محمد أبو خزيم
New member
- إنضم
- 14/04/2012
- المشاركات
- 5
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
النزعة المذهبية للتفسير الفقهي
عند الجصاص الحنفي
بقلم: أ.د/ محمد عبد السلام أبو خزيم (حفيد الشاطئ)
أستاذ الدراسات القرآنية
وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
(1)
الجصاص الحنفي هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصاص.عند الجصاص الحنفي
بقلم: أ.د/ محمد عبد السلام أبو خزيم (حفيد الشاطئ)
أستاذ الدراسات القرآنية
وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
(1)
ولد في مدينة الري سنة 305هـ، ونشأ فيها حتى بلغ سن العشرين، ثم رحل إلى بغداد سنة 325هـ.
كان إمام الحنفية في وقته، واستقر التدريس له ببغداد، وانتهت الرحلة إليه، واشتهر بالورع والزهد، وله تصانيف كثيرة، أهمها: أحكام القرآن، وشرح مختصر الكرخي، وشرح مختصر الطحاوي، وشرح الجامع لمحمد بن الحسن الشيباني، وشرح أدب القاضي للخصاف، وشرح الأسماء الحسنى، وكتاب في أصول الفقه.
وتوفي رحمه الله في السابع من ذي الحجة سنة 370هـ (1).
ويعد كتاب (أحكام القرآن) للجصاص من أهم كتب التفسير الفقهي عند الحنفية؛ لأنه يقوم على نصرة مذهبهم، والدفاع عنه(2)، والرد على مخالفيه، وهو تطبيق لكثير مما ورد في كتابه (أصول الفقه) كما أشار إلى ذلك في مقدمته لـ (أحكام القرآن)(3).
وتفسير الجصاص يعرض لسور القرآن حسب ترتيب المصحف، وقد خلا من اثنتين وثلاثين سورة لم يتعرض لها إما لعدم وجود أحكام فيها، أو لأن ما فيها من الأحكام قد مضى بيانه في سور سابقة، وهو – وإن كان يسير على ترتيب سور القرآن – مبوب كتبويب الكتب الفقهية، ويضع لكل باب عنواناً تندرج تحته المسائل والأحكام التي يتعرض لها في هذا الباب (4).
(2)
والمطالع لتفسير الجصاص يجد أنه متعصب لمذهب الحنفية إلى حد كبير، وقد قاده هذا التعصب إلى الوقوع في خطأين كبيرين، هما:
الخطأ الأول: أنه يتكلف في تأويل بعض الآيات، حتى يجعلها صالحة للاستشهاد بها على مذهب الحنفية، أو يجعلها غير صالحة للاستشهاد بها من جانب المذاهب الفقهية الأخرى (5)، على الرغم من قوة أدلة المذاهب الأخرى وصلاحيتها للاستدلال في كثير من الأحيان.
وقد جمع له الشيخ الذهبي ثلاثة نماذج تدل على هذا التكلف(6)، إلا أنه لم يوقفنا على الدافع وراء هذا التكلف.
وأحسب أن ما دفع الجصاص للوقوع في هذا الخطأ هو أنه ولد مع بداية القرن الرابع الهجري الذي شهد التقليد والتعصب للمذاهب الفقهية، فبدل أن يبرز أئمة خلفاً لأسلافهم رأينا جهود الفقهاء مع بداية القرن الرابع الهجري ترتكز على التخريج وفق قواعد أئمتهم واجتهاداتهم وفي دائرة مذهبهم، ومن ثم تتجه إلى التعصب لأقوال أئمتهم والتصدي لما يخالف قول الإمام، وإن كان مستنداً لنص (7).
وهذا مخالف لما كان عليه سلف الأمة: الصحابة ومن بعدهم - طيلة القرون الأولى التي هي خير القرون، وأقربها إلى هدي النبوة -، ومخالف لهدي أئمة المذاهب أنفسهم، فإنهم نهوا الناس عن تقليدهم، ومخالف لما عليه المحققون من العلماء الذين يتركون مذهبهم ويرجحون غيره إذا تبين قوة دليل المخالف وضعف حجة المذهب (8).
الخطأ الثاني: أنه في بعض الأحيان يرمي الإمام الشافعي وغيره من فقهاء غير الحنفية بعبارات لاذعة شديدة، لا تليق من مثله في حق الإمام الشافعي وغيره من العلماء.
وأنا إذ أقرر وقوع هذا الخطأ من الجصاص، إلا أنني – للأمانة العلمية – قيدته بأنه في بعض الأحيان، وليس كثيراً كما ذكر الشيخ الذهبي الذي استدل بمثالين فقط على تطاول الجصاص على الإمام الشافعي، أحدهما: بالتصريح، والآخر بالتلميح البعيد (9).
ولذا فإن كلمة (كثيراً) التي وردت في كتاب الشيخ الذهبي جعلتني أنظر في كتاب الجصاص للوقوف على حقيقة هذا الأمر، وانتهيت إلى الآتي:
1. أن الجصاص يعرض لآراء الإمام الشافعي وغيره من فقهاء الأمصار في المسائل التي اتفقوا أو اختلفوا فيها مع المذهب الحنفي.
2. أن الجصاص في عدد من المواقف كان يصف من يخالف المذهب الحنفي في بعض المسائل سواء أكان من فقهاء الشافعية أم من غيرهم بأنه مغفل(10)،أو بأن كلامه فارغ لا معنى تحته(11).
3. أن الجصاص كان يتطاول في بعض الأحيان بشدة على الإمام الشافعي على وجه الخصوص تارة بالتصريح وأخرى بالتعريض.
فمن أمثلة تطاوله على الإمام الشافعي بالتصريح:
أ- أنه نسب إليه الغفلة أثناء تفسيره لقوله تعالى "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة " [سورة البقرة /من الآية 196].
قال الجصاص: قيل في معنى قوله تعالى "تلك عشرة كاملة " وجوه: منها: أنها كاملة في قيامها مقام الهدي فيما يستحق من الثواب........، وقيل: المعنى تأكيده في نفس المخاطب والدلالة على انقطاع التفصيل في العدد... ثم قال:"وجعل الشافعي هذا أحد أقسام البيان، وذكر أنه من البيان الأول، ولم يجعل أحد من أهل العلم ذلك من أقسام البيان؛ لأن قوله ثلاثة وسبعة غير مفتقر إلى البيان، ولا إشكال على أحد فيه، فجاعله من أقسام البيان مغفل في قوله" (12).
ب- أنه وصف كلام الإمام الشافعي بأنه كلام فارغ لا معنى تحته أثناء تفسيره لقوله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" [سورة النساء/من الآية23]، فبعد أن عرض للخلاف الذي بين الحنفية والشافعية في مسألة هل الوطء الحرام يحرم الحلال أم لا؟ ذكر مناظرة طويلة جرت بين الإمام الشافعي الذي يرى أن الوطء الحرام لا يحرم الحلال وبين سائل يسأله عن هذه المسألة، وبعد مناقشته للإمام الشافعي فيما يرد به على مناظره.. قال: "فقد بان أن ما قاله الشافعي وما سلمه له السائل كلام فارغ لا معنى تحته في حكم ما سئل عنه (13).
ومن أمثلة تطاوله على الإمام الشافعي بالتعريض ما جاء في تفسيره لقوله تعالى "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة " [سورة الحج / من الآية5]، فبعد أن قسا في الرد على إسماعيل بن إسحاق الذي غَلَّطَ مذهب الحنفية القائل بعدم انقضاء العدة مما أسقطته المرأة من حمل، مادام لم يكن له صورة إنسان، قال الجصاص: "وعسى أن يكون إسماعيل إنما أخذ ما قال من ذلك عن الشافعي وهو من أظهر الكلام استحالة وفساداً "(14).
وما صدر عن الجصاص الحنفي من تطاول في حق الإمام الشافعي على وجه الخصوص وحق غيره من العلماء على وجه العموم في بعض الأحيان مخالف تماماً للدعائم الأخلاقية لفقه الاختلاف التي تدعو إلى ترك الطعن والتجريح للمخالفين (15).
وحسبنا أن نشير في هذا السياق إلى نموذجين رائعين في تراثنا الإسلامي يظهران ببراعة أدب كبار العلماء مع مخالفيهم.
النموذج الأول: الرسالة العلمية التي بعث بها فقيه مصر وإمامها الليث بن سعد إلى الإمام مالك إمام دار الهجرة، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب رفيع حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه ويخالفه فيه الإمام الليث (16).
النموذج الثاني: موقف الإمام ابن القيم من شيخ الإسلام الهروي الأنصاري مؤلف كتاب (منازل السائرين إلى مقامات إياك نعبد وإياك نستعين) الذي شرحه الإمام ابن القيم بكتابه (مدارج السالكين)، فكثيرا ما خالف ابن القيم في شرحه متن الهروي الأنصاري، ومع ذلك كان يحاول أن يحمل كلامه على أحسن الوجوه الممكنة، ويلتمس له العذر بعد العذر ويثنى عليه وعلى علمه ومنزلته (17).
ولكن:. ما الذي دفع الجصاص الحنفي للوقوع في خطأ التطاول على مخالفيه لاسيما الإمام الشافعي في بعض الأحيان؟
أحسب أن ذلك راجع لانتشار المجادلات في القرن الرابع الهجري بين أتباع المذاهب الفقهية، وخصوصاً بين أتباع المذهبين الحنفي والشافعي، لمجاورة الأقاليم التي انتشر فيها هذان المذهبان.
يقول صاحب كتاب (المذاهب الفقهية الإسلامية والتعصب المذهبي): "كانت المناظرة بين الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة من أول ما وقع من المناظرات بين أهل العلم، وكان القصد منها التوصل إلى معرفة الحق، فكثيراً ما كان يرجع أحدهما إلى رأي صاحبه إذا رأى الحق معه ثم توالت هذه المناظرات لما لها من قيمة كبيرة وظهور أمام الأمراء والناس.. حتى ألفت الكتب في قواعد النظر.
ونشأ عن ذلك فيما بعد التعصب والجمود والوقوف لنصرة مذهب معين.. وأقبل الناس على المسائل الخلافية بين أبي حنيفة والشافعي على وجه الخصوص" (18).
وهذا التعصب المذهبي أفضى إلى التطاول على الغير والطعن والتجريح للمخالفين، وحاز التلاسن بين الحنفية والشافعية قصب السبق في هذا الميدان.
وفي تفسير الجصاص الحنفي ما يشير إلى هذا الدافع، فنجده مثلاً يقول: "وذكر المزني أن الشافعي احتج على محمد (يعني ابن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة) في منعه إيجاب القود على العامد إذا شاركه صبي أو مجنون، فقال: إن كنت رفعت عنه القتل لأن القلم مرفوع عنهما وأن عمدهما خطأ، فهلا أقدت من الأجنبي إذا قتل عمداً مع الأب؛ لأن القلم عن الأب ليس بمرفوع، وهذا ترك لأصله، قال المزني: قد شرك الشافعي محمداً فيما أنكر عليه في هذه المسألة لأن رفع القصاص عن المخطئ والمجنون واحد وكذلك حكم من شركهم في العمد واحد، قال أبو بكر (يعني الجصاص) ما ذكره المزني عن الشافعي إلزام في غير موضعه..." (19).
ونجده في المثال الذي ذكرناه آنفاً يعقب على تغليط إسماعيل بن إسحاق لمذهب الحنفية القائل بعدم انقضاء العدة مما أسقطته المرأة من حمل مادام لم يكن له صورة إنسان يقول "وعسى أن يكون إسماعيل إنما أخذ ما قال من ذلك عن الشافعي، وهو من أظهر الكلام استحالة وفساداً" (20).
وعلى كل فلم يكن يليق بالإمام أبي بكر أحمد بن على الرازي الجصاص وهو المشهور بالورع والزهد، والذي انتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي في وقته أن تند عنه هذه العبارات اللاذعة في مثل الإمام الشافعي وغيره من العلماء في بعض الأحيان.
__________________
(1) انظر ترجمته في: مقدمة كتابه (أحكام القرآن) ص4، 5، والفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي ص27،28.
(2) انظر: التفسير والمفسرون، الذهبي 2-421.
(3) أحكام القرآن، الجصاص 1/6
(4) تفاسير آيات الأحكام ومناهجها، على بن سليمان العبيد ص 117.
(5) التفسير والمفسرون، الذهبي 2/422.
(6) المرجع السابق 2/422، 423... وهذه النماذج بإيجاز هي:
أ- تكلف الجصاص في جعل قوله تعالى "ثم أتموا الصيام إلى الليل" [سورة البقرة /من الآية 187] دالاً على أن من دخل في صوم التطوع لزمه إتمامه، مع أن الآية إنما هي في صوم الفرض = 1/234
ب- تكلفه في الاستدلال بقوله تعالى "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" [سورة البقرة / من الآية232] من عدة وجوه على أن للمرأة أن تعقد على نفسها بغير الولي ودون أذنه، وتغليظه لأدلة المذاهب الأخرى = 1/400،401.
جـ- تكلفه في الجمع بين قوله تعالى "وآتوا اليتامى أموالهم" [سورة النساء / من الآية 2] وقوله تعالى "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم " [سورة النساء/ من الآية6] للاستدلال لمذهب أبي حنيفة القائل بوجوب دفع المال إلى اليتيم إذا بلغ خمساً وعشرين سنة وإن لم يؤنس منه الرشد = 2/49.
(7) راجع: المذاهب الفقهية الإسلامية والتعصب المذهبي، محمد تاجا ص182 وما بعدها.
(8) انظر: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، د/ يوسف القرضاوي ص202،203
(9) التفسير والمفسرون، الذهبي 2/423
(10) راجع أحكام القرآن للجصاص 1/148، 347، 431،483،2/337،3/163، 226،227، 359.
(11) المصدر السابق 1/423 في رده على إسماعيل بن إسحاق عند تفسير قوله تعالى "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم" [سورة البقرة /من الآية 235]
(12) أحكام القرآن للجصاص 1/299
(13) المصدر السابق 2/116-118
(14) المصدر السابق 3/226-228
(15) للمزيد من التفصيل في مسألة ترك الطعن والتجريح للمخالفين. راجع: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم د/يوسف القرضاوي ص229- 238.
(16) راجع نص هذه الرسالة في: إعلام الموقعين لابن القيم 3/ 83-88
(17) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/196-198 وهذا مثال واحد وغيره كثير.
(18) المذاهب الفقهية الإسلامية والتعصب المذهبي، محمد تاجا ص205.
(19) أحكام القرآن للجصاص 1/148
(20) المصدر السابق 3/226-228