أحمد عطا عمر
New member
[align=center]المقدمة[/align]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن مصطلح "التفسير العلمي للقرآن الكريم " من المصطلحات الحديثة في الأوساط العلمية، وهو يشير إلى تأويل بعض الآيات القرآنية أو تفسيرها بما يتفق وبعض النظريات العلمية أو الاكتشافات الحديثة، ولذلك اختلفت وجهات أنظار العلماء وأبناء المسلمين فيه.
فمنهم من يرى فيه فتحاً جديداً وتجديدا في طريق الدعوة إلى الله وهداية الناس، ومنهم من يرى أن هذا اللون من التفسير يخرج بالقرآن الكريم عن الهدف الذي أنزل من أجله، أو أن فيه إقحاما للتفسير في مجال متروك العقل البشري أن يجرب فيه فيخطئ ويصيب وقد أدلى كل فريق برأيه وحجته، فالواجب أن نقف موقف المنصفين.
وخلاصة التحقيق توصلنا إلى أن التفسير العلمي كغيره من العلوم لا يجوز إلا إذا توفرت شروط التفسير الصحيحة فيه، وهذا ما أحاول تبينه في هذا البحث.
وقد اجتهدت في تبسيط الموضوع وتقريب وجهات النظر، فقسمت بحثي إلى ثلاثة أقسام:
جعلت المبحث الأول للتعريف بالتفسير العلمي وما يتعلق به فذكرت فيه: معنى التفسير لغة واصطلاحا، ومعنى العلم، والمقصود بالتفسير العلمي، ومعنى الإعجاز العلمي والفرق بينه وبين التفسير العلمي، والعلاقة بين معجزة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والتفسير العلمي.
والمبحث الثاني جعلته في مآخذ العلماء على التفسير العلمي، أو أسباب الوقوع في بعض الأخطاء.
وأما المبحث الثالث فقد جعلته في قواعد وأسس التفسير العلمي الصحيح.
ثم أتبعت بحثي بقائمة المصادر والمراجع.
أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه هو السميع العليم، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[align=center]المبحث الأول
التعريف بالتفسير العلمي وما يتعلق به[/align]
لتحديد معنى التفسير العلمي يجدر بنا أن نبين معنى التفسير، ومعنى العلم، ثم تعريف التفسير العلمي باعتباره لقبا، وبيان الفرق بينه وبين الإعجاز العلمي، أو علاقته به، والإشارة إلى دوافعه.
تعريف التفسير:
التفسير في اللغة: من الفسر، وهو البيان والكشف، قال في لسان العرب: الفسر البيان وفسره أبانه، والتفسير مثله، وقال ابن الأعرابي: الفسر كشف المغطى والتفسير كشف المراد عن المعنى المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر([1])
وهو في الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته عن مراد الله سبحانه وتعالى بقدر الطاقة البشرية. وقد ورد في تحديده مجموعة من التعريفات نقتصر على بعض منها.
قال بن جزي: معنى التفسير: شرح القرآن وبيان معناه والإفصاح عما يقتضيه نصه أو أشارته أو فحواه([2])
وعرفه أبو حيان بأنه " علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وغير ذلك كمعرفة النسخ وأسباب النزول وما به توضيح المقام([3]).
وقد اختلف العلماء في التفريق بين التفسير وبين التأويل، فقيل: أنهما بمعنى واحد، وقيل: التفسير للفظ والتأويل للمعنى، وقيل: أن التفسير هو الشرح، والتأويل هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج عن ظاهره وهذا ما رجحه ابن جزي([4])
وقيل غير ذلك .
تعريف العلم:
وصف التفسير بأنه علمي نسبة إلى العلم. والعلم في اللغة: مصدر يرادف الفهم والمعرفة ويرادف الجزم في رأي، وقال علماء اللغة: علم الشيء عرفه، والعلم نقيض الجهل([5])
وأما في الاصطلاح فليس من اليسر تحديده بسهوله، لأن كلمة (علم) لفظة شاملة تفيد الاعتقاد الجازم المطابق للواقع([6]) وبذلك فهي تشمل جميع المعارف البشرية دون أن تقتصر على واحدة منها ومن هنا فقد تجاذبت هذا المصطلح أيدي العلماء فكل يطلقه على ما تدور أبحاثه عليه، فتعريف الحكماء يختلف عن تعريف المتكلمين، وهكذا الأمر عند غيرهم.
والمقصود بالعلم في هذا المقام العلم التجريبي وما يتعلق به من علوم الطبيعة الموجودة في الكون مثل الفيزياء والكيمياء وطبقات الأرض وعلم الأحياء وعلم البحار وعلم الفلك وغير ذلك.
فكلمة علم مع تطور الزمن صارت ذات مدلولين عند المسلمين، المدلول الأول: العلم القائم على العلوم الدينية وما يتفرع عنها. والمدلول الثاني: يختلف عن المعنى القديم المشار إليه سابقا، إذ ظهر جماعة من الناس تقول عن عصرنا الحاضر أنه عصر العلم ويقصدون بذلك العلم الطبيعي القائم على دراسة ما في الكون من مواد وعناصر وكائنات لها خصائصها الذاتية ونواميسها التي تحكمها من كيمياء وميكانيكا أو علوم طب أو رياضة وفلك أو غير ذلك.
فهذا هو المقصود بالعلم في هذا المقام، وهذا ما تناولوه في الحديث عن التفسير العلمي في هذه الأيام ولا مشاحة في الاصطلاح.
وعليه فيعرف التفسير العلمي بما يلي:
قال الشيح محمد حسين الذهبي: " نريد بالتفسير العلمي التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن الكريم ويجتهد في استخراج العلوم والآراء الفلسفية منها"([7]).
وهذا هو تعريف الشيخ أمين الخولي في دائرة المعارف الإسلامية([8]).
وعرفه بنحوه ومعناه أيضا كل من الدكتور مصطفى شاهين، والأستاذ محمد الصباغ، والدكتور عبد المجيد المحتسب([9])، ولكن قال بعضهم في تعريفه: (إخضاع ) بدل (تحكيم ).
فجميع هذه التعريفات تصف هذا اللون من بأنه إخضاع أو تحكيم للمصطلحات العلمية في عبارة القرآن، ولكن مع البحث نجد أن هذه التعبيرات على إطلاقها قاصرة وغير دقيقة لأنها توحي بأن الآية المراد تفسيرها لها معنى بعيد عن المعنى العلمي الذي تفسر به، وهذا وإن صدق على بعض التفسيرات العلمية التي فيها شطحات إلا أنه لا ينطبق على جميعها.
وقد سبقني إلى الإشارة إلى قصر هذه التعريفات مجموعة من العلماء والباحثين([10]).
والذي يظهر لي هنا أن التعريف الأقرب إلى الصواب أن يقال:
التفسير العلمي هو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن المتعلقة بالكون وما فيه ومكتشفات العلم التجريبي على وجه يظهر به إعجاز القرآن ليدل على مصدره الإلهي وصلاحيته لكل زمان ومكان.
وقد عرفه بنحو هذا التعريف كل من: الشيخ عبد المجيد الزنداني في بحثه (المعجزة العلمية في القرآن والسنة )، والدكتور عبد القهار العاني في بحثه ( التفسير العلمي معالمه وضوابطه )، والدكتور صلاح الخالدي في كتابه ( البيان في إعجاز القرآن ).
فقال الزنداني: " التفسير العلمي هو الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية "([11]).
وقال العاني:" التفسير العلمي هو بيان معنى الآيات القرآنية مرتبطا بحقائق العلوم الكونية وما يشابهها وفق القواعد المشهورة في تفسير القرآن الكريم ".
وقال أيضا في موضع آخر: "هو بسط الحقائق العلمية الثابتة للعلوم الكونية والطبيعية المختلفة بمعاني الآيات القرآنية بدلالة الألفاظ اللغوية على المعاني في المشهور من المأثور والمعهود في اللغة "([12]).
وقال الخالدي: "هو النظر في الآيات ذات المضامين العلمية من الزاوية العلمية وتفسيرها تفسيراً علمياً، وذلك بالاستعانة بالعلوم والمعارف والمكتشفات الجديدة في توسيع مدلولها وتقديم معناها "([13]).
تعريف الإعجاز:
الإعجاز مشتق من العجز، والعجز الضعف وعدم القدرة، ومعنى الإعجاز الفوت والسبق، يقال أعجزني فلان أي فاتني([14]).
والمعجزة: الأمر الخارق للعادة - وزاد بعضهم المقرون ـ بالتحدي، السالم من المعارضة، وتسمى معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها([15]).
وإعجاز القرآن يقصد به: إعجاز الناس أن يأتوا بمثله، أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم عن الإتيان بمثله.
ووصف الإعجاز بأنه علمي كوصف التفسير بأنه علمي نسبة إلى العلم التجريبي، وعلى هذا فالإعجاز العلمي: هو إظهار صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بما حمله الوحي إليه من علم إلهي ثبت تحققه ويعجز البشر عن نسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو أي مصدر بشري في عصره.
وقد عرفه بنحو هذا مجموعة من العلماء منهم:
الزنداني فقال: " الإعجاز العلمي هو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم .([16])
والدكتور علي محمد نصر فقال:"هو سبق القرآن الكريم العلماء فيما وصلوا إليه من علوم كونية باشاراته إلى ما وقفوا في بحوثهم عنده خاضعين لعظمته معترفين بسبقه وتبريزه "([17]).
الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي:
من خلال التعريفات السابقة نجد أن هناك فرقا بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي من جهة ، وتوافقا واتصالا من جهة أخرى.
أما الفرق فهو أن التفسير العلمي: هو كشف عن معاني الآية الكريمة أو الآيات أو بعضها في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية "
والإعجاز العلمي " هو إخبار القرآن الكريم بحقيقة علمية أثبتها العلم أخيرا، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم
وأما العلاقة والاتصال فهي " أن التفسير العلمي طريق إلى الإعجاز العلمي وبدون التفسير العلمي لا يمكن الوصول إلى الإعجاز العلمي([18]).
العلاقة بين معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفسير العلمي:
لكل نبي من الأنبياء آية أو معجزة تدل على صدق نبوته قال تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب )[ إبراهيم: 9].
ولكل رسول معجزة تناسب قومه ومدة رسالته، فلما كان الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى أقوامهم خاصة ولأزمنة محددة فقد أيدهم الله ببينات حسية مثل عصا موسى عليه السلام، وإحياء الموتى بإذن الله على يد عيسى عليه السلام وتستمر هذه البينات الحسية معهم محتفظة بقوة إقناعها في الزمن المحدد لرسالة كل رسول فإذا حرف الناس دين الله بعث الله رسولا آخر بالدين الذي يرضاه وبمعجزة جديدة وبينة مشاهدة.
ولما ختم الله تعالى النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وضمن له حفظ دينه أيده بالمعجزة الكبرى القرآن الكريم التي تبقى إلى يوم الدين.
قال تعالى: ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ..) [الأنعام: 19] ومن ذلك ما يتصل بالإعجاز العلمي فمعنى الآية: أوحي إلي هذا القرآن لأنذر به المخاطبين وهم أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة([19]).
وقال رسول الله صله الله عليه وسلم :
"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة "([20]). ومن معاني هذا الحديث: أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقرض أعصارهم ومعجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مستمرة إلى يوم القيامة([21]).
وقال تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد )[فصلت: 53]
وقال تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين )[ص: 87-88].
قال الفراء في الحين الذي ذكرته الآية: إنه بعد الموت وقبله، أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول لكم (بعد حين ) يعني في المستأنف.
وقال تعالى: ( لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ) [الأنعام:67] والمعنى: لكل خبر في القرآن حقيقة وسوف تعلمون صحة ذلك عاجلا أم آجلا.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية وغير العرب لا يفهمون القرآن الكريم والإنسانية كلها بجميع شعوبها على اختلاف ألوانهم ولغاتهم مخاطبون بالقرآن.
والقرآن حجة على العباد ولا تثبت لهم الحجة إلا إذا ثبت لهم إعجازه ولذلك لابد أن يكون لإعجاز القرآن الكريم نواح أخرى غير النواحي اللغوية والبلاغية.
ويعتبر هذا الأمر من أهم وأبرز دوافع الإعجاز العلمي في هذه الأيام.
وعلى الرغم من وضوح هذا الأمر وأهميته في الدعوة نجد اختلافا واضحا بين علماء المسلمين تجاه جواز هذا اللون من التفسير، فمنهم من يرى فيه فتحا جديدا وتجديدا في أساليب الدعوة وهداية الناس، ومنهم من يرى عكس ذلك تماما فيرى أن هذا اللون من التفسير يضر بالقرآن لأنه يخرج به عن الغاية التي أنزل من أجلها، وقد كان لكل فريق حجته ودليله وبالتحقيق يظهر جواز التفسير العلمي ولكن بشروطه، ولهذا السبب علينا أن نتعرف مآخذ العلماء على التفسير العلمي حتى نصل إلى القواعد والضوابط.
[align=center]المبحث الثاني
مآخذ العلماء على التفسير العلمي
أو
( أسباب الوقوع في بعض الأخطاء)[/align]
رغم اتفاق جميع المسلمين على حقيقة واحدة وهي: (أن حقائق الكون لا تتعارض مع حقائق القرآن) نجد من علمائنا المسلمين من يمنع التفسير العلمي، والسبب في ذلك هو أخطاء بعض المفسرين بسبب التكلف أو الاعتساف في الفهم أو التأويل أو غير ذلك من العوامل المفضية إلى الوقوع في بعض الأخطاء.
والتحقيق أن منع التفسير العلمي وإنكاره إنكارا تاما لوجود بعض الأخطاء غير مسلم ولا صحيح، والخطأ واقع في كل المذاهب البشرية وحتى في بعض الأحكام الدينية الاجتهادية، وهو أمر لابد منه ولا حيلة فيه([22])، لان البشر مهما سمت مكانتهم في العلم والفهم لم تضمن لهم العصمة سوى من خصهم الله تعالى بالوحي، ومع هذا فإننا لم نجد من علماء المسلمين من منع الاجتهاد والفقه والتفسير لجميع المسلمين.
والتفسير العلمي كغيره من العلوم لا يجب منعه إذا توفرت شروط المفسر فيمن يقوم به وهذا ما سنوضحه بعد بياننا لأهم الأخطاء التي وقعت من بعض من اشتغلوا بالتفسير العلمي.
وبالاطلاع على ما كتبه كثير من علمائنا الأفاضل عن التفسير العلمي وتمحيصهم وتقويمهم لما يكتب في ذلك المجال أستطيع أن أدون أبرز الأخطاء في النقاط التالية:
1) كثرة الإسهاب:
كما فعل الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه الجواهر، حيث نجده يفسر الآية القرآنية تفسيراً لفظياً مختصراً، وبعدها ينطلق لذكر الأبحاث العلمية المستفيضة التي يسميها لطائف أو جواهر، وتلك الأبحاث المستفيضة بطبيعة الحال أفكار علماء الشرق والغرب في عصره وعصر من سبقه.
ولا شك أن هذه الطريقة جعلت تفسيره يخرج عن موضوعه الأساسي ألا وهو إظهار معاني القرآن الكريم بالطريقة الشرعية حتى قال بعض نقاده فيه كل شيء إلا التفسير.
2) إخضاع بعضهم نصوص القرآن الكريم لنظريات علمية غير مستقرة. و لا شك أن ربط القرآن الكريم بنظريات غير مستقرة عمل خطير نبه إليه عدد كبير من العلماء لأنه يجعل المفسر في حرج عندما يثبت خطا النظرية.
وهذا لا يعني منع الانتفاع بما كشفه العلم من نظريات وحقائق عن الكون والحياة والإنسان في فهم الآيات وتوسيع معنى الآيات التي تشير إلى الحقائق والنظريات، وإنما يعني ألا نتجاوز ألفاظ القرآن. وقد ضرب كثير من العلماء أمثلة لهذا المنهج المأمون في الانتفاع بالكشوف العلمية في هذا المجال وحتى من المعارضين له في نظر الناس كأمثال سيد قطب في الظلال المجلد الأول الصفحة ( 183 وما بعدها ) وعباس محمد العقاد في بحث " القرآن والنظريات العلمية " المنشور في كتابه الإسلام دعوة عالمية([23]).
3) التوسع في التفسيرات العلمية: بحجة أن القرآن الكريم يشمل على جميع العلوم والمخترعات والمستحدثات من الطائرات والغواصات والصواريخ وغير ذلك وما جد من أمور الكون وما لم يجد إلى قيام الساعة..... لقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام: 38].
4) إقحام بعض الآيات القرآنية في موضوعات لا تناسبها:
وقد ضرب الشيخ مصطفى الحديدي الطير أمثلة لذلك متعددة، ومنها استشهاد عبدالرزاق نوفل بقوله تعالى: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا) [الحج:5] لإثبات الإعجاز العلمي للقرآن في موضوع (شيخوخة الجسم والعقل) مع أن ما جاء فيها من مشاهدات الناس، فكل إنسان يرى بعينه أن الناس حين يشيخون يذبلون جسميا ويضعفون عقلياً منذ بدأ خلق الإنسان حتى اليوم، فحديث القرآن عن هذه المشاهد لا يعتبر من الإعجاز العلمي للقران وإنما هو تذكير للناس بتطورات خلق الإنسان ليستدلوا بذلك على أن الله تعالى يبعث من في القبور، وأنه هو الحق وأنه على كل شيء قدير، ولهذا بدأت الآية بقوله سبحانه: ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ) وجيء بعدها بقوله: ( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ) [الحج:5] ([24]).
5) حمل العبارة القرآنية على ما وصلت إليه علوم العصر:
وهذا رغم عدم وجوده عند جميع المهتمين بالتفسير العلمي إلا أنه من أبرز الأخطاء والأخطار. يقول الدكتور عفت الشرقاوي: والمفسر الذي يتناول النص القرآني بهذا الإحساس قد يضطر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص الكريم، لأنه يحس بضرورة متابعة العلم في المجالات المختلفة مع أن كثيرا من حقائق العلم مؤقتة قابلة للتغيير وتتكشف يوما بعد يوم وحينئذ يكون التعجل في تلمس المطابقة بين القرآن والعلم تعجلا غير مشروع([25]).
6) الإسراف أحيانا في التأويل البعيد رغبة في تلمس المطابقة بين القرآن والعلم للدفاع عن القرآن والإسلام:
وقد مثلوا لذلك بأمثلة ومنها: تفسير الشيخ محمد عبده وبعض المفسرين في العصر الحديث ( الطير الأبابيل) في سورة الفيل بالميكروبات والحجارة بجراثيم الأمراض وانتقادهم للتفسيرات القديمة متعللين بالعلل التالية:
أ) أن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر.
ب) مما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل – وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما ـ ويهلك بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر. ([26])
وهذا التفسير رغم مكانة صاحبه العلمية في التفسير لا نقر عليه ولا نرى في العلل التي قدمها ما ينهض بالاحتجاج وذلك لأن تفسيرها يتعلق ـ كما يقول كثير من علماء العصر الحديث بمبهمات القرآن ـ وتخالف جميع التفسيرات القديمة المأثور منها والمعقول([27])، التي تقول أن الطيور مثل الحمام والحجارة عادية، ولأن الجراثيم التي اكتشفها العلم الحديث لم يكن للعرب علم وقت نزول القرآن بها. والعربي إذا سمع لفظ الحجارة لا ينصرف ذهنه إلى تلك الجراثيم بحال من الأحوال، وقد جاء القرآن بلغة العرب وخاطبهم بما يعهدون ويألفون، ولو كانت الحجارة جراثيم لا ترى لكذب العرب القرآن الذي يتحدث عن قصة شاهدوها بأم أعينهم([28]).
7) عدم التخصص في التفسير أو التمكن من اللغة العربية عند كثير من المثقفين الذين تعلموا العلوم الحديثة وأخذوا يفسرون آيات القرآن على مقتضى ثقافتهم الحديثة.
ولا شك أن الذي لا يمتلك شروط المفسر ولا يتقيد بما تدل عليه اللغة لا يقبل تفسيره مهما بلغ من الذكاء والتبحر في العلوم الطبيعية، لأن القرآن الكريم عربي وتفسيره بدون التبحر في اللغة العربية لا يمكن([29]).
8) إيداع بعض المفسرين كتب التفسير صور الأفلاك والكواكب والمياه والأشجار والحيوانات والحشرات والأسماك والنباتات، وغير ذلك كما فعل طنطاوي جوهري مما لم يعهده المسلمون قبل ذلك في كتب التفسير.
9) استخراج بعض المفسرين علوما مزعومة بواسطة حساب الجمل الذي لا يوصل إلى حقيقة ثابتة، وقد أخذت هذه الطريقة عن اليهود([30]).
10) أو اعتماد بعض المفسرين ـ كطنطاوي جوهري ـ وهو مضرب المثل في التفسير العلمي ـ على بعض الأوهام التي يقول بها الخراصون، ومن أمثلة ذلك ما نجده في كتابه الجواهر عند تفسيره لقوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) إلى قولـه: ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ) [البقرة: 67ـ73] حيث نجده يذكر فيما يذكر من العجائب (علم تحضير الأرواح ) فيقول:
" وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تتلى والمسلمون يؤمنون بها حتى ظهر علم الأرواح بأمريكيا أولا ثم بسائر أوروبا ثانيا.. " ثم يذكر قصة هذا العلم وتطوره بإسهاب ثم يقول:
" ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة العزيز بعد موته وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين أخرجوا من ديارهم فرارا من الطاعون فماتوا ثم أحياهم الله وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة([31]).
وليس هناك من شك أن مثل هذا التفسير وصرف معاني الأيات عن معانيها إلى علم تحضير الأرواح ينزل بتفسير القرآن الكريم من عليائه ويثنيه عن قصده وأهدافه حتى قال الشيح مصطفى الحديدي الطير عن هذا التفسير " هو أغرب ما يقال في تفسير القرآن الكريم، فهو أبعد ما يكون عن معناه وعن أهدافه وقصده، كما أن تحضير الأرواح علم كاذب فلا يوافق الدين على الإيمان به، ولا يعترف بأخبار الأرواح التي تحضر عن طريقه فهي أرواح جن تكذب بدعاء أنها الأرواح المطلوب إحضاره.... "([32])
هذه هي أبرز الأخطاء والانحرافات التي وقعت في التفسير العلمي للقرآن، وبسببها اهتم المحققون والمخلصون بوضع الضوابط والشروط التي تحكم التفسير العلمي للقرآن، وهذا ما سنتحدث عنه في المبحث التالي إن شاء الله.
[align=center]المبحث الثالث
قواعد وأساس التفسير العلمي الصحيحة:[/align]
والآن وبعد أن عرفنا جواز التفسير العلمي كما ذكر المحققون ووقفنا على بعض الأخطاء التي ظهرت فيه كان لازماً علينا أن نوضح شروط هذا التفسير وضوابطه حتى نتفادى الأخطاء التي ذكرت ولا نتقول على الله تعالى بغير علم في تفسير كلامه العزيز.
وقد وضع علمائنا الأفاضل قواعد لا بد من مراعاتها عند تفسير القرآن الكريم وملخصها:
أن نفسر القرآن بالقرآن ، فإن لم نجد فبما ثبت من السنة المطهرة ، فإن لم نجد فمن أقوال الصحابة، مع الابتعاد عن الضعيف والموضوع والإسرائيليات ، فإن لم نجد فمن أقوال التابعين فإن اتفقوا على شيء كان ذلك إمارةً قوية على تلقيه من الصحابة وإن اختلفوا تخيرنا من أقوالهم ورجحنا ما يشهد له الدليل فإن لم نجد في أقوالهم ما يصلح تفسيراً للآية لكونه ضعيفاً أو موضوعاً أو من الإسرائيليات التي حملوها عن أهل الكتاب اجتهد المفسر إذا كان مستكملاً لأدوات الاجتهاد([33]).
وبما أن التفسير العلمي لا يخرج عن مفهوم التفسير بالاجتهاد لشرح القرآن وبيان معناه والإفصاح عما يقتضيه نصه أو إشارته أو فحواه فإن التفسير العلمي لا يعتبر مقبولاً ما لم تراعى فيه القواعد الآتية وهي قسمان:
1. قواعد للتفسير بالرأي بشكل عام.
2. قواعد للتفسير العلمي بشكل خاص.
فأما قواعد التفسير بالرأي فهي:
1. معرفة اللغة العربية وقواعدها (النحو والصرف والاشتقاق).
معرفة اللغة العربية لأن باللغة يعرف شرح المفردات ومدلولات الألفاظ قال الآلوسي: ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركاً ولا يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر فمن لم يكن عالماً بلغات العرب لا يصح له التفسير([34]) قال مجاهد (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله تعالى إذا لم يكن عالماً بلغات العرب) ([35]) وعن الإمام مالك أنه قال: (لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً) ([36]) ومعرفة النحو: لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب.
ومعرفة الصرف: لأن به تعرف الأبنية والصيغ.
ومعرفة الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما المسيح هل هو من السياحة أو المسح([37]).
2. معرفة علوم البلاغة: (المعاني والبيان والبديع) لتذوق معاني القرآن الكريم قال السيوطي (وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة وهي من أعظم أركان المفسر لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز وإنما يدرك بهذه العلوم) ([38]).
3. معرفة أصول الفقه:
قال ابن جزي: أما أصول الفقه فإنها من أدوات تفسير القرآن على أن كثيراً من المفسرين لم يشتغلوا بها وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال وما أحوج المفسر إلى معرفة النص والظاهر والمجمل والمبين والعام والخاص والمطلق والمقيد وفحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب وشروط النسخ ووجود التعارض وأسباب الخلاف وغير ذلك من علوم الأصول ([39]).
4. الاهتمام بأسباب النزول قال ابن تيميه: (ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب) ([40]).
5. البدء بما يتعلق بالألفاظ المفردة من اللغة والصرف والاشتقاق مع ملاحظة المعاني التي كانت مستعملة زمن النزول قال الإمام الزركشي: (الذي يجب على المرء البداءة به العلوم اللفظية وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن لمن يريد أن يدرك معانيه وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه([41]).
وقد اشترط كل من الإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا في تحقيق المفسر للألفاظ أن يتتبع الألفاظ في الملة ليفرق بينهما وبين ما ورد في كتاب الله العزيز لأن كثيراً ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالإصلاحات الحادثة في الملة ولذلك كان على المدقق أن يفسر القرن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر تنزله([42]).
6. تقديم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة.
قال الإمام الغزالي: "إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فاللفظ للحقيقة إلى أن يدل الدليل على أنه أراد المجاز"([43]).
وقال ابن جزي: "الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون اغلب استعمالاً من الحقيقة ويسمى مجازاً راجحاً والحقيقة مرجوحة"([44]).
7. يجب مطابقة التفسير للمفسر من غير زيادة ولا نقص ومراعاة التأليف بين المعاني والغرض الذي سيق له الكلام([45]).
8. يجب مراعاة التناسب بين السابق واللاحق بين فقرات الآية الواحدة وبين بعضها بعضاً.
9. يجب بيان المعنى المراد والأحكام المستنبطة من القرآن في حدود قوانين اللغة والشريعة والعلوم الكونية.
10. يجب مطابقة التفسير لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته لأنه صلى الله عليه وسلم هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة بأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته([46]).
11. يجب على المفسر أن يراعي قانون الترجيح عند الاحتمال وهو ما بينه السيوطي في الإتقان بقوله: (كل لفظ احتمل معنيين فصاعداً فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي فإن كان أحد المعنيين أظهر وجب الحمل عليه إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي وإن استويا والاستعمال فيهما حقيقة ، لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية وفي الآخر شرعية فالحمل على الشرعية أولى إلى أن يدل دليل على إرادته اللغوية كما في قوله تعالى (وصلِ عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم) [التوبة:103] ولو كان في أحدهما عرفية والآخر لغوية فالحمل على العرفية أولى ، وإن اتفقا في ذلك أيضا ،ً فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء للحيض والطهر اجتهد في المراد منهما بالإمارات الدالة عليه) ([47]).
12. يجب الابتعاد عن تفسير القرآن الكريم بمجرد الرأي:
قال العلماء: تفسير القرآن بمجرد الرأي حرام لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار"([48]).
وقد نقل الإمام السيوطي عن ابن النقيب خلاصة ما جاء في معنى هذا الحديث فقال: جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال:
أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.
الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تابعاً.
الرابع: التفسير أن مراد الله كذا على قطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى([49]).
هذه هي أهم شروط التفسير بالرأي بشكل عام وأما الآن فمع شروط التفسير العلمي بشكل خاص، وهي:
1- أن يجمع المفسر إلى الآية التي يريد تفسيرها جميع الآيات التي وردت متعلقة بموضوعها، لأن جمع الآيات يعين على التفسير الصحيح والوصول إلى الحقيقة.
2- أن يجمع إلى الآية ما يتعلق بموضوعها من الأحاديث الصحيحة، لأنها قد تقيد مطلقها أو تبين مجملها أو تحدد معنى اللفظ بمعنى جديد استحدثه الإسلام ، ومثل هذا إنما يعرف من صاحب الشرع. قال الدكتور محمد الزفزاف: (يجب ألا نخوض في الآية قبل أن نجمع إليها من الأحاديث أو الآيات ما يتعلق بموضوعها حتى تتحقق الوحدة التي على ضوئها ينتظم الفهم ويتبين الحكم) ([50]).
3- الوقوف عند الإطار العام لمعنى الآية وترك ذكر التفاصيل والاستطرادات حتى لا نخرج عن دائرة التفسير. مثاله ما فعله السيد علي فكري عند تفسيره لقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) [البقرة:228] قال: والمعنى: والمطلقات يصبرن عن الزواج ثلاثة قروء أي حيضات، فإذا أحسسن بحمل فلا يحل لهن كتمانه إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر.
ويقول عبد العزيز باشا إسماعيل رحمه الله: معنى الآية صريح وهو: أنه في مدة ثلاثة أشهر تكون علامات الحمل قد ظهرت من عدم وجود الطمث (الحيض) ومن الاضطرابات المعدية، ومن كبر في الجزء الأسفل من البطن، وميعاد ثلاثة أشهر هو ميعاد موضوع بحكمة فائقة لأنه قبل ذلك يصعب جداً التثبت من الحمل بواسطة الأطباء الأخصائيين بل الكيميائيين، وبعد هذا التاريخ تكون أعراض الحمل ظاهرة للعيان. نعم قد تجد حالات يصعب الجزم فيها بالحمل أو عدمه، حتى بعد مضي أربعة أشهر أو خمسة أو أكثر من ذلك خصوصاً عند العوام، ولكن هذه الأحوال نادرة حتى أنها لا يجوز أن تكون محل تشريع خاص. ([51]) انتهى.
4- معرفة الحقيقة الثابتة بأن القرآن الكريم كتاب هداية وإعجاز، وأنه لم ينزل ليكون كتاباً في علم من العلوم كالطب أو الفلك أو غير ذلك، وأنه أسمى من ذلك وأكبر، غير أنه يتضمن الكثير من حقائق ومعارف هذه العلوم التي تذهل العلماء، والمتخصصين ليثبت لهم صدقه وإعجازه ويعرفوا أنه الكتاب الحق الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [فصلت/ 42].
ولأجل هذه القاعدة المتينة فقد نبه العلماء في العصر الحديث إلى أمرين مهمين:
الأول: أنه لا ينبغي من المسلمين التسرع في طلب الموافقة بين العلوم والقرآن، بل الواجب أن ندرس ما في القرآن على أنه حقائق ثابتة فما وافقه من العلوم قبلناه. والثاني: أن لا نفسر القرآن إلا باليقين الثابت من العلم لا بالنظريات والفرضيات لأن الظنيات عرضة للتصحيح والتعديل([52]).
5- أن لا يفسر القرآن الكريم إلا بالحقائق العلمية والابتعاد عن إقحام النظريات والاحتمالات العلمية في تفسير آياته، والفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية هي: أن الحقيقة العلمية: أمر متعارف على وقوعه وتم التوصل إليها بالتجربة العلمية والملاحظة، والنظرية العلمية: توضيح لحالة معينة غالباً ما تكون قابلة للنقاش بمقارنتها باقتراحات ثانية لأنها مجرد افتراض أو تخمين أو ظن([53]).
6- استنباط القضايا العلمية المقررة إما من صريح النص الكريم، وإما من إشارات واضحة فيه.
ومن النوع الأول نجد الأستاذ حنفي أحمد يضرب لنا ثلاثة أمثلة ومنها هذا المثال.
قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سموآت ومن الأرض مثلهن) [الطلاق:12] ومعناه أنه تعالى خلق سبع سموآت وخلق من نوع الأرض عدة مثلها أي شبهها في بعض الصفات فجاء قوله تعالى: (ومن الأرض مثلهن) موضحاً أنه تعالى جعل مجموع الخلق من سبع سماوات غير أرضية ومن أراضين عدة تشبهها في بعض الصفات
ومن النوع الثاني يضرب عدة أمثلة تنقل منها المثل الآتي: قال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) [فصلت/11] ولم يقل وهي سحاب أو بخار مثلاً.
فيكون تخصيص تشبهها بالدخان إشارة قوية محددة إلى أهل العلم يستدلون بها على خصائص هذه المادة وهي أنها كانت مثل الدخان مادة مفككة وخفيفة ومنتشرة في الفضاء، كانتشار الدخان.
وأنها كانت مظلمة وساخنة إلى حد ما وأنها كانت تحوي دقائق أنواع المادة المختلفة([54]).
7- معرفة التعارض بين التفسير العلمي الحديث والتفسير القديم، والتعارض بينهما معناه التقابل والتنافي بحيث إذا دل أحدهما على أمر مثلاً دل الآخر على نفيه حتى لا يمكن الجمع بينهما بحال من الأحوال.
وأما إذا وجدت المغايرة بينما بدون منافاة وأمكن الجمع بينهما فلا يسمى ذلك تعارضاً ، وذلك كتفسير العلماء (الصراط المستقيم) بالقرآن وبالإسلام وبطريق العبودية وبطاعة الله ورسوله ، فهذه المعاني كما قال العلماء: وإن تغايرت غير متنافية ولا متناقضة، لأن طريق الإسلام هو طريق القرآن وهو طريق العبودية وهو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم([55]).
هذا وإن الصور العقلية التي يحصل فيها التعارض بين التفسير العلمي والتفسير النقلي هي:
الأولى: أن يكون النقلي قطعياً والعلمي قطعياً كذلك.
الثانية: أن يكون أحدهما ظنياً والآخر كذلك.
الثالثة: أن يكون أحدهما قطعياًً والآخر ظنياً.
أما الصورة الأولى: ففرضية لأنه لا يعقل تعارض بين قطعي وقطعي، ومن المحال أن يتناقض الشرع مع العلم، لأن الشرع دين الله والكون وما فيه من خلق الله، وقد عالج هذه المسألة بتوسع وإحاطة شيخ الإسلام أحمد بن تيميه في كتابه ( درء تعارض العقل والنقل) فإن وقع في الظاهر فلا بد أن هناك خللاً في اعتبار قطعية أحدهما.
وأما الصورة الثانية: فإن أمكن الجمع بينهما وجب حمل النظم الكريم عليهما، وإن تعذر الجمع قدم التفسير المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، إن ثبت من طريق صحيح، وكذا يقدم ما صح عن الصحابة ؛ لأن ما صح نسبته إلى الصحابي في التفسير فالنفس إليه أميل، لاحتمال سماعه من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولما امتاز به من الفهم الصحيح والعمل الصالح.
وأما الصورة الثالثة: فالقطعي منهما مقدم على الظني إذا تعذر الجمع ولم يمكن التوفيق أخذاً بالأرجح وعملاً بالأقوى([56]).
8- الابتعاد عن بقية الأخطاء التي وقعت في بعض كتب التفسير العلمي، كإيداع طنطاوي جوهري الكثير من صور الحيوانات والمناظر الطبيعية في تفسيره، واعتماده على ما جاء عن أفلاطون في جمهوريته أو عن إخوان الصفا. أو غير ذلك من الأخطاء التي وقعت وأشرنا إليها في المبحث السابق.
هذه هي أهم الشروط التي يجب مراعاتها عن تفسير الآيات القرآنية تفسيراً علمياً.
وكلمة الختام لهذه الشروط أن التفسير العلمي حتى مع استيفائه جميع الشروط التي تجعله محموداً ، لا مسوغ له إذا عارضه التفسير المأثور الذي ثبت بالنص القطعي؛ لأن التفسير العلمي رأي، والرأي اجتهاد ولا مجال للاجتهاد في مورد النص ـ كما قرر علماء الأصول ـ أما إذا لم يكن تعارض بين التفسير العلمي والتفسير المأثور فكل منهما يؤيد الآخر ويثبته وهذا أكثر ما نجده في تفسير أهل الاعتدال في هذا المجال.
والحمد لله رب العالمين الموفق الهادي إلى الصراط المستقيم
---الحواشي ----------------------
([1] ) لسان العرب (5/3412) طبعة دار المعارف الجديدة المحققة القاهرة.
([2] ) التسهيل لعلوم التنزيل (1/6) محمد بن أحمد بن جزي الكلبي، دار الفكر.
([3] ) البحر المحيط (1/13، 14) للشيخ محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان، دار الفكر.
([4] ) التسهيل (1/7).
([5] ) لسان العرب (مادة علم) (4/3083) ومختار الصحاح (ص189).
([6] ) انظر كتاب التعريفات للجرجاني (ص199) دار الكتاب العربي.
([7] ) التفسير والمفسرون (2/474) محمد حسين الذهبي.
([8] ) دائرة المعارف الإسلامية (5/357) طبعة إيران.
([9] ) انظر اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر (2/548) للدكتور فهد الرومي، الطبعة الأولى، 1986م. ولمحات في علوم القرآن للشيخ محمد الصباغ (ص203) نشر المكتب الإسلامي، بيروت، 1394هـ، واتجاهات التفسير في العصر الراهن (ص247) للدكتور عبدالمجيد المحتسب، الطبعة الثالثة، 1982م، مكتبة النهضة الإسلامية، عمان.
([10] ) انظر الدكتور فهد الرومي في اتجاهات التفسير (5/449) والدكتور عبدالقاهر العاني في بحث التفسير العلمي للقرآن معالمه وضوابطه (ص 214، 219) المنشور في كتاب الدراسات الإسلامية، الندوة الأولى للدراسات الإسلامية للجامعات العربية، جامعة أم درمان، المنعقدة بتاريخ 11- 18 شباط 1987م.
([11]) المعجزة العلمية للقرآن والسنة (ص25) نشر رابطة العالم الإسلامي.
([12]) بحث اـتفسير العلمي معالمه وضوابطه (ص214، 229).
([13]) البيان في إعجاز القرآن (ص266) للدكتور صلاح الخالدي، دار عمار عمان.
([14]) انظر لسان العرب مادة (عجز) صفحة (2817).
([15]) انظر معنى ذلك في تفسير القرطبي (1/69) وفتح الباري (6/581).
([16]) المعجزة العلمية في القرآن والسنة صفحة (14).
([17]) ملخص بحث الإعجاز العلمي في القرآن المسمى (القول القويم في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم) صفحة (47) للدكتور علي محمد نصر، مؤتمر الإعجاز العلمي للقرآن والسنة إسلام آباد.
([18]) انظر المعجزة العلمية في القرآن والسنة صفحة (25) ومناهل العرفان (1/567).
([19]) التسهيل (2/5).
([20]) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة، باب (1) حديث (7274).
ورواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان باب (70) حديث (239) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([21]) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (2/188) الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت، لبنان، وفتح الباري (19/7) للإمام ابن حجر العسقلاني، شركة الطباعة الفنية المتحدة.
([22]) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، رواه الترمذي في كتاب الفتن باب (49) حديث (2499) وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، حديث (4251) قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي ابن مسعودة عن قتادة، ولكن أشار السيوطي إلى صحته في الجامع الصغير (2/92) والشيخ الألباني أشار إلى حسنه في صحيح الجامع الصغير وزياداته (2/831).
([23]) انظر في ظلال القرآن (1/183-184) والإسلام دعوة عالمية صفحة ( 204-207) لعباس محمود العقاد.
([24]) اتجاه التفسير في العصر الحديث صفحة (299، 301).
([25]) اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث (390).
([26]) تفسير جزء عم صفحة (158) للشيخ محمد عبده. وانظر تفسير المراغي (10/243، 244) الطبعة الثالثة، دار الفكر، 1974.
([27]) انظر القرطبي (2/193) والجلالين (622) وابن كثيير (4/551) وروح المعاني (3/238) البحر المحيط (8/514) معاني القرآن للفراء (3/292). وابن جزي (4/218) وصفوة التفاسير (3/650) ومعالم التنزيل للبغوي (4/105) وغيرها من الكتب الكثيرة.
([28]) انظر التفسير والمفسرون (2/569) وفي ظلال القرآن (3/3976) اتجاهات التفسير في العصر الراهن صفحة 266.
([29]) انظر الإتقان في علوم القرآن (2/231) وروح المعاني (1/5) تفسير القرآن الكريم صفحة 11 للشيخ محمود شلتوت.
([30]) انظر التفسير والمفسرون 2/ 569, للدكتور الذهبي, وأصول التفسير وقواعده، ص 253، للشيخ خالد عبدالرحمن العك.
([31]) الجواهر، 1/84-89.
([32]) اتجاه التفسير في العصر الحديث ص5.
([33]) انظر مقدمة في أصول التفسير 9/ 31،ابن تيمية المكتبة العلمية، ومناهل العرفان 1/ 366.
([34]) روح المعاني1/5.
([35]) الإتقان في علوم القرآن 2/231.
([36]) المرجع السابق 2/ 229.
([37]) المرجع السابق 2/ 231, روح المعاني 1/5.
([38]) المرجع السابق 2/ 231.
([39]) التسهيل 1/8.
([40]) مقدمة في أصول التفسير ص 9.
([41]) البرهان في علوم القرآن 2/172, الإمام الزركشي, تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم, الناشر عيسى الحلبي وشركاه.
([42]) انظر المنارص21-22.
([43]) المستصفى في علم الأصول1/359 للإمام الغزالي مطبوع مع كتاب فواتح الرحموت- دار الفكر للطباعة والنشر بيروت.
([44]) التسهيل لعلوم التنزيل 1/9.
([45]) البرهان في علوم القرآن 2/179.
([46]) مناهل العرفان 1/528.
([47]) الإتقان2/233.
([48]) رواه ابن جرير بسند عن ابن عباس في جامع البيان, 1/34, ورواه الترمذي بلفظ (ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) في كتاب تفسير القرآن, باب الذي يفسر القرآن برأيه, 2951, وقال هذا حديث حسن.
([49]) الإتقان 2/234.
([50]) التعريف بالقرآن والحديث ص191, للشيخ محمد الزفزاف .
([51]) القرآن ينبوع العلوم والعرفان للسيد على فكري, الطبعة الثانية، 1951م
([52]) انظر المعجزة الكبرى القرآن ص523, الشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر, ومناهل العرفان 1/17, وضوابط الكتابة في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ص10، للدكتور رزق الطويل.
([53]) انظر بحث التفسير العلمي للقرآن معالمه وضوابطه ص215, للدكتور عبد القهار العاني, والبيان في إعجاز القرآن ص264-266, للدكتور صلاح عبدالفتاح الخالدي.
([54]) التفسير العلمي للآيات الكونية ص43-44.
([55]) مقدمة في أصول التفسير6, لابن تيمية.
([56]) انظر مناهل العرفان1/532, وأصول التفسير وقواعده, للشيخ خالد العك, ص190- 191, وبحث المعجزة العلمية في القرآن والسنة ص 26-27، للشيخ عبد المجيد الزنداني.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن مصطلح "التفسير العلمي للقرآن الكريم " من المصطلحات الحديثة في الأوساط العلمية، وهو يشير إلى تأويل بعض الآيات القرآنية أو تفسيرها بما يتفق وبعض النظريات العلمية أو الاكتشافات الحديثة، ولذلك اختلفت وجهات أنظار العلماء وأبناء المسلمين فيه.
فمنهم من يرى فيه فتحاً جديداً وتجديدا في طريق الدعوة إلى الله وهداية الناس، ومنهم من يرى أن هذا اللون من التفسير يخرج بالقرآن الكريم عن الهدف الذي أنزل من أجله، أو أن فيه إقحاما للتفسير في مجال متروك العقل البشري أن يجرب فيه فيخطئ ويصيب وقد أدلى كل فريق برأيه وحجته، فالواجب أن نقف موقف المنصفين.
وخلاصة التحقيق توصلنا إلى أن التفسير العلمي كغيره من العلوم لا يجوز إلا إذا توفرت شروط التفسير الصحيحة فيه، وهذا ما أحاول تبينه في هذا البحث.
وقد اجتهدت في تبسيط الموضوع وتقريب وجهات النظر، فقسمت بحثي إلى ثلاثة أقسام:
جعلت المبحث الأول للتعريف بالتفسير العلمي وما يتعلق به فذكرت فيه: معنى التفسير لغة واصطلاحا، ومعنى العلم، والمقصود بالتفسير العلمي، ومعنى الإعجاز العلمي والفرق بينه وبين التفسير العلمي، والعلاقة بين معجزة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والتفسير العلمي.
والمبحث الثاني جعلته في مآخذ العلماء على التفسير العلمي، أو أسباب الوقوع في بعض الأخطاء.
وأما المبحث الثالث فقد جعلته في قواعد وأسس التفسير العلمي الصحيح.
ثم أتبعت بحثي بقائمة المصادر والمراجع.
أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه هو السميع العليم، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[align=center]المبحث الأول
التعريف بالتفسير العلمي وما يتعلق به[/align]
لتحديد معنى التفسير العلمي يجدر بنا أن نبين معنى التفسير، ومعنى العلم، ثم تعريف التفسير العلمي باعتباره لقبا، وبيان الفرق بينه وبين الإعجاز العلمي، أو علاقته به، والإشارة إلى دوافعه.
تعريف التفسير:
التفسير في اللغة: من الفسر، وهو البيان والكشف، قال في لسان العرب: الفسر البيان وفسره أبانه، والتفسير مثله، وقال ابن الأعرابي: الفسر كشف المغطى والتفسير كشف المراد عن المعنى المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر([1])
وهو في الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته عن مراد الله سبحانه وتعالى بقدر الطاقة البشرية. وقد ورد في تحديده مجموعة من التعريفات نقتصر على بعض منها.
قال بن جزي: معنى التفسير: شرح القرآن وبيان معناه والإفصاح عما يقتضيه نصه أو أشارته أو فحواه([2])
وعرفه أبو حيان بأنه " علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وغير ذلك كمعرفة النسخ وأسباب النزول وما به توضيح المقام([3]).
وقد اختلف العلماء في التفريق بين التفسير وبين التأويل، فقيل: أنهما بمعنى واحد، وقيل: التفسير للفظ والتأويل للمعنى، وقيل: أن التفسير هو الشرح، والتأويل هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج عن ظاهره وهذا ما رجحه ابن جزي([4])
وقيل غير ذلك .
تعريف العلم:
وصف التفسير بأنه علمي نسبة إلى العلم. والعلم في اللغة: مصدر يرادف الفهم والمعرفة ويرادف الجزم في رأي، وقال علماء اللغة: علم الشيء عرفه، والعلم نقيض الجهل([5])
وأما في الاصطلاح فليس من اليسر تحديده بسهوله، لأن كلمة (علم) لفظة شاملة تفيد الاعتقاد الجازم المطابق للواقع([6]) وبذلك فهي تشمل جميع المعارف البشرية دون أن تقتصر على واحدة منها ومن هنا فقد تجاذبت هذا المصطلح أيدي العلماء فكل يطلقه على ما تدور أبحاثه عليه، فتعريف الحكماء يختلف عن تعريف المتكلمين، وهكذا الأمر عند غيرهم.
والمقصود بالعلم في هذا المقام العلم التجريبي وما يتعلق به من علوم الطبيعة الموجودة في الكون مثل الفيزياء والكيمياء وطبقات الأرض وعلم الأحياء وعلم البحار وعلم الفلك وغير ذلك.
فكلمة علم مع تطور الزمن صارت ذات مدلولين عند المسلمين، المدلول الأول: العلم القائم على العلوم الدينية وما يتفرع عنها. والمدلول الثاني: يختلف عن المعنى القديم المشار إليه سابقا، إذ ظهر جماعة من الناس تقول عن عصرنا الحاضر أنه عصر العلم ويقصدون بذلك العلم الطبيعي القائم على دراسة ما في الكون من مواد وعناصر وكائنات لها خصائصها الذاتية ونواميسها التي تحكمها من كيمياء وميكانيكا أو علوم طب أو رياضة وفلك أو غير ذلك.
فهذا هو المقصود بالعلم في هذا المقام، وهذا ما تناولوه في الحديث عن التفسير العلمي في هذه الأيام ولا مشاحة في الاصطلاح.
وعليه فيعرف التفسير العلمي بما يلي:
قال الشيح محمد حسين الذهبي: " نريد بالتفسير العلمي التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن الكريم ويجتهد في استخراج العلوم والآراء الفلسفية منها"([7]).
وهذا هو تعريف الشيخ أمين الخولي في دائرة المعارف الإسلامية([8]).
وعرفه بنحوه ومعناه أيضا كل من الدكتور مصطفى شاهين، والأستاذ محمد الصباغ، والدكتور عبد المجيد المحتسب([9])، ولكن قال بعضهم في تعريفه: (إخضاع ) بدل (تحكيم ).
فجميع هذه التعريفات تصف هذا اللون من بأنه إخضاع أو تحكيم للمصطلحات العلمية في عبارة القرآن، ولكن مع البحث نجد أن هذه التعبيرات على إطلاقها قاصرة وغير دقيقة لأنها توحي بأن الآية المراد تفسيرها لها معنى بعيد عن المعنى العلمي الذي تفسر به، وهذا وإن صدق على بعض التفسيرات العلمية التي فيها شطحات إلا أنه لا ينطبق على جميعها.
وقد سبقني إلى الإشارة إلى قصر هذه التعريفات مجموعة من العلماء والباحثين([10]).
والذي يظهر لي هنا أن التعريف الأقرب إلى الصواب أن يقال:
التفسير العلمي هو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن المتعلقة بالكون وما فيه ومكتشفات العلم التجريبي على وجه يظهر به إعجاز القرآن ليدل على مصدره الإلهي وصلاحيته لكل زمان ومكان.
وقد عرفه بنحو هذا التعريف كل من: الشيخ عبد المجيد الزنداني في بحثه (المعجزة العلمية في القرآن والسنة )، والدكتور عبد القهار العاني في بحثه ( التفسير العلمي معالمه وضوابطه )، والدكتور صلاح الخالدي في كتابه ( البيان في إعجاز القرآن ).
فقال الزنداني: " التفسير العلمي هو الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية "([11]).
وقال العاني:" التفسير العلمي هو بيان معنى الآيات القرآنية مرتبطا بحقائق العلوم الكونية وما يشابهها وفق القواعد المشهورة في تفسير القرآن الكريم ".
وقال أيضا في موضع آخر: "هو بسط الحقائق العلمية الثابتة للعلوم الكونية والطبيعية المختلفة بمعاني الآيات القرآنية بدلالة الألفاظ اللغوية على المعاني في المشهور من المأثور والمعهود في اللغة "([12]).
وقال الخالدي: "هو النظر في الآيات ذات المضامين العلمية من الزاوية العلمية وتفسيرها تفسيراً علمياً، وذلك بالاستعانة بالعلوم والمعارف والمكتشفات الجديدة في توسيع مدلولها وتقديم معناها "([13]).
تعريف الإعجاز:
الإعجاز مشتق من العجز، والعجز الضعف وعدم القدرة، ومعنى الإعجاز الفوت والسبق، يقال أعجزني فلان أي فاتني([14]).
والمعجزة: الأمر الخارق للعادة - وزاد بعضهم المقرون ـ بالتحدي، السالم من المعارضة، وتسمى معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها([15]).
وإعجاز القرآن يقصد به: إعجاز الناس أن يأتوا بمثله، أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم عن الإتيان بمثله.
ووصف الإعجاز بأنه علمي كوصف التفسير بأنه علمي نسبة إلى العلم التجريبي، وعلى هذا فالإعجاز العلمي: هو إظهار صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بما حمله الوحي إليه من علم إلهي ثبت تحققه ويعجز البشر عن نسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو أي مصدر بشري في عصره.
وقد عرفه بنحو هذا مجموعة من العلماء منهم:
الزنداني فقال: " الإعجاز العلمي هو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم .([16])
والدكتور علي محمد نصر فقال:"هو سبق القرآن الكريم العلماء فيما وصلوا إليه من علوم كونية باشاراته إلى ما وقفوا في بحوثهم عنده خاضعين لعظمته معترفين بسبقه وتبريزه "([17]).
الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي:
من خلال التعريفات السابقة نجد أن هناك فرقا بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي من جهة ، وتوافقا واتصالا من جهة أخرى.
أما الفرق فهو أن التفسير العلمي: هو كشف عن معاني الآية الكريمة أو الآيات أو بعضها في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية "
والإعجاز العلمي " هو إخبار القرآن الكريم بحقيقة علمية أثبتها العلم أخيرا، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم
وأما العلاقة والاتصال فهي " أن التفسير العلمي طريق إلى الإعجاز العلمي وبدون التفسير العلمي لا يمكن الوصول إلى الإعجاز العلمي([18]).
العلاقة بين معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفسير العلمي:
لكل نبي من الأنبياء آية أو معجزة تدل على صدق نبوته قال تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب )[ إبراهيم: 9].
ولكل رسول معجزة تناسب قومه ومدة رسالته، فلما كان الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى أقوامهم خاصة ولأزمنة محددة فقد أيدهم الله ببينات حسية مثل عصا موسى عليه السلام، وإحياء الموتى بإذن الله على يد عيسى عليه السلام وتستمر هذه البينات الحسية معهم محتفظة بقوة إقناعها في الزمن المحدد لرسالة كل رسول فإذا حرف الناس دين الله بعث الله رسولا آخر بالدين الذي يرضاه وبمعجزة جديدة وبينة مشاهدة.
ولما ختم الله تعالى النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وضمن له حفظ دينه أيده بالمعجزة الكبرى القرآن الكريم التي تبقى إلى يوم الدين.
قال تعالى: ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ..) [الأنعام: 19] ومن ذلك ما يتصل بالإعجاز العلمي فمعنى الآية: أوحي إلي هذا القرآن لأنذر به المخاطبين وهم أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة([19]).
وقال رسول الله صله الله عليه وسلم :
"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة "([20]). ومن معاني هذا الحديث: أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقرض أعصارهم ومعجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مستمرة إلى يوم القيامة([21]).
وقال تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد )[فصلت: 53]
وقال تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين )[ص: 87-88].
قال الفراء في الحين الذي ذكرته الآية: إنه بعد الموت وقبله، أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول لكم (بعد حين ) يعني في المستأنف.
وقال تعالى: ( لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ) [الأنعام:67] والمعنى: لكل خبر في القرآن حقيقة وسوف تعلمون صحة ذلك عاجلا أم آجلا.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية وغير العرب لا يفهمون القرآن الكريم والإنسانية كلها بجميع شعوبها على اختلاف ألوانهم ولغاتهم مخاطبون بالقرآن.
والقرآن حجة على العباد ولا تثبت لهم الحجة إلا إذا ثبت لهم إعجازه ولذلك لابد أن يكون لإعجاز القرآن الكريم نواح أخرى غير النواحي اللغوية والبلاغية.
ويعتبر هذا الأمر من أهم وأبرز دوافع الإعجاز العلمي في هذه الأيام.
وعلى الرغم من وضوح هذا الأمر وأهميته في الدعوة نجد اختلافا واضحا بين علماء المسلمين تجاه جواز هذا اللون من التفسير، فمنهم من يرى فيه فتحا جديدا وتجديدا في أساليب الدعوة وهداية الناس، ومنهم من يرى عكس ذلك تماما فيرى أن هذا اللون من التفسير يضر بالقرآن لأنه يخرج به عن الغاية التي أنزل من أجلها، وقد كان لكل فريق حجته ودليله وبالتحقيق يظهر جواز التفسير العلمي ولكن بشروطه، ولهذا السبب علينا أن نتعرف مآخذ العلماء على التفسير العلمي حتى نصل إلى القواعد والضوابط.
[align=center]المبحث الثاني
مآخذ العلماء على التفسير العلمي
أو
( أسباب الوقوع في بعض الأخطاء)[/align]
رغم اتفاق جميع المسلمين على حقيقة واحدة وهي: (أن حقائق الكون لا تتعارض مع حقائق القرآن) نجد من علمائنا المسلمين من يمنع التفسير العلمي، والسبب في ذلك هو أخطاء بعض المفسرين بسبب التكلف أو الاعتساف في الفهم أو التأويل أو غير ذلك من العوامل المفضية إلى الوقوع في بعض الأخطاء.
والتحقيق أن منع التفسير العلمي وإنكاره إنكارا تاما لوجود بعض الأخطاء غير مسلم ولا صحيح، والخطأ واقع في كل المذاهب البشرية وحتى في بعض الأحكام الدينية الاجتهادية، وهو أمر لابد منه ولا حيلة فيه([22])، لان البشر مهما سمت مكانتهم في العلم والفهم لم تضمن لهم العصمة سوى من خصهم الله تعالى بالوحي، ومع هذا فإننا لم نجد من علماء المسلمين من منع الاجتهاد والفقه والتفسير لجميع المسلمين.
والتفسير العلمي كغيره من العلوم لا يجب منعه إذا توفرت شروط المفسر فيمن يقوم به وهذا ما سنوضحه بعد بياننا لأهم الأخطاء التي وقعت من بعض من اشتغلوا بالتفسير العلمي.
وبالاطلاع على ما كتبه كثير من علمائنا الأفاضل عن التفسير العلمي وتمحيصهم وتقويمهم لما يكتب في ذلك المجال أستطيع أن أدون أبرز الأخطاء في النقاط التالية:
1) كثرة الإسهاب:
كما فعل الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه الجواهر، حيث نجده يفسر الآية القرآنية تفسيراً لفظياً مختصراً، وبعدها ينطلق لذكر الأبحاث العلمية المستفيضة التي يسميها لطائف أو جواهر، وتلك الأبحاث المستفيضة بطبيعة الحال أفكار علماء الشرق والغرب في عصره وعصر من سبقه.
ولا شك أن هذه الطريقة جعلت تفسيره يخرج عن موضوعه الأساسي ألا وهو إظهار معاني القرآن الكريم بالطريقة الشرعية حتى قال بعض نقاده فيه كل شيء إلا التفسير.
2) إخضاع بعضهم نصوص القرآن الكريم لنظريات علمية غير مستقرة. و لا شك أن ربط القرآن الكريم بنظريات غير مستقرة عمل خطير نبه إليه عدد كبير من العلماء لأنه يجعل المفسر في حرج عندما يثبت خطا النظرية.
وهذا لا يعني منع الانتفاع بما كشفه العلم من نظريات وحقائق عن الكون والحياة والإنسان في فهم الآيات وتوسيع معنى الآيات التي تشير إلى الحقائق والنظريات، وإنما يعني ألا نتجاوز ألفاظ القرآن. وقد ضرب كثير من العلماء أمثلة لهذا المنهج المأمون في الانتفاع بالكشوف العلمية في هذا المجال وحتى من المعارضين له في نظر الناس كأمثال سيد قطب في الظلال المجلد الأول الصفحة ( 183 وما بعدها ) وعباس محمد العقاد في بحث " القرآن والنظريات العلمية " المنشور في كتابه الإسلام دعوة عالمية([23]).
3) التوسع في التفسيرات العلمية: بحجة أن القرآن الكريم يشمل على جميع العلوم والمخترعات والمستحدثات من الطائرات والغواصات والصواريخ وغير ذلك وما جد من أمور الكون وما لم يجد إلى قيام الساعة..... لقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام: 38].
4) إقحام بعض الآيات القرآنية في موضوعات لا تناسبها:
وقد ضرب الشيخ مصطفى الحديدي الطير أمثلة لذلك متعددة، ومنها استشهاد عبدالرزاق نوفل بقوله تعالى: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا) [الحج:5] لإثبات الإعجاز العلمي للقرآن في موضوع (شيخوخة الجسم والعقل) مع أن ما جاء فيها من مشاهدات الناس، فكل إنسان يرى بعينه أن الناس حين يشيخون يذبلون جسميا ويضعفون عقلياً منذ بدأ خلق الإنسان حتى اليوم، فحديث القرآن عن هذه المشاهد لا يعتبر من الإعجاز العلمي للقران وإنما هو تذكير للناس بتطورات خلق الإنسان ليستدلوا بذلك على أن الله تعالى يبعث من في القبور، وأنه هو الحق وأنه على كل شيء قدير، ولهذا بدأت الآية بقوله سبحانه: ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ) وجيء بعدها بقوله: ( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ) [الحج:5] ([24]).
5) حمل العبارة القرآنية على ما وصلت إليه علوم العصر:
وهذا رغم عدم وجوده عند جميع المهتمين بالتفسير العلمي إلا أنه من أبرز الأخطاء والأخطار. يقول الدكتور عفت الشرقاوي: والمفسر الذي يتناول النص القرآني بهذا الإحساس قد يضطر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص الكريم، لأنه يحس بضرورة متابعة العلم في المجالات المختلفة مع أن كثيرا من حقائق العلم مؤقتة قابلة للتغيير وتتكشف يوما بعد يوم وحينئذ يكون التعجل في تلمس المطابقة بين القرآن والعلم تعجلا غير مشروع([25]).
6) الإسراف أحيانا في التأويل البعيد رغبة في تلمس المطابقة بين القرآن والعلم للدفاع عن القرآن والإسلام:
وقد مثلوا لذلك بأمثلة ومنها: تفسير الشيخ محمد عبده وبعض المفسرين في العصر الحديث ( الطير الأبابيل) في سورة الفيل بالميكروبات والحجارة بجراثيم الأمراض وانتقادهم للتفسيرات القديمة متعللين بالعلل التالية:
أ) أن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر.
ب) مما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل – وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما ـ ويهلك بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر. ([26])
وهذا التفسير رغم مكانة صاحبه العلمية في التفسير لا نقر عليه ولا نرى في العلل التي قدمها ما ينهض بالاحتجاج وذلك لأن تفسيرها يتعلق ـ كما يقول كثير من علماء العصر الحديث بمبهمات القرآن ـ وتخالف جميع التفسيرات القديمة المأثور منها والمعقول([27])، التي تقول أن الطيور مثل الحمام والحجارة عادية، ولأن الجراثيم التي اكتشفها العلم الحديث لم يكن للعرب علم وقت نزول القرآن بها. والعربي إذا سمع لفظ الحجارة لا ينصرف ذهنه إلى تلك الجراثيم بحال من الأحوال، وقد جاء القرآن بلغة العرب وخاطبهم بما يعهدون ويألفون، ولو كانت الحجارة جراثيم لا ترى لكذب العرب القرآن الذي يتحدث عن قصة شاهدوها بأم أعينهم([28]).
7) عدم التخصص في التفسير أو التمكن من اللغة العربية عند كثير من المثقفين الذين تعلموا العلوم الحديثة وأخذوا يفسرون آيات القرآن على مقتضى ثقافتهم الحديثة.
ولا شك أن الذي لا يمتلك شروط المفسر ولا يتقيد بما تدل عليه اللغة لا يقبل تفسيره مهما بلغ من الذكاء والتبحر في العلوم الطبيعية، لأن القرآن الكريم عربي وتفسيره بدون التبحر في اللغة العربية لا يمكن([29]).
8) إيداع بعض المفسرين كتب التفسير صور الأفلاك والكواكب والمياه والأشجار والحيوانات والحشرات والأسماك والنباتات، وغير ذلك كما فعل طنطاوي جوهري مما لم يعهده المسلمون قبل ذلك في كتب التفسير.
9) استخراج بعض المفسرين علوما مزعومة بواسطة حساب الجمل الذي لا يوصل إلى حقيقة ثابتة، وقد أخذت هذه الطريقة عن اليهود([30]).
10) أو اعتماد بعض المفسرين ـ كطنطاوي جوهري ـ وهو مضرب المثل في التفسير العلمي ـ على بعض الأوهام التي يقول بها الخراصون، ومن أمثلة ذلك ما نجده في كتابه الجواهر عند تفسيره لقوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) إلى قولـه: ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ) [البقرة: 67ـ73] حيث نجده يذكر فيما يذكر من العجائب (علم تحضير الأرواح ) فيقول:
" وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تتلى والمسلمون يؤمنون بها حتى ظهر علم الأرواح بأمريكيا أولا ثم بسائر أوروبا ثانيا.. " ثم يذكر قصة هذا العلم وتطوره بإسهاب ثم يقول:
" ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة العزيز بعد موته وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين أخرجوا من ديارهم فرارا من الطاعون فماتوا ثم أحياهم الله وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة([31]).
وليس هناك من شك أن مثل هذا التفسير وصرف معاني الأيات عن معانيها إلى علم تحضير الأرواح ينزل بتفسير القرآن الكريم من عليائه ويثنيه عن قصده وأهدافه حتى قال الشيح مصطفى الحديدي الطير عن هذا التفسير " هو أغرب ما يقال في تفسير القرآن الكريم، فهو أبعد ما يكون عن معناه وعن أهدافه وقصده، كما أن تحضير الأرواح علم كاذب فلا يوافق الدين على الإيمان به، ولا يعترف بأخبار الأرواح التي تحضر عن طريقه فهي أرواح جن تكذب بدعاء أنها الأرواح المطلوب إحضاره.... "([32])
هذه هي أبرز الأخطاء والانحرافات التي وقعت في التفسير العلمي للقرآن، وبسببها اهتم المحققون والمخلصون بوضع الضوابط والشروط التي تحكم التفسير العلمي للقرآن، وهذا ما سنتحدث عنه في المبحث التالي إن شاء الله.
[align=center]المبحث الثالث
قواعد وأساس التفسير العلمي الصحيحة:[/align]
والآن وبعد أن عرفنا جواز التفسير العلمي كما ذكر المحققون ووقفنا على بعض الأخطاء التي ظهرت فيه كان لازماً علينا أن نوضح شروط هذا التفسير وضوابطه حتى نتفادى الأخطاء التي ذكرت ولا نتقول على الله تعالى بغير علم في تفسير كلامه العزيز.
وقد وضع علمائنا الأفاضل قواعد لا بد من مراعاتها عند تفسير القرآن الكريم وملخصها:
أن نفسر القرآن بالقرآن ، فإن لم نجد فبما ثبت من السنة المطهرة ، فإن لم نجد فمن أقوال الصحابة، مع الابتعاد عن الضعيف والموضوع والإسرائيليات ، فإن لم نجد فمن أقوال التابعين فإن اتفقوا على شيء كان ذلك إمارةً قوية على تلقيه من الصحابة وإن اختلفوا تخيرنا من أقوالهم ورجحنا ما يشهد له الدليل فإن لم نجد في أقوالهم ما يصلح تفسيراً للآية لكونه ضعيفاً أو موضوعاً أو من الإسرائيليات التي حملوها عن أهل الكتاب اجتهد المفسر إذا كان مستكملاً لأدوات الاجتهاد([33]).
وبما أن التفسير العلمي لا يخرج عن مفهوم التفسير بالاجتهاد لشرح القرآن وبيان معناه والإفصاح عما يقتضيه نصه أو إشارته أو فحواه فإن التفسير العلمي لا يعتبر مقبولاً ما لم تراعى فيه القواعد الآتية وهي قسمان:
1. قواعد للتفسير بالرأي بشكل عام.
2. قواعد للتفسير العلمي بشكل خاص.
فأما قواعد التفسير بالرأي فهي:
1. معرفة اللغة العربية وقواعدها (النحو والصرف والاشتقاق).
معرفة اللغة العربية لأن باللغة يعرف شرح المفردات ومدلولات الألفاظ قال الآلوسي: ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركاً ولا يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر فمن لم يكن عالماً بلغات العرب لا يصح له التفسير([34]) قال مجاهد (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله تعالى إذا لم يكن عالماً بلغات العرب) ([35]) وعن الإمام مالك أنه قال: (لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً) ([36]) ومعرفة النحو: لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب.
ومعرفة الصرف: لأن به تعرف الأبنية والصيغ.
ومعرفة الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما المسيح هل هو من السياحة أو المسح([37]).
2. معرفة علوم البلاغة: (المعاني والبيان والبديع) لتذوق معاني القرآن الكريم قال السيوطي (وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة وهي من أعظم أركان المفسر لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز وإنما يدرك بهذه العلوم) ([38]).
3. معرفة أصول الفقه:
قال ابن جزي: أما أصول الفقه فإنها من أدوات تفسير القرآن على أن كثيراً من المفسرين لم يشتغلوا بها وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال وما أحوج المفسر إلى معرفة النص والظاهر والمجمل والمبين والعام والخاص والمطلق والمقيد وفحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب وشروط النسخ ووجود التعارض وأسباب الخلاف وغير ذلك من علوم الأصول ([39]).
4. الاهتمام بأسباب النزول قال ابن تيميه: (ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب) ([40]).
5. البدء بما يتعلق بالألفاظ المفردة من اللغة والصرف والاشتقاق مع ملاحظة المعاني التي كانت مستعملة زمن النزول قال الإمام الزركشي: (الذي يجب على المرء البداءة به العلوم اللفظية وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن لمن يريد أن يدرك معانيه وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه([41]).
وقد اشترط كل من الإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا في تحقيق المفسر للألفاظ أن يتتبع الألفاظ في الملة ليفرق بينهما وبين ما ورد في كتاب الله العزيز لأن كثيراً ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالإصلاحات الحادثة في الملة ولذلك كان على المدقق أن يفسر القرن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر تنزله([42]).
6. تقديم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة.
قال الإمام الغزالي: "إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فاللفظ للحقيقة إلى أن يدل الدليل على أنه أراد المجاز"([43]).
وقال ابن جزي: "الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون اغلب استعمالاً من الحقيقة ويسمى مجازاً راجحاً والحقيقة مرجوحة"([44]).
7. يجب مطابقة التفسير للمفسر من غير زيادة ولا نقص ومراعاة التأليف بين المعاني والغرض الذي سيق له الكلام([45]).
8. يجب مراعاة التناسب بين السابق واللاحق بين فقرات الآية الواحدة وبين بعضها بعضاً.
9. يجب بيان المعنى المراد والأحكام المستنبطة من القرآن في حدود قوانين اللغة والشريعة والعلوم الكونية.
10. يجب مطابقة التفسير لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته لأنه صلى الله عليه وسلم هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة بأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته([46]).
11. يجب على المفسر أن يراعي قانون الترجيح عند الاحتمال وهو ما بينه السيوطي في الإتقان بقوله: (كل لفظ احتمل معنيين فصاعداً فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي فإن كان أحد المعنيين أظهر وجب الحمل عليه إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي وإن استويا والاستعمال فيهما حقيقة ، لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية وفي الآخر شرعية فالحمل على الشرعية أولى إلى أن يدل دليل على إرادته اللغوية كما في قوله تعالى (وصلِ عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم) [التوبة:103] ولو كان في أحدهما عرفية والآخر لغوية فالحمل على العرفية أولى ، وإن اتفقا في ذلك أيضا ،ً فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء للحيض والطهر اجتهد في المراد منهما بالإمارات الدالة عليه) ([47]).
12. يجب الابتعاد عن تفسير القرآن الكريم بمجرد الرأي:
قال العلماء: تفسير القرآن بمجرد الرأي حرام لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار"([48]).
وقد نقل الإمام السيوطي عن ابن النقيب خلاصة ما جاء في معنى هذا الحديث فقال: جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال:
أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.
الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تابعاً.
الرابع: التفسير أن مراد الله كذا على قطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى([49]).
هذه هي أهم شروط التفسير بالرأي بشكل عام وأما الآن فمع شروط التفسير العلمي بشكل خاص، وهي:
1- أن يجمع المفسر إلى الآية التي يريد تفسيرها جميع الآيات التي وردت متعلقة بموضوعها، لأن جمع الآيات يعين على التفسير الصحيح والوصول إلى الحقيقة.
2- أن يجمع إلى الآية ما يتعلق بموضوعها من الأحاديث الصحيحة، لأنها قد تقيد مطلقها أو تبين مجملها أو تحدد معنى اللفظ بمعنى جديد استحدثه الإسلام ، ومثل هذا إنما يعرف من صاحب الشرع. قال الدكتور محمد الزفزاف: (يجب ألا نخوض في الآية قبل أن نجمع إليها من الأحاديث أو الآيات ما يتعلق بموضوعها حتى تتحقق الوحدة التي على ضوئها ينتظم الفهم ويتبين الحكم) ([50]).
3- الوقوف عند الإطار العام لمعنى الآية وترك ذكر التفاصيل والاستطرادات حتى لا نخرج عن دائرة التفسير. مثاله ما فعله السيد علي فكري عند تفسيره لقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) [البقرة:228] قال: والمعنى: والمطلقات يصبرن عن الزواج ثلاثة قروء أي حيضات، فإذا أحسسن بحمل فلا يحل لهن كتمانه إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر.
ويقول عبد العزيز باشا إسماعيل رحمه الله: معنى الآية صريح وهو: أنه في مدة ثلاثة أشهر تكون علامات الحمل قد ظهرت من عدم وجود الطمث (الحيض) ومن الاضطرابات المعدية، ومن كبر في الجزء الأسفل من البطن، وميعاد ثلاثة أشهر هو ميعاد موضوع بحكمة فائقة لأنه قبل ذلك يصعب جداً التثبت من الحمل بواسطة الأطباء الأخصائيين بل الكيميائيين، وبعد هذا التاريخ تكون أعراض الحمل ظاهرة للعيان. نعم قد تجد حالات يصعب الجزم فيها بالحمل أو عدمه، حتى بعد مضي أربعة أشهر أو خمسة أو أكثر من ذلك خصوصاً عند العوام، ولكن هذه الأحوال نادرة حتى أنها لا يجوز أن تكون محل تشريع خاص. ([51]) انتهى.
4- معرفة الحقيقة الثابتة بأن القرآن الكريم كتاب هداية وإعجاز، وأنه لم ينزل ليكون كتاباً في علم من العلوم كالطب أو الفلك أو غير ذلك، وأنه أسمى من ذلك وأكبر، غير أنه يتضمن الكثير من حقائق ومعارف هذه العلوم التي تذهل العلماء، والمتخصصين ليثبت لهم صدقه وإعجازه ويعرفوا أنه الكتاب الحق الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [فصلت/ 42].
ولأجل هذه القاعدة المتينة فقد نبه العلماء في العصر الحديث إلى أمرين مهمين:
الأول: أنه لا ينبغي من المسلمين التسرع في طلب الموافقة بين العلوم والقرآن، بل الواجب أن ندرس ما في القرآن على أنه حقائق ثابتة فما وافقه من العلوم قبلناه. والثاني: أن لا نفسر القرآن إلا باليقين الثابت من العلم لا بالنظريات والفرضيات لأن الظنيات عرضة للتصحيح والتعديل([52]).
5- أن لا يفسر القرآن الكريم إلا بالحقائق العلمية والابتعاد عن إقحام النظريات والاحتمالات العلمية في تفسير آياته، والفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية هي: أن الحقيقة العلمية: أمر متعارف على وقوعه وتم التوصل إليها بالتجربة العلمية والملاحظة، والنظرية العلمية: توضيح لحالة معينة غالباً ما تكون قابلة للنقاش بمقارنتها باقتراحات ثانية لأنها مجرد افتراض أو تخمين أو ظن([53]).
6- استنباط القضايا العلمية المقررة إما من صريح النص الكريم، وإما من إشارات واضحة فيه.
ومن النوع الأول نجد الأستاذ حنفي أحمد يضرب لنا ثلاثة أمثلة ومنها هذا المثال.
قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سموآت ومن الأرض مثلهن) [الطلاق:12] ومعناه أنه تعالى خلق سبع سموآت وخلق من نوع الأرض عدة مثلها أي شبهها في بعض الصفات فجاء قوله تعالى: (ومن الأرض مثلهن) موضحاً أنه تعالى جعل مجموع الخلق من سبع سماوات غير أرضية ومن أراضين عدة تشبهها في بعض الصفات
ومن النوع الثاني يضرب عدة أمثلة تنقل منها المثل الآتي: قال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) [فصلت/11] ولم يقل وهي سحاب أو بخار مثلاً.
فيكون تخصيص تشبهها بالدخان إشارة قوية محددة إلى أهل العلم يستدلون بها على خصائص هذه المادة وهي أنها كانت مثل الدخان مادة مفككة وخفيفة ومنتشرة في الفضاء، كانتشار الدخان.
وأنها كانت مظلمة وساخنة إلى حد ما وأنها كانت تحوي دقائق أنواع المادة المختلفة([54]).
7- معرفة التعارض بين التفسير العلمي الحديث والتفسير القديم، والتعارض بينهما معناه التقابل والتنافي بحيث إذا دل أحدهما على أمر مثلاً دل الآخر على نفيه حتى لا يمكن الجمع بينهما بحال من الأحوال.
وأما إذا وجدت المغايرة بينما بدون منافاة وأمكن الجمع بينهما فلا يسمى ذلك تعارضاً ، وذلك كتفسير العلماء (الصراط المستقيم) بالقرآن وبالإسلام وبطريق العبودية وبطاعة الله ورسوله ، فهذه المعاني كما قال العلماء: وإن تغايرت غير متنافية ولا متناقضة، لأن طريق الإسلام هو طريق القرآن وهو طريق العبودية وهو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم([55]).
هذا وإن الصور العقلية التي يحصل فيها التعارض بين التفسير العلمي والتفسير النقلي هي:
الأولى: أن يكون النقلي قطعياً والعلمي قطعياً كذلك.
الثانية: أن يكون أحدهما ظنياً والآخر كذلك.
الثالثة: أن يكون أحدهما قطعياًً والآخر ظنياً.
أما الصورة الأولى: ففرضية لأنه لا يعقل تعارض بين قطعي وقطعي، ومن المحال أن يتناقض الشرع مع العلم، لأن الشرع دين الله والكون وما فيه من خلق الله، وقد عالج هذه المسألة بتوسع وإحاطة شيخ الإسلام أحمد بن تيميه في كتابه ( درء تعارض العقل والنقل) فإن وقع في الظاهر فلا بد أن هناك خللاً في اعتبار قطعية أحدهما.
وأما الصورة الثانية: فإن أمكن الجمع بينهما وجب حمل النظم الكريم عليهما، وإن تعذر الجمع قدم التفسير المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، إن ثبت من طريق صحيح، وكذا يقدم ما صح عن الصحابة ؛ لأن ما صح نسبته إلى الصحابي في التفسير فالنفس إليه أميل، لاحتمال سماعه من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولما امتاز به من الفهم الصحيح والعمل الصالح.
وأما الصورة الثالثة: فالقطعي منهما مقدم على الظني إذا تعذر الجمع ولم يمكن التوفيق أخذاً بالأرجح وعملاً بالأقوى([56]).
8- الابتعاد عن بقية الأخطاء التي وقعت في بعض كتب التفسير العلمي، كإيداع طنطاوي جوهري الكثير من صور الحيوانات والمناظر الطبيعية في تفسيره، واعتماده على ما جاء عن أفلاطون في جمهوريته أو عن إخوان الصفا. أو غير ذلك من الأخطاء التي وقعت وأشرنا إليها في المبحث السابق.
هذه هي أهم الشروط التي يجب مراعاتها عن تفسير الآيات القرآنية تفسيراً علمياً.
وكلمة الختام لهذه الشروط أن التفسير العلمي حتى مع استيفائه جميع الشروط التي تجعله محموداً ، لا مسوغ له إذا عارضه التفسير المأثور الذي ثبت بالنص القطعي؛ لأن التفسير العلمي رأي، والرأي اجتهاد ولا مجال للاجتهاد في مورد النص ـ كما قرر علماء الأصول ـ أما إذا لم يكن تعارض بين التفسير العلمي والتفسير المأثور فكل منهما يؤيد الآخر ويثبته وهذا أكثر ما نجده في تفسير أهل الاعتدال في هذا المجال.
والحمد لله رب العالمين الموفق الهادي إلى الصراط المستقيم
---الحواشي ----------------------
([1] ) لسان العرب (5/3412) طبعة دار المعارف الجديدة المحققة القاهرة.
([2] ) التسهيل لعلوم التنزيل (1/6) محمد بن أحمد بن جزي الكلبي، دار الفكر.
([3] ) البحر المحيط (1/13، 14) للشيخ محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان، دار الفكر.
([4] ) التسهيل (1/7).
([5] ) لسان العرب (مادة علم) (4/3083) ومختار الصحاح (ص189).
([6] ) انظر كتاب التعريفات للجرجاني (ص199) دار الكتاب العربي.
([7] ) التفسير والمفسرون (2/474) محمد حسين الذهبي.
([8] ) دائرة المعارف الإسلامية (5/357) طبعة إيران.
([9] ) انظر اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر (2/548) للدكتور فهد الرومي، الطبعة الأولى، 1986م. ولمحات في علوم القرآن للشيخ محمد الصباغ (ص203) نشر المكتب الإسلامي، بيروت، 1394هـ، واتجاهات التفسير في العصر الراهن (ص247) للدكتور عبدالمجيد المحتسب، الطبعة الثالثة، 1982م، مكتبة النهضة الإسلامية، عمان.
([10] ) انظر الدكتور فهد الرومي في اتجاهات التفسير (5/449) والدكتور عبدالقاهر العاني في بحث التفسير العلمي للقرآن معالمه وضوابطه (ص 214، 219) المنشور في كتاب الدراسات الإسلامية، الندوة الأولى للدراسات الإسلامية للجامعات العربية، جامعة أم درمان، المنعقدة بتاريخ 11- 18 شباط 1987م.
([11]) المعجزة العلمية للقرآن والسنة (ص25) نشر رابطة العالم الإسلامي.
([12]) بحث اـتفسير العلمي معالمه وضوابطه (ص214، 229).
([13]) البيان في إعجاز القرآن (ص266) للدكتور صلاح الخالدي، دار عمار عمان.
([14]) انظر لسان العرب مادة (عجز) صفحة (2817).
([15]) انظر معنى ذلك في تفسير القرطبي (1/69) وفتح الباري (6/581).
([16]) المعجزة العلمية في القرآن والسنة صفحة (14).
([17]) ملخص بحث الإعجاز العلمي في القرآن المسمى (القول القويم في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم) صفحة (47) للدكتور علي محمد نصر، مؤتمر الإعجاز العلمي للقرآن والسنة إسلام آباد.
([18]) انظر المعجزة العلمية في القرآن والسنة صفحة (25) ومناهل العرفان (1/567).
([19]) التسهيل (2/5).
([20]) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة، باب (1) حديث (7274).
ورواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان باب (70) حديث (239) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([21]) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (2/188) الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت، لبنان، وفتح الباري (19/7) للإمام ابن حجر العسقلاني، شركة الطباعة الفنية المتحدة.
([22]) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، رواه الترمذي في كتاب الفتن باب (49) حديث (2499) وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، حديث (4251) قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي ابن مسعودة عن قتادة، ولكن أشار السيوطي إلى صحته في الجامع الصغير (2/92) والشيخ الألباني أشار إلى حسنه في صحيح الجامع الصغير وزياداته (2/831).
([23]) انظر في ظلال القرآن (1/183-184) والإسلام دعوة عالمية صفحة ( 204-207) لعباس محمود العقاد.
([24]) اتجاه التفسير في العصر الحديث صفحة (299، 301).
([25]) اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث (390).
([26]) تفسير جزء عم صفحة (158) للشيخ محمد عبده. وانظر تفسير المراغي (10/243، 244) الطبعة الثالثة، دار الفكر، 1974.
([27]) انظر القرطبي (2/193) والجلالين (622) وابن كثيير (4/551) وروح المعاني (3/238) البحر المحيط (8/514) معاني القرآن للفراء (3/292). وابن جزي (4/218) وصفوة التفاسير (3/650) ومعالم التنزيل للبغوي (4/105) وغيرها من الكتب الكثيرة.
([28]) انظر التفسير والمفسرون (2/569) وفي ظلال القرآن (3/3976) اتجاهات التفسير في العصر الراهن صفحة 266.
([29]) انظر الإتقان في علوم القرآن (2/231) وروح المعاني (1/5) تفسير القرآن الكريم صفحة 11 للشيخ محمود شلتوت.
([30]) انظر التفسير والمفسرون 2/ 569, للدكتور الذهبي, وأصول التفسير وقواعده، ص 253، للشيخ خالد عبدالرحمن العك.
([31]) الجواهر، 1/84-89.
([32]) اتجاه التفسير في العصر الحديث ص5.
([33]) انظر مقدمة في أصول التفسير 9/ 31،ابن تيمية المكتبة العلمية، ومناهل العرفان 1/ 366.
([34]) روح المعاني1/5.
([35]) الإتقان في علوم القرآن 2/231.
([36]) المرجع السابق 2/ 229.
([37]) المرجع السابق 2/ 231, روح المعاني 1/5.
([38]) المرجع السابق 2/ 231.
([39]) التسهيل 1/8.
([40]) مقدمة في أصول التفسير ص 9.
([41]) البرهان في علوم القرآن 2/172, الإمام الزركشي, تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم, الناشر عيسى الحلبي وشركاه.
([42]) انظر المنارص21-22.
([43]) المستصفى في علم الأصول1/359 للإمام الغزالي مطبوع مع كتاب فواتح الرحموت- دار الفكر للطباعة والنشر بيروت.
([44]) التسهيل لعلوم التنزيل 1/9.
([45]) البرهان في علوم القرآن 2/179.
([46]) مناهل العرفان 1/528.
([47]) الإتقان2/233.
([48]) رواه ابن جرير بسند عن ابن عباس في جامع البيان, 1/34, ورواه الترمذي بلفظ (ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) في كتاب تفسير القرآن, باب الذي يفسر القرآن برأيه, 2951, وقال هذا حديث حسن.
([49]) الإتقان 2/234.
([50]) التعريف بالقرآن والحديث ص191, للشيخ محمد الزفزاف .
([51]) القرآن ينبوع العلوم والعرفان للسيد على فكري, الطبعة الثانية، 1951م
([52]) انظر المعجزة الكبرى القرآن ص523, الشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر, ومناهل العرفان 1/17, وضوابط الكتابة في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ص10، للدكتور رزق الطويل.
([53]) انظر بحث التفسير العلمي للقرآن معالمه وضوابطه ص215, للدكتور عبد القهار العاني, والبيان في إعجاز القرآن ص264-266, للدكتور صلاح عبدالفتاح الخالدي.
([54]) التفسير العلمي للآيات الكونية ص43-44.
([55]) مقدمة في أصول التفسير6, لابن تيمية.
([56]) انظر مناهل العرفان1/532, وأصول التفسير وقواعده, للشيخ خالد العك, ص190- 191, وبحث المعجزة العلمية في القرآن والسنة ص 26-27، للشيخ عبد المجيد الزنداني.