المنهجية العلمية في المحاجة عند المفسرين

إنضم
07/03/2012
المشاركات
71
مستوى التفاعل
1
النقاط
8
الإقامة
مكة المكرمة
[FONT=&quot]المنهجيةالعلمية في المحاجة عند المفسرين[/FONT]​
[FONT=&quot]أ.د.ابتسام بنت بدر الجابري[/FONT]​
[FONT=&quot]أستاذالتفسير وعلوم القرآن الكريم [/FONT]​
[FONT=&quot]جامعةأم القرى
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد؛
فإن بحثي هذا حول كيفية الوصول إلى المنهجية العلمية الأصيلة، والتي ينبغي امتثالها من جانب طلبة العلم الشرعي، وخاصة ممن تعلم خير العلوم، وهو علم تفسير كتاب الله في جانب الرد الموضوعي تجاه خطأ الآخر، والتي صورتها ردود المفسرين السابقين على بعضهم في ضوء كتبهم.
ومنهجي في البحث: أولًا: تمهيد عن الهدف من المحاجة ومناقشة الآراء والترجيح عند المفسرين.
ثانيًا: تعريف المحاجة لغة واصطلاحًا وعند المفسرين.
ثالثًا: آداب المحاجة، مع ذكر تأصيل للأدب في ضوء القرآن الكريم.
والاستشهاد لكل أدب بجملة من نماذج ردود المفسرين، ومحاجتهم على بعضهم من خلال كتبهم والتعليق عليها إذا لزم، وهي على النحو الآتي:
1- الموضوعية.
2- التثبت قبل إصدار الحكم.
3- الصدق في النقل.
4- الأمانة العلمية.
5- عدم التعميم.
6- الثناء على الطرف الآخر بما فيه.
7- عدم استعداء الرأي الآخر.
8- عدم السباب والشتم والتلطف ما أمكن.
9- التركيز على الصفات أكثر من التعرض للأسماء.
10- التنازل عن الحوار ما أمكن.
تمهيد:
الهدف من المحاجة ومناقشة الآراء والترجيح عند المفسرين :
لا بد أن يكون الهدف من المحاجة هو طلب الحق، وعند طلب الحق ينبغي أخذ النفس بالأدب، ومراعاة الخلق، والتحرز من فلتات اللسان، وفي هذا يقول العلماء:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه (الجواب الكافي):
(..ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه)http://vb.tafsir.net/#_edn1
وقال ابن كثير: ({ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا } أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب) فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم. فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا. فإن صحح غير الصحيح عامدًا فقد تعمد الكذب، أو جاهلًا فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالًا متعددة لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب).[ii]
وقال الشوكاني في قوله تعالى: ({ وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق }، فأما الجدال لاستيضاح الحقّ، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح، والمرجوح، وعن المحكم، والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردّهم بالجدال إلى المحكم، فهو من أعظم ما يتقرّب المتقرّبون).[iii]
وفي ذكر صفة مناظرة هذا العالم العاقل إذا احتاج إلى مناظرة قال محمد بن الحسين: «اعلموا رحمكم الله، ووفقنا وإياكم للرشاد، أن من صفة هذا العالم العاقل الذي فقهه الله في الدين، ونفعه بالعلم، أن لا يجادل، ولا يماري، ولا يغالب بالعلم إلا من يستحق أن يغلبه بالعلم الشافي، وذلك يحتاج في وقت من الأوقات إلى مناظرة أحد من أهل الزيغ، ليدفع بحقه باطل من خالف الحق، وخرج عن جماعة المسلمين، فتكون غلبته لأهل الزيغ تعود بركة على المسلمين، على الاضطرار إلى المناظرة، لا على الاختيار لأن من صفة العالم العاقل أن لا يجالس أهل الأهواء، ولا يجادلهم، فأما في العلم والفقه وسائر الأحكام فلا. فإن قال قائل: فإن احتاج إلى علم مسألة قد أشكل عليه معرفتها، لاختلاف العلماء فيها، لابد له أن يجالس العلماء ويناظرهم حتى يعرف القول فيها على صحته، وإن لم يناظر لم تقوى معرفته؟ قيل له: بهذه الحجة يدخل العدو على النفس المتبعة للهوى، فيقول: إن لم تناظر وتجادل لم تفقه، فيجعل هذا سببًا للجدال والمراء المنهي عنه، الذي يخاف منه سوء عاقبته، الذي حذرناه النبي صلى الله عليه وسلم، وحذرناه العلماء من أئمة المسلمين وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ترك المراء وهو صادق، بنى الله له بيتًا في وسط الجنة»، وعن مسلم بن يسار أنه كان يقول: «إياكم والمراء، فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته وعن الحسن قال: (ما رأينا فقيهًا يماري)، وعن الحسن أيضًا قال: (المؤمن يداري، ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله).
وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: (إذا أحببت أخًا فلا تماره، ولا تشاره، ولا تمازحه) قال محمد بن الحسين: (وعند الحكماء: أن المراء أكثره يغير قلوب الإخوان، ويورث التفرقة بعد الألفة، والوحشة بعد الأنس، وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» فالمؤمن العالم العاقل يخاف على دينه من الجدل والمراء. فإن قال قائل: فما يصنع في علم قد أشكل عليه؟ قيل له: إذا كان كذلك، وأراد أن يستنبط علم ما أشكل عليه، قصد إلى عالم ممن يعلم أنه يريد بعلمه الله، ممن يرتضى علمه وفهمه وعقله، فذاكره مذاكرة من يطلب الفائدة وأعلمه أن مناظرتي إياك مناظرة من يطلب الحق، وليست مناظرة مغالب، ثم ألزم نفسه الإنصاف له في مناظرته، وذلك أنه واجب عليه أن يحب صواب مناظره، ويكره خطأه، كما يحب ذلك لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ويعلمه أيضًا: إن كان مرادك في مناظرتي أن أخطئ الحق، وتكون أنت المصيب ويكون أنا مرادي أن تخطئ الحق وأكون أنا المصيب، فإن هذا حرام علينا فعله، لأن هذا خلق لا يرضاه الله منا، وواجب علينا أن نتوب من هذا. فإن قال: فكيف نتناظر؟ قيل له: مناصحة، فإن قال: كيف المناصحة؟ أقول له: لما كانت مسألة فيما بيننا أقول أنا: إنها حلال، وتقول أنت: إنها حرام، فحكمنا جميعًا أن نتكلم فيها كلام من يطلب السلامة، مرادي أن ينكشف لي على لسانك الحق، فأصير إلى قولك، أو ينكشف لك على لساني الحق، فتصير إلى قولي مما يوافق الكتاب والسنة والإجماع، فإن كان هذا مرادنا رجوت أن تحمد عواقب هذه المناظرة، ونوفق للصواب، ولا يكون للشيطان فيما نحن فيه نصيب. ومن صفة هذا العالم العاقل إذا عارضه في مجلس العلم والمناظرة بعض من يعلم أنه يريد مناظرته للجدل، والمراء والمغالبة، لم يسعه مناظرته، لأنه قد علم أنه إنما يريد أن يدفع قوله، وينصر مذهبه، ولو أتاه بكل حجة مثلها يجب أن يقبلها، لم يقبل ذلك، ونصر قوله. ومن كان هذا مراده لم تؤمن فتنته، ولم تحمد عواقبه. ويقال لمن مراده في المناظرة المغالبة والجدل: أخبرني، إذا كنت أنا حجازيًا، وأنت عراقيًا، وبيننا مسألة على مذهبي، أقول: إنها حلال، وعلى مذهبك إنها حرام، فسألتني المناظرة لك عليها، وليس في مناظرتك الرجوع عن قولك، والحق عندك أن أقول فيها قولك، وكان عندي أنا أن أقول، وليس مرادي في مناظرتي الرجوع عما هو عندي، وإنما مرادي أن أرد قولك، ومرادك أن ترد قولي، فلا وجه لمناظرتنا، فالأحسن بنا السكوت على ما تعرف من قولك، وعلى ما أعرف من قولي، وهو أسلم لنا، وأقرب إلى الحق الذي ينبغي أن نستعمله. فإن قال: وكيف ذلك؟ قيل: لأنك تريد أن أخطئ الحق، وأنت على الباطل، ولا أوفق للصواب، ثم تسر بذلك، وتبتهج به، ويكون مرادي فيك كذلك، فإذا كنا كذلك، فنحن قوم سوء، لم نوفق للرشاد، وكان العلم علينا حجة، وكان الجاهل أعذر منا.
قال محمد بن الحسين: وأعظم من هذا كله أنه ربما احتج أحدهما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصمه، فيردها عليه بغير تمييز، كل ذلك يخشى أن تنكسر حجته، حتى إنه لعله أن يقول بسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة، فيقول: هذا باطل، وهذا لا أقول به، فيرد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه بغير تمييز. ومنهم من يحتج في مسألة بقول صحابي، فيرد عليه خصمه ذلك، ولا يلتفت إلى ما يحتج عليه، كل ذلك نصرة منه لقوله، لا يبالي أن يرد السنن والآثار.
قال محمد بن الحسين: من صفة الجاهل، الجدل، والمراء، والمغالبة، نعوذ بالله ممن هذا مراده.
ومن صفة العالم العاقل: المناصحة في مناظرته، وطلب الفائدة لنفسه ولغيره، كثر الله في العلماء مثل هذا، ونفعه بالعلم، وزينه بالحلم)[iv].
وقد التزم بعض المفسرين هذا المنهج الأمثل، وخالف بعضهم، والتزمه بعضهم في مواضع ،وخالفه في مواضع أخرى.

تعريف المحاجة:
لغة: قال الفيروزأبادي: (الحج: القصد، والكف، والقدوم، وسبر الشجة. بالمحجاج: بالمسبار، والغلبة بالحجة، وكثرة الاختلاف، والتردد، وقصد مكة للنسك ..والتحاج :التخاصم).[v]
وحاجّه محاجّة وحِجاجًا: جادله.[vi]
وقال أبو حيان: (المحاجة مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يدلي كل منهما بحجته على صحة دعواه).[vii]
وقال الراغب: (والمحاجة أن يطلب كل واحد أن يرد الآخر عن حجته ومحجته).[viii]
قال الطبري: ({ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } [الأنعام: 80]، قال إبراهيم: "أتحاجوني في الله"، يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة).[ix]
وقال ابن كثير:( في قول الله تعالى مرشدًا نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين: { قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ } [يونس: 41] أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } المتصرف فينا وفيكم... وقال تعالى إخبارًا عن إبراهيم { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 80] وقال { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } الآية[ البقرة : 258]). [x]
وقال ابن كثير: (أيضًا (يقول تعالى: وجادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد، وناظروه بشبه من القول، قال { قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } أي: تجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا هو، وقد بصرني وهداني إلى الحق وأنا على بينة منه؟ فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة؟!).[xi]

وقال الألوسي: (في { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ } أي خاصموه كما قال الربيع أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد وأخرى بالتخويف والتهديد { قَالَ } منكرًا عليهم محاجتهم له عليه السلام مع قصورهم عن تلك المرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم ووضوح الحق { أَتُحَاجُّونّى فِى الله } أي في شأنه تعالى ووحدانيته سبحانه).[xii]
إذًا من خلال ما سبق يتبين لنا أن المحاجة تعني: المناقشة والمناظرة والمجادلة والمغالبة والرد عند الخلاف.
آداب المحاجة:
1-الموضوعية، هي تخلي الإنسان عن عواطفه وانفعالاته وموروثاته التي يقوم عليها دليل نقلي أو عقلي تجاه مسألة يحتاج فيها إلى أخذ قرار، وإصدار حكم شريطة أن تكون القضية موضع الطرح مما تختلف فيها الأفهام ويقبل فيها النقاش.[xiii]
فلا بد أن يكون منصفًا فلا يرد حقًا، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها المخالف وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق.[xiv]
قال تعالى {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} [الأنعام: 152]
وقوله { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: 8]
وفي هذه الآيات دلالة على لزوم العدل والموضوعية ولو كان الحق على ذوي القربى، أو مع قوم هو شديد البغض لهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في كتابه (منهاج السنة النبوية): (وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصم، فلا يستحضر ما لله ولرسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضى الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وأنه الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعًا أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله ولم يكن مجاهدًا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة؟).[xv]
قال العلامة ابن القيم رحمه الله كما في (إعلام الموقعين): (اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة).[xvi]
مثاله
قال الشوكاني في رده على المعتزلة: (في قوله: { أرني أنظر إليك } أي أرني نفسك أنظر إليك: أي سأله النظر إليه اشتياقًا إلى رؤيته لما أسمعه كلامه وسؤال موسى للرؤية يدل على أنها جائزة عنده في الجملة ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها والجواب بقوله: { لن تراني } يفيد أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه أو أنه لا يرى ما دام الرائي حيًا في دار الدنيا وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبتت بالأحاديث المتواترة تواترًا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة ومنهج الحق واضح ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه آباءه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب والمتعصب وإن كان بصره صحيحًا فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلاَ بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع فإنه صار بها باب الحق مرتجًا وطريق الإنصاف مستوعرة والأمر لله سبحانه والهداية منه :
(يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح).[xvii]
و قال ابن القيم: ( فسيبويه رحمة الله ممن يؤخذ من قوله ويترك وأما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا وسنفرد إن شاء الله كتابًا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد).[xviii]
2-التثبت والروية قبل إصدار الحكم:
فتثبتوا بالثاء المثلثة، والباقون: فتبينوا. وكلاهما تفعل بمعنى استفعل التي للطلب، أي: اطلبوا إثبات الأمر وبيانه، ولا تقدموا من غير روية وإيضاح. وقال قوم: تبينوا أبلغ وأشد من فتثبتوا، لأن المتثبت قد لا يتبين. وقال الراغب: لأنه قلما يكون إلا بعد تثبت، وقد يكون التثبت ولا تبين، وقد قوبل بالعجلة في قوله عليه السلام: {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ}. وقال أبو عبيد هما: متقاربان. قال ابن عطية: والصحيح ما قال أبو عبيد، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان، بل يقتضي محاولة للتبين، كما أنّ تثبت يقتضي محاولة للتبين، فهما سواء. وقال أبو علي الفارسي: التثبت هو خلاف الإقدام، والمراد: التأني، والتثبت أشد اختصاصًا بهذا الموضع. ومما يبين ذلك قوله: (وَأَشَدَّ تَثْبِيتا
يجب علينا جميعًا أن نتثبت في كل ما ينقل إلينا عن إخواننا خاصة، ولانعتمد على (قيل لي) و (زعموا) و (بلغني) الخ[xix]
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ونقل الكلام في الآخرين من دون تثبت فيه إثم عظيم على صاحبه، قال عز وجل - في حق الذين خاضوا في اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة - {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقد أنكر الله عز وجل على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وقد لا يكون لها صحة فقال عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}
قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية: (فيه إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة). [xx]
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في كتابه (الاتباع): (والقول قد يكون مخالفًا للنص وقائله معذور، فإن المخالفة بتأويل لم يسلم منها أحد من أهل العلم، وذلك التأويل- وإن كان فاسدًا- فصاحبه مغفور له لحصوله على اجتهاد، فإن المجتهد إذا اجتهد وأصاب فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق؛ وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر على اجتهاده وخطأه مغفور له، فمخالفته النص إن كانت عن قصد فهي كفر وإن كانت عن اجتهاد فهي من الخطأ المغفور) اهـ.[xxi]
وقال ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين): (وكيف يُعصم من الخطأ من خُلق ظلومًا جهولًا، ولكن من عُدَّت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته).[xxii]
قال ابن حبان رحمه الله في كتابه (الثقات): (قال أبو حاتم رضي الله تعالى عنه لسنا ممن يوهم الرعاع مالا يستحله ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفا بل نعطي كل شيخ حظه مما كان فيه ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح أدخلنا زفرا وأبا يوسف بين الثقات لما تبين عندنا من عدالتهما في الأخبار وأدخلنا من لا يشبههما في الضعفاء مما صح عندنا مما لا يجوز الاحتجاج).[xxiii]
مثاله
ماذكره ابن كثير: (هذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أربعون سنة.
هكذا رواه من هذا الوجه، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير. ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ستون سنة.
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا، لما ثبت في ذلك من الحديث -كما سنورده-لا كما زعمه ابن جرير، من أن الحديث لم يصح؛ لأن في إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره).[xxiv]
وقال الشنقيطي في معرض ذكره لحكم زكاة الحلي (سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمُنَاقَشَةَ أَدِلَّتِهِمَا عَلَى الطُّرُقِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأُصُولِ، وَعِلْمِ الْحَدِيثِ; لِيَتَبَيَّنَ لِلنَّاظِرِ الرَّاجِحُ مِنَ الْخِلَافِ).[xxv]
3- الصدق في النقل:
هي منهج علمي تبنى عليه الأحكام، وتتخذ من خلاله المواقف وهو جزء من التثبت الذي سبق الحديث عنه [xxvi]
وكما أنه يعبر عن أفكار القائل ومواقفه وأحكامه وخلقه، لذا يعد ضرورة ملحة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وهذا الصدق يتضح للقارئ والمحقق عندما يقارن في التحقيق مثلًا قول المفسرين من خلال كتبهم مع من نقلوا عنهم أقوالهم وهي كثيرة جدًا
ويلتزم فيها الناقل الصدق في النقل وإن كان مخالفًا له.
مثاله
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ آل عمران : 35 ]
قال ابن عطية: (قال الطبري : العامل في { إذ } قوله { سميع } فهو عطف على قوله: { إذ قالت امرأة عمران } [ آل عمران : 35 ] ، وقال كثير من النحاة: العامل في { إذ } في هذه الآية فعل مضمر تقديره « واذكر » وهذا هو الراجح لأن هذه الآيات كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة محمد عليه السلام، مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام)[xxvii]
ولو راجعنا قول الطبري (يعني بقوله جل ثناؤه: "إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني"، فـ"إذْ" من صلة"سميع").[xxviii]
4-الأمانة العلمية:
لقد اعتنى الإسلام بحفظ حقوق الناس عامة، سواء كانت مادية أم معنوية، قال تعالى { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } [الشعراء: 183] ومن الحقوق المعنوية هي أفكار الناس ومقولاتهم، وهذه لابد من مراعاة الأمانة في النقل عنهم، وإثبات نسبة هذا المنقول إليهم.
وتلحظ هذا المنهج الرائع في كتب التفسير بالمأثور التي نقلت لنا بدقة متناهية نسبة الأقوال والأسانيد كتفسير ابن جرير الطبري والدر المنثور للسيوطي
وإليك مثالًا في قوله تعالى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ } [البقرة: 238]
فقد ذكر ابن جرير خمسة أقوال وعدد كبير من الأسانيد لكل قول
1-العصر من 5380-5445 يعني 65 سند في قول واحد
2-الظهر من 5446-5470 يعني 24
3-المغرب 5471
4-الفجر من 5472-5489 يعني 17
5-هي إحدى الصلوات ولا نعرفها بعينها من 5490-5492
فهذه 109 سند في تأويل واحد
وتأمل الدقة في الذكر حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال: أخبرنا أبو صخر: أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري يقول: سألت علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى فقال: هي صلاة العصر، وهي التي فتن بها سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم. فهنا ذكر حدثني وحدثنا وأخبرنا وسمع وسمعت وسألت وكل ذلك له معنى وأثر.[xxix]
5-عدم التعميم عند إصدار الأحكام:
هذه منهجية قرآنية عظيمة { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [النجم: 38].
{ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة: 75] فريق منهم ليس كلهم.
والمتأمل في القرآن الكريم يلحظ هذه المنهجية والتي تؤكد على النهي عن هذا التعميم حتى مع الكفار وأهل الكتاب والمنافقين ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس: 40]، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49]، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]
مثاله
قال الشوكاني: في قوله تعالى: { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } [يوسف: 67]، وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم والبلخي أن للعين تأثيرًا وقالا: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقًا به وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم وأي مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه.[xxx]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، قال الألوسي: ذهب شيخ الإسلام وأشار إلى أن الباء للسببية وإن المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال، وذكر أنه ينبىء عن ذلك الجملة الثانية؛ ولعل جعل كل جملة إشارة إلى شيء حسبما أشرنا إليه أولى.
واستدل بالأولى بعض الأشاعرة على أن أفعال العباد مطلقًا مخلوقة له تعالى لدخولها فيما بينهما، وزعم بعض المعتزلة الرد بها على القائلين بذلك لأن المعاصي من الأفعال باطلة فإذا كانت مخلوقة له سبحانه لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقًا بالحق، وهو كلام خال عن التحقيق.[xxxi]
6-الثناء على الطرف الآخر بما فيه:
وإن خالفه لا يعني ذلك أن لا يثني عليه بما هو فيه، وهذا من العدل والإنصاف، ومما يعين على صفاء النفوس وسلامتها.
وهذا منهج قرآني عظيم، فالقرآن يذكر محاسن القوم الذي يحاورهم ويحاجهم
قال تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199]
وقوله تعالى: { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113-114]
مثاله
قال ابن القيم في الآيات السابقة: (فإن هؤلاء ليس المراد بهم المتمسك باليهودية والنصرانية بعد محمد قطعًا فإن هؤلاء قد شهد لهم بالكفر وأوجب لهم النار فلا يثنى عليهم بهذا الثناء وليس المراد به من آمن من أهل الكتاب ودخل في جملة المؤمنين وباين قومه فإن هؤلاء لا يطلق عليهم إنهم من أهل الكتاب إلا باعتبار ما كانوا عليه وذلك الاعتبار قد زال بالإسلام واستحدثوا اسم المسلمين والمؤمنين وإنما يطلق الله سبحانه هذا الاسم على من هو باق على دين أهل الكتاب هذا هو المعروف في القرآن كقوله تعالى يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ونظائره) [xxxii]
مثال آخر:
قال السمعاني في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [الأحزاب:72]، والقول الثالث ذكره الزجاج وغيره من أهل المعاني قالوا: إن الله تعالى ائتمن آدم وأولاده على شيء، وأتمن السموات والأرض والجبال على شيء، فأما الأمانة في حق بني آدم معلومة، وأما الأمانة في حق السموات والأرض والجبال فهو بمعنى الخضوع والطاعة.. قال الأزهري: وقد أحسن وأجاد أبو إسحاق الزجاج في هذا القول وأثنى عليه، وقول السلف ما بينا من قبل.[xxxiii]
قال أبو حيان فيما قال الزمخشري في قوله تعالى: { وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132]،:( وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها غير موضعها، ويحسب مهما بمعنى متى ،ما ويقول مهما جئتني أعطيتك وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية في شيء ثم يذهب فيفسر {مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ} بمعنى الوقت فيلحد في آيات اللّه تعالى وهو لا يشعر وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه انتهى .. وللزمخشري قصيد يمدح به سيبويه وكتابه وهذا يدلّ على أنه ناظر في كتاب سيبويه بخلاف ما كان يعتقد فيه بعض أصحابنا من أنه إنما نظر في نتف من كلام أبي علي الفارسي وابن جني وقد صنف أبو الحجاج يوسف بن معزوز كتابًا في الردّ على الزمخشري في كتاب المفصل والتنبيه على أغلاطه التي خالف فيها إمام الصناعة أبا بشر عمرو بن عثمان سيبويه رحم اللّه جميعهم).[xxxiv]
7-عدم استعداء الطرف الآخر عند الجدال:
في موطن المناقشة والمناظرة والخلاف قد تحتد النفوس، فتسيء الأطراف إلى بعضها، وتستدعي فتجرح، ومن هنا كانت أهمية مراعاة الطرف الآخر وعدم استعدائه، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]
{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه:44]
مثاله
اتفاق المفسرين، أو بعضهم على قول واحد وإن اختلفوا في مناهجهم، مما يدل على عدم استعداءهم للرأي الآخر.
ومن ذلك قول ابن الجوزي في سورة الضحى: ( وهي مكية كلها بالإجماع
اتفق المفسرون على أن هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدة )[xxxv]
وهذا ابن العربي وهو مالكي يقول: (في قَوْله تَعَالَى: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، وَحَضَرٍ وَسَفَرٍ، وَقُدْرَةٍ وَعَجْزٍ، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، لَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَى فَرْضِيَّتِهَا اخْتِلَالٌ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } .
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَالِ الْخَوْفِ: { فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا} .
{ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ}، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ الصَّلَاةَ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا إلَّا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَلَزِمَ فِعْلُهَا؛ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَرَكَةِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا بِالرُّخَصِ الضَّعِيفَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى: إنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ.
وَقَالُوا فِيهَا: إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِبَدَنٍ وَلَا مَالٍ، يُقْتَلُ تَارِكُهَا، وَأَصْلُهُ الشَّهَادَتَانِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْقِتَالَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ).[xxxvi]
وكذا قد يتفق بعض أئمة النحو من أصحاب كتب معاني القرآن وإعرابه كالزجاج والفراء وغيرهم على معنى واحد فلا استعداء لأحدهم على قول الآخر.
مثاله قال الشوكاني في قوله تعالى: { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19]:) وقد وافق الزجاج على ذلك أبو علي الفارسي والفراء وغيرهما والمعنى: أنها لا تملك نفس من النفوس لنفس أخرى شيئا من النفع أو الضر)[xxxvii]
وكثيرا ما يتفق المفسرون على القول الواحد.
وقد يوافق المفسر الآخر في موضع ويخالفه في آخر فلا استعداء مطلق لرأي الآخر.
ومثاله قول ابن كثير: (في قوله تعالى: { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، قال قتادة: أي بسبب ما أشركتمون من قبل.
وقال ابن جرير: يقول: إني جحدت أن أكون شريكًا لله، عز وجل.
وهذا الذي قال هو الراجح كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 5، 6])[xxxviii]
وفي موضع آخر يقول: (يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين أنهم { ثُلَّةٌ} أي: جماعة { مِنَ الأوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}. وقد اختلفوا في المراد بقوله: { الأوَّلِينَ }، و { الآخِرِينَ}. فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، والآخرين: هذه الأمة. هذا رواية عن مجاهد، والحسن البصري، رواها عنهما ابن أبي حاتم. وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" . ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد.
الآخِرِينَ } ، قال عمر: يا رسول الله، ثلة من الأولين وقليل منا؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزل: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمر، تعال فاسمع ما قد أنزل الله: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} ...
وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا، فيه نظر، بل هو قول ضعيف؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة. والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم، والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام، هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله: { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ } أي: من صدر هذه الأمة، { وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ } أي: من هذه الأمة).[xxxix]
فهنا ابن كثير وافق الطبري في موضع وخالفه في آخر.
8-عدم السباب والشتم والتلطف ما أمكن.
قال تعالى: { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } [الحج: 24]
(الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) هو كلمة التوحيد والنطق بالشهادتين وتسبيح الله تعالى وتحميده وتكبيره وغير ذلك من القول الحسن والسباب والشتم ليس من الطيب من القول.
ينبغي أن لا ينسى أو يتناسى العلماء أن سباب المسلم فسوق، ومن فقه الخلاف حرص على التأدب مع المخالف، والسباب والشتم من أسوأ الصور الناتجة عن الخلاف، ولا تليق بين غير العلماء، فكيف بمن كان من العلماء، ويعظم أكثر عندما يكون بين علماء كتاب الله وتفسيره.
مثاله
قال القاضي أبو محمد في قوله تعالى (بلغ أشده): ( وليس هذا بالأشد المقرون ببلوغ الأربعين، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير وتلك الأشد هي التجارب والعقل المحنك، ولكن قد خلطهما المفسرون، وقال ربيعة والشعبي ومالك فيما روي عنه وأبو حنيفة، « بلوغ الأشد » البلوغ مع أن لا يثبت سفه، وقال السدي: « الأشد » ثلاثون سنة، وقالت فرقة ثلاثة وثلاثون سنة، وحكى الزجاج عن فرقة ثمانية عشر سنة، وضعّفه ورجح البلوغ مع الرشد وحكى النقاش أن « الأشد » هنا من خمسة عشر إلى ثلاثين، والفقه ما رجح الزجّاج، وهو قول مالك رحمه الله الرشد وزوال السفه مع البلوغ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع)[xl]
فهنا القاضي لم يتعرض بالسباب للمفسرين ولم يعيب أحدًا منهم، بل ذكر أن ذلك حصل منهم بسبب الخلط، وامتدح فقه الزجاج رحمة الله عليهم أجمعين
وتأمل تلطفه أيضًا في العبارة وتجنبه السباب في موضع آخر حيث قال: (واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } [النساء: 137]، فقالت طائفة منهم قتادة وأبو العالية: الآية في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورجح الطبري هذا القول، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت { آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [ آل عمران : 72 ] وقال مجاهد وابن زيد: الآية في المنافقين، فإن منهم من كان يؤمن ثم يكفر، ثم يؤمن ثم يكفر، يتردد في ذلك، فنزلت هذه الآية فيمن ازداد كفرًا بأن تم على نفاقه حتى مات.
قال القاضي: وهذا هو القول المترجح، وقول الحسن بن أبي الحسن جيد محتمل، وقول قتادة وأبي العالية وهو الذي رجح الطبري قول ضعيف، تدفعه ألفاظ الآية )[xli]
وهذا الطبري يقول في توجيه قول من خالف رأيه: (توجيه قوله { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك).[xlii]
فاعتذر له بالظن.
9- التركيز على الصفات أكثر من التعرض للأسماء.
عندما يكون التركيز على الصفات، تكون لذلك فائدة عظيمة في رد الخطأ، وفي نفس الوقت عدم قصر الخطأ وربطه بالأسماء، فقد يرتكب هذه الأخطاء جماعات وليس أشخاص، فالتركيز على الخطأ يعطي قوة أكبر في رده، وهذا هو منهج قرآني. فمثلًا المتأمل لسورة التوبة والتي تسمى الفاضحة يرى العديد من الصفات التي هي سمة المنافقين دون ذكر للأسماء، كما أن في هذا فرصة أكبر لرجوع المخطىء للصواب، ويعتبر خط رجعة مناسب لأولئك.
مثاله
قول ابن القيم في قوله تعالى: { الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } [النساء: 1]: (وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره
وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا بالجر أنه قسم ومثل قول بعضهم في قوله تعالى وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في المقيمين مجرور بواو القسم ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفه والمعهود من معانيه فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانًا وبسطًا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله )[xliii]
قال أبو السعود في قوله تعالى: { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } أي حفظَهُ واتَّعظَ بهِ ومن رغبَ عنهَا كما فعلَ المستغنيُّ فلا حاجةَ إلى الاهتمامِ بأمرِه فالضميرانِ للقرآنِ وتأنيثُ الأولُ لتأنيثِ خبرِه وقيلَ: الأولُ للسورةِ أو للآياتِ السابقةِ والثانِي للتذكرةِ والتذكيرِ لأنها في مَعْنى الذكرِ والوعظِ وليسَ بذلكَ فإن السورةَ والآياتِ وإن كانتْ متصفةً بما سيأتِي من الصفاتِ الشريفةِ لكنها ليستْ مما أُلقي على من استغنى عنه واستحقَ بسببِ ذلكَ ما سيأتِي من الدعاءِ عليهِ والتعجبِ من كفرِه المفرطِ لنزولِها بعد الحادثةِ وأما من جوَّز رجوعَهما إلى العتابِ المذكورِ فقد أخطأَ وأساءَ الأدبَ وخبطَ خبطًا يقضي منه العجبُ فتأمَّل وكُن على الحقِّ المبين)[xliv].
فهنا قال من جوز رجوعهما وذكر الصفة دون ذكر للأسماء.
وتأمل كذلك قول ابن الجوزي وهو قوله { محصنين غير مسافحين } أي : عاقدين التزويج { فآتوهن أجورهنَّ } أي: مهورهن. ومن ذهب في الآية إلى غير هذا، فقد أخطأ، وجهل اللغة )[xlv].
10- التنازل عند الحوار ما أمكن:
هذا ضابط يتعلق بمراعاة النفوس، وأخذهم إلى الحق خطوة خطوة، وعدم مفارقتهم من أول نقطة خلاف، ومن ذلك محاجة إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]
{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [سبأ:24]
مثاله
قال أبو جعفر في قوله تعالى: (الذي بيده عقدة النكاح): ( وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: المعني بقوله: "الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب، صبية صغيرة كانت أو مدركة كبيرة، لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها، أو وهبه له أو عفا له عنه- أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل، وأن صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه. فكان سبيل ما أبرأه من ذلك بعد طلاقه إياها، سبيل ما أبرأه منه قبل طلاقه إياها.
وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها، لو وهب لزوجها المطلق لها بعد بينونتها منه درهمًا من مالها، على غير وجه العفو منه عما وجب لها من صداقها قبله، أن هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة. وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها مال من مالها، فحكمه حكم سائر أموالها.
وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها، وأن بعضهم لو عفا عن مالها [لزوجها، قبل دخوله بها] أو بعد دخوله بها إن عفوه ذلك عما عفا له عنه منه باطل، وإن حق المرأة ثابت عليه بحاله. فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنًا من كان من الأولياء، والدًا كان أو جدًا أو خالًا لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقد النكاح دون بعض في جواز عفوه، إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله.
ويقال لمن أبى ما قلنا ممن زعم أن"الذي بيده عقدة النكاح"، ولي المرأة هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين، إذ كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي عندك: إما أن يكون ذلك كل ولي جاز له تزويج وليته، أو يكون ذلك بعضهم دون بعض؟= فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلًا.
فإن قال: إن ذلك كذلك.
قيل له: فأي ذلك عني به؟
فإن قال: لكل ولي جاز له تزويج وليته.
قيل له: أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها؟
فإن قال نعم!
قيل له: أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسيس؟
فإن قال: نعم خرج من قول الجميع. وإن قال: لا! قيل له: ولم؟ وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها الذي بيده عقدة نكاحها؟
ثم يعكس القول عليه في ذلك، ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره.
وإن قال: لبعض دون بعض.
سئل البرهان على خصوص ذلك، وقد عمه الله تعالى ذكره فلم يخصص بعضًا دون بعض.
ويقال له: من المعني به، إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض؟
فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم، سئل البرهان عليه، وعكس القول فيه، وعورض في قوله ذلك بخلاف دعواه. ثم لن يقول في ذلك قولًا إلا ألزم في الآخر مثله. فإن ظن ظان أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها، والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة، فكان معلومًا بذلك أن الزوج غير معني به، وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها. وفي بطول ذلك أن يكون حينئذ بيد الزوج، صحة القول أنه بيد الولي الذي إليه عقد النكاح إليها. وإذا كان ذلك كذلك، صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي= فقد غفل وظن خطأ)[xlvi].
وقال عطية سالم في تتمة تفسير أضواء البيان بعد عرض الأقوال ومناقشتها في آية قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الاٌّكْبَرِ } [الحج: 27] وعلى هذا العرض وبهذه المناقشة يكون الراجح هو العمل بحديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة، مع أخذ الترجيع والتثويب من حديث أبي محذورة للأذان.
ثم نسوق ما أخذ به فقهاء الأمصار من هذا كله مع بيان النتيجة من جواز العمل بالجميع إن شاء الله).[xlvii]

الخاتمة:
1-المفسرون سلكوا منهجية علمية في محاجتهم لغيرهم ومناظرتهم والرد عليهم.
2-اختلفت هذه المنهجية من مفسر لآخر، وعند بعض المفسرين في موضع دون آخر، وتجاه عالم دون آخر، أوبحسب منهجية ردود الآخر عليه.
3-متى التزم المفسرون هذه المنهجية العلمية في المحاجة، اتسمت تفاسيرهم بالموضوعية والمصداقية، وسلامة المقصد.
4-ينبغي أن يحرص المفسرون على تطبيق هذه المنهجية بصورة خاصة، تناسبًا مع عظيم ما يتحملوه من العلم بكتاب الله.
5-ينبغي ان تكون هذه المنهجية العلمية منهجية يتبعها الناس عامة حسب ما دعا إليه القرآن الكريم والسنة النبوية.
6-هذه المنهجية مؤداها السلامة في الدنيا والآخرة.
[/FONT]





10- التنازل عند الحوار ما أمكن:---------------------------- 21
2-التثبت والروية قبل إصدار الحكم:---------------------------- 9
3- الصدق في النقل:----------------------------------- 11
4-الأمانة العلمية:------------------------------------- 12
5-عدم التعميم عند إصدار الأحكام:-------------------------- 13
6-الثناء على الطرف الآخر بما فيه:---------------------------- 14
7-عدم استعداء الطرف الآخر عند الجدال:----------------------- 15
8-عدم السباب والشتم والتلطف ما أمكن.----------------------- 18
9- التركيز على الصفات أكثر من التعرض للأسماء.------------------- 19
آداب المحاجة:---------------------------------------- 7
الخاتمة:-------------------------------------------- 24
المقدمة:-------------------------------------------- 1
تعريف المحاجة:---------------------------------------- 5
تمهيد:--------------------------------------------- 1
مثال آخر:----------------------------------------- 15
مثاله-------------------- 8, 10, 11, 13, 14, 16, 18, 20, 22
هوامش البحث:-------------------------------------- 26




http://vb.tafsir.net/#_ednref1الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء) 1/111محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله دار الكتب العلمية – بيروت


[ii]تفسير ابن كثير1/9


[iii]فتح القدير6/310


[iv]أخلاق العلماء117 -124 محمد بن الحسين الآجري تحقيق د.محمود السيد علي ط1407مكتبة النهضة -القصيم


[v] مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي القاموس المحيط 183ط6 1419 مؤسسة الرسالة


[vi]د.إبراهيم أنيس المعجم الوسيط 1/156ط2


[vii] محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي البحر المحيط4 /147 دار النشر : دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت - 1422 هـ - 2001 م الطبعة : الأولىعدد الأجزاء / 8
تحقيق : الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض
شارك في التحقيق د.زكريا عبد المجيد النوقي د.أحمد النجولي الجمل


[viii] أبو القاسم الحسين بن محمد تحقيق محمد سيد كيلاني المفردات في غريب القرآن 108الناشر دار المعرفة مكان النشر لبنان


[ix]محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن 11/488 المحقق : أحمد محمد شاكر
الناشر : مؤسسة الرسالة الطبعة : الأولى ، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء : 24
مصدر الكتاب : موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف


[x]أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي اتفسير القرآن العظيم1/451 المحقق: سامي بن محمد سلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999 م مصدر الكتاب: موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف


[xi]محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي البحر المحيط2 /293 دار النشر : دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت - 1422 هـ - 2001 م الطبعة : الأولى عدد الأجزاء / 8
تحقيق : الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض شارك في التحقيق( د.زكريا عبد المجيد النوقي) د.أحمد النجولي الجمل


[xii]: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني شهاب الدين محمود ابن عبدالله الحسيني الألوسي 5/403


[xiii]عبد الرحمن صالح عبد الله الموضوعية في العلوم التربوية 6 سلسلة البحوث التربوية والنفسية ط1 1407


[xiv]موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة 1-29جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود18/426


[xv]منهاج السنة النبوية شيخ الإسلام بن تيمية تحقيق د.محمد رشاد سالم مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى1/176



[xvi]إعلام الموقعين عن رب العالمين محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله دار الجيل - بيروت ، 1973تحقيق : طه عبد الرءوف سعد 2/236


[xvii]فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي الشوكاني2/354


[xviii]التفسير القيم لابن القيم جمع وترتيب: الشيخ محمد أويس الندوي1/404


[xix]البحر المحيط محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي دار النشر: دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت - 1422 هـ - 2001 م الطبعة: الأولى تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض شارك في التحقيق 1) د.زكريا عبد المجيد النوقي 2) د.أحمد النجولي الجمل 3/342


[xx]تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي تحقيق سامي بن محمد سلامة دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الثانية 1420هـ 2/364


[xxi]الاتباع لابن أبي العز الحنفي 29


[xxii]مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة الثانية، 1393 - 1973تحقيق: محمد حامد الفقي3/522


[xxiii]ثقات ابن حبان محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى : 354هـ) مصدر الكتاب: موقع يعسوب7/646


[xxiv]تفسير ابن كثير 6 /553


[xxv]أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع بيروت - لبنان : 1415 هـ 2/126


[xxvi](حلمي صابر منهجية البحث العلمي وضوابطه في الاسلام 16 سلسة دعوة الحق رابطة العالم الاسلامي مكة الكرمة


[xxvii]المحرر الوجيز ابن عطية 1/416


[xxviii]تفسير الطبري1/416


[xxix]تفسير الطبري 5/167-221


[xxx]فتح القدير3/58


[xxxi]روح المعاني 10/64


[xxxii]التفسير القيم لابن القيم 1/190


[xxxiii]تفسير القرآن، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني تحقيق ياسر بن إبراهيم و غنيم بن عباس بن غنيم دار الوطن – الرياض سنة النشر 1418هـ4/214


[xxxiv]البحر المحيط5/149-150


[xxxv]زاد المسير في علم التفسير عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي المكتب الإسلامي – بيروت الطبعة الثالثة ، 1404، 9/154


[xxxvi]1/453 ابن العربي أحكام القرآن


[xxxvii]فتح القدير5/560


[xxxviii]4/490: تفسير القرآن العظيم أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي المحقق : سامي بن محمد سلامة دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة : الثانية 1420هـ


[xxxix]7/517-518 تفسير ابن كثير


[xl]أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي المحرر الوجيز2/494


[xli]2/210 المحرر الوجيز


[xlii]تفسير الطبري 2/523


[xliii]التفسير القيم 1/403


[xliv] أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى ِ إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 6 /459


[xlv]جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي زاد المسير في علم التفسير2/12



[xlvi]5/158-161 الطبري


[xlvii]1/182 تتمة أضواء البيان للشيخ عطية محمد سالم
 
عودة
أعلى