإن المالك قد لا يكون لديه قدرة على الحفظ والسيطرة، ولا يملك الوسيلة لدفع الطغيان والشر .
ب- قَوْلَهُ تعالى : " بِرَبِّ النَّاسِ " أَفَادَ كَوْنَهُ مَالِكًا لَهُمْ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَذْكُور عَقِيبَهُ ( الْمَلِكَ) لِيُفِيدَ أَنَّه مَالِكٌ وَمَعَ كَوْنِهِ مَالِكًا فَهُوَ مَلِكٌ[26] .
ت- لأن صفة ملك تدل على تدبير من يشعر بالتدبير، وليس كذلك مالك؛ لأنه يجوز أن يقال: مالك الثوب، ولا يجوز ملك الثوب، ويجوز أن يقال: ملك الروم، ولا يجوز مالك الروم، فالملك أنسب هنا بالاستعاذة.
· وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف(مالك) ، وحذفها من المضاف إليه (الملك){ قل اللهم مالك الملك} ؛ لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء، والمالك هنا أليق بهذا المعنى وهو الإيتاء والمنع.
· وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وأن باديه إلى الخافي يشير.
*****

[h=1]إله الناس:[/h][h=1]الربط: [/h]لما كان الملك قد لا يكون إلهاً، وكانت الإلهية خاصة لا تقبل شركاً أصلاً بخلاف غيرها، أنهي الأمر إليها وجعلت غاية البيان.
فهو سبحانه إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبود لهم غيره، كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد، فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في إلهيته أحد،
وذكر إله الناس لما تقدم في بيان فوائد عطف البيان، وأهم ذلك أنه إله الناس فهو سبحانه القادر على أن يحميهم من شر الوسواس الخناس، وأن يعيذهم من شر الشياطين من الناس، وأنه الإله الحق فلا معبود ولا مرجو إلا هو ، فهو الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه، دون غيره .
[h=1]معنى إله [27]:[/h][h=1]الألوهية تعني جامعيته لكل صفات الكمال والجلال، فهو تعالى حي، قيوم، غني بذاته، قادر، حكيم، الخ ، وأنه معبودهم الحق الذي يستولي عليهم ، وله المفزع والولوع ، والمقصود بالإرادات والأعمال كلها ، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به.[/h]، قال البقاعي: "والإله من ظهر بلطيف صنائعه التي أفادها مفهوم الرب والملك في قلوب العباد فأحبوه واستأنسوا به ولجؤوا إليه في جميع أمورهم، وبطن احتجاباً بكبريائه عن أن يحاط به أو بصفة من صفاته أو شيء من أمره، فهابته العباد ودعاهم الحب إلى الوله شوقاً إلى لقائه، وزجرتهم الهيبة فجزعوا خوفاً من طرده لهم عن فنائه [28] ".
· وكلمة الإله في ضمنها استجماع صفات الكمال، والجلال، والجمال، لاسيما إذا كانت الألوهية الحقيقية ،ولكون الإلوهية جامعة لك الأسماء فهي أبلغ من أن يقال : "معبود الناس" فإن الألوهية في ضمنها كونه حياً، قيوماً، عالماً، قادراً، وكونه غير عاجز، ولا ناقص .
· والألوهية هي الوصف والمعنى الذي يجعل العلاقة بين المعيذ وبين المعاذ علاقة إله ومألوه، لابد فيها من إخلاص العبادة وتجسيد العبودية، فالعبد إذا أراد أن يستعيذ بإله الناس، فلابد من أن يكون مؤدياً لحقوقه عابدا مخلصا له العبودية.
*****


[h=1]سر ترتيب هذه الصفات على هذا النمط (رب الناس، ملك الناس، إله الناس):[/h]قد وقع ترتيب هذه الإضافات على الوجه الأكمل، الدال على الوحدانية:
[h=1]أولا: [/h]في هذا الترتيب لطف، وهو أنه لما كان الرب الملك متقاربين في المفهوم، وكان الرب أقرب في المفهوم إلى اللطف والتربية و الإعاذة قدمه { رب الناس}.
ولما كان الملِك ألزم للقهر والاستيلاء ، وكان الرب قد لا يكون ملكا لأن الرب قد يطلق على كثير من الناس، فيقال: فلان رب الدار، ، اقتضت البلاغة تأخيره وإتباعه الثاني لبيان أنه كما هو رب فهو ملك أيضا وليس كبقية الأرباب، فقال تعالى: {ملك الناس} .
ولما كان الملك قد لا يكون إلهاً، وكانت الإلهية خاصة لا تقبل شركاً أصلاً بخلاف غيرها، أنهي الأمر إليها وجعلت غاية البيان فقال: {إله الناس} إشارة إلى أنه كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد، فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في إلهيته أحد ففي هذا الترتيب الارتقاء إلى الأعلى.
ثانيا: من طبع الإنسان إذا أقبل عليه شر يحذره و يخافه على نفسه و أحسن من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه و يكفيه وقوعه، و الذي يراه صالحا للعوذ و الاعتصام به أحد ثلاثة يقصدهم على الترتيب: إما رب يلي أمره و يدبره و يربيه يرجع إليه في حوائجه عامة، ومن ذلك دفع ما يهدده من الشر، و هذا سبب تام في نفسه، و إما ذو قوة و سلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، و هذا أيضا سبب تام مستقل في نفسه و هناك سبب ثالث و هو: الإله المعبود فإن لازم معبودية الإله إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه ، فإن عاذ الإنسان من شر يهدده إلى رب، فالله سبحانه هو الرب الحق لا رب سواه، و إن أراد بعوذه ملكا فالله سبحانه هو الملك الحق له الملك و له الحكم، و إن أراد لذلك إلها فهو الإله لا إله غيره، فهو سبحانه الذي اجتمعت فيه الثلاثة لا غير، فذكر الرب أولا لأنه أقرب إلى الإنسان و أخص ولاية، ثم الملك لأنه أبعد منالا و أعم ولاية يقصده من لا ولي له يخصه و يكفيه، ثم الإله لأنه ولي يقصده الإنسان عن إخلاصه لا عن طبعه المادي.
[h=1] ثالثا : [/h]رتبها على حسب طريقة استدلال الإنسان على صفات الله تعالى ، على حسب مراتب النظر المتوجه لمعرفة خالقهم، ، وذلك لأن الإنسان إذا نظر فأول ما يرى، يرى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة، فيعلم أن له ربا مربياً رباه وأنعم عليه، فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى علم وتحقق أنه غني عن الكل، والكل إليه محتاج، وعن أمره تجري أمورهم، فيعلم أنه ملكهم، ثم إذا تعمق أكثر علم بالدلائل العقلية والنقلية أنه المستحق للعبادة لا غير ، وأن العبادة لازمة له وحده، لأنه مفرد بتدبيرهم بعد إبداعهم فهو المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها، ، وهذه دائماً طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم أنه سبحانه رباهم بالنعم وأنه ملكهم على ما أنكروه من وحدانيته وكونه الإله الواحد المستحق وحده أن يعبد، فمن كان ربهم وملكهم فهم جديرون بأن لا يتألهوا سواه ولا يستعيذوا بغيره فهو إله الناس كلهم.
[h=1]رابعا : ذكر الملزوم أولا وأبتعه بلازمه فقدم الربوبية ؛لأن ربوبيته سبحانه هي الربوبية الحقيقية وتكون بالخلق والإنعام والإمداد والرعاية ، وهي تستلزم ملكه للناس وتقتضيه؛ لأن ملكه لهم تابع لخلقه إياهم فملكه من كمال ربوبيته فوسط صفة الملك؛ و الملك هو المتصرف بالأمر والنهي،، وملكه يستلزم إلهيته و يقتضيها؛ لأن كونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيه، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، استعبدهم بإلهيته. [/h][h=1] فتأمل هذه العظمة وهذه الجلالة، التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق: { رب الناس * ملك الناس * إله الناس }.[/h]*****
[h=1]سر عدم العطف بين هذه الأسماء الكريمة { رب الناس، ملك الناس، إله الناس}:[/h][h=1]القول الأول: [/h]لم يعطف بالواو لما في الواو من الإيذان بالمغايرة، والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات الواقعة على ذات واحدة حتى كأنها صفة واحدة
ذكره : البقاعي وابن القيم.
[h=1]القول الثاني: [/h]للإشارة إلى كون كل من الصفات سببا مستقلا في دفع الشر ربوبيته وملكه وإلهيته.
ذكره : الطباطبائي وجعفر مرتضى.
يقول علي هاني: يمكن الجمع بين القولين فعدم العطف للإشارة إلى كون كل من الصفات سببا مستقلا ولعدم إيهام المغايرة بل ذات واحدة متصفة بالصفات الثلاثة هي الذات العلية.
[h=1]من شر:[/h]لما أكمل الاستعاذة من جميع وجوهها التي مدارها الإحسان و العظمة والقهر و الإذعان والتذلل، ذكر المستعاذ منه فقال: {من شر الوسواس}
{مِنْ شَرِّ}: متعلق بقوله (أَعُوذُ).
معنى كلمة شر:
الشر: ما يقابل الخير، والخير هو ما يختار وينتخب ويكون له رجحان وفضل وفيه نفع وحسنُ أثرٍ وصلاحٌ ، فالشر: ما فيه ضرر وسوء أثر وفساد و يكون مرجوحا ولا يتمايل إلى اختياره وانتخابه بل هو مكروه للإنسان.
وكلمة الشر هنا صفة مشبهة وليست اسم تفضيل.
أصل مادة (ش،ر، ر):
قال ابن فارس: أصل واحد يدل على الانتشار والتطاير ، من ذلك الشر خلاف الخير، والشرر ما تطاير من النار.
قال المعجم الاشتقاقي: المعنى المحوري: انتشار أو انبساط مع حدة حقيقية أو ما هو من بابها، كالشرر يتطاير من نار الحداد وغيره بانتشار، وأشهر استعمالات الشر: ضد الخير: وهو السوء والضر وما يكرهه الإنسان ويبغضه، وهذا كله من الحدة في المعنى الأصل، ومعنى الانتشار متحقق أيضا؛ لأنه إصابة آخرين وتَعَدّ إليهم وهذا امتداد وانتشار.
السر البلاغي في ذكر كلمة (شر) {من شر الوسواس} دون (من الوسواس) أنه إذا قيل (من الوسواس)؛ قد تكون المشكلة أمراً تافهاً لا يستحق هذا الاهتمام؛ فإذا ذكر كلمة (شر) ففيه بيان الخطر، استدرارا لرحمة الله تعالى ولطفه للحماية من العدو الخطير، وبيانا لخطره الكبير.
[h=1]الوسواس:[/h][h=1]والوسوسة: [/h][h=1]أصلها لغة: الصوت الخفي الذي لا يحس، والهمس الخفي ومنه: حديث النفس، وهمس الكلاب ، ووسوسة الحلي: أي صوت الحُليِّ وهو حركته الخفية في الأذن.[/h]فالوسوسة: جريان صوت خفي وخَطرةٍ رديئة تحدث في القلب والنفس، وتلقى إليه في خفاء وتكرير؛ لأن الموسْوِس يكرر ما ينفثه في القلب ويؤكده في خفاء ليُقبل، فلما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسْوِس عند من يلقيه إليه، كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها، فقالوا: وسوس تكرير(وس)، فراعَوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه[29] ففيه مبالغة وشدة وتكرير. قال ابن القيم: "وتأمل كيف جاء بناء { الوسواس} مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا، حتى يعزم عليها العبد، فجاء بناء اللفظ مطابقا للمعنى" فالوسواس: فَعْلال من وَسْوَس .
ومصدره بالكسر الوِسواس، كالزِّلزال كما قال تعالى: {وزلزلوا زِلزالاً شديداً} .
[h=1]هل الوسواس اسم مصدر، أم وصف (اسم فاعل) بمعنى (الموسوس) يفيد المبالغة[30] :[/h][h=1]1. القول الأول: قالوا : اسم مصدر بمعنى الوسوسة وهى الصوت الخفي، كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأمّا المصدر فوِسواس بالكسر كزلزال والمراد به الشيطان.[/h][h=1] اختاره: الزجاج وابن قتيبة و الزمخشري والبيضاوي وأبو السعود والتحقيق والمعجم الاشتقاقي والبقاعي والميزان والرازي والواحدي والسمعاني والنيسابوري والرازي والقرطبي والنسفي والجلال والشربيني والمظهري.[/h]وفي تسميته وسواسا على هذا وجهان:

الوجه الأول:
سمي باسم المصدر مبالغة، كأنه نفس الوسوسة؛لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه فهو في غاية الضراوة عليها، كما بولغ في العادل بتسميته بالعدل.
الوجه الثاني: أريد ذو الوسواس ، فالكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس، على حذف مضاف.
[h=1]2. القول الثاني: اختاره الفراء والآلوسي وابن عاشور وابن مالك و الدماميني وابن هشام [31] وخالد الأزهري وابن القيم والقاسمي واطفيش في البيان ،وهو ظاهر كلام ابن عطية وكثير من المتقدمين والأمثل.[/h][h=1]قالوا: إنه مشتقٌ اسمُ فاعلٍ يفيد المبالغة بمعنى الموسوس كالثرثار ، وليس بمصدر فإطلاقه على الشيطان ليس فيه تجوز ولا حذف ،قالوا الأغلب فيه إذا فتح أن يكون بمعنى اسم الفاعل كصَلصال بمعنى مصلصل، وقَضقاض[32] بمعنى مقضقض، ووسواس بمعنى موسوس.[/h]قالوا : فَعلل ضربان: صحيح كدحرج ، وثنائي مكرر كصَلصل، ولهما مصدران مطردان:
فَعللة، وفِعلال بالكسر وهو أقيس، والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتَمتام وفَأفاة.
ويكون فَعلال (بفتح الفاء) اسم فاعل يفيد المبالغة كما قالوا ثَرثار للمكثر، وصلصال:
قال الآلوسي: والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف [33].
قال في التوضيح والدماميني: الأكثر أن يعنى بالمفتوح اسم الفاعل نحو من شر الوَسواس أي الموسوس ، والصَّلصال [34]بمعنى المصلصل.
قال السيوطي في الأشباه والنظائر: نقلا عن ابن مالك: أن المطرد في المصدر من فعلال هو الكسر وأن الفتح ندر في قولهم: وسوس الشيطان وسواسا، ووعوع الكلب وعواعا، وغطغط السهم في مروره غطغاطا إذا التوى، وأن غير ذلك من المفتوح متعين للوصفية المقصود بها المبالغة وأن تجويز الزمخشري الفتح في المصدر الذي لم يسمع فتحه قياسا على ما سمع يرد بأن النادر لا يقاس عليه.
قال ابن عاشور: والْوَسْواسِ: الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَهِيَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، ـ ـ فَالْوَسْوَاسُ اسْمُ فَاعِلٍ.

قال الفراء في معاني القرآن: والزِّلزال بالكسر: المصدر والزَّلزال بالفتح: الاسم. كذلك القَعقاع الَّذِي يقعقع- الاسم، والقِعقاع المصدر. والوَسواس : الشيطان وما وسوس إليك أو حدثك، فهو اسم.قال الصبان: قوله: "بالفتح الاسم" أي الموضوع موضع المصدر هكذا قال البعض. ومقتضى التنظير بعده خلافه فإن التنظير بالقعقاع يقتضي أن الزلزال بالفتح اسم للفاعل والتنظير بالوسواس يقتضي أنه اسم للمزلزل به فتدبر.
[h=1]أدلة الفريقين: [/h][h=2]أدلة القول الأول أنه اسم مصدر:
الدليل الأول: أن الفعل منه «فَعْللَ »، والوصف من فَعْللَ إنما هو «مُفعْلِل »، كـ(مُدحرِج، ومُسرْهِف[35]، ومبيطِر[36]، ومسيطِر)، فلو كان الوسواس صفة لقيل: موسوس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زلزل: «مُزلزِل»، لا «زَلزال »، وكذلك من «دكدك[37] »: «مدكك »، وهو مطرد فدل على أن الوسواس اسم مصدر وصف به على وجه المبالغة، أو يكون على حذف مضاف، تقديره: ذو الوسواس.
[/h]الدليل الثاني:
قول الشاعر:تسمع للحلي بها وَسواسا، فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.


[h=2]أدلة القول الثاني: [/h]أن «فعلل » ضربان:
أحدهما: صحيح لا تكرار فيه، كدحرج، وسرهف، بيطر، وقياس مصدر هذه :
الفَعْلَلَة :كالدَّحرجة والسَّرهفة، والبيطرة.
والفِعلال : كالسِّرهاف والدِّحراج.
والوصف منه: مُفعْلل كمُدحْرِج ومُبيطِر.
والثاني: فعل الثنائي المكرر كزَلْزَل، ودَكْدك و وَسْوس، ومصدر هذا النوع والوصف منه: مساوٍ لمصدر الأول ووصفه، فمصدره يأتي على الفَعْللة، كالوسوسة، والزلزلة، والفِعْلال كالزلزال، وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل: «الفِعْلال »، وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء، فقالوا: وسوس الشيطان وَسواسا، ووَعْوع الكلب وَعواعا، إذا عوى، وعَظْعظ السهم عَظعاظا، والجاري على القياس «فِعلال » بكسر الفاء أو «فَعللة ».
وهذا المفتوح نادر؛ لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر، ولم يأت مصدر الصحيح، مع كونه أصلا، إلا على فَعللة وفِعلال بالكسر، فلم يحسن بالرباعي المكرر، لفرعيته، أن يكون مصدره إلا كذلك؛ لأن الفرع لا يخالف أصله؛ بل يحتذي فيه حذوه، وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على «فَعلال » بالفتح، فإن شذ حفظ، ولم يزد عليه.
قالوا: وأيضا فإن فَعْلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من «فَعْلل » المكرر، ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي؛ لأنهما متشاركان وزنا، فاقتضى ذلك أن لا يكون لـ(فَعلال) من المصدرية نصيب، كما لم يكن لفعال فيها نصيب، فلذلك استندروا وقوع وَسواس، ووَعواع، وعَظعاظ مصادر، وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.
قالوا: وإذا ثبت هذا: فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب، وتجنبا للشاذ، فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه «ذو » تقديرا فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب.
ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران:
أحدهما: أن كل مصدر أضيف إليه «ذو » تقديرا، فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به، كرضى وصوم وفطر، وفَعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط: وَسواس، ووَعواع، وعَظعاظ، في نحو وسوس إليه الشيطان وسواسا.
الثاني: أن المصدر المضاف إليه «ذو » تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع؛ بل يلزم طريقة واحدة، ليعلم أصالته، في المصدرية، وأنه عارض الوصفية فيقال: امرأة صوم، وامرأتان صوم، ونساء صوم؛ لأن المعنى ذات صوم، وذاتا صوم، وذوات صوم، و«فَعلال » الموصوف به ليس كذلك؛ بل يثنى ويجمع ويؤنث فتقول: رجل ثرثار، وامرأة ثرثارة، ورجال ثرثارون، وفي الحديث «أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون »، وقالوا: «ريح رَفرافة »، أي: تحرك الأشجار، وريح سفسافة، أي: تنخل التراب، و«درع فضفاضة » أي: متسعة، والفعل من ذلك كله «فَعلل »، والمصدر فَعللة وفِعلال بالكسر، ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح، وكذلك قالوا: تمتام، وفأفاء، ولضلاض، أي ماهر في الدلالة، وفجفاج كثير الكلام، وهرهار، أي: ضحاك، وكهكاه، ووطواط، أي: ضعيف، وحشحاش، وعسعاس، أي: خفيف، وهو كثير، ومصدره كله الفَعللة، والوصف «فَعلال » بالفتح، فقد رأيت "فَعلال" في هذا كله وصفا لا مصدرا، فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه ؟! فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر، كثرثار، وتمتام، ودحداح وبابه.
وتعين أن «الوَسواس » هو الشيطان نفسه، وأنه ذات لا مصدر، والله أعلم [38].
*****
[h=1]ما السر في اختيار الوسواس دون الموسوس: [/h]تبين مما سبق أن الوَسواس اسم مشتق بفيد الكثرة والمبالغة والتكرير، فالوَسواس هو المبالغ في الوسوسة المكرر لها المكثر منها ،فهي من صفات المبالغة مثل فعَّال في الثلاثي كالكذاب والصبار وليس في الموسوس مبالغة فكان اختيار الوسواس أولى.
*****









هل الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس،أم من جميع ما يتعلق به:
[h=2]القول الأول: [/h][h=2]قالوا: الظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس، ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته لكن في اللفظ مبالغة حيث لم يقل من وسوسة الوسواس بل قال: من شر الوسواس فعلقها بذاته والمراد وسوسته مبالغة، نحو {حرمت عليكم أمهاتكم} أبلغ من حرم نكاح أمهاتكم، و{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } أبلغ من حرم عليكم أكل الميتة، وفيه فائدة أخرى وهي استدرار الإجابة في مقام الدعاء والطلب، لأنه يجسد له الخطر أمام عينيه فلم يقل : "وسوسة" بل من الوسواس ففيه تصوير وتجسيد.[/h]اختاره الآلوسي وظاهر الطبري والطوسي والواحدي والسمعاني وجمهور المفسرين .
قال الآلوسي: "والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس ،
ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته ، وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من شر وسوسة الوسواس".
القول الثاني: اختاره ابن القيم واطفيش قالا: المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل: من شر الوسواس، ولم يقل من وسوسة الوسواس فهو يعم كل شروره، فيدخل في { من شر الوسواس }:
· الاستعاذة من وسوسته وتأثيره في القلب، وشر مضرة العقل.
· وتخبطه وتلبسه لبعض الناس.
· أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة[39]، كما في صحيح البخاري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم - إذا هو نام - ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة. فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ».
· أنه يبول في أذن العبد، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنيه » رواه البخاري.
· أنه لص سارق لأموال الناس، فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ، وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى، فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم.
· أنه تفلت على النبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار، يريد أن يرميه به وهو في الصلاة، فجعل النبي يقول: «ألعنك بلعنة الله ».
ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها ، وكلها مستعاذ منها .
*****
[h=1]التعريف في (الوسواس):
التَّعْرِيفُ فِي الْوَسْواسِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فهو يَشْمَلُ الشَّيَاطِينَ الَّتِي تُلْقِي فِي أَنْفُسِ النَّاسِ الْخَوَاطِرَ الشِّرِّيرَةَ، ويشمل شياطين الإنس كأَصْحَاب العقائد الباطلة والْمَكَائِدِ وَالْمُؤَامَرَاتِ كما سيأتي.
[/h]· ما السر في كونه ذكره بعنوان كونه الوسواس دون الشيطان حيث قال: { من شر الوسواس الخناس }، مصرحاً بخصوصيته التي تمس واقع الإنسان بصورة مباشرة، وهي كونه وسواساً، وكونه خناساً:
· أتى بوصف الوسواس: ليشير به إلى افتقار الناس إلى عون الله سبحانه حيث إن العدو خطير ؛فهو موسوس وسوسة مكررة دائمة دائبة هي صنعته وهو أيضا خناس، ففيه قوة التجاء إلى الله سبحانه أن يحمية منه.
أ- وفيه تحذير للإنسان في ختام القرآن الكريم من شدة خطره بأن المستعاذ منه وسواس خناس خطير يتسبب بحصول شر كبير فاحذورا الانقياد لها.
*****
الخناس:
الربط: ولما كان الملك الأعظم سبحانه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره سبحانه وتعالى، فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه، وصف سبحانه وتعالى فعل الموسوس عند استعمال الدواء ، وبين أيضا أنه لا يفتر في الوسوسة بل يعاودها فهو شديد العداوة للإنسان ليشتد حذره منه وبعده عنه فقال: {الخناس }.
الأصل الواحد في مادة (خ، ن، س): هو التأخر والاستتاروالاختفاء والغيبة والمواراة لمِاَ كان من شأنه التقدم والانبساط.
ومنه :
خَنَسَ إبهامَه: قبض الإبهام ، ومن شأنه البسط.
والخَنَس في الأنف: تأخره عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة ، سمي بذلك لخفائه بانخفاضه، يقال: رجلٌ أَخْنَسُ وامرأةُ خَنْساءُ.
خَنَس من بين أصحابه: انقبض وتأخر واستخفى، وتوارى وغاب.
فالخنوس[40]: الانقباض و التأخر والرجوع، والاستخفاء والاستتار لما من شأنه التقدم والظهور.
الخناس: صيغة مبالغةٍ من الخُنُوس أي: الكثير الانقباض والتأخر والرجوع والاستخفاء والاستتار، الذي من طبعه وحرفته وعادته كثرة الخنوس بشدة وتكريره.
وصيغة فعَّال : تدل على التكرار والمبالغة كما يقال في الصناعات الخبَّاز واللبَّان، العطَّار، والنجَّار، فالشيء إذا كرر فعله بُني على (فعَّال) ، فهي تدل على أنه يزاوله ويعالجه ويلازمه ويستمر عليه ويكرره ، فهي لتكثير الفعل كصاحب الصناعة المداوم عليها فجعل له البناء الدال على التكثير ، نحو: النفس اللوامة، لظلوم كفَّار، نزَّاعة للشوى، صبَّار، غفَّار، لقد عرفنا ربنا صفة هذا العدو وكيده وشغله الشاغل ، والسلاح الذي ينبغي أن نتسلح به لنصد خطره.
فجيء من هذا الفعل(خ ،ن، س) بوزن المبالغة دون الخانس و المنخنس واختيرت صيغة (فعَّال) الدالة على التكرار والمبالغة : إيذانا بشدة هروبه ورجوعه، وعظم نفوره عند ذكر الله، وإيذانا بتكرير المحاولة وتعددها، وأن ذلك صنعته وحرفته ودأب له ودينه ، فهو كثير التردد ذهابا وإيابا بين وسوسة وخنوس ، فهو يخنس بذكر الله ثم لا يلبث أن يعاود وسوسته وكيده في أقرب فرصة سانحة إذا غفل العبد، فجاء ببناء اللفظ مطابقا لمعناه كما في الوسواس .قال سيد قطب: "وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه «الخناس».. فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس ، ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره، ويحمي مداخل صدره. فهو- سواء كان من الجنة أم كان من الناس- إذا وُوجِهَ خنس، وعاد من حيث أتى، وقبع واختفى. أو كما قال الرسول الكريم : «فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا غفل وسوس»وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس. فهو خناس ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة ولكنها- من ناحية أخرى- معركة طويلة لا تنتهي أبدا. فهو أبدا قابع خانس، مترقب للغفلة. واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات..".
· روي عن سعيد بن جبير:" إذا ذَكَر الإنسانُ ربَّه خنس الشيطانُ وولى، فإذا غفل وسوس إليه".
· أخرج الضياء في المختارة والحاكم وصححه وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس قال: "ما من مولود يولد إلّا على قلبه الوسواس فإذا عقل فذكر الله تعالى خنس، فإذا غفل وسوس ".
· وخنوس الجِنَّة قد تقدم، وأما خنوس شياطين الإنس فيكون عندما يوسوس لأحد بفعل السوء فيُذَكِّره بالله وبما يجب وأن هذا لا ينبغي فيخنس ويمسك عن القول، إلى أن تسنح له فرصة أخرى [41].
*****
[h=1]الذي يوسوس في صدور الناس:[/h]الربط:
لما ذكر صفة المستعاذ منه بأنه وسواس، ذكر إبرازه لصفته بالفعل ومكان وسوسته فقال: {الذي يوسوس في صدور الناس} إذا غفلوا عن ذكره تعالى، أي يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير بحيث في صدره .
محل الموصول: محلُّ الموصولِ " الذي يوسوس": الجرُّ على النعت لهذا الوسواس الخناس، وفيه بيان وكشف عن حقيقته وزيادة توضيح له مع ذمه، وقيل محله الرفع أ والنصب على الذم أي هو الذي، أو أذم الذي.
ويحسن أن يقف القارئ على (الخناس) ، ولو كان ما بعده نعتا له ؛لأنه رأس آية ، وبهذا يظهر ما في قول الكواشي من ضعف حيث قال: إننا إن جعلنا (الذي) في محل جر نعت فلا يجوز الوقف عليه بخلاف ما إذا جعلناه مرفوعا أو منصوبا على المدح، ولذلك تعقبه الطيبي بأن في عدم الجواز نظراً للفاصلة.
الحكم في ذكر هذا النعت { الذي يوسوس في صدور الناس}
وُصِفَ الْوَسْواس الْخَنَّاس بالَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ:
أ- لِتَقْرِيبِ تَصْوِيرِ الْوَسْوَسَةِ كَيْ يَتَّقِيَهَا الْمَرْءُ إِذَا اعْتَرَتْهُ لِخَفَائِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ بُيِّنَ أَنَّ مَكَانَ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ هُوَ صُدُورُ النَّاسِ وَبَوَاطِنُهُمْ ففيه تحذير للإنسان من شدة خطره [42].
ب- وليشير به إلى افتقار الناس إلى عون الله سبحانه حيث إن العدو خطير، لأنه يوقع وسوسته في أقرب الأماكن و أخصها وهي الصدور بشكل مكرر.
ت- وفيه توجيه العبد إلى قوة الالتجاء إلى الله سبحانه أن يحمية منه.
ما المراد بالصدر:
[h=2]القول الأول:[/h]المراد ظاهر معنى الصدر أي إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز والممر إلى القلب، فيلقي فيه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه، فشيطان الجن يعتري الإنسان بكلام خفي يصل مفهومه إلى قلبه من غير سماع صوته، كإنسان يتكلم من وراء حجاب بكلام يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع الصوت، وهذه حالة معقولة تقع عليها الوسوسة، و لا مانع عقلا من دخوله في جوف الإنسان، وقد ورد السمع به فوجب قبوله والإيمان به، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم»[43].
اختاره : الطبري والسمرقندي والطوسي والبغوي والطبرسي وابن جزي والبقاعي والواحدي
[h=2]القول الثاني:[/h]أريد بها قلوبهم مجازا مرسلا فإن القلب في الصدر ، أطلق المحل وهو الصدر وأراد الحال فيه وهو القلب، فسمي الحال باسم المحل.
اختاره : الخازن و ابن قتيبة والميرغني واطفيش والجلال
[h=2]القول الثالث:[/h]قالوا: هذا محمول على التمثيل فالآية لا تقتضي الدخول.
*****
ذكر الصدور لأمور:
[h=2]الأمر الأول: [/h] لأن الصدور ممرات للقلوب منها تدخل الواردات، فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب، فهو موسوس في الصدر، ووسوسته واصلة إلى القلب، وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد، ونفوذا إلى صدره، فهو يجري منه مجرى الدم، وقد وكل بالعبد، فلا يفارقه إلى الممات، فَغَايَةُ الْوَسْوَاسِ مِنْ وَسْوَسَتِهِ بَثُّهَا فِي قلب الْمَغْرُورِ وَالْمَشْبُوكِ فِي فَخِّهِ، والقلب وصفه الله سبحانه أنه موضع الإبصار المعنوي{ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. }، وموضع الكسب { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) } وموضع الزيغ { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } والاطمئنان والتقوى { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } والحسرة { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} وموضع الإيمان{ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ }وموضع المرض والقسوة والوجل والريب والإنكار والاطمئنان والفقه و الإخبات والطبع والتدبر والإيمان { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ } و{ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } { قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ } { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}{ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) } { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وغير ذلك مما ذكره القرآن الكريم، فلما كان للقلب هذا الخطر العظيم جعله الشيطان هدف وسوسته [44] بالإلقاء في الصدور الموصولة للقلوب ، وفي «الصحيحين » من حديث الزهري عن علي بن حسين، عن صفية بنت حيي رضي الله عنها: قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت فانقلبت (أي رجعت)، فقام معي ليقلبني(أي ليرجعني)، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي » فقالا: سبحان الله يا رسول الله ! فقال: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا - أو قال – شيئا " ».
[h=2]الأمر الثاني:[/h] إشارة إلى كثرة وسوسته بذكر الصدر الذي هو ساحة القلب ومسكنه.
ذكره البقاعي
[h=2]الأمر الثالث:[/h] لبيان خطر وسوسته وأنها في المناطق الحساسة في الجسم، وهذا أدعى إلى الإحساس بالخطر المتمثل فيه، وأدعى إلى التحرز منه والابتعاد عنه، لأنه يلامس منطقة الخطر الحقيقية في كيان الإنسان، فهي ليست وسوسة خارجية عابرة قد يستمع إليها الإنسان وقد لا يستمع، وقد يستجيب لها وقد لا يستجيب، بل هو يدخل في عمق وجوده، ليصل إلى أعز موقع، وأخطر مكان، الأمر الذي يحتّم عليه أن يلتمس معاذاً ليحفظ نفسه منه، مادام أنه يستهدفه في الصميم، وفي النقطة المحورية في وسط صدره، وهو عمق كيانه، وسوسة الجن في الصدور واضحة وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وأما وسوسة الإنس في الصدور، بواسطة وسوستهم لهم، حتى تصل وسوستهم إلى الصدور.
[h=2]الأمر الرابع: [/h]ذكره النسيابوري و وابن عجيبة ، قال ابن جزي حيث قال: فإن قيل: لم قال: { في صدور الناس } ولم يقل: في قلوب الناس. فالجواب أن ذلك إشارة إلى عدم تمكن الوسوسة، وأنها غير حالة في القلب؛ بل هي محومة في الصدر حول القلب.قال ابن عجيبة: حيث قال: ولم يقل: في قلوب الناس؛ لأنَّ الشيطان محله الصدور، ويمدّ منقاره إلى القلب، وأمّا القلب فهو بيت الرب، وهو محل الإيمان، فلا يتمكن منه كل التمكُّن، وإنما يحوم في الصدر حول القلب، فلو تمكّن منه لأفسد على الناس كلهم إيمانهم.
يقول علي هاني: وهذا القول الأخير إنما يأتي على القول بأن المراد بالصدور حقيقتها أما على جعل الصدور مجازا بمعنى القلوب فلا يتأتى.
*****
سر اختيار (في) دون(إلى ) { في صدور الناس}:
قال السامرائي: وأما اختيار حرف الجر (في) ههنا دون(إلى) أو اللام فقال { يوسوس في صدور الناس} فذلك أنه سبحانه ذكر موضع الوسوسة وهو المكان الذي تلقى فيه الوسوسة ، وأما (إلى) واللام فتكونان للشخص فيقال: (وسوس إلى فلان ووسوس له ) قال تعالى { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد} وقال سبحانه { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما}.
*****
إضافة الصدور إلى الناس لا إلى ياء المتكلم بأن يقال : صدري:
لأن هذه الوسوسة لا يتعرض لها فرد دون فرد بل هي حكم عام يستهدف جميع الناس، ويلاحقهم بإلحاح بالغ، أشد من الوباء، فذكر الناس فيه استمداد للمعونة وبيان لشدة الخطر، وذلك يجعل الإنسان أشد حرصاً على طلب المعاذ، وأكثر إخلاصاً في ذلك.
[h=1]{من الجنة والناس}:[/h][h=1]الربط: [/h]لما بين أوصافه وطريقة فعله ومكان وسوسته حدد ماهيته، وأنه تارة من الجن وأخرى من الإنس، تحذيراً من شياطين الإنس كالتحذير من شياطين الجن، وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ خَفَاءُ مَا يَنْجَرُّ مِنْ وَسْوَسَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ ؛ لِأَنَّ الْأُمَمَ اعْتَادُوا أَنْ يُحَذِّرَهُمُ الْمُصْلِحُونَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَرُبَّمَا لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ مِنَ الْوَسْوَاسِ قد يكون من الإنس ، وَهُوَ وَسْوَسَةُ أَهْلِ نَوْعِهِمْ.
[h=1] في معنى (من الجنة والناس) أقوال أربعة :[/h][h=1]1. القول الأول: أنها بيانية وهذا قول الجمهور.[/h]اختاره : أبو ذر وقتادة والحسن البصري والأخفش والكلبي والخازن و الكشاف و البيضاوي و الشهاب و النسفي و الآلوسي و الصابوني و ابن عاشور، و البقاعي و السمعاني وزكريا الأنصاري وابن تيمية و ابن القيم والجلال و سيد طنطاوي و الشوكاني و القرطبي والواحدي و الطوسي و الأمثل، و الطباطبائي، و هميان الزاد و ابن جزي وسيد قطب والقاسمي و أضواء البيان و محمد عبده وحسنين مخلوف وعبد الكريم الخطيب و السعدي وغيرهم.
فـ(من) بيانيّة : فيها بيان وتفصيل أن الذي يوسوس، ضربان: جني وإنسي، صِنْفٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَصْلُهُ، وَصِنْفٍ مِنَ النَّاسِ وَمَا هُوَ إِلَّا تَبَعٌ وَوَلِيٌّ لِلصِّنْفِ الْأَوَّلِ كما قال تعالى: {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ}، فالوسواس كما يكون من الجن يوسوس تارة ويخنس أخرى عند الذكر والاستعاذة، يكون من الإنس كَأَهْلُ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ يظهر بصورة النّاصح له المشفق، فإن قَبِل زاد في الوسوسة فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته ، ويدعوه إلى الفساد ويحسن ذلك ويغويه به ويسوفه التوبة ويمنيه العفو، وينشط إرادته لفعله، ويقبح له الخير ويثبطه عنه، فإن كره السامع ذلك انخنس وانقبض؛ وهم يَتَحَيَّنُونَ غَفَلَاتِ النَّاسِ وَيَتَسَتَّرُونَ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ لِكَيْلَا يَشْعُرَ النَّاسُ بِهِمْ، عن أبي ذرّ رضى الله عنه أنه قال لرجل: " هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس؟ فقال: أو من الإنس شياطين ؟ قال: نعم؛ لقوله تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن }[ الأنعام: 112 ] "، وقال الحسن:" هما شيطانان: أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية"، فكأنه تعالى أمر أن يستعاذ به من شر الجن والإنس جميعاً ، فليس من شرط الموسوس أن يكون مستتراً عن البصر، بل منه ما يشاهد.
· والوسوسة فِي الصُدُورِ بِالنِّسْبَةِ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ تَعَلُّقٌ حَقِيقِيٌّ لأنها تقع في الصدور، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِوَسْوَسَةِ النَّاسِ فهم لا يوقعونها مباشرة في الصدور لكن الوسوسة سَبَبٌ لِوُقُوعِ أَثَرِهَا فِي الصُّدُورِ.
[h=1]2. القول الثاني:[/h] (مِنَ): لابتداء الغاية متعلق بـ(يوسوس)، أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجنّ ومن جهة الناس، فيوسوس في صدورهم من جهة الجن مثل: أن يلقي في قلب المرء من جهتهم أنهم ينفعون ويضرون، ومن جهة الناس: مثل أن يلقي في قلبه من جهة المنجمين والكهان مثلا أنهم يعلمون الغيب.
أجازه الزمخشري وأبو السعود و الآلوسي.
[h=1]3. القول الثالث: {من الجنة والناس}بدل من قوله تعالى: ( مِنْ شَرِّ الوسواس ) بإعادة الجار وتقدير المضاف: فكأنه قيل: أعوذ بالله من شر الجنة والناس.[/h][h=1]4. القول الرابع: أن يكون ( الناس ) عطفا على ( الوسواس )، والمعنى من شر الوسواس الذي هو من الجن ومن شر الناس أي قل أعوذ برب الناس من الوسواس والناس، كأنه أمر أن يستعيذه من شر الجن، ومن شر الناس.[/h]اختاره : الثعلبي و علي بن سليمان الواحدي النيسابوري الزجاج.
[h=1]5. القول الخامس: [/h]قالوا : اسم الناس يطلق على الجنة فقوله تعالى: { من الجنة والناس}بيان للناس، والمعنى: أعوذ من الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس وهؤلاء الناس: يكونون من الجنة ويكون من الناس، فالوسواس: يدخل في الجني كما يدخل في الإنسي، ويوسوس للجني كما يوسوس للإنسي ، فالموسْوَس في صدورهم قسمان إنس وجن، فيكون الجن مسلطا بعضهم على بعض كما هم مسلطون على الإنس،واستدلوا بأنه ورد في القرآن الكريم استعمال نفر من الجن، ورجال من الجن: في سورة الجن. { نفر من الجن} { رجال من الجن} ، فكما يطلق عليهم نفر من الجن ورجال من الجن يطلق عليهم أنهم ناس فيقال: ناس من الجن، و يدل عليه قول بعض العرب جاء قوم من الجن، فقيل من أنتم قالوا أناس من الجن [45]،
. قال الطبري:" يعني بذلك: الشيطان الوسواس، الذي يوسوس في صدور الناس: جنهم وإنسهم" قد سماهم الله في هذا الموضع ناسا، كما سماهم في موضع آخر رجالا فقال:( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ ) فجعل الجنّ رجالا وكذلك جعل منهم ناسا.وقد ذُكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث، إذ جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فجعل منهم ناسا، فكذلك ما في التنزيل من ذلك.
اختار هذا الرأي: الفراء والطبري و البغوي و الخازن و الكلبي والقاموس والسمرقندي وجماعة وأجازه البقاعي و رده الزمخشري والبيضاوي أبو السعود و الآلوسي وابن عاشور وابن القيم وابن كثير.
[h=1]الترجيح: [/h]الراجح هو القول الأول قول الجمهور لأنه الواضح المتبادر، وأما الأقوال الأخرى ففيها تكلف وإليك ردها:
[h=1]رد القول الخامس: [/h]القول الخامس بعيد مردود لأمور:
1) أحدها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجن ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي ويجري منه مجراه من الإنسي، فأي دليل يدل على هذا حتى يصح حمل الآية عليه؟،فالجنة لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا، ولفظهما يأبى ذلك ؛فإن الجن إنما سموا جنا من الاجتنان وهو الاستتار فهو مستترون عن أعين البشر فسموا جنا لذلك من قولهم: جنه الليل وأجنه إذا ستره وأجن الميت إذا ستره في الأرض ومنه الجنين؛ لاستتاره في بطن أمه، وأما الناس فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى وبينهما اشتقاق أوسط وهو عقد تقاليب الكلمة إلى معنى واحد، والإنس والإنسان مشتق من الإيناس وهو ظهُورُ الشَّيْءِ مع الأُنس وعدم التَّوَحُّشِ ، فالناس اسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم ، فلا يصح أن يكون من الجنة والناس بيانا لقوله في صدور الناس وهذا واضح لا خفاء فيه.
2) الثاني: أن المعروف عند العرب خلافه ، قال ابن عاشور: وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ بَيَانًا لِلنَّاسِ إِذْ لَا يُطْلَقُ اسْمُ النَّاسِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْجِنَّ وَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْعَدَ.
3) الثالث: أن الشيء لا يكون قسيم نفسه ، وعلى هذا القول يكون فيه شبه جعل قسم الشيء قسيما له ؛لأنه يكون قد قسم الناس إلى قسمين: جنة وناس ، فكيف يبين الناس بالناس فإن معنى الكلام على قوله يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجنة والناس ، وهذا لا يجوز فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه، فلا يناسب بلاغة القرآن وإن سلم صحته، فلو كان يقع الناس على القبيلين وصح ذلك وثبت: لم يكن مناسبا لفصاحة القرآن وبعدِه من التصنع.
الرابع: أن استدلالهم بأنه أطلق عليهم نفر ورجال ، فيرده أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا، وأنت إذا قلت :إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب، وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس، وذلك لأن الناس والجنة متقابلان وكذلك والإنس والجن، فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله {يا معشر الجن والإنس الرحمن }، وهو كثير في القرآن وكذلك قوله من الجنة والناس، فلا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف الرجال والجن فإنهما لم يستعملا متقابلين فلا يقال الجن والرجال كما يقال الجن والإنس .
وعلى هذا فتزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الخامس، وأما القول الثاني والثالث والرابع فتكلفها أوضح من أن يرد عليه وإن كان القول الثالث القائل بالبدلية من { من شر الوسواس الخناس} أقلها تكلفا، ولكن ليس أقرب تبادرا من القول الأول المختار ، وهو كونها بيانا للناس، لتبادره ووضوحه وعدم تكلفه ، ولأنه أقرب لفظا ؛لأنه يجعل الارتباط بالآية السابقة مباشرة بخلاف الأقوال الأخرى التي تجعل { من الجنة والناس } مرتبطة بآيات أبعد ، علاوة على أن القول الأول قول الجمهور الذي اختاره كبار العلماء، ومما يؤيد هذا القول أن له نظيرا وهو اشتراك الجن والإنس في الوحي الشيطاني قال تعالى {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } ، ، فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني ويشتركان في الوسوسة، فالحاصل أن الآية على الاستعادة من شر نوعي الشياطين شياطين الإنس والجن.
*****
تفصيل اشتقاق الناس:
الناس: اشتقاقها من مادة (أ، ن، س) وهو ظهُورُ الشَّيْءِ مع الأُنس وعدم التَّوَحُّشِ،، سموا بذلك لأنهم ظاهرون محسوسون يُرَون ويدركهم البصر، مع الاستئناس أي يأنس بعضهم ببعض فهم مدنيون بالطبع من حيث إنه لا قوام لبعضهم إلا ببعض، ولا يمكنهم أن يقوموا بجميع أسبابهم منفردين، وهذا في مقابل النفور والتوحش والبعد وعدم الظهور وعدم الاستئناس كالجن ، ويضاف لذلك أن كلمة الناس قادرة على الإيحاء بخصوصيات، وميّزات مقصودة بالإفهام بما له من عقل، ومشاعر، وأحاسيس، وعواطف وليس المقصود مجرد الحديث عن الأشخاص والجماعات، بما هم لحم، ودم، وبشر، بغض النظر عن خصوصياتهم الإنسانية.
قال ابن فارس: (أَنَسَ) الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ وَالسِّينُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ ظُهُورُ الشَّيْءِ، وَكُلُّ شَيْءٍ خَالَفَ طَرِيقَةَ التَّوَحُّشِ، قَالُوا: الْإِنْسُ خِلَافُ الْجِنِّ، وَسُمُّوا لِظُهُورِهِمْ. يُقَالُ: آنَسْتُ الشَّيْءَ: إِذَا رَأَيْتُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}
المعجم الاشتقاقي: الأُنس والألفة كون الشي في وسط مجانس أو مشاكل له يظهر منه، والإنس ضد الجن تعني الذين يأنس بعضهم ببعض أو المأنوسون الذين يرون في مقابل الجن الذين لا يرون والإنس مقابل الجن والنسبه والإنسان جمعه أناسي والناس والمعتمد أنه اسم جمع للإنسان كقوم ورهط أن أصله أناس فحذفت همزته بعد دخولا ال عليها لكثرة الاستعمال.
قال التحقيق: واشتاق الإنسان من القرب مع الظهور بعنوان الاستئناس في مقابل النفور والوحشة والبعد وما لا يظهر ولا يستأنس كالجن وأما الرؤية والسماع فليس مفهومها مطلق الرؤية والسماع بل بقيد الاستئناس والاختلاط، وكذلك الإنس والإنسان فبملاحظة أنسه واختلاطه وهذه أول الفارق بين لفظ الإنسان والبشر وآدم فباعتبار معنى الظهور تستعمل في مقابل الجن والإنسان أصله الإنيس وهو اسم جنس زيدت فيه الألف والنون فيدل على التشخص وخصوصية زائدة والإيناس هو الإظهار والتقريب مع الأنس نحو { آنست نارا } وأما القول أن الإنسان مشتق من النسيان أو الناس من النوس أو أن الاستئناس بمعنى الاستئذان فغير صحيح والإنسي: { فلن أكلم اليوم إنسيا }.
[h=1]الخلاف في أصل كلمة الناس: [/h][h=1]في أصل كلمة الناس عدة أقوال : [/h][h=1]القول الأول: [/h]أصله أناس على وزن فعال، وهو جمع أو اسم جمع لإِنْسِيٍّ أو إنسان، ويستدل على ذلك بثبوت الهمزة في مفرده من إنسان، وإنسيّ بكسر فسكون، ووزنه فُعال فأسقطت الهمزة منها تخفيفاً كما قيل: لوقة، في قَالُوا لُوقَةُ فِي أَلُوقَةُ وَهِيَ الزُّبْدَةُ [46]؛ لكثرة الاستعمال إذا دخلها الألف و اللام للتعريف فوزنه عال، والنقص والإتمام فيه متساويان في كثرة الاستعمال ما دام نكرة، فإذا دخلت الألف واللام التزموا فيه الحذف، فقالوا: الناس، ولا يكادون يقولون: الأناس إلا في الشعر، كقوله:
إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ.. نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا.
اختاره : سيبويه والفراء وأبو السعود و الآلوسي وابن عاشور و الزمخشري و الطبرسي و الجمهور ودعاس ثم اختلف القائلون بهذا القول على رأيين:
[h=2]الرأي الأول: اسم جمع[47] [/h]والنَّاسُ اسْمٌ جَمْعٍ لا واحدَ له مِنْ لفظه وُضِعَ لِلْجَمْعِ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ وَوَاحِدُهُ إنْسَانٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ[48].
اختاره : الزمخشري والمعجم الاشتقاقي وابن عاشور والسمين الحلبي ومحيي الدين درويش وأبو حيان .
[h=2]الرأي الثاني: [/h] جمع تكسير أصله أناس على وزن فعال، وَمُفْرَدُ هَذَا الْجَمْعِ إِنْسِيٍّ أو إنسان وهو جمع تكسير حقيقة ؛لأنّ فِعالاً بالكسر من أبنية الجمع فأبدل كسره ضماً كما أبدلت ضمة سكارى من الفتحة ، وهذا الجمع له نظائر نحو ظُؤار جمع ظِئر ، وعُراق بعين وراء مهملتين وقاف جمع عِرق وهو عظم عليه لحم [49].
[h=2]القول الثاني: [/h]ان الناس لغة غير اناس بدليل تصغيره على نويس وإلا لقيل في التصغير: أنيس[50] ردا إلى أصله، واشتقاقه من النوس والأصلُ: نَوَسَ، فَقُلبت الواوُ ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، و النوس: وهو الحركة المتتابعة مع ارتخاء وتَدَلٍّ .
يقال: ناس ينوس نوسا: اذا تحرك .
و النوس تذبذب الشيء في الهواء، ومنه نوس القرط في الأذن لكثرة حركته.
و منه قيل لملك من ملوك حمير: ذو نواس؛ لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه.
فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة ؛ لأن من شأنهم الحركة على الاختيار العقلي.
قال المعجم الوسيط: (النواس ) المضطرب المسترخي، قال ابن فارس: (نوس) النون والواو والسين أصلٌ يدلُّ على اضطرابٍ وتذبذُب. وناسَ الشَّيءُ: تذَبْذَب، ينُوس. وسمِّي أبو نُوَاسٍ لذُؤَابتينِ له كانَتَا تنوسانِ. ويقولون: نُسْت الإبلَ: سُقْتُها. قال البقاعي: أي من فيه نوس أي حركة واضطراب من المكلفين عامة.
اختار هذا القول : الكسائي والبقاعي.

[h=1]اشتقاق الجنة:[/h][h=1]الأصل في المادة: [/h]الأصل الواحد في المادة هو: التغطية والمواراة، و ستر الشيء بكثيف يعلوه والجن: مخلوق في مقابل الإنس ، أي : من كان غير مأنوس مع أفراد الإنسان ومتواريا عن أبصارهم ومغطى عنهم، والجن: مكلفون منهم موحدون وكافرون ، وَهُوَ جِنْسٌ شَامِلٌ لِلشَّيَاطِينِ، سموا بالجن: لاجتنانهم و استتارهم عن رؤية الناس وتواريهم غير مؤانسين لهم ؛ ، فلفظ الجنّة- بكسر الجيم- مأخوذ من الجنّ- بفتح الجيم- على معنى الخفاء والاستتار.
ومن المادة:
جن عليه الليل: ستره بظلمته.
ومنه الجنين، الذي في رحم الأم.
ومنه الجنون، لأنه يستر العقل ويغطى عليه.
ومنه المجنّ، وهو الترس، الذي يستر به المحارب مواطن القتل منه، عن عدوه.
[h=1]الفرق بين الجن والجنة: [/h]في الفرق بينهما عدة أقوال :
[h=1]القول الأول: [/h]قالوا : الْجِنَّةُ: اسْمُ جَنس لجِنِّيٍّ بِيَاءِ النَّسَبِ إِلَى نَوْعِ الْجِنِّ، فَالْجِنِّيُّ الْوَاحِدُ مِنْ نَوْعِ الْجِنِّ ، والهاء لتأنيث الجماعة (الجمع) [51].
اختاره : القرطبي وابن عاشور ومكي والسراج المنير.
وقريب منه ما قاله إبراهيم بن محمد الإفليلي في شرح شعر المتنبي: الجنة: جمع جني، والهاء لتأنيث الجمع، والتاء حرف مختص بالتأنيث فجعلت علامة فيما كان أذهب في معنى الجمعية.
[h=1]القول الثاني: [/h]الجنة والجن بمعنى واحد ، والهاء فيه للمبالغة.
اختاره : ابن عطية وأبو حيان والآلوسي صديق حسن خان ومحيي الدين درويش.
[h=1]القول الثالث: [/h]الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه، فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء، وجمعه بالهاء كقول بعض العرب: كمء للواحد، وكمأة للجمع.
رده السمين حيث قال: وقيل: الجنَّة جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل كَمْء للجمع وكَمْأة للواحد.
اختاره: عبد الكريم الخطيب و المنتصر الكتاني وجعفر المرتضى.
قال جعفر المرتضى: "الجنة": جمع جن. وهذا يعني أنه تعالى لم يتحدث عن الجنس، وإنما تحدث عن الأفراد، باعتبار أن الوسوسة هي فعل اختياري لأفراد من الجن، وأفراد من الناس، تهدف إلى إضلال المهتدين. أو هي فعل يهدف لإيصال الشر إليهم.
[h=1]القول الرابع: الجنة مصدر لبيان النوع للدلالة على نوع من المواراة والتغطية.[/h]قال التحقيق: الأصل الواحد في المادة هو التغطية والمواراة ، والجنة بكسر الجيم فِعلة مصدر للنوع كالجلسة وهو يدل على نوع من المواراة و التغطية .
اختاره : المصطفوي في التحقيق.
الراجح: يقول علي هاني لا بد مع ما سبق أن نتأمل الآيات التي ورد فيها ذكر (الجن) (الجنة) (الإنس) (الناس) لنصل إلى الراجح :
[h=1]الآيات التي ورد فيها ذكر الجنة والناس: [/h]{ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}
{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}
{ 4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}
{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)}
الآيات التي فيها الجن والإنس:
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ }
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا }.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ }
{ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ }
{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)}
{وأسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذن ربه }
{ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ) {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) )
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) }
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) }
{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)}
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }.
إذا تأملنا الآيات مع ما قاله العلماء:
نجد أمورا مهمة:
· أن الجن تقابل في القرآن الكريم بالإنس .
· وأن الجنة يقابلها الناس.
· كل من الإنس والجن للجنس أي لبيان الجنس من حيث هو جنس كما يقال هذا من الطير ومن الإنس ومن الجن، وأنت تقول: هذا شخص من الإنس وهذا رجل من الإنس، و{ كان من الجن ففسق عن أمر ربه } .
· خلاف (الجنة) فتستعمل في سياقين:
السياق الأول: في سياق العموم {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} {) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} لأن التاء كما نص ابن عطية وجماعة تدل على المبالغة قال في شرح شعر المتنبي لإبراهيم بن محمد الإفليلي:" والتاء حرف مختص بالتأنيث فجعلت علامة فيما كان أذهب في معنى الجمعية"، فالجنة أذهب في معنى العموم من الجن، وأيضا الملاحظ فيها استغراق الأفراد بخلاف الجن النظر فيها للجنس كما يقال هذا حديد وهذا نحاس وهذا طير وهذا جن، فالجنة إذن أذهب في معنى العموم [52] ولذلك استعملت مع {لأملأن جهنم من الجنة} الجن كلهم.
وكذلك يقال في الإنس والناس، فالإنس للجنس من حيث هو جنس بخلاف الناس فهي تستعمل كثيرا في العموم كما هنا في سورة الناس، أي: عموم الإنسان والنظر فيها للأفراد. وبما سبق يتبين لنا سر الاستعمال للجنة والناس في سورة الناس:
فالجنة في سورة الناس فيها عموم ؛لأن خطر الشيطان كبير فأريد المبالغة في الاستعاذة من القليل والكثير والمفرد والمثنى والجمع وكل احد منهم ، فالجنة أعم من الجن ودالة على التنصيص والمبالغة في نفي الجنس كله.
وكذلك استعمال الناس دون الإنس التركيز فيها على جميع الأفراد فعبر بالناس ؛لإفادة العموم دون الإنس الذي يركز على الجنس.
السياق الثاني الذي تستعمل فيه الجنة: في سياق التحقير { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)}لذلك أنثت قال البقاعي: وأنثهم إشارة إلى تحقيرهم عن هذا الأمر الذي أهلوهم له.
يقول علي هاني: وهذا المعنى يمكن أن نضيفه في سورة الناس؛ لأن المستعيذ كاره لعدوه الوسواس ويريد إبعاده ويستعيذ بالله من شره.
قال البقاعي وتبعه الشربيني: { من الجنة } أي الجن طائفة إبليس، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب.
يقول علي هاني وبهذا تتكشف أسرار الفرق بين الجنة والجن والله أعلم، وهذا الذي قررته أفضل مما ذكره العلامة الدكتور فاضل السامرائي حفظه الله تعالى حيث قال في كتابه القيم على طريق التفسير البياني:" ورد استعمال الجنة في مقابل الناس، ـ ـ والجنة هم مجموعة من الجن أو أفراد منهم" [53] ومثله ما ذكره تاج العروس حيث قال: " والجِنَّةُ، بالكسْرِ: طائفةٌ من الجِنِّ)؛) وَمِنْه قَوْله تعالَى: {مِن الجِنَّةِ والناسِ أَجْمَعِيْنَ} ".
[h=1]الفرق بني الناس والبشر والعالمين وغيرها: [/h]قالت بنت الشاطئ: هند قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}.
جمهور المفسرين على أن الإنسان اسم جنس، والراجح أنه كذلك، فأكثر ما تجيء كلمة "الإنسان" في القرآن، معرفة بأل للجنس جاءت نحو ثلاث وستين مرة( 63) - وجاءت مرة واحدة نكرة، لكن مع الاستغراق بلفظ كل في آية الإسراء 13: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ـ ـ و استقراء كل آيات الإنسان في القرآن الكريم، يشهد بأن دلالة الإنسانية فيه أخص من الآدمية والإنسية، فالإنسان هو الذي يختص بالبيان والجدل ويحتمل التكليف والأمانة والعهد والوصية، والابتلاء بالخير والشر [54]والتعرض للغواية، مع ما يلابس ذلك كله من غرور وطغيان....وبقي أن نتدبر موضع الإنسان هنا، لنلمح سر الدلالة لهذا اللفظ، لا يقوم مقامه هنا لفظ آخر كالناس أو الإنس، على القول بترادفها.
فاستقراء هذه الألفاظ في كل مواضع استعمالها القرآني، يشهد بأن لكل منها ملحظاً خاصاً في الدلالة، إلى جانب الملحظ الدلالي المشترك فيها جميعاً بحكم تقارب مادتها اللغوية في الأصل: فالناس لعامة الجنس:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات 13)
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (الرعد 17)
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر 21)
ويأتي لفظ الإنس في القرآن في ثمانية عشر موضعاً، كلها مع الجن، فشهد ذلك بأن دلالة الإنسية، بما تعني من نقيض الوحشية، هي المتعينة في الإنس، أما "الإنسان" فإلى جانب كونه من الناس، ومن الإنس نقيض الجان (الحجر 26 والرحمن 14) يتميز بدلالة خاصة على الإنسانية، وتتضح هذه الدلالة باستقراء آيات الإنسان في القرآن وعددها خمس وستون آية، في سياق الأهلية لاحتمال تبعات التكليف، والابتلاء بالخير والشر، والتعرض للغواية، وما بلابس ذلك من غرور وطغيان.
والإنسان في القرآن الكريم، لا الإنس، هو الذي اختص بالعلم، وبالبيان والجدل، كما أنه الذي يتلقى الوصية ويحمل الأمانة، فشهد ذلك بأن الإنسان ليس مجرد فرد من الإنس أو الناس، وإنما مناط الإنسانية فيه معنوية ترقى به من مجرد الإنسية البشرية، إلى حيث يحتمل تبعات التكليف والإدراك والرشد، وأمنه الإنسان، وللراغب الأصفهاني ملحظ دقيق في اشتقاق لفظ الإنسان، يربطه باجتماعيته التي تجعله يأنس إلى الجماعة. وهو ملحظ يقبله حس العربية في الإنس والإنسان معاً، ثم تتخصص الإنسية بدلالتها على نقيض التوحش، وتأخذ الإنسانية دلالتها على خصائص الإنسان وأهليته لاحتمال الإنسانية، على ما هدى إليه استقراء آيات الإنس والإنسان في البيان القرآني، وبهذه الدلالة الخاصة، يأتي لفظ "الإنسان" في سورة العصر، في سياق ما يحتمل من تبعات التكليف ومسئولية الإنسان الفردية والاجتماعية.
*****
[h=1]تقديم الجن على الإنس هنا وتقديم الإنس على الجن في سورة الأنعام{ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ }: [/h]· قُدِّمَ الْجِنَّة عَلَى النَّاس هُنَا ؛لأن الحديث عن الوسوسة، وهي من شياطين الجن أخفى وأدق،ولأنهم الأضر فيها ؛لأنهم بواسطة الوسوسة يحركون شياطين الإنس لِأَنَّهُمْ أَصْلُ الْوَسْوَاسِ لاختفائهم عنا فلا نراهم ، و الخناسية والوسواسية تتناسب مع الخفاء والاستتار، الذي يتمثل في الجن بصورة أظهر منه في الإنس.
· بِخِلَافِ تَقْدِيمِ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ }[الْأَنْعَام: 112] لأن الكلام في الآية في عداوة الأنبياء، وهي من الإنس أظهر، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح لِأَنَّ خُبَثَاءَ النَّاسِ أَشَدُّ مُخَالَطَةً لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وبواسطتهم تحدث أذية الأنبياء، ولأن سياق الآيات في كفرة الإنس ومشركيهم لا في الجن والشياطين.


*****
ترتيب الأوصاف التي ذكرها الله تعالى للشيطان ترتيب بديع:
· ذكر صفة الوسواس أولا الذي يلقي خطراته خفية وسرا، وهذا هو المقدم في الواقع ، ثم ثنى بالخناس؛ لأنها تكون بعد الوسوسة، وبين ثالثا طريقة فعله الذي يتحقق به شره و مكان وسوسته: «الذي يوسوس في صدور الناس»، ثم حدد ماهيته أنه: «من الجنة والناس» من الجنة الخافية، وهو كذلك من الناس الذين يتدسسون إلى الصدور تدسس الجنة، وهذا الترتيب يثير في الحس اليقظة والتأهب لمراقبته ودفعه، وقد عرفت المكمن والمدخل والطريق.
*****
حاصل معنى السورة:
قل أيها المخطاب أستجير وألتجئ وأعتصم برب الناس، مربيهم ومالكهم ومعبودهم الحق سبحانه محتميا مع الملازمة واللصوق، عوذا مستمرا ا متجددا ، من شر الذي الشيطان الذي يكثر الوسوسة بالشر ويكررها، الكثير الانقباض والتأخر والرجوع والاستخفاء والاستتار ، الذي من طبعه وصنعته كثرة الخنوس بشدة وتكرره إيذانا بشدة هروبه ورجوعه عند ذكر الله، وإيذانا بتكرير المحاولة وتعددها، فهو كثير التردد ذهابا وإيابا بين وسوسة وخنوس مرة بعد مرة الذي من صفاته- أيضا- أنه يوسوس في صدور الناس بالسوء والفحشاء يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير بحيث تصل مفاهيمها في الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز والممر إلى القلب، فيلقي فيه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه، وهذا الوسواس الخناس من الجنسين: من الجن ومن الناس، فعليكم أن تستعيذوا بالله- تعالى- من شر النوعين جميعا.
*****
[h=1]إمالة الناس:[/h]الناسِ تمال إمالة كبرى من طريق الدوري عن أبي عمرو، تمال في هذه الرواية الناس في كل موضع وقع فيه مجرورا ؛لأجل كسرة السين، بخلاف المنصوب والمرفوع فلا تمال،و الباقون لا يميلون.
[h=1]لطائف في العدد:[/h][h=1]· قال الآلوسي: ثم إنه قيل إن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفا وكذا حروف الفاتحة فليراجع. [/h][h=1]· ومثل هذا الرمز ما قيل إن أول حروفه الباء وآخرها السين كأنه قيل «بس» أي حسب ففيه إشارة إلى أنه كاف عما سواه ورمز إلى قوله تعالى {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] [/h]*****
[h=1] [/h][h=1]في السورة رد العجز على الصدر:فقد ختمت السورة بما بدئت به.(الناس، الناس)[/h][h=1]تذكير ووعظ يتعلق بالسورة: [/h][h=1]1) الأول: أنواع الخواطر:[/h]والخواطر الواردة على الإنسان قد تكون وسوسة، وقد تكون إلهاماً، والإلهام تارة يكون من الله تعالى بلا واسطة، وتارة يكون بواسطة الملك، ويكون كل منهما في القلب، والوسوسة تارة من الشيطان، وأخرى من النفس، وكلاهما يكون في الصدر، فإن كان الإنسان مراقباً دفع عن نفسه الضار، وإلا هجمت الواردات عليه وتمكنت منه ويتميز خير الخواطر من شرها بقانون الشرع على أن الأمر مشكل، فإن الشيطان يجتهد في التلبيس، فإن وافق الشرع فلينظر، فإن كان فعله ذلك الحين أولى من غير تفويت لفضيلة أخرى هي أولى منه بادر إليه وإن كان الخاطر دنيوياً وأدى الفكر إلى أنه نافع من غير مخالفة للشرع زاد على شدة تأمله الاستشارة لمن يثق بدينه وعقله، ثم الاستخارة لاحتمال أن تتوافق عليه العقول، ويكون فيه خلل لتقصير وقع في النظر، وقد جعل بعضهم قانون الخاطر الرحماني أن ينشرح له الصدر ويطمئن إليه النفس، والشيطاني والنفسي أن ينقبض عنده الصدر وتقلق النفس بشهادة الحديث النبوي في البر والإثم، ويعرف الشيطاني بالحمل على مطلق المخالفة، فإن الشيطان لا غرض له في مخالفة بعينها، فإن حصل الذكر زال ذلك، والنفساني ملزوم شيء بعينه سواء كان نفعاً أو ضراً، ولا ينصرف عنه بالذكر، وقد يكون الشيطان إنسياً من أزواج وأولاد ومعارف، وربما كان أضر من شيطان الجن، فدواؤه المقاطعة والمجانبة بحسب القدرة، ومن أراد قانوناً عظيماً لمن يصاحب ومن يجانب فعليه بآية الكهف، {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} [الكهف: 28].
2) الثاني: المستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه لا سيما عبوديته له، وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته، وتارة بما يفسد عليه تدبيره، وما شرع له لمنفعته وصلاحه .
3) الثالث: قيل لسهل التستري: ما الوسوسة ؟ فقال: كل شيء دون الله تعالى فهو وسوسة، وإن القلب إذا كان مع الله تعالى فهو قائل عن الله تعالى، وإذا كان مع غيره فهو قائل مع غيره، ثم قال: من أراد الدنيا لم ينج من الوسوسة، ومقام الوسوسة من العبد مقام النفس الأمارة بالسوء، وهو ذكر الطبع، فوسوسة العدو في الصدور، كما قال: { يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس }
4) الرابع: خلاصة شرور إبليس خمسة شرور أساسية [55]:
الشر الأول: شر الكفر والشرك ، ومعاداة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والتشكيك في العقائد، فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه، واستراح من تعبه معه، وهو أول ما يريد من العبد، فلا يزال به حتى يناله منه، فإذا نال ذلك صيره من جنده، وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليس ونُوَّابه، فإذا يئس منه من ذلك، نقله إلى الشر الثاني وهو: الكبائر على اختلاف أنواعها وثبّطه عن الطاعات فإذا يئس من ذلك نقله إلى الدرجة الثالثة وهي: الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض... » وذكر حديث معناه: أن كل واحد منهم جاء بعود حطب، حتى أوقدوا نارا عظيمة، فطبخوا واشتووا ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة، وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب؛ بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته، شحيحا به، يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب، نقله إلى المرتبة الخامسة وهي:أحد أمرين أو مجموعهما:
الأمر الأول: أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحضه عليه، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقل من يتنبه لهذا من الناس، فإنه لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول: هذا الداعي من الله، وهو معذور، ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا، وأجل وأفضل، وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكتابه، ولعباده المؤمنين، خاصتهم وعامتهم،
والأمر الثاني: أن يدخل عليه الرياء في الطاعات ليُحبطها، فإن سَلِمَ من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه، واستكثار عمله ويدخل في هذه المراتب:، أنه يُوقد في القلب نار الحسد والحقد والغضب، حتى يقود الإنسان إلى سوء الأعمال، وأقبح الأحوال.
وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء، وهي: الإكثار من ذكر الله، والإكثار من الاستعاذة منه، ومن أنفع شيءٍ في ذلك: قراءة سورة الناس ، قال ابن جزي: و لا يقلع الوسوسة من القلب بالكلية إلاّ صُحبة العارفين أهل التربية، حتى يُدخلوه مقامَ الفناء، وإلاَّ فالخواطر لا تنقطع عن العبد.
5) الخامس: قد علم شياطين الجن والإنس أن أخطر مرض على المسلم ، هو الشك، ولا طريق إليه إلا بالوسوسة، فراحوا يوسوسون للمسلمين ويشككونهم في دينهم، وقد أعلن عن هذه النتيجة الخطيرة رئيس مؤتمر المستشرقين في الشرق الأوسط، منذ أكثر من ثلاثين عاما، حينما انعقد المؤتمر في [ بيروت ] لعرض نتائج أعمالهم، ودراسة أساليب تنصيرهم، فشكى المؤتمرون من أن لهم زهاء أربعين سنة من عملهم المتواصل، لم يستطيعوا أن ينصِّروا مسلما واحداً، فقال رئيس المؤتمر: إذا لم نستطع أن ننصِّر مسلما، ولكن استطعنا أن نوجد ذبذبة في الرأي، فقد نجحنا في عملنا، وهكذا منهج العدو، تشكيك في قضايا الإسلام ليوجد ذبذبة في عقيدة المسلمين، فعن طريق الميراث تارة، وعن طريق تعدد الزوجات أخرى، وعن دوافع القتال، وعن استرقاق الرقيق، وعن وعن ـ ـ، حتى وجد من أبناء المسلمين من تشكك في دينه بل تجاوز الشك إلى ما هو أبعد ، وما ذاك كله إلا حصاد ونتائج الوسواس الخناس، فلا غرو إذا أن تجمع الصفات الجليلة الثلاث: رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
6) قال التستري: أفضل الطهارة أن يطهر العبد من حوله وقوته، وكل فعل أو قول لا يقارنه «لا حول ولا قوة إلا بالله » لا يتولاه الله عز وجل، وكل قول لا يقارنه استثناء عوقب عليه، وإن كان برا، وكل مصيبة لا يقارنها استرجاع لم يثبت عليها صاحبها يوم القيامة.
7) قال سيد قطب: هذه السورة [الفلق] والتي بعدها[الناس] توجيه من الله - سبحانه وتعالى - لنبيه [ صلى الله عليه وسلم ] ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا، للعياذ بكنفه، واللياذ بحماه، من كل مخوف: خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.. وكأنما يفتح الله - سبحانه - لهم حماه، ويبسط لهم كنفه، ويقول لهم، في مودة وعطف: تعالوا إلى هنا. تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا.. هنا الأمن والطمأنينة والسلام..
ومن ثم تبدأ كل منهما بهذا التوجيه. ( قل: أعوذ برب الفلق ).. ( قل: أعوذ برب الناس ).. وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار، تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه، والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] استروحه في عمق وفرح و انطلاق عن عقبة - ابن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال: " ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط ? قل: أعوذ برب الفلق وقل: أعوذ برب الناس ".
لطيفة:
أول موضع ورد فيها الإنس هي قوله تعالى { (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} وآخر موضع ذكر فيها الجنة والناس هي { من الجنة والناس} ففي الأولى بيان من يعادي الرسل والدعوات من الإنس والجن وفي الناس الاستعاذة من شرهم.
كان الفراغ من تأليف هذا الشرح المبارك عند أذان عصر يوم الأربعاء:
من ذي القعدة .
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .



[1] قال تاج العروس: والمُعَوَّذَتانِ: سُورَتَانِ) سُورَة الفَلَق وتاليَتُهَا، (بِكَسْرِ الوَاوِ) ، صَرَّح بِهِ السيوطيّ فِي الإِتقان، وجَزم بِهِ، وصَرَّح الشمسُ التتائيُّ فِي شَرْحِ الرسالَة أَنّ الفتحَ خَطَأٌ، وإِنْ ذَهَبَ إِليه ابنُ علاَّن فِي شَرْحِ الأَذْكار، وأَنّ الكسْرَ هُوَ الصوابُ. لأَن مَبْدَأَ كُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُمَا (قُلْ أَعُوذُ).قال علي القاري في المرقاة : وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ وَتُفْتَحُ

[2] كحقي في روح البيان وسيد طنطاوي في الوسيط ومقتضى تسمية ابن عطية للفلق المعوذة الأولى .

[3] قال القرطبي والماوردي . وقيل : إن المعوذتين كان يقال لهما : المقشقشتان ، أي تبرئان من النفاق.

[4] [4] ذكر كثير من العلماء أن المقشقشة اسم لسورة التوبة، وذكر كثير من المفسرين منهم : البقاعي، وصاحب القاموس، والسمعاني ، والآلوسي، والنيسابوري، والزمخشري ، والشهاب أن المقشقشتين هما الكافرون والإخلاص: قال في القاموس: المقشقشتان: الكافرون، والِإخلاص المبرئتان من النفاق والشرك ، وقال السمعاني: فِي بعض (الْأَخْبَار): أَن سُورَة قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ وَسورَة قل هُوَ الله أَحدهمَا المقشقشتان أَي: تبرئان من الشّرك والنفاق، وَسميت السُّورَة سُورَة الْإِخْلَاص لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا وصف الرب عَن اسْمه وَلَيْسَ فِيهَا أَمر وَلَا نهى وَلَا وعد وَلَا وَعِيد لِأَنَّهُمَا تُقَشْقِشَانِ مِنَ الشِّرْكِ أَيْ تُبْرِئَانِ مِنْهُ .

[h=1][5] مبحث في العد لآيات القرآن الكريم: [/h]اعلم أن الأعداد التي يتداولها الناس(1) ويعدون بها في سائر الآفاق ستة، على عدد المصاحف الموجَّه بها إلى الأمصار على صح الأقوال فيها، ولذلك كان لأهل المدينة الشريفة عددان وواحد لأهل مكة وواحد لأهل الشام وواحد لأهل الكوفة وواحد لأهل البصرة.العدد المدني الأول وهو غير منسوب إلى أحد بعينه وإنما نقله أهل الكوفة عن أهل المدينة مرسلا (أي غير مقيد عن أحد معين) ولم يسموا في ذلك أحدا وكانوا يأخذون به وإن كان لهم عدد مخصوص.، وبه قال نافع، وقد وهم من نسب عدد المدني الأول إلى أبي جعفر وشيبة وعدد المدني الأخير إلى إسماعيل ابن جعفر. وكأن الذي أوقعه في ذلك ما ذكر في بعض الكتب من أن نافعا روى عنهما عدد المدني الأول وأن أبا عمرو عرض العدد المذكور على أبي جعفر فإن رواية ذلك عنهما لا تقتضي نسبته إليهما.قال أبو عمرو الداني: ذكر عدد الْمدنِي الأول وَهُوَ الْعدَد الَّذِي رَوَاهُ أهل الْكُوفَة عَن أهل الْمَدِينَة لم يسموا فِي ذَلِك أحدا بِعَيْنِه يسندونه إِلَيْهِ ذكر عدد الْمدنِي الْأَخير العدد المدني الأخير منسوب إلى أبي جعفر بن يزيد بن القعقاع أحد العشرة وشيبة بن نصاح[5]. وقد رواه عنهما إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري بواسطة سليمان بن جماز، و نسبته إلى إليهما أي إلى أبي جعفر وشيبة فهو مما لا ريب فيه قال أبو عمرو الداني ذكر عدد الْمدنِي الْأَخير: وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ إِسْمَاعِيل عَن ابْن جماز عَن شيبَة وَأبي جَعْفَرالعدد المكي وهو منسوب إلى عبد الله بن كثير أحد السبعة وهو يروي ذلك عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب العدد الكوفي وهو مروي عن حمزة الزيات، قال أبو عمرو الداني: العد الكوفي هو الْعدَد الَّذِي رَوَاهُ سليم وَالْكسَائِيّ عَن حَمْزَة وأسنده الْكسَائي إِلَى عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَذكر سليم أَن حَمْزَة قَالَ هُوَ عدد أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَلَا أَشك فِيهِ عَن عَليّ إِلَّا أَنِّي أُجِيز عَنهُ.قال في الإتقان: وأما العدد الكوفي فهو ما رواه الإمام الداني بسنده إلى حمزة بن حبيب(1) الزيات والى سفيان الثوري(2)، فأما حمزة فروى عن ابن أبي ليلى(3)عن أبي عبد الرحمن السلمي(4) عن علي(5) بن أبي طالب " اهـ قال الفيروز آبادي عن العدد الكوفي أنه أعلى الأعداد سندا وأصحها سندا العدد البصري وهو مروي عن عاصم الجحدري.العدد الشامي : وأما عدد أهل الشام فرواه هارون بن موسى الأخفش وغيره، عن عبد الله بن ذكوان وأحمد بن يزيد الحلواني وغيره، عن هشام بن عمار، ورواه ابن ذكوان وهشام عن أيوب بن تميم القارئ عن يحيى بن الحارث الذماري قال هذا العدد الذي نعده عدد أهل الشام مما رواه المشيخة لنا عن الصحابة ورواه عبد الله بن عامر اليحصبي لنا وغيره عن أبي الدرداء

[6] قال المعجم الاشتقاقي: السين تعبر عن امتداد دقيق (حاد قوي ) نافذ في جرم أو منه وهذا المعنى يلتقي مع الشعور عند خروج السين خيط هواء دقيقا قويا ينفذ ممتدا وقال عبد المجيد عرابلي: السين للتفلت.


[7] هذا هو قول السيوطي في الإتقان لأنه قال الْمُعَوِّذَتَانِ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُمَا مَدَنِيَّتَانِ لِأَنَّهُمَا نَزَلَتَا فِي قِصَّةِ سِحْرِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ.وأما نقله في ترتيب نزول السور أنها أنزلت بعد الفيل فهذا لا يمثل مذهبه كما هو نص عبارته السابقة وبهذا يظهر خطا قول محمد سيد طنطاوي: وقد سار السيوطي في إتقانه على أنهما مكيتان، وأن نزول سورة الفلق كان بعد نزول سورة «الفيل» وقبل سورة «الناس»، وأن نزول سورة «الناس» كان بعد سورة «الفلق» وقبل سورة «الصمد».

· [8] يقول علي هاني: ورواية مسند عبد بن حميد هي : " حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، قَالَ: فَاشْتَكَى فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَقَالَ: " إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، وَالسِّحْرُ فِي بِئْرِ فُلَانٍ، قَالَ: فَأَرْسَلَ عَلِيًّا فَجَاءَ بِهِ، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُلَّ الْعُقَدَ، وَتَقْرَأَ آيَةً، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَيَحُلُّ حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ، قَالَ: فَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَ بِهِ، قَالَ: وَلَا أَرَاهُ فِي وَجْهِهِ "


· [9] قال ابن كثير : قال الأستاذ المفسر الثعلبي في تفسيره: قال ابن عباس وعائشة، رضي الله عنهما: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبَّت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مُشَاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مُشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها. وكان الذي تولى ذلك رجل منهم - يقال له: [ لبيد ] [SUP]55[/SUP] بن أعصم - ثم دسها في بئر لبني زُرَيق، ويقال لها: ذَرْوان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يَذُوب ولا يدري ما عراه. فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فَقَعَد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل ؟ قال: طُبَّ. قال: وما طُبَّ ؟ قال: سحر. قال: ومن سحره ؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي. قال: وبم طَبَّه ؟ قال: بمشط ومشاطة. قال: وأين هو ؟ قال: في جُفِّ طلعة تحت راعوفة في بئر ذَرْوَان - والجف: قشر الطلع، والراعوفة: حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح - فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورًا، وقال: " يا عائشة، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ؟ ". ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر كأنه نُقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجف، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود، فيه اثنتا عشرة عقدة مغروزة بالإبر. فأنزل الله تعالى السورتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نَشطَ من عقال، وجعل جبريل، عليه السلام، يقول: باسم الله أرْقِيك، من كل شيء يؤذيك، من حاسد وعين الله يشفيك. فقالوا: يا رسول الله، أفلا نأخذ الخبيث نقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن يثير على الناس شرًا " [SUP]5[/SUP]. قال ابن كثير: هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم، والله أعلم.


[10] قد استعنت بالشيخ أحمد برهوم الذي يعمل في مكتب التخريج عند الشيخ شعيب الأرنؤوط في تخريج رواية عمرة عن عائشة ورواية عبد حميد ة فأفادني بهذا التخريج القيم جزاه الله كل خير.

[11] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّان، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ مَنْ الْيَهُودِ، فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا، قَالَ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقْدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا، فَأرْسِل إِلَيْهَا مَنْ يَجِيءُ بِهَا. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ] فَاسْتَخْرَجَهَا، فَجَاءَ بِهَا فَحَلَّلَهَا قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نَشط مِنْ عِقَالٍ، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِيِّ وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ [قَطُّ] حَتَّى مَاتَ.

[12] رواية الإمام أحمد ذكرتها في أسباب النزول وأما رواية البغوي فهي: عن زيد بن أرقم وليس فيها هذه الزيادة ونص روايته " «2432» أَخْبَرَنَا الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أنا محمد بن إبراهيم الصالحي ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظِ أنا ابن أبي عاصم ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيبة ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ زيد بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، قَالَ فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ وَعَقَدَ لَكَ عُقَدًا، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فَاسْتَخْرَجَهَا فَجَاءَ بِهَا، فَجَعَلَ كُلَّمَا حَلَّ عُقْدَةً وَجَدَ لِذَلِكَ خفة، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ وَلَا رَأَوْهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ[12].


[13] الْمَطْبُوبُ الْمَسْحُورُ يُقَالُ طُبَّ الرَّجُلُ إِذَا سُحِرَ فَكَنَوْا بِالطِّبِّ عَنِ السِّحْرِ كما كنوا بالسليم عن اللديغ قال بن الأنبارى الطب منالأضداد يُقَالُ لِعِلَاجِ الدَّاءِ طِبٌّ وَلِلسِّحْرِ طِبٌّ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوَاءِ وَرَجُلٌ طَبِيبٌ أَيْ حَاذِقٌ سُمِّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ وفي فتح الباري: طُبَّ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ إِذَا سُحِرَ يُقَالُ كَنَّوْا عَنِ السِّحْرِ بِالطِّبِّ تَفَاؤُلًا كَمَا قَالُوا للديغ سليم


[14] المشط: وَهُوَ الْآلَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يُسَرَّحُ بِهَا شَعْرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، هناك رواية في مشط ومشاطة ورواية في مشط ومشاقة، الْمُشَاطَةُ الشَّعْرُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ أَوِ اللِّحْيَةِ عند تسريحه، وفي رواية نحوه، وفيه: «في مُشْط ومُشاقة» قال البخاري يقال المُشاطة ما يخرج من الشَّعر إذا مُشِطَ، ومُشاقة (2) من مُشاقة الكَتَّان، أخرجه البخاري ومسلم.

[15]: الجُفُّ: وعاء الطلع وقشره وغشاؤه الذي يكنه.

[16] قوله: "ذَكَرٍ" الذكر من النخل: هو الذيَ يؤخذ طلعه طلعة فيجعل منه في طلع النخلة المثمرة فيصير بذلك ثمرًا, ولو لم يجعل فيه لكان شيصًا لا نوى فيه ولا يكاد يساغ. وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ وَهُوَ الْغِشَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَلِهَذَا قَيَّدَهُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ طَلْعَةِ ذَكَرٍ

[17] والراعوفة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت حجر في أسفل البئر ناتئ فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقي عليها.

[18] فى بئرذى أَرْوَانَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ ذِي أَرْوَانَ وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ البخارىوفى مُعْظَمِهَا ذَرْوَانَ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ وَأَصَحُّ وادعى بن قُتَيْبَةَ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصْمَعِيُّ وَهُوَ بِئْرٌ بِالْمَدِينَةِ فِي بُسْتَانِ بَنِي زُرَيْقٍ.


[19] استيفاء هذا الموضوع في تفسير سورة البقرة { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان}.

[20] قال النووي: قال أهل اللغة: النفث: نفخ لطيف بلا ريق.

[21] قال الآلوسي: وبهذا الاختلاف قدح بعض الملحدين في أعجاز القرآن قال لو كانت بلاغة ذلك بلغت حد الإعجاز لتميز به عن القرآن فلم يختلف في كونه منه.

[22] صحح ابن حجر السعقلاني والسيوطي والآلوسي هذه الطرق فقالوا وري من طرق صحيحة عنه

[23] وقد أجاب بعضهم بأن عدم كتابتهما أو حكهما لا يستلزم إنكار كونهما من القرآن، لجواز أنه كان يراهما وحياً ولكن ينكر كتابتهما ويقول: «إنما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتعوذ بهما» فقد كان ينكر كتابتها فقط لا قرآنيتها وقد دفع ابن حجر هذا التأويل بقوله:" وَقَدْ أَوَّلَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَلَى إِنْكَارِ الْكِتَابَةِ كَمَا سَبَقَ، قَالَ: وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا تَدْفَعُ ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: "وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ " قَالَ: وَيُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِ " كِتَابِ اللَّهِ " عَلَى الْمُصْحَفِ فَيَتِمُّ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ. قَالَ: لَكِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ اسْتَبْعَدَ هَذَا الْجَمْعَ"، و قال ابن قتيبة: لم يكتب عبد الله بن مسعود في مصحفه المعوذتين؛ لأنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - بهما، فقدر أنهما بمنزلة: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامَّة. قال أبو بكر الأنباري: وهذا مردود على ابن قتيبة؛ لأن المعوذتين من كلام رب العالمين، المعجز لجميع المخلوقين، و " أعيذكما بكلمات الله التامة " من قول البشر بين. وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحجة له باقية على جميع الكافرين، لا يلتبس بكلام الآدميين، على مثل عبد الله بن مسعود الفصيح اللسان، العالم باللغة، العارف بأجناس الكلام، وأفانين القول

[24] مالك يوم الدين قرئت ملك يوم الدين .

[25] وأما تكرير الناس في قوله تعالى : { من الجنة والناس} فَلِأَنَّهُ بَيَانٌ لِأَحَدِ صِنْفَيِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ.


[26] قال الرازي: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَالَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: رَبِّ الْعالَمِينَ ثُمَّ قَالَ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ التِّكْرَارِ هُنَاكَ؟ قُلْنَا اللَّفْظُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَالِكٌ لِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُنَاكَ الرَّبُّ مُضَافٌ إِلَى شَيْءٍ وَالْمَالِكُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ فَلَمْ يَلْزَمِ التَّكْرِيرُ، وَأَمَّا هاهنا لَوْ ذَكَرَ الْمَالِكَ لَكَانَ الرَّبُّ وَالْمَالِكُ مُضَافَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرِيرُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ

[27] سنأخذ بالتفصيل اشتقاق هذه الكلمة المباركة في الفاتحة إن شاء الله.

[28] وهذا جامع لمعظم الأقوال التي ذكرها البيضاوي في تفسير البسملة في الفاتحة حيث قال: والإله في الأصل لكل معبود، ثم غلب على المعبود بالحق، واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد، ومنه تأله واستأله، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته. أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته.
أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه، وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه. أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد. أو من وله إذا تحير وتخبط عقله، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه، فقيل إله كإعاء وإشاح، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة. وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به.


[29] وكل مضاعف من الزلزلة والرضرضة معناه متكرر، قال ابن القيم في تفسيره: ونظير ذلك: زلزل، ودكدك، وقلقل، وكبكب الشيء؛ لأن الزلزلة حركة متكررة وكذلك الدكدكة، والقلقلة، وكذلك كبكب الشيء: إذا كبه في مكان بعيد، فهو يُكَبُّ فيه كبا بعد كب، كقوله تعالى: { فكبكبوا فيها هم والغاوون } ومثله: «رضرضة » إذا كرر رضه مرة بعد مرة، ومثله «ذَرْذَرَه » إذا ذره شيئا بعد شيء، ومثله «صَرْصَر الباب »: إذا تكرر صريره، ومثله: «مَطْمَطَ الكلام »: إذا مطه شيئا بعد شيء، ومثله: «كفكف الشيء »: إذا كرر كَفَّه، وهو كثير. وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب؛ لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرباعي المكرر، فإذا قلت: ذَرّ الشيء وصر الباب، وكف الثوب، ورض الحب: لم يدل على تكرار الفعل، بخلاف ذرذر، وصرصر، ورضرض، ونحوه، فتأمله، فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني، وقد تقدم التنبيه على ذلك، فلا وجه لإعادته.

[30] بعض العلماء جعل هذه الصيغة اسم فاعل تفيد المبالغة ، وبعضهم قال هي من صيغ المبالغة .

[31] قال ابن هشام والدماميني الأكثر أن يعني بمفتوح فعلل اسم الفاعل نحو من شر الوسواس أي الموسوس والصلصال بمعنى المصلصل ،ونقل السيوطي عن ابن مالك أن المطرد في المصدر من فِعلال هو الكسر ،وأن الفتح ندر في قولهم : وعوع الكلب وَعواعا ، وغظغط السهم في مروره غَظغاطا إذا التوى ، وأن غير ذلك من المفتوح متعين الوصفية ،المقصود بها المبالغة ،وأن تجويز الزمخشري الفتح في المصدر الذي لم يسمع فتحة قياسا على ما سمع يُردُّ بأن النادر لا يقاس عليه.

[32] وَقَالَ اللَّيْث: القَضقضَةُ كَسْرُ الْعِظَام والأعضاء، وأسدٌ قَضْقاضٌ يُقضقِضُ فريسَتَهُ.

[33] قال الآلوسي في سورة الزلزلة: وقرأ الجحدري وعيسى «زلزالها» بفتح الزاي وهو عند ابن عطية مصدر كالزلزال بالكسر. وقال الزمخشري المكسور مصدر والمفتوح اسم للحركة المعروفة، وانتصب هاهنا على المصدر تجوزا لسده مسد المصدر. وقال أيضا:ليس في الأبنية فعلال بالفتح إلّا في المضاعف وذكروا أنه يجوز في ذلك الفتح والكسر إلّا أن الأغلب فيه إذا فتح أن يكون بمعنى اسم الفاعل كصلصال بمعنى مصلصل وقضقاض بمعنى مقضقض ووسواس بمعنى موسوس وليس مصدرا عند ابن مالك، وأما في غير المضاعف فلم يسمع إلّا نادرا سواء كان صفة أو اسما جامدا،

[34] وقالَ أَبُو أحمدَ العَسْكَرِيُّ: حِمارٌ {صَلْصَالٌ: قَوِيُّ الصَّوْتِ، شدِيدُهُ.

[35] سرهفته بفتح السين والهاء وسكون الراء إذا أحسن غذاءه، • سَرْهَفْتُ الصَّبِيَّ: أحْسَنْتُ غِذاءَهُ، ونَعَّمْتُهُ.

[36] • بيطرَ الدَّابَّةَ: عالجها، شقَّ حافرها ليعالجها. (و) البَطِيرُ: (مُعَالِجُ الدَّوابِّ، كالبَيْطَرِ)

[37] دَكَّ الشَّيءَ {يَدُكّهُ} دَكًّا: ضَرَبَه وكَسَرَه حَتَّى سَوّاهُ بالأَرْضِ.

[38] الأدلة مأخوذة من كلام ابن القيم بتصرف.

[39] قال الآلوسي: وفي عد هذا من الشر البدني خفاء.

[40] يقال خَنَسَ عنه يَخْنِسُ ويَخْنُسُ بالكسر والضم كما في القاموس.

· [41] وقد ذكر ابن سينا كلاما غير مقبول في تفسير الوسواس الخناس: الآلوسي: وقال ابن سينا الوسواس القوة التي توقع الوسوسة وهي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم إن حركتها تكون بالعكس فإن النفس وجهتها إلى المبادي المفارقة فالقوة المتخيلة إذا أخذتها إلا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنص أي تتحرك بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس فلذلك تسمى خناساً ونحوه ما قيل إنه القوة الوهمية فهي تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه ولا يخفي أن تفسير كلام الله تعالى بأمثال ذلك من شر الوسواس الخناس والقاضي البيضاوي ذكر الأخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به.

[42] الجن يجري من ابن آدم مجرى الدم - كما في الصحيح، فهو يوسوس بالذنب سراً ليكون أجلى، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يواقعه الإنسان، فإذا واقعه وسوس لغيره أن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك، فإذا افتضح ازداد جرأة على أمثال ذلك لأنه يقول: قد وقع ما كنت أحذره من القالة، فلا يكون شيء غير الذي كان، وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه حتى يشاكله في رذيلة الطبع وظلمة النفس، فينشأ من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه، وينشأ من الكبر الحقد والحسد يترشح منه بطر الحق - وهو عدم قبوله، ومنه الكفر والفسوق والعصيان، وغمص الناس - وهو احتقارهم المعلوم من قول الشيطان
{أنا خير منه} [الأعراف: 12] ومنه تنشأ الاستهانة بأولياء الله تعالى بترك احترامهم ومنع حقوقهم والاعتداء عليهم والظلم لهم، ويترشح من الحقد الذي هو العداوة العظيمة إمساك الخير والإحسان وبسط اللسان واليد بكل سوء وإيذاء، ويترشح من الحسد إفساد ذات البين كما يشير إليه {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة} [الأعراف: 20] ا والكذب والمخادعة كما عرف به {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور} [الأعراف: 21] ويترشح عن الإعجاب التسخط للقضاء والقدر كما آذن به {قال أأسجد لمن خلقت طيناً} [الإسراء: 61] ومقابلة الأمر بالعلم بما أشعر به {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال} [الحجر: 33] ـ ـ والجرأة على المخالفات فينشأ عن ذلك شرور متعدية، وهي السعي في إفساد العقائد والأخلاق والأعمال والأبدان والأرزاق، ثم لا يزال يتحبب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه من هذه الخبائث وهو يوافقه فيها حتى يصير له أخلاقاً راسخة، فيصير رديء الطبع فلا ينفع فيه العلاج، بل لا يزيده إلا خبثاً كإبليس، ومن كان أصله طيباً واكتسب ما يخالفه بسبب عارض كان ممكن الإزالة كالعلاج كما وقع لآدم عليه الصلاة والسلام.



[43] وشيطان الإنس يوصل الوسوسة إلى صدره

[44] انظر كتاب الكاتبة الأمريكية بعنوان "القلب يتحدث" عن أهمية القلب، وتأثيره على الجسم والدماغ فهو مهم، وعمليات نقل القلوب في أواخر هذا العصر لفتت انتباه الأطباء إلى أن للقلب وظائف أخرى فقد ثبت تغير سلوك جماعة منهم بعد نقل القلب، فلا بد ولا شك أن القلب الذي هو مضغة مع قوى نفسانية مستودعة فيه أو مرتبط به له كل تلك الأمور التي ذكرها القرآن الكريم، ولا بد أن يعلم أن القرآن لم يهمل العقل أيضا فقال ناصية كاذبة خاطئة، هل في ذلك قسم لذي حجر، وقد ذكر ترتيب السمع والبصر والبكم على حسب ترتيبها في الدماغ { صم بكم عم } ولكن كثيرا من الأطباء المعاصرين لم ينظروا إلى القلب إلا أنه مضخة للدم وهذا قصور منهم وسيثبت لهم المستقبل خلاف ذلك نعم هو ليس أمرا ماديا فقط ، ولا بد ان يعلم أن كثيرا من علماء الإسلام الكبار اختلفوا في موضع التعقل في الإنسان أين هو وجماعة منهم لم يجعلوا هذا القلب الذي في الصدر إلا مجرد مضخة للدم يشترك فيها الإنسان والحيوان ولكن رأيي أن المراد بالقلب هو القلب الذي في صدر الإنسان بدليل قوله تعلى { لكن تعمى القلوب التي في الصدور } وبدليل حديث (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ) والأيام ستأتي وسيظهر ذلك للناس جليلا كما ظهرت مئات الأسرار التي في القرآن الكريم التي سبق فيها العلم، ولذلك فأنا أخالف الشيخ محمد عبده في قوله:: إنما جعل الوسوسة في الصدور على ما عهد في كلام العرب من أن الخواطر في القلب، والقلب مما حواه الصدر عندهم، وكثيرا ما يقال: ( إن الشك يحوك في صدره )، وما الشك إلا في نفسه وعقله، وأفاعيل العقل في المخ، وإن كان يظهر لها أثر في حركات الدم، وضربات القلب، وضيق الصدر، أو انبساطه.

[45] قال البقاعي: ويجوز أن يكون بياناً ل ( الناس ) ولا تعسف فيه لما علم من نقل القاموس : حيث قال: يكون من الإنس ومن الجن، جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل ـ ـ ـ ولعل إطلاقه على هذين المتقابلين بالنظر إلى النوس الذي أصله الاضطراب والتذبذب فيكون منحوتاً من الأصلين: الانس والنوس، ومن ثالث وهو النسيان.


[46] وقد لوّق طعامه إذا أصلحه بالزبد

[47] الطيبي: الفرق بين الجمع الحقيقي، وبين اسم الجمع، أن اسم الجمع في حكم الأفراد بدليل جواز التصغير فيه، ولا يجوز تصغير الجمع الحقيقي إذا كان جمج الكثرة. مثال اسم الجمع ركْب وسَفْر، وصَحْب، يجوز أن يقال: رُكَيب، سُفَير، صُحَيب، ولا يجوزون في جمع الكثرة، بل يجب أن يرد إلى واحده، أو إلى جمع قلة إن وجد قال الشهاب: الفرق بينهما أن اسم الجمع ما دل على ما فوق الاثنين، ولم يكن على أوزان الجموع سواء كان له مفرد أو لا، ويشترط فيه أيضا أن لا يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة ولا بالياء كزنج وزنجيّ، فإنه اسم جنس جمعيّ ويعرف بإطراد تصغيره من غير ردّ إلى المفرد

[48] قال بعضهم إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع والحق أنه ثبت كلمات كثيرة أكثر من عشرين كلمة ذكرها الشهاب في حاشيته.

[49] قد ذكر الشهاب على البيضاوي كثيرا من هذه الكلمات التي جمعت على هذا الوزن فكانت أكثر من عشرين كلمة.

[50] وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل وقال الطبرسي: أما قولهم في تحقيره نويس فإن الألف لما كانت ثانية زائدة أشبهت ألف فاعل فقلبت واوا.

[51] قال ابن عاشور - { الجنّة }: الجماعة من الجن، فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رَجْلَة، الطائفة من الرجال مثل: حجار وحجارة من أمثلة الهاء التي لتأنيث الجماعة ما قاله الآلوسي: وَبُعُولَتُهُنَّ } أي أزواج المطلقات جمع بعل كعم وعمومة، وفحل وفحولة والهاء زائدة مؤكدّة لتأنيث الجماعة.قال النحاس: لِلْمَلائِكَةِ خفض باللّام والهاء لتأنيث الجماعة.

[52] يقول علي هاني وهذا قريب من الفرق بين اسم الجنس الجمعي والجمع قال السامرائي: الفاكهة: اسم جنس وهي أعم وأشمل من فواكه الجمع فتشمل الواحدة والاثنتان كالتفاحة والتفاحتين والتفاحات والجمع تقول هذه فاكهة وهاتان فاكهة وتلك فاكهة، وأنواع الفواكه كالتين والعنب والرمان كلها يقال لها فاكهة أما فواكه فهي جمع وإسم الجنس يكون أعمّ من الجمع لأنه يقال للحبة الواحدة فاكهة وللحبتين فاكهة و لا يقال فواكه، ويقال للكثيرفاكهة وفواكه، ففاكهة تشمل فواكه لكن فواكه لا تشمل فاكهة من حيث اللفظ لأن هذا يدل على جمع والفاكهة تدل على الجمع أيضاً وتدل على المفرد والمثنى، وأيضا لو كان عندنا أنواع من الفواكه كالرمان والبرتقال وغيرها نسميها فواكه ونسميها فاكهة أيضاً أما لو كان عندنا فقط نوع واحد من الفاكهة مثل الرمان أو التفاح نسميه فاكهة ولا نسميه فواكه إذن فاكهة أعمّ لأنها للمفرد والمثنى والجمع والمتعدد وغير المتعدد المتنوع وغير المتنوع، وأما كلمة الفواكه: فللأنواع أي تطلق على ما تعدد ولذلك الفاكهة تختار في مواضع التعميم والكرم الواسع وجنة الآخرة.والمفرد في فاكهة أريد به هنا الجنس فيشمل القليل والكثير، والعرب قد تأتي بالمفرد للتكثير ونقل الكسائي أن العرب تقول: أتينا فلانا فكنا عنده في لحمة ونبيذ، يعني أكلا كثيراً، والجنس أكثر من الجمع أحياناً، ومن أمثلة الإفراد الذي يراد به الجنس، الرجل أقوى من المرأة فالرجل لا يقصد به رجل بعينه وإنما الجنس. لذلك تستعمل الفاكهة في القرآن لما هو أوسع من الفواكه، مثال: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) الرحمن) آية أخرى (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) المؤمنون) عندنا أمران: الأرض (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) الرحمن) وعندنا (لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ) أيها الأكثر الفواكه في الأرض كلها في عموم الأرض أو فقط في البساتين ؟ في عموم الأرض لأن البساتين هي في الأرض ومحدودة لذلك لما قال (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) قال (فيها فاكهة) ولما قال (فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) قال (لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ)، أيها الأكثر؟ الفاكهة أكثر.


[53] الشيخ فاضل السامرائي من أبدع من يكتب في معاني النحو والصرف والفروق البلاغية أوصي بقراءة كتبه والاعتناء بها.

[54] وقال التحقيق: واشتقاق الإنسان من القرب مع الظهور بعنوان الاستئناس في مقابل النفور والوحشة والبعد وما لا يظهر ولا يستأنس كالجن ـ ـ وكذلك الإنسان فبملاحظة أنسه واختلاطه وهذه اول فارق بين لفظ الإنسان والبشر وآدم فباعتبار معنى الظهور تستعمل في مقابل الجن والإنسان وهو اسم جنس زيدت فيه الألف والنون فيدل على التشخص وخصوصية زائدة والإيناس هو الإظهار.

[55] قال البقاعي وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه حتى يشاكله في رذيلة الطبع وظلمة النفس، فينشأ من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه، وينشأ من الكبر الحقد والحسد، يترشح منه بطر الحق، وهو عدم قبوله، ومنه الكفر والفسوق والعصيان، وغمص الناس - وهو احتقارهم- المعلوم من قول الشيطان{ أنا خير منه }[ الأعراف: 12 ]، ومنه تنشأ الاستهانة بأولياء الله تعالى بترك احترامهم، ومنع حقوقهم، والاعتداء عليهم والظلم لهم، ويترشح من الحقد الذي هو العداوة العظيمة إمساك الخير والإحسان وبسط اللسان واليد بكل سوء وإيذاء، ويترشح من الحسد إفساد ذات البين كما يشير إليه{ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة }[ الأعراف: 20 ] الآية، والكذب والمخادعة كما عرف به:{ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور }[ الأعراف: 21 ]، ويترشح عن الإعجاب التسخط للقضاء والقدر كما آذن به:{ قال أأسجد لمن خلقت طيناً }[ الإسراء: 61 ]، ومقابلة الأمر بالعلم بما أشعر به:{ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال }[ الحجر: 33 ]، واستعمال القياس في مقابلة النص بما هدى إليه:{ أنا خير منه }[ الأعراف: 12 ] الآية، واستعمال التحسين والتقبيح بما أفهمه { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون }، والإذلال وهو الجرأة على المخالفات، فينشأ عن ذلك شرور متعدية، وهي السعي في إفساد العقائد والأخلاق والأعمال والأبدان والأرزاق، ثم لا يزال يتحبب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه من هذه الخبائث، وهو يوافقه فيها حتى يصير له أخلاقاً راسخة، فيصير رديء الطبع، فلا ينفع فيه العلاج؛ بل لا يزيده إلا خبثاً كإبليس، ومن كان أصله طيباً واكتسب ما يخالفه بسبب عارض كان ممكن الإزالة كالعلاج كما وقع لآدم عليه الصلاة والسلام
 
عودة
أعلى