المنتقى من مقالات العربية

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,144
مستوى التفاعل
4
النقاط
38
الموقع الالكتروني
www.tafsir.net
هذه مجموعة مقالات وبحوث في العربية بعلومها وفنونها, انتقيتها خدمةً لأهل التفسير والزوار الكرام, ورأيت جمعها ورصفها في موضوع واحد, على أن يكون كل بحث أو مقال في ردٍّ مستقل, وأسأل الله تعالى أن ينفع بها, ويبارك فيها.
 
الأدوات النحويّة وما يَعترضُ الكتّاب مِن اللُبس في استعمالها

الأدوات النحويّة وما يَعترضُ الكتّاب مِن اللُبس في استعمالها

** الأدوات النحويّة وما يَعترضُ الكتّاب مِن اللُبس في استعمالها **
د. صلاح الدين الزعبلاوي


كثيراً ما يعترض الكتاب لبس في استعمال الأدوات النحوية ويقع الإبهام في ذلك، فيأتي كلامهم وقد تخلّف عنه الإحكام في الأداء. فرأيت أن أبحث ما دقَّ من معاني هذه الأدوات وأستجلي بعض حقائقها، فأوضح المبهم منه وأقرب البعيد لعلّي أكشف عما غابت معرفته من مسائلها، فيتسنى بذلك ما تعذر من أمرها ويستيسر ما تصعب، وهأنذا أبسط الكلام في طائفة منها أداة بعد أداة.

1-إذ:

تستعمل (إذ) في وجوه قد يخفى بعضها على الكتَّاب، وهذه أشهرها.

آ-إذ الحرفية: وهي تزاد للتعليل، قال تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون –الزخرف/ 39(، أي: ولن ينفعكم اليوم، أي يوم القيامة، أنكم في العذاب مشتركون، بسبب ظلمكم في الدنيا، والرأي منسوب إلى سيبوبه.

وتزاد (إذ) للمفاجأة كقولك: (بينما هو كذلك إذ جاء خالد).

وأما قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.. البقرة/ 30(، وقوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا.. البقرة/34(، فقد قيل إن (إذ) فيهما للتوكيد. والتقدير: (وقال ربك) في الآية الأولى: و(وقلنا للملائكة..) في الآية الثانية. وقيل (إذ) فيهما مفعول به فتكون اسماً والتقدير فيهما: (واذكر إذ)، وهو الأرجح.

ب-إذ الاسمية: تقع في موقع الظرف والمفعول به والمبدل منه والمضاف إليه. ومثال الظرف قوله تعالى: (إلاَّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا.. التوبة/ 40(، أي: فقد نصره الله حين إخراج الكفار له. وهكذا قوله تعالى: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم.. الأحقاف/ 11(، وقيل التقدير: وظهر عنادهم إذ لم يهتدوا بالقرآن، لكنه أفاد التعليل لأن (فسيقولون عنه) مسبب عنه.

ومثال المفعول به قوله تعالى: ‍(واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم.. الأعراف/ 86( أي اذكروا هذا الوقت. وقيل هو ظرف والتقدير: واذكروا نعمة الله إذ كنتم.

ومثال البدل: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً.. مريم/16‌( أي أذكر (مريم) بل أذكر (وقت انتبذت فيه). وقيل إنه ظرف والتقدير: اذكر قصة مريم إذ..

ومثال المضاف إليه قوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.. آل عمران/8(.

هذا ما ذهب إليه جماعة من النحاة، من أنَّ (إذ) اسم للزمن الماضي وأنها تأتي على ما تقدَّم من وجوه الاستعمال. أما الجمهور فإنه يقتصر من هذه الوجوه المتقدمة على وجهين، فهي إما أن تكون ظرفاً، كما هي في الأمثلة المذكورة آنفاً، أو تكون مضافاً إليها، كقولك يومئذٍ وحينئذ.

جـ-تلزم (إذ) الإضافة إلى جملة اسمية أو فعلية. ومثال الاسمية قوله تعالى: "واذكروا إذ أنتم قليل- الأنفال/ 26", فإذا كانت اسمية مبدوءة بـ (إن) كانت همزة (إن) المشددة هذه مكسورة، خلافاً للشائع عند الكتَّاب. تقول: (عرفت لفلان فضله إذ إنه أحسن إلي)، فتكون (إذ) هنا ظرفاً عند الجمهور وحرف تعليل عند جماعة من النحاة.

فإذا كانت الجملة فعلية فلابد أن يكون فعلها ماضياً لفظاً ومعنى كقوله تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.. البقرة/ 30"، أو يكون فعلها ماضياً معنى لا لفظاً كقوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.. البقرة/157"، وقد جاء الفعل بصيغة المضارع استحضاراً للصورة التي وقع عليها الحَدَث، تمكيناً لها في النفس.

وقد تحذف الجملة التي تضاف إليها (إذ) للعلم بها ويعوض عنها التنوين، وتكسر الذال لالتقاء الساكنين، ومن ذلك قوله تعالى: "يومئذٍ تحدِّث أخبارها بأنَّ ربَّك أوحى لها.. الزلزلة /4 و5". وقد جاء في شرح الكافية: "تقول يومئذ وحينئذ وساعتئذ وليلتئذ، ويجوز بناؤها وإعرابها، كما في قوله تعالى: ومن خِزي يومئذ.. هود/ 66-2/ 206 و207". وهو يقصد ببناء (يومئذ) وإعرابها، كسر الميم إعراباً في الآية، لإضافة خِزي إلى يوم، وفتح الميم بناءً، لإضافة يوم إلى مبني، وهو الأكثر.

2-إذا:

ترد (إذا) في وجوه هذه أشهرها:

1-إذا الاسمية: تقع في الابتداء فتكون ظرفاً للمستقبل غالباً، ولو جاء فعلها بصيغة الماضي، خلافاً لـ (إذ). فإذا تضمنت معنى الشرط فلابد لها حينئذ من جملتين جملة للشرط فعلية وأخرى للجزاء أو الجواب. ويقترن جواب الشرط بالفاء، إذا لم يكن صالحاً لأن يكون شرطاً كأن يكون جملة اسمية أو فعلية فعلها جامد أو طلبي أو ماض لفظاً ومعنى أو مقرون بقد أو ما النافية أو لن أو السين أو سوف أو ربَّ أو كأنما أو أداة شرط. فإذا كان الجواب صالحاً لأن يكون شرطاً فلا حاجة به إلى الفاء.

و(إذا) هذه المتضمنة معنى الشرط لا تجزم في الأصل وقد تجزم في الشعر. ولابدَّ أن يتلوها فعل، فإذا تلاها اسم مرفوع فعلى أنه فاعل لفعل مقدر محذوف يفسره المذكور، كقوله تعالى: "إذا السماء انشقَّت- الانشقاق/1".

وقد لا تكون (إذا) الظرفية الشرطية للاستقبال نحو قوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها.. الجمعة/11"، فإنها للماضي. وقد يسقط عنها معنى الشرط فتنصرف إلى الظرفية وحدها كقوله تعالى: "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى.. الليل/1"، وكذلك قوله تعالى: "وإذا ما غضبوا هم يغفرون.. الشورى/ 37"، وقوله تعالى: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون.. الشورى/ 39"، فـ (إذا) فيهما ظرف لخبر المبتدأ المذكور بعدها. أما قوله تعالى: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمناً.. البقرة/ 14" فـ (إذا) فيه للاستمرار في الماضي دون الشرط أيضاً.

و(إذا) الظرفية المتضمنة معنى الشرط تختص بمتيقن الوجود بحكم معنى الظرف كقولك (آتيك إذا احمرَّ البُسر) والبسر لابد أن يحمر فهو التمر قبل أن يصبح رطباً والرطب نضيج التمر. كما تختص أداة الشرط (إن) بالمستحيل كقوله تعالى: "قل إن كان للرحمن ولد.. الزخرف/ 81"، وتشتركان في المشكوك فيه والمحتمل، بحكم معنى الشرط.

ب-إذا الحرفية: تقع (إذا) للمفاجأة فتكون حرفاً وتختص بالجملة الاسمية ولا تحتاج إلى جواب، ويكون معناها (الحال) دون الاستقبال. تقول: (خرجت أبحث عنه فإذا هو واقف أمام المنزل) أو (خرجت فإذا خالد بالباب)، فتكون الجملة بعد (إذا) جملة اسمية من مبتدأ وخبر. وفي التنزيل: "فألقاها فإذا هي حيَّة تسعى.. طه/20" فالضمير بعد (إذا) مرفوع بالابتداء، و(حيَّة) خبر له. أما تسعى فيجوز أن يكون خبراً ثانياً أو يكون حالاً.

ويسأل الكتاب هل يصح قولك: (خرجت فإذا خالد واقفاً) كما تقول (واقف). أقول جاء ذلك ففي مغني اللبيب لابن هشام: "وتقول خرجت فإذا زيد جالس أو جالساً" فجالس مرفوع على الخبرية، وجالساً منصوب على الحالية.

وقد يقول الكتاب: (خرجت فإذا به واقف)، فهل هذا صحيح؟ أقول يصح ذلك. وقد ذهب النحاة إلى أن (الباء) هنا زائدة والضمير في موضع الابتداء. وقد مثَّل ابن هشام لذلك بقوله: (خرجت فإذا بزيد) والخبر في هذا المثال محذوف، كما في قولك: (خرجت فإذا الأسد). وذهب المبرِّد إلى أن التقدير: (فإذا بالحضرة زيد)، و (إذا) عنده ظرف مكان.

ولكن هل تقول (خرجت فإذا به واقفاً) كما تقول: (خرجت فإذا به واقف)، أقول: يسوغ ذلك كما ساغ (خرجت فإذا خالد واقفاً)، ولذا قل: فإذا خالد واقف أو اقفاً، وإذا به واقف أو واقفاً. وقد تقول: (خرجت فإذا ان زيداً بالباب) فيجوز لك كسر الهمزة في (أنّ) على أن ما بعد (إذا) جملة، كما يجوز فتحها على أن ما بعد (إذا) أي (أن واسمها وخبرها) في تأويل المصدر، كما جاء في شرح شذور الذهب لابن هشام.

والخلاصة: أن إذا المفاجأة تختص بالجملة الاسمية ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال دون الاستقبال. أما الفاء الداخلة عليها في قولك: (خرجت فإذا زيد واقف) فقد قيل إنها زائدة لازمة، وقيل إنها عاطفة لجملة المفاجأة على ما قبلها، أو إنها للسببية المحضة كفاء الجواب، كما جاء في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي (1/97).

3-إليك:

إليك: اسم فعل وأسماء الأفعال أدوات تقوم مقام الأفعال فتنوب عنها في العمل لازمة ومتعدية. وهي تلزم حالة واحدة فلا تنصرف تصرف الأفعال باختلاف الأزمان.

ومن أسماء الأفعال ما أصله جار ومجرور نحو: إليك وعليك، وما أصله ظرف نحو: عندك ولديك ودونك ووراءك وأمامك ومكانك. فقد جاء في كتاب (همع الهوامع) للإمام جلال الدين السيوطي: "ومن أسماء الأفعال ما أصله ظرف أو جار ومجرور كمكانك بمعنى أثبت، وعندك ولديك ودونك بمعنى خذ، ووراءك بمعنى تأخر، وأمامك بمعنى تقدم، وإليك بمعنى تنحَّ: وعليك بمعنى الزم". ويكثر استعمال (إليك) في كلام الكتَّاب فيقولون: (وإليك البيان بالتفصيل) بمعنى خذ البيان، فهل هذا صحيح؟

أقول: ذهب بعضهم إلى الشك في صحة قول القائل (إليك البيانَ) بمعنى خذه. لأن الأوائل وكثيراً من المتأخرين قد اكتفوا بقولهم: (إليك البيانَ بمعنى تنحَّ) أي ابتعد، كما فعل السيوطي في (همع الهوامع). قال سيبويه في (الكتاب): "وإليك إذا قلت تنحَّ". وفي شرح الكافية للرضي، وشرح ألفية ابن مالك للأشموني نحو من ذلك.

على أن في كلام كثير من المحققين ما يؤكد صحة قولهم (إليك هذا) بمعنى (خذه) أيضاً. فقد حكى الجوهري صاحب الصحاح بيتاً للقطامي وهو شاعر أموي، ففسر فيه (إليك إليك) بمعنى (خذ). قال القطامي:

إذا التيَّاز ذو العضلات قلنا

إليك إليك ضاق بها ذراعا


يصف الشاعر ناقة قوية مستعصية فيقول: إذا قلنا للتيَّاز –بتشديد الياء- أي القوي (إليك إليك) أي خذ هذه الناقة لتروضها ضاق بها ذراعاً لاستعصائها.

قال الإمام ابن برّي في تعقيبه على رواية الجوهري: "هكذا أنشده الجوهري وغيره: إليك إليك، ونشر في شعره أن –إليك- خذها لتركبها وتروضها. وهذا فيه إشكال لأن سيبويه وجميع البصريين ذهبوا أن –إليك- بمعنى تنحَّ وأنها غير متعدية إلى مفعول". وإذا كان ابن برّي قد أشار إلى الإشكال في مخالفة الجوهري لما نص عليه الأئمة الأوائل فيما تعنيه هذه الأداة، فقد أكد في كلامه صحة رواية البيت ومعناه كما أنشده الجوهري. وشعر القطامي مما يُعتد به والجوهري محقق ثبت. ويؤيد ما ذهب إليه الجوهري ما جاء في شرح ديوان الحماسة. فقد حكى المرزوقي قول الشاعر (حُجيَّة بن المُضرَّب) يخاطب زوجته:

تلوم على مالٍ شفاني مكانه

إليكِ فلومي ما بدا لك واغضبي




قال المرزوقي: "والمعنى اجمعي أمركِ واستمري في عتبكِ وغضبكِ ما بدا لك".

وقد جاء في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي: "وإليك كذا أي خذه... وإليك عني أي أمسك وكف –1/278"، فأثبت للأداة المعنيين جميعاً. وكذلك فعل الشيخ مصطفى الغلاييني في كتابه (جامع دروس اللغة العربية) إذ قال: "إليك عني بمعنى تنحَّ عني، وإليك الكتاب بمعنى خذه". ولا عذر للأستاذ زين العابدين التونسي في اقتصاره على معنى واحد من معنيي الأداة في كتابه (المعجم في النحو والصرف)، إذ قال: "إليك اسم فعل أمر غير متعدّ مثل إليك عني أي تنحَّ، وفاعله ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت! وقد صدر عام 1971.

ولذا قل: إليك عني بمعنى أمسك، وإليك البيانَ بمعنى خذه، والبيان مفعول به، فكلاهما صحيح. وقد بحث هذا الأستاذ المحقق محمد علي النجار في كتابه (لغويات/48) فانتهى إلى مثل ما انتهينا إليه.

4-آمََا:

أما: بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف استفتاح يراد به التنبيه، ومثلها (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام. ففي نهج البلاغة: "آمَا إنكم ستلقَون بعدي ذلاً شاملاً" ويقع بعدها القسم كثيراً كقول الشاعر أبي صخر عبد الله بن سلمة الهذلي:

أما والذي أبكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمره الأمر


فقد أدخل (أما) على القسم، ثم جاء بجواب القسم فقال:

لقد تركَتْني أحسد الوحش أن أرى

أليفَيْن منها لا يروعهما الذُّعرُ


ومن شأن (أما) هذه أن يصح طرحها من الكلام، لأنها تدخل على كلام مكتف بنفسه فأنت إذا أسقطتها من الكلام صح دونها. تقول في مثال نهج البلاغة: (إنكم ستلقون بعدي ذُلاًّ)، وتقول في مثال الشاعر الهُذلي: (والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا.. لقد تركتني أحسد الوحش...) فيستقيم الكلام.

وثمة (أمّا) بفتح الهمزة وتشديد الميم، وهي تفيد الشرط فتدخل الفاء في جوابها، كما تدخل في أجوبة الشرط. قال الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه (معجم الأدوات النحوية وإعرابها/ 52): "أما بالفتح والتشديد: حرف شرط وتفصيل وتوكيد. أما كونها حرف شرط فبدليل لزوم الفاء بعد، نحو: فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحقّ من ربّهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضلُّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاَّ الفاسقين –البقرة/ 26".

ويكثر في كلام الكتاب قولهم: (أما وقد نجح فلان... فإنَّ عليه كذا). وهم يسألون: أيخففون (الميم) في (أما) هذه أم يشددونها؟ أقول: بحث هذا الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأغلاط اللغوية المعاصرة)، فقطع بأن (أما) في المثال المذكور مخففة الميم، وأنها للتنبيه والاستفتاح. قال الأستاذ العدناني: (يُكثر مذيعو هذه الأيام وأدباء الإذاعة من ترديد عبارة: أمّا وقد نجح باهر في الفوز بشهادة الهندسة، فإن عليه الشروع ببناء مدرسة لمدينته) بتشديد الميم في –أمّا- وأردف العدناني يقول: (والصواب أما وقد نجح- أي بتخفيف الميم- لأن أما هنا حرف تنبيه يستفتح به الكلام مثل ألا).

أقول حكم العدناني هذا غريب حقاً. ذلك أن (أما) المخففة الميم ليس لها جواب يقترن بالفاء، بل ليس لها جواب البتة كما أسلفنا. فـ (أما) في المثال الذي أتى به. (أما وقد نجح.. فإن عليه..) مشدد الميم، وله جواب قد اقترن بالفاء وهو (فإن عليه). وقد أراد العدناني أن يحتج لحكمه هذا فقال: (ويكثر مجيء –أما- قبل القسم كقول أبي حجر الهذلي: أما والذي أبكى...) فأما هذه حرف استفتاح قد تلاه قسم كما ذكرنا. وليس لها جواب البتة لأنها دخلت على كلام مكتف بنفسه كما ذكرنا، خلافاً لأمّا المشددة الواردة في مثاله (أمّا وقد نجح.. فإن عليه) فإن لها جواباً قد اقترن بالفاء وهو (فإن..). وهكذا أراد العدناني أن يقيس فقاس على غير شبيه، وأتى استدلاله حجة عليه لا له.

وجاء في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي مثالان لـ (أما) المخففة، أحدهما (أما والله لأفعلن) دخلت فيه على قسم، والثاني (أما زيد منطلق) وقد دخلت فيه على جملة اسمية لافتتاح الكلام. وقد خلا الخبر من الفاء، ولو كانت (أما) مشددة الميم لدخلت الفاء على الخبر الذي هو الجواب فقيل: (أما زيد فمنطلق).

والخلاصة أن قول الكتاب (أما وقد نجح.. فإنه) صوابه تشديد الميم في –أمّا- لا تخفيفها، والجملة بعدها حالية، قال الإمام السيوطي في كتابه (همع الهوامع –2/68): "ولا تعمل أمّا في اسم صريح فلا تنصب المفعول خلافاً للكوفية... غير الظرف والمجرور والحال فإنها تعمل فيها وفاقاً، لأن هذه الأشياء يعمل فيها معنى الفعل". ولا بأس أن نأتي بمثال مما جاء من كلام الجاحظ، على نحو المثال الذي نحن فيه. قال الجاحظ في كتابه (حجج النبوة): "فأما والأمر كما وصفنا وبينّا فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ خطة الحق وعجل على صاحبه... رسائل الجاحظ للسندوبي/ 122". فقد جاء الكاتب بأمّا المشددة الشرطية وأتبعها الجملة الحالية (والأمر كما وصفنا..) ثم أدخل الفاء على جواب (أمّا) فقال (فما الطاعن على عثمان..)، وسيأتي الكلام مفصلاً على (أمّا) المشددة هذه بعد.

5-أمّا:

(أمّا) المفتوحة الهمزة المشددة الميم تكون بمعنى –مهما- الشرطية وإن لم تعمل عملها في الجزم، فإذا قلت (أمّا خالد فهو شاعر) فإنك تعني (مهما يكن من شيء فخالد شاعر) أي تعني بذلك الشرطية والتوكيد جميعاً. قال ابن هشام الأنصاري في كتابه (مغني اللبيب –1/53 و45): "وأما التوكيد فقلَّ من ذكره، ولم أ رَ من أحكم شرحه غير الزمخشري فإنه قال: فائدة أما في الكلام أن تعطيه فضل توكيد. تقول زيد ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محال ذاهب... قلت: أما زيد فذاهب، ولذلك قال سيبويه في تفسيره- مهما يكن من زيد فزيد ذاهب- وهذا التفسير مُدل بفائدتين: بيان كونه توكيداً وأنه في معنى الشرط.

وهي كما تأتي للتوكيد تأتي للتفصيل، كما في قوله تعالى: "فأمّا اليتيم فلا تقهر وأمّا السائل فلا تنهر وأمّا بنعمة ربِّك فحدّث- ونحو ذلك ما جاء في سورة الكهف: "أما السفينة فكانت لمساكين/79"، "وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين/80"، "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين/82".

والكتَّاب قد يهملون إدخال الفاء في جواب (أمّا) فيقولون: (أما خالد هو شاعر) وهذا خطأ إذ لابد من دخول الفاء في جوابها كما تدخل في أجوبة الشرط، ولا تسقط إلا لضرورة كقول الشاعر (أما القتال لا قتال لديكم) والأصل: فلا قتال لديكم.

وقد جاء في كتاب (الضرائر) لمحمود شكري الآلوسي: "أما، لنيابتها عن –مهما يكن من شيء- لزمت الفاء في جوابها، ولا تسقط إلا لضرورة، كما في قول الشاعر:

"فأما القتالُ لا قتال لديكم

ولكن سيراً في عراض المراكب"


يعيِّر الشاعر خصومه بالجبن فيقول لهم: لم تقتنوا الخيل فتعدُّوها للحرب والقتال، وإنما تعدّونها لتركبوها للزينة.

ولا تدخل (أما) على فعل لأنها قائمة مقام أداة الشرط وفعله، فلا يدخل فعل على فعل. وهي لا تعمل غالباً فيقع بعدها المبتدأ كقولك (أما خالد فكريم نبيل)، ومن ذلك قوله تعالى: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون.. الآية- البقرة/ 26". أو يقع بعدها الخبر كقولك (أما في الدار فزيد)، أو تقع جملة الشرط كقوله تعالى: "فأمّا إن كان من المقرَّبين فروحٌ وريحانٌ وجنة نعيم، وأمّا إن كان من أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين- الواقعية /88و 89".

فإذا تلاها منصوب فقد يكون معمولاً للجواب كقوله تعالى:" فأما اليتيم فلا تقهر –الضحى/9" أو يكون معمولاً لمحذوف بعد الفاء كقوله تعالى: "وأما ثمودَ فهديناهم –فصِّلت/17" على قراءة النصب.

وقد تعمل (أمّا) لما فيها من معنى الفعل، ولكن ليس في اسم ظاهر، بل في ظرف، تقول: (أما اليومَ فإني ذاهب) أو جار ومجرور، تقول: (وأما في الدار فإن زيداً جالس) ولا يعمل ما بعد (فإن) فيما قبلها. وقد تعمل في الحال المفرد إذا كان منكراً كما تعمل في الجملة الحالية. ومثال الحال المفرد قولك (خالد أديب حقاً، فأما شاعراً فهو خبير بقرض الشعر يتدفق عن سجية وطبع، وأما كاتباً فهو حسن الترسل بليغ العبارة). وأما مثال الجملة الحالية فما ذكرناه قبل من قول الجاحظ: "فأمّا، والأمر كما وصفنا وبينا، فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ الحق وعجَّل على صاحبه- حجج النبوة من رسائل الجاحظ- للسندوبي/122".

6-إمّا:

إمّا بكسر الهمزة وتشديد الميم حرف تخيير أو شك أو تفصيل، ويلزمه التكرير. تقول: (اِِضربْ إما زيداً وإما عمراً) كما تقول: (اضرب زيداً أو عمراً)، وإنما كررت (إما) في القول الأول بدلاً من (أو) في القول الثاني لأنك إذا قلت: (اضرب زيداً أو عمراً) فقد ابتدأت بذكر (زيد) وليس عند السامع أنك تريد غيره ثم جئت بالتخيير. أما إذا قلت (اضرب إما زيداً وإما عمراً) فقد وضعت كلامك ابتداءً على التخيير. وفي الإعراب تقول: (إما) حرف تخيير و(زيداً) مفعول به. والواو حرف زائد و(إما) الثانية حرف عطف. ومنهم من ذهب إلى أن (وأما) جميعاً حرف عطف.

وتقول في معنى الشك: (لقيت إما زيداً وإما عمراً)..

وجاء في معنى التفصيل قوله تعالى: "إنّا هديناه السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كفوراً- الدهر/3".

وفي كلام الكتَّاب قولهم: (اضرب إمّا هذا أو هذا) بإحلال (أو) محل (وإما) وهذا صحيح.. فقد جاء في التنزيل: (وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين –سبأ/24" وقد قرئ أيضاً (إمّا على هدى أو في ضلال مبين). قال الإمام المرادي في كتابه (الجنى الدالي): "قد يستغنى عن إمّا الثانية بأو كقراءة من قرأ وإنّا وإيّاكم إمّا على هدى أو في ضلال مبين" وقال الشاعر:

يعيش الفتى في الناس إمّا مشيّعا

على الهمّ أو هلباجة متنعماً


والهلباجة الأحمق.

وقد يستغنى عن (إما) الثانية بذكر ما ينوب عنها، تقول: (إما أن تكلم بخير وإلا فاسكت). وقد أورد ابن هشام في كتابه (المغني) شاهداً على ذلك قول الشاعر:

فإما أن تكون أخي بصدقٍ
فأعرفَ منك غثي من سميني

وإلاَّ فاطرحني واتخذني
عدواً أتقيك وتتقيني


فالغث في الأصل هو المهزول وهو هنا الرديء، والسمين في الأصل خلاف المهزول وهو هنا الجيِّد. و(إلاّ) هنا نائبة مناب (إمّا).

وثمة (إما) من غير هذا الباب، وهي التي تكون شرطية كقوله تعالى: "فإما تَريِنَّ من البشر أحداً فقولي إنّي نذرتُ للرحمن صوماً.. الآية –مريم/16". فإما هنا أدغمت فيها نون –إنْ- الشرطية في –ما- الزائدة للتوكيد، فالأصل (إن، ما). و (تَريِنَّ) فعل الشرط، وقد لحقت به نون التوكيد. أما قوله (فقولي) فهو جواب الشرط. وكذلك قوله تعالى: "إمّا يبلغنَّ عندك الكبرَ أحدُهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً –الإسراء/23". فأمّا هنا ركَّبت من (إن) الشرطية وقد زيدت عليها (ما) تأكيداً، ولذا صحّ لحوق النون المؤكدة لفعل الشرط الذي هو (يبلغنّ)، وأحدهما فاعل –يبلغن- وجزاء الشرط (فلا تقل).

7-إن:

الأكثر في (إِن) بكسر الهمزة وسكون النون أن تكون شرطية نحو قولك: (اِن تجتهدْ تنجحْ)، أو نافية نحو قولك: (إن أردت إلاَّ نصحك) أي ما أردت غير نصحك. ولكنها قد تأتي زائدة كقول القائل: (ما إن ندمت على سكوتي مرَّة)، وقد زيدت في هذا المثال بعد (ما) النافية، وكذلك قول الشاعر:

ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه

إذن فلا رفعتْ سوطي إليَّ يدي


والمعنى: ما أتيت بشيء أنت تكرهه.

والكتَّاب إذا أتوا بأن الزائدة هذه بعد ما النافية، فتحوا همزة (إن) فقالوا: (ما أن جاء خالد حتى بدأ يتكلم...)، ولا وجه له، والصواب (ما إن جاء خالد حتى بدأ يتكلم) بكسر همزة إن.

ولكن هل تزاد(إن) المكسورة الهمزة بعد (ما) إذا لم تكن هذه نافية؟ أقول تزاد (إن) بعد (ما) المصدرية، وشاهده في كتب النحاة قول القريعي:

ورَجِّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السنّ خيراً لا يزال يزيد


و (رجِّ) فعل أمر، والفتى مفعول، و (ما) مصدرية زمنية. والمعنى، توقَّع الخير من الفتى ما دمت ترى الخير منه يزيد بتقدّم سنْه.

أما (إن) المفتوحة الهمزة الساكنة النون فقد تزاد ولكن بعد (لمّا) الحينية غالباً كقوله تعالى: "ولما أنْ جاءت رُسُلنا لوطاً سيء بهم.. هود/77".

وزيادة (أن) بالكسر، و(أن) بالفتح لا يعني أن حذفهما وذكرهما سواء، فزيادتهما إنما تفيد التوكيد.

8-أن المصدرية وحذفها:

أن المصدرية إما أن تذكر فتنصب المضارع في مثل قولك: (لابد أن تعمل لتضمن النجاح).

وإما أن تضمر فتنصب المضارع في مواضع قياسية، أي كون إضمارها مع استمرار نصبها قياساً، وذلك:

بعد لام التعليل كقولك جئت لألهوَ.

وبعد لام الصيرورة كقوله تعالى: "فالتقطه آلُ فرعون ليكونَ لهم عدوّاً وحَزَناً- القصص/8".

وبعد حروف العطف: الواو والفاء وثم و أو، كقولك: يأبى الشجاع الفرار ويسلمَ، ويأبى الشجاع الفرار فيسلمَ، ويأبى الشجاع الفرار ثم يسلمَ، بنصب (يسلم)، فيها جميعاً. وقولك: يطلب الشجاع النصر أو يموتَ، بنصب يموت.

وقد تحذف (أن) المصدرية هذه فتقول (يريد المعلّم يحذر تلاميذه عاقبة الكسل) والأصل (يريد أن يحذّر)، ويسأل الكتاب، أينصب الفعل هنا وقد حذفت قبله (أن) أم يرفع؟ أقول المشهور رفع المضارع كما ذهب إليه البصريون وعلى رأسهم سيبويه، قال الشاعر:

ألا أيّهذا اللائمي أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي


والمعنى يا من تلومني في حضوري الوغى لأشهد اللذات، هل تكفل لي الخلود إذا كففت عن الحرب؟

وقد روى البصريون (أحضر) بالرفع، وقال سيبويه: أصله –أن أحضر- فلما حذفت- أن- ارتفع الفعل. ورواه الكوفيون بالنصب واحتجوا بعطف (أن أشهد) على (أحضر)، فأحضر منصوب لديهم والناصب مضمر قبلها لضرورة الشعر.

أقول ما دام المعول على ما جاء من ذلك في كلام الفصحاء، فقد ورد رفع المضارع بعد حذف (أن) الناصبة في الاختيار. من ذلك ما جاء في حديث جابر بن سمرة: "فشكوه حتى ذكروا أنه لا يُحسن يُصلي" برفع (يُصلّي). وفي الحديث أيضاً: "لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر حدُّث على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" برفع (تُحدُّ)، أي لا يحل لها ترك الزينة لحزنها فوق ثلاث. وفي كلام الجاحظ، كما حكاه الثعالبي في كتابه (لطائف اللطف): "أتحسنين تضربين بالعود"، والأصل: أن تضربي.

وعلى ذلك المثل المشهور (تسمعُ بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه) برفع (تسمع)، والأصل: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.

وفي التنزيل: "قل أفغيرَ الله تأمرونّي أعبدُ أيها الجاهلون –الزمر/ 64"، برفع (أعبد)، والتقدير أتأمروني بعبادة غير الله؟

فثبت بذلك مجيء المضارع مرفوعاً في الاختيار مع حذف (أن) الناصبة، أما جواز النصب فيه فقد قال به الكوفيون، ولكن عند الضرورة، لا في الاختيار. فما جاء من ذلك فهو شاذ.

9-إنّ وأنّ:

يشكل على الكتاب حيناً متى تكسر همزة(ان) المشددة ومتى تفتح. والقاعدة في التفريق بينهما أنه كلما أمكن إنزال (أن) وما بعدها منزلة المفرد فاعلاً أو مفعولاً أو مبتدأ أو مجروراً... فتحت همزتها، ففي قولك مثلاً: (بلغني أنك مسافر) جاء أن وما بعدها في تأويل المفرد مرفوع المحل فاعلاً، أي بلغني سفرُك.

وفي قولك: (علمت أنك قادم) جاء أن وما بعدها في تأويل المفرد منصوب المحل مفعولاً به، علمت قدومك.

وفي قولك: (الحق أنك موفق) جاء في تأويل المفرد مرفوع المحل على الخبر أو الابتداء أي: الحق كونك موفقاً.

وفي قولك بعد –لو-: (لو أنك قائم لكان كذا) أي لو ثبت قيامك..

وبعد –لولا-: (لولا أنك عالم لفعلت) أي لولا علمك...

وبعد –ما- المصدرية: (أنفق ما أنك قادر) أي ما استمرت قدرتك...

وبعد الجار نحو: (عجبت من أنك غاضب) أي من غضبك.. أو شهدت بأنك عالم، أي بعلمك، وهكذا..

وكلما كانت (ان) وما بعدها في تقدير الجملة كسرت همزتها، كأن تكون جواب القسم لأن جواب القسم لا يكون إلا جملة نحو (والله إنك صادق)..

وبعد (القول) نحو (أقول إنك شاعر) لأن مقول القول جملة، وبعد الدعاء نحو قوله تعالى: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهّاب –آل عمران/8".وبعد النهي نحو قوله تعالى:" لاتحزن إنَّ الله معنا- التوبة/40".

وهكذا يجوز الوجهان كلما أمكن التأويل بالمصدر وعدمه، نحو: (أوّل قولي إني أحمد الله) بالكسر بتقدير أول قولي هذه الجملة، والفتح بتقدير: أول قولي حمدُ الله، وهكذا...

10-وإن كان:

يشيع في كلام الكتَّاب جملٌ مختلفة يتخللها قولهم (وإن كان)، فهم يقولون حيناً: (خالد، وإن كان حسن الخلق، إلا أنه بخيل)، ويقولون: (خالد، وإن كان حسن الخلق، لكنه بخيل). كما يقولون: (خالد، وإن كان..، فإنه بخيل)، ويقولون: (خالد، وإن كان..، بخيل)، فأي هذه الأقوال هو الصحيح؟

أقول: يعترض على الجملة الأولى أنه أخبر فيها بالقول (إلا أنه بخيل)، وعلى الثانية أنه أخبر فيها بالقول (لكنه بخيل). ذلك أنه جاء في صدر الجملة (خالد) مرفوعاً بالابتداء وهو يتطلب الخبر، وجاء الخبر مصدراً بإلاّ ولكن، وهما أداتان للاستدراك، والاستدراك لا يأتي إلا بعد تمام الجملة. تقول: (خالد حسن الخلق، لكنه بخيل) أو (إلا أنه بخيل).

أما الإخبار بجملة يتصدرها أداة استدرك فغير جائز. وكذلك إذا تصدرها حرف إضراب أو نداء، كما ذكره الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه (همع الهوامع- 1/69) نقلاً عن شارح كافية ابن الحاجب الإمام محمد بن سليمان الكافيجي.

على أن هذا الذي منعه النحاة هنا قد وقع في كلام الأئمة. فقد قال أبو جعفر الإسكافي في الرد على الجاحظ: "ونحن، وإن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر وإيمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة، إلا أننا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية – رسائل الجاحظ. خلاصة نقض كتاب العثمانية لأبي جعفر الإسكافي –جمع حسن السندوبي/46".

وجاء في رسالة للبديع الهمذاني إلى أبي بكر الخوارزمي: "إني، وإن كنت في الأدب دعيَّ النسب ضعيف السبب ضيق المضطرب... ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الوداد.. رسائل الهمذاني –مطبعة الجوائب- ص/17".

وقد أشار إلى جواز ذلك بعض النحاة. إذ جاء في حاشية الصبان على الأشموني في شرح ألفية ا بن مالك: "واعلم أنه استشكل وقوع الاستدراك خبراً على نحو: زيد وإن كثر ماله لكنه بخيل، مع وقوعه في كلامهم" وأردف: "وخرجه بعضهم على أن الاستدراك خبر عن المبتدأ مقيداً بالغاية" أي أنه ما دام المبتدأ مقيداً بالشرط (وإن كثر ماله) فالمعنى (زيد كثير ماله) ولذا صح الاستدراك بعده. ثم أردف: "وبعضهم جعل الخبر محذوفاً والاستدراك منه، كذا في الشهاب علي البيضاوي –حاشية الصبان- ج2- ص12".

وعلى هذا صح قولك (إلا أنه بخيل) و (لكنه بخيل) بعد أن ثبت وقوعه في كلامهم. ولو أن الأصل ألا يأتي الاستدراك إلا بعد تمام الكلام كقول الشافعي:

لو أنصفوا أنصفوا، لكن بغوا فبغَى

عليهم الدهر بالأحزان والمِحَنِ


وأما قولهم: (فإنه بخيل) بدخول الفاء على توهم وقوعها في جواب الشرط فهو شائع. قال الجاحظ في كتابه (حجج النبوة): "كل إنسان، وإن كان يرى أنه حاسد في شيء، فهو يرى أنه محسود في شيء- رسائل الجاحظ لحسن السندوبي- ص128". وجاء في كتاب "أمالي القالي- 1/271 المطبوع 1324) عن سعيد بن مسعدة الخفش: "اعتذر رجل من العرب إلى بعض ملوكهم فقال: إن زلَّتي، وإن كانت قد أحاطت بحرمتي، فإن فضلك يحيط بها وكرمك يوفي عليها". ومثل ذلك كثير في كلام الفصحاء.

وأما قولهم: (خالد، وإن كان حسن الخلق، بخيل) فإنه الأصل لأنه على تقدير (خالد بخيل وإن كان حسن الخلق). وقد يكون الخبر جملة فعلية كقول الجاحظ: "إنه، وإن كان يألفه أكثر من أبويه...، لم يكن الإلف ليخرجه عما نشأ عليه. خلاصة كتاب العثمانية من رسائل الجاحظ للسندوبي 24"، وقد يكون الخبر جملة اسمية، كما جاء في كليلة ودمنة (باب الفحص عن أمر دمنة 132): "ولست أقول هذا كراهة للموت فإنه، وإن كان كريهاً، لا منجى منه، وكل حي هالك"‍!

وقد بحث هذا الأستاذ محمد علي النجار في كتابه (لغويات 65) وانتهى إلى القول: "وبعد فالأسلوب الصحيح البراء من التكلُّف ألاَّ يقترن الخبر بأداة مما ذكر، وأن يطرح ما اطرحته العرب ونعود إلى العربية الصافية 37". وهو يعني بالأسلوب المتكلّف المطّرح إدخال أداتي الاستدراك (لكن وإلاَّ) على الخبر، أقول: قد جاء هذا الأسلوب في كلام كبار الكتَّاب في العصور المتقدمة كما رأيت، وقد حمل ذلك النحاة على أن يتأولوا له وجهاً. فالمختار عندي هو إجازته.

11-وإلاَّ لكان:

من مواضع (إلاَّ) بكسر الهمزة وتشديد اللام أن تفيد معنى التأكيد. فإذا قلت: (ادفع ما عليك وإلاَّ قوضيت) فإن (إلاَّ) تؤكد ما قبلها أي توجب الدفع، وتعلّق ما بعدها أي (المقاضاة) على انتفاء ما قبلها، فلا مقاضاة ما لم يمتنع الدفع.

وقد شاع في كلام الكتَّاب والمصنفين منذ القدم نحو قولهم: (ادفع ما عليك وإلا لقوضيت) بإدخال اللام على الجواب فهل هذا صحيح؟

أقول تتألف (إلاَّ) من (إن) الشرطية و (لا) النافية، وقد جرى بين النون واللام إدغام المتجانسين، فهل يجوز دخول اللام في جواب (ان) الشرطية؟

أجاز بعض الأئمة دخول اللام في مثل هذا الموضع. قال الإمام شهاب الدين أحمد الخفاجي في (شفاء الغليل-ص176): "إدخال اللام في جواب (لو) ظاهر، وأما في جواب (إن) فقيل إنه من خطأ المصنفين، وليس كذلك، لأنها تُخرَّج على أنها جواب –لو- مقدراً، والتقدير في قولهم- وإن لكان كذا- فلو كان لكان كذا- ترقياً من مرتبة الشك إلى الجزم....".

وقال الإمام الأزهري في شرح قواعد الإعراب: "ومنع الجمهور دخول اللام في جواب –إن- وأجازه ابن الأنباري".

وجاء في حاشية المغني قول الإمام محمد الأمير: "قال الشاعر:

أما والذي لو شاء لم يخلق النَّوى

لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي


قوله: لما غبت، قال الدمايني يمكن أنه جواب –إن- والجملة جواب القسم فيكون سَنَداً لنحو قولهم: وإلا لكان كذا".

فثبت بهذا ذهاب بعض الأئمة إلى جواز قولك (ادفع ما عليك وإلا لقوضيت"، وقد بحث هذا الأستاذ أسعد داغر في كتابه (تذكرة الكاتب)، فمنع قول القائل (وإلا لنجح)، ثم عمد إلى إجازته، في ملحق التذكرة، ولم يشر إلى أنه جاء يستدرك بهذا ما سبق أن منعه، إذ قال: "أنهم أجروا إن الشرطية مجرى –لو- في إدخال اللام على جوابها كقولهم: وإلا لكان كذا، لكنهم لم يجروا –إذا- هذا المجرى"

أقول وقد تعامل –لو- أيضاً معاملة- إن- فتقول (أنت لا تكرمني ولو أكرمتك) وأنت تريد (وان أكرمتك). أما (إذا) فلم يقل أحد بدخول اللام في جوابها، كما تقدم الكلام عليه.

وقد بحث الأستاذ محمد علي النجار نحو هذا في كتابه (لغويات –ص 21 و22) إذ تحدَّث عن دخول لام جواب القسم لا لام جواب لو، دخولها في جواب (إن) دون إذا وانتهى إلى القول: "على أن هذا التخريج لا تسكن إليه النفس كل السكينة. فهو إنما ورد مع إن، ولم يرد مع إذا. وأن أمُّ الباب في الشرط، فلا بدع أن تختص ببعض الأمور، ولا يجب أن يقاس عليها في جميع أحكامها سواها، وهو لا يستقيم أيضاً لو قيل مثلاً: إذا أتيتني لأقوم بإكرامك، فإن الواجب، على تقدير القسم، أن يقال: لأقومنَّ بالتأكيد، كما هو معروف". ولذا قل: ليس لديَّ ما أعطيك وإلا لأكرمتك، وسأكرمك ولو لم تزرني، ولا تقل إذا أتيتني لأكرمتك.

12-أيْ:

أيْ المفتوحة الهمزة الساكنة الياء حرف تفسير، على المشهور. تفسَّر بها الجمل كما تفسَّر المفردات. ومثال التفسير بالجُمَل قول الشاعر: (وترمينني بالطرف أي أنت مذنب)، وقولك (سألته أن يحضر أي طلبت منه الحضور، وقولك (قُطع رزق خالد أي مات) ببناء –قُطع- للمجهول، ولا أشكال في ذلك.

وتفسَّر بأي المفردات، تقول (أكرمت خالداً أي أباك)، فيقع الأشكال فيما بعد (أي)، ما محلّه من الإعراب!

أقول المشهور أن يقع الاسم بعد (أي) المفتوحة الساكنة بدلاً من الاسم قبلها، فيرفع أو ينصب أو يجر مثله. تقول: جاء أي خالدٌ بالرفع فيهما، ولقيت أخاك أي خالداً بالنصب فيهما، وظفرت بأخيك أي خالد بالجر فيهما.

وأجاز بعضهم النصب بفعل مضمر بعد المرفوع والمجرور. تقول: جاء أخوك أي خالداً، وتقديره أعني خالداً، كما تقول: أحسنت إلى أخيك أي خالداً، وتقديره أعني خالداً.

كما أجازوا الرفع بعد المنصوب والمجرور، على الاستئناف، كما جاء في اللسان. على أن المشهور هو اتباع ما بعد (أي) ما قبلها رفعاً ونصباً وجراً.

13-أيّ:

أيّ بفتح الهمزة وتشديد الياء، تكون اسماً للاستفهام أو الشرط أو الموصول:

ومثال الاستفهام قولك: أي الناس أفضل؟ فتكون أي مرفوعة بالابتداء وخبرها أفضل، ويأخذ بعض النقاد على الكتاب قولهم: أيهما أفضل العلم أم المال؟ ويرون هذا خطأ ويجدون الصواب: أيما أفضل العلم أم المال؟ لأن ا لضمير في –أيهما- عاد إلى اسم ظاهر تأخر عنه لفظاً وتقدم رتبة وهو العلم والمال، وهذا لا يجوز. قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل): "قل أيما أفضل العلم أم المال؟ ولا تقل: أيهما أفضل العلم أم المال، ذلك لأن –هما- في قولك –أيهما- ضمير يعود إلى اسم ظاهر تأخر عنه لفظاً وتقدم رتبة عوداً غير مجاز...".

أقول جاء في كلام الفصحاء (أيما) و (أيهما) في مثل هذا الموضع. ففي نهج البلاغة: "أيما أفضل العدل أو الجود. قال عليه السلام العدل يضع الأمور مواضعها والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام والجود عرض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما –3/257-258". وفي كتاب الحيوان للجاحظ: "أيّهما أشد الشتاء أم الصيف.." فصح بذلك الوجهان أيّما أفضل كذا أم كذا، وأيهما أفضل كذا أم كذا.

وقد تدل (أي) الاستفهامية على التعجب حيناً في مثل قولك (أي شاعر هذا الذي سمعت) أو تدل على الكمال كقولك (سمعت شاعراً أي شاعر) فتكون –هذه صفة لنكرة والمعنى أنك تثني عليه بكل ما يُمدح به الشاعر. وتقول في هذا المعنى: (لله درّ زيد أيّ شاعر) فتنصب (أي) على الحال بعد المعرفة أو ترفع (أي) على الابتداء فتكون استفهامية.

ومثال مجيء (أي) اسماً للشرط قولك: أي رجل يُخلص في عمله يلق نجاحاً، فأي مرفوعة بالابتداء والجملة بعدها خبر. وفعل الشرط (يخلص) والجزاء (يلق) مجزومان. وهكذا قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى- الإسراء /110". والمعنى أيّ هذين تدعوا فهو حسن. فتكون –أيّاً- منصوبة مفعولاً به مقدماً لتدعوا، و –ما- زائدة للتأكيد. وفعل الشرط –تدعوا- مجزوم، وقد دخلت الفاء في الجزاء. وكذا قولك: بأيِّ سببٍ تعتذر يقبل اعتذارك، ففعل الشرط –تعتذر- وفعل الجزاء- يقبل- مجزومان.

ويسأل الكتاب أتتبع- أي- ما تضاف إليه في الشرط والاستفهام فتذكَّر مع المذكَّر وتؤنث مع المؤنث!

أقول بحث هذا الأستاذ محمد العدناني في كتابه (معجم الأخطاء اللغوية المعاصرة) فأوجب التذكير دوماً، إذ قال: "ويقولون أية طالبة فازت بالجائزة؟ والصواب: أي طالبة، لأن –أي- الاستفهامية إذا أضيفت إلى نكرة ثبت لفظها مفرداً دائماً. وأي الشرطية كالاستفهامية". وليس الأمر على ما قال العدناني.

ففي الصحاح: "وتقول أي امرأة جاءتك أو جاءك، على الاستفهام، وأية امرأة جاءتك؟" فأجاز الوجهين: أي امرأة وأية امرأة. وجاء في المصباح المنير: "والأفصح استعمال –أي- في الشرط بلفظ واحد للمذكر والمؤنث" فآثر التذكير مع المؤنث ولم يوجبه، وكذا الحال في الاستفهام.

وتأتي (أي) اسم موصول في ثلاث أحوال:

أن يحذف مضافها ويبقى العائد أي الضمير كقولك: (كافئ أيّاً هو مخلص)، فتكون معربة، أو يذكر مضافها وعائدها كقولك: (جاءني أيّهم هو ناجح)، فتكون معربة أيضاً، أو يذكر مضافها ويحذف عائدها كقولك: (أكرم أيّهم أحسن أخلاقاً) فتكون –أي- مبنية على الضم في محل نصب: أي أكرم أيهم هو أحسن أخلاقاً، هذا هو المشهور، ومنهم من أجاز إعرابها في هذه الحال أيضاً.

قال الإمام السيوطي في كتابه (معجم الأدوات النحوية وإعرابها): "وهي –يعني أيّاً- في الأوجه الثلاثة معربة، وتبنى في الوجه الثالث على الضم إذا حذف عائدها وأضيف كالآية- لننزعنَّ من كل شيعة أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّاً –مريم 69- أي أيُّهم هو أشد وأعربها الأخفش..".

وقد اشترط النحاة في (أي) الموصولة هذه أن تضاف إلى معرفة، وذهب بعضهم إلى جواز إضافتها إلى نكرة واحتجَّ بقوله تعالى: "وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون – الشعراء 227" أي المنقلب الذي ينقلبونه، كما فعل ابن عصفور الأندلسي. والجمهور على أن (أيّاً) ها هنا استفهامية، والجملة قد سدت سد مفعولي (سيعلم). فإذا صحت إضافتها إلى نكرة، وقد ورد ذلك في الشعر، صح قول القائل: (اسلك أي طريق تريد) أي الطريق الذي تريد.

وقد يسأل سائل ما الرأي في قولهم: (أيّهم تأتي يكرمك) أيرفع فيه الفعلان أم يجزمان؟

أقول تحتمل (أي) هنا الموصولية والشرطية. فإذا كانت الأولى رفعت الفعلين، و(أي) مرفوعة على الابتداء، ويكرمك هو الخبر. وإذا كانت الثانية جزمت الفعلين فقلت (أيُّهم تأتِ يكرمْك)، وتكون (أي) مفعولاً به مقدماً لفعل (تأت) فتأمل.

14-إيّاك:

إيّاك بكسر الهمزة وتشديد الياء المفتوحة مركبة من (إيّا) وهو ضمير نصب منفصل بني على السكون. و(الكاف) حرف للخطاب كالكاف في (ذلك) أو الهاء في (إياه) أو الياء في (إياي). ففي قوله تعالى: "إيّاك نعبد": إيّا ضمير نصب منفصل بني على السكون في موضع نصب مفعول به لفعل (نعبد). والكاف حرف خطاب للمذكر بني على الفتح. و (نعبد) فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر فيه وجوباً تقديره (نحن). ويقع الأشكال في استعمال (إياك) في المواضع التالية:

1-في مثل قولك: (ما استقبلت إلا إياك). فما نافية، واستقبلت فعل وفاعل. و –إلا- حرف لإيجاب النفي. و(ايّا) في محل نصب مفعول به. والكاف حرف للخطاب. والسؤال: -هل يصح قولك (ما استقبلت إلاَّك) بإحلال (الكاف) الضمير المتصل محل (إيّاك) الضمير المنفصل؟

أقول منع ذلك بعضهم كالحريري في (درّة الغوَّاص) وأجازه آخرون محتجين بما جاء من ذلك في شعر المتقدمين. وأقر هذا ابن مالك. كما أشار إليه ابن هشام في (أوضح المسالك). وصرَّح ابن الأنباري بجواز وقوع الضمير المتصل محل المنفصل.

2-وفي مثل قولك: (إياك والكذب) للتحذير. فـ (إياك) مفعول به لفعل مضمر محذوف بصيغة الأمر نحو (دَع أو اتَّقِ)، والواو عاطفة، و (الكذب) معطوف على المفعول. والسؤال: هل يصح قولك (إياك الكذب) بحذف الواو العاطفة؟ أقول أجازوا ذلك وقدروا لنصب (الكذب) فعلاً مضمراً غير ما أضمروه في نصب (إياك). وصحَّ كذلك قولك: (إياك من الكذب) و (إياك أن تكذب).

3-وفي مثل قولك: (قرأت الكتاب إياه) كما شاع ذلك على ألسنة الكتَّاب، وهكذا قولك (إن اللجنة إياها قامت بذلك) فهل هذا صحيح؟

أقول لا وجه لقولهم هذا، والصحيح: (قرأت الكتاب نفسه) و (إن اللجنة نفسها قامت بذلك)، ولا محل لـ (إياه) و (إياها) فيما تقدم البتة، إذ ليس ثمة ما يستوجب ذكر ضمير النصب ولا علاقة له بالتأكيد الذي أريد بذكره.

15-الاستئناف وأداته:

الاستئناف في الأصل ابتداؤك جملة لا تكون في سياق ما سبقها من حيث الإعراب، ولو كانت على اتصال بها من حيث المعنى. ويأتي الاستئناف النحوي جواباً عن سؤال مقدَّر{ سواء اقتضته الجملة الأولى أو لم تقتضه. ففي قوله تعالى: "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمَّارة بالسوء- يوسف/ 3" قد أتت الجملة المستأنفة جواباً عن سؤال مقدَّر اقتضته الجملة الأولى، وهو: وهل النفس أمّارة بالسوء؟ وفي قول الشاعر:

وتظنّ سلمى أنني أبغي بها بدلاً، أراها في الضلال تهيم

أتت جملة (أراها) مستأنفة، فكانت جواباً عن سؤال مقدَّر لا تقتضيه (وتظن) بالضرورة وهو: وما قولك فيما تظن سلمى؟

ولكن هل ثمة أداة للاستئناف. أقول الأصل ألاَّ تكون ثمة أداة.

فإذا اختلفت الجملتان خبراً وإنشاءً فلا محل بينهما لأداة من عاطف أو سواه. تقول (توفي خالد رحمه الله) ولا تقول (ورحمه الله). فـ (توفي خالد) جملة خبرية و (رحمه الله) إنشائية مستأنفة، فلا محل بينهما لعاطف لامتناع عطف الإنشاء على الخبر أو الخبر على الإنشاء، عند الأكثرين. ومن ذلك قوله تعالى: "خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون- النحل3"، فالجملة الأولى خبرية والثانية إنشائية مستأنفة، ولا محل بينهما لعاطف.

ويصح استئناف الجملة المستأنفة بالفاء، إذا لم تختلف الجملتان خبراً وإنشاءً، كقوله تعالى: "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً- الجن 17"، وقوله تعالى: "ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً –طه112". فقوله (فلا يخاف) في الآيتين، هو في الأصل جواب الشرط. فمن رفع (فلا يخاف) استأنف بالفاء وكان التقدير (فهو لا يخاف)، ومن جزم (فلا يخف) فعلى النهي.

وهكذا قوله تعالى: "بديع السموات والأرض إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون –البقرة 117"، فالجمهور على أن من قرأ (فيكون) بالرفع كان ذلك عطفاً على (يقول)، أو هو على الاستئناف بالفاء، على تقدير (فهو يكون).

وقد جعلوا من ذلك قول الحُطيئة: (يريد أن يعربه فيعجمُه) برفع (فيعجمُه) على الاستئناف بمعنى فإذا هو يعجمه، لأنه لا يريد الإعجام.

ولكن جاء قوله تعالى: "عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يُشركون –المؤمنون 92". فما مسوَّغ دخول الفاء على الجملة الإنشائية والأصل أن يستأنف الإنشاء بعد الخبر، بلا أداة؟

أقول تقدَّم الآية المذكورة قوله تعالى: "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولَعَلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون –المؤمنون 91". ثم تلاه قوله تعالى: "عالم الغيب والشهادة.." بالجر على أنه صفة لاسم الجلالة، في قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو ويعقوب وحفص، فجاء هذا دليلاً آخر على نفي التشريك، بناء ًعلى توافقهم في أنه المتفرِّد بذلك، كما قال الإمام البيضاوي في تفسيره، ولهذا رتّب عليه قوله: (فتعالى عمّا يشركون) بالفاء. أقول ما دام قد ترتب (فتعالى) على ما قبله، فالفاء فيه للسبب لا للاستئناف، وقد ذهب جماعة، ومنهم الفراء، إلى أنها للاستئناف.

وكذلك قوله تعالى: "إنّا أعطيناك الكوثر فصلِّ لربك وانحر –الكوثر". فالأكثرون على أن الفاء في قوله (فصلِّ) إنما هي للسبب، لأن الإنعام في قوله (إنّا أعطيناك الكوثر) قد تسبب في الشكر فتطلّب الصلاة، وقد ذهب إلى هذا ابن هشام في (المغني) وقال: "إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر ولا العكس –1/140".

ولكن هل تأتي (الواو) للاستئناف كما تأتي (الفاء). أقول جاء قوله تعالى: "من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون –الأعراف 186". فقرئ (ويذرهم) بالرفع على الاستئناف وبالجزم عطفاً على موضع جواب الشرط (فلا هادي). وبحث هذا الإمام الزمخشري في كشافه فذكر أن الرفع على الاستئناف، ولكنه قصد بذلك الاستئناف البلاغي الذي يعني عطف الفعل على جواب سؤال محذوف، كأن يكون السؤال: أهؤلاء يضلّهم الله ولا يهديهم أحد، فيكون الجواب: نعم يضلّهم ويذرهم في طغيانهم يعمهون. فالواو هنا عاطفة على كل حال، بالجزم أو الرفع جميعاً. والفرق بين الاستئناف البلاغي أو البياني والاستئناف النحوي أن البلاغي ما كان جواباً عن سؤال مقدَّر اقتضته الجملة الأولى أو معطوفاً عليه، فهو أخصّ مطلقاً من النحوي، وقد جاء نحو من هذا في كتاب القطوف الدانية في العلوم الثمانية لمحمد أمين السفرجلاني/ 199".

* * *

هذا ما رأيت الكشف عنه في استعمال هذه الطائفة من الأدوات النحوية، جلاءً لما قد يعترض الكتَّاب فيها من اللبس. فلابد أن يكون لهم من معرفة ذلك حظّ ومن تدبّره نصيب، تجنباً للخطأ وابتغاءً لحسن الأداء وإحكام البيان. ومن الله العون.

----------------------


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 53 - السنة 13 - تشرين الأول "أكتوبر" 1993 - جمادى الأولى 1414
 
اختصار المعاجم : أهدافه وطرائقه

اختصار المعاجم : أهدافه وطرائقه

اختصار المعاجم : أهدافه وطرائقه
دراسة في (مختار الصحاح) للرازي
د. علي القاسمي

100 ـ تقديم:
قد يحسب بعضهم أن اختصار المعاجم أمر يتعلق بمعاجم التراث الكبيرة فقط وأن عصره قد انتهى الآن، أو يظن أننا لا نحتاج إلى اختصار معجم موجود بل من الأيسر أن نصنف معجما صغيرا جديدا، أو يتوهم أن اختصار المعاجم فن يعتمد على حذق المعجمي وفطنته وليس علما له قواعده المحددة.
غير أن أبحاث علم اللغة التطبيقي الحديث تدلنا على أن اختصار المعاجم لإنتاج أنواع متعددة منها سيبقى ضرورة حتمية ما دامت مستويات القراء متباينة، وما دامت اهتماماتهم متفاوتة، ومادامت حاجاتهم إلى استعمال المعاجم مختلفة؛ وأن من الأفضل أن تنبني المعاجم المتعددة على مدونة معجمية جيدة واحدة لأن في ذلك توفيرا للجهد وصيانة للوقت وتخفيضا للنفقات. ولهذا نجد أن المؤسسات المعجمية العالمية الكبرى مثل لاروس وأكسفورد ووبستر تنتج عدة معاجم لتستجيب لمستويات القراء المتعددة واحتياجاتهم المتنوعة.
وفي هذه الدراسة المختصرة التي تتخذ من مختار الصحاح ميدانا لها، تعريف ببعض أغراض اختصار المعاجم والقواعد الواجب مراعاتها.
200 ـ العبقرية والتعقيد:
لقد احتاج المعجميون العرب إلى أكثر من قرنين من الزمان للتخلص من تأثير الخليل بن أحمد الفراهيدي (100-175هـ) عليهم. فقد ابتكر الخليل منهجية فريدة توافق عبقريته الفذة وتناسب طموحاته العريضة الرامية إلى وضع معجم يحصي فيه جميع " كلام العرب وألفاظهم فلا يخرج منها عنه شيء." (1)
وتقوم منهجية الخليل على أسس لسانية رياضية منطقية جعلت منها منهجية معقدة لا يستطيع استيعابها إلا المتخصصون، في حين يصعب منالها على عامة المثقفين والمتعلمين. وهذه الأسس هي:
أولا، ترتيب مواد المعجم ترتيبا صوتيا حسب مخارج الحروف ابتداء من حروف الحلق، لأنه أبعد المخارج، والصعود تدريجيا حتى حروف الشفة، فجاء ترتيبه على الوجه التالي: ع ج ه غ خ ق ك ج ش ض ص س ز ط ت د ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ي ا. وجعل الخليل بابا خاصا في معجمه لكل حرف من هذه الحروف. وهو ترتيب مبتكر يصعب استيعابه على عامة الناس الذين اعتادوا علي الترتيب الألفبائي والترتيب الأبجدي الشائعين آنذاك.
ثانيا، ترتيب الكلمات في كل حرف من هذه الحروف حسب أبنيتها الصرفية، بحيث أُفرد باب لكل بناء من الأبنية التالية: الثنائي المشدد ثانيه، والثلاثي الصحيح، والثلاثي المعتل، واللفيف، والرباعي، والخماسي. ومن يبحث عن كلمة عليه أن يعرف أولا أصلها وبنائه.
ثالثا، اعتماد طريقة التقليبات، فهو يذكر الكلمة ثم يقلّبها إلى كل وجه بحيث تتألف من مقلوباتها كلمات، فتُذكر جميع تلك الكلمات في موضع واحد، ويشير إلى المُستعمَل والمُهمَل منها. مثلا: في مادة ع ك ب نجد العنوان التالي:
ع ك ب ، ع ب ك ، ك ع ب، ك ب ع ، ب ك ع (مستعملات)، ب ع ك (مهمل)
ومن يبحث عن ( ش ع ل ) فهو لا يجدها في كتاب الشين وإنما في كتاب العين لأن العين أسبق من الشين في الترتيب الصوتي الذي ابتكره الخليل.
هذه المنهجية الرائدة في تنظيم المعجم أثّرت، بدرجات متفاوتة، في أعمال كبار المعجمين العرب الذين جاءوا بعد الخليل مثل معاصره أبي عمرو الشيباني (149- 206هـ)، في معجمه ( الجيم )، وابن دريد (223 –321 هـ)في معجمه( الجمهرة)، وأبي منصور الأزهري (282-321هـ) في معجمه (تهذيب اللغة)، والصاحب بن عباد (326-385 هـ) في معجمه (المحيط).
وعلى الرغم من أن المعجميين الذين جاءوا بعد الخليل بذلوا جهدا كبيرا لتيسير منهجيته وتبسيطها في هذا الجانب أو ذاك، فإنه لم يتم التخلص منها برمتها إلا على يد عبقري آخر هو الجوهري.
300-الجوهري ومعجمه (الصحاح):
والجوهري هو إسماعيل بن حماد (332-400هـ)، أصله من فاراب في بلاد الترك. رحل إلى العراق في طلب العلم فدرس على اثنين من أعظم شيوخ العربية في زمانه هما أبو علي الفارسي (288ـ 356 هـ)وأبو سعيد السيرافي (284ـ 368 هـ). ثم رحل إلى الحجاز وشافه الأعراب في ديارهم. وسافر إلى خراسان فالري فنيسابور حيث أقام هناك متصديا للتدريس ومتفرغا للتأليف، وفيها ألف معجمه (الصحاح) وفيها لقي حتفه على إثر قيامه بتجربة فاشلة للطيران حين صعد إلى سطح الجامع وقد ربط أجنحة إلى ذراعيه وألقى بنفسه محاولا الطيران، ولكنه سقط ميتا. فقال بعضهم إن محاولته تلك نتيجة لإصابته بوسوسة أو لوثة في عقله.
ومعجمه (الصحاح) يشهد بعبقرية فذة جعلت ياقوت يقول عنه في معجم الأدباء:" كان الجوهري من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما" (2)
ولا تكمن أهمية معجم (الصحاح) في أن الجوهري جمع فيه الألفاظ الصحيحة " بعد تحصيلها بالعراق رواية، وإتقانها دراية، ومشافهتي بها العرب العاربة في ديارهم بالبادية"، كما يقول(3) فحسب، وإنما في الترتيب الذي ابتكره لتيسير المعجم كذلك. وخصائص المعجم الفريدة هذه جعلت الناس يقبلون على اقتنائه وتداوله ما دعا الباخرزي إلى القول: " وهذا الكتاب هو الذي بأيدي الناس اليوم، وعليه اعتمادهم." (4) ويعلل الثعالبي ذلك بأن (الصحاح) " أحسن من (الجمهرة)، وأوقع من (تهذيب اللغة)، وأقرب متناولا من (مجمل اللغة)." (5)
وتنبني منهجية الصحاح على ترتيب جميع أصول الكلمات العربية، بصرف النظر عن بنائها الصرفي، حسب قوافيها على حروف المعجم الألفبائية المعتادة. ويُخصص لكل حرف باب. وفي كل باب تُرتب المواد ترتيبا ألفبائيا كذلك. ففي باب الباء، مثلا، نجد المواد مرتبة ألفبائيا : أبب، أتب، أدب، أرب، أزب، ..ألخ.
400ـ تلخيص الصحاح:
وأدى صدور هذا المعجم الرائع إلى تنشيط الحركة المعجمية تمثل في الكتابات النقدية التي تناولته والأعمال المعجمية التي انبثقت عنه تعليقا، وتكملة، وتحشية، وتلخيصا. ويكفي الجوهري فخرا أن أعظم معاجم التراث العربي بعده سارت على نهجه وأفادت منه، ومنها (القاموس) للفيروزبادي و(لسان العرب) لابن منظور ومعجما الصاغاني.
وقد أحصى الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، محقق الصحاح، تسعة تعليقات، وسبع حواش، وتسعة كتب جمعت الصحاح مع غيره من المعاجم، وسبع تكملات ومستدركات، وعشرة كتب تناولت الصحاح بالنقد، وستة عشر كتابا أُلفت في الدفاع عن الصحاح، وسبعة عشر مختصرا، وثمان ترجمات إلى اللغتين الفارسية والتركية، وعشرة كتب اقتبست اسم الصحاح أو سارت على منهجيته. (6)
500ـ الرازي ومختار الصحاح:
لا يقل محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت بعد سنة 691هـ) عن الجوهري عبقرية وطول باع في المعارف. فالرازي لغوي، مفسر، فقيه، صوفي، أديب له نظم ونثر. ولكن أخباره قليلة ولا نعرف تاريخ ولادته ولا تاريخ وفاته على وجه التحديد، فقد اتسم العصر الذي عاش فيه بالاضطراب السياسي والحروب الطاحنة، إذ كان الصليبيون قد شنوا حملاتهم المتتالية على العالم الإسلامي من الغرب واستولوا على بيت المقدس سنة 493 هـ واجتاح المغول العالم الإسلامي من الشرق فسيطروا على إيران كلها عام 628 هـ . ثم زحف هولاكو بجحافله إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، بغداد، سنة 656 هـ واستباحها ودمّرها وأحرق معاهد العلم والمكتبات فيها وقتل الخليفة وأهله.
ولهذا كله اضطربت في ذلك العصر الاتجاهات الفكرية المتباينة والنزعات الدينية المختلفة، وانتعش التصوف. وكان الرازي، وأصله من الري، من كبار الصوفية الذين ولعوا بالأسفار والرحلة في طلب العلم فزار مصر والشام والأناضول، واتصل بالعلماء وطلاب العلم في هذه الأقطار.
وللرازي مؤلفات عديدة في تفسير القران، واللغة، والبلاغة، والتصوف. وله خبرة في إيجاز المعلومات واختصارها تجلت في تفسيره الموجز المعروف بـ ( إنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من آي التنزيل) (7)، وفي مصنفه (كتاب الأمثال والحكم) الذي قال عنه في مقدمته إنه مختصر جمع فيه ما تفرق من الأبيات المفردة وأنصاف الأبيات التي ما زال الفضلاء يتمسكون بها في مكاتباتهم ومخاطباتهم...(8)
هذا اللغوي المتمرس في الإيجاز، المولع في ما قلّ ودلّ، تصدى لاختصار (الصحاح) الذي يقع حاليا في ستة مجلدات مطبوعة يربو عدد صفحاتها على 2560 صفحة من الحجم الكبير، ولخّصه في كتاب صغير عنوانه (مختار الصحاح) لا يتجاوز عدد صفحاته 590 صفحة من القطع الصغير.
600 ـ اختصار المعاجم:
لا يعني اختصار المعجم مجرد حذف ما زاد على كلمات المداخل ومعانيها الأولى من معلومات نحوية، ومعان ثانوية ومجازية، وتعبيرات اصطلاحية وسياقية، وشواهد، وغيرها.(9) فعملية الاختصار مقيدة بالهدف منها وجمهور القراء المستهدفين. فإذا كان هذا الجمهور يتألف من المتعلمين وغير المتخصصين فقد يقتضي الاختصار إضافة معلومات لا يتضمنها المعجم الأصلي، وهذا ما فعله الرازي في (مختار الصحاح)، فقد أضاف أحيانا إلى مداخل الصحاح ما يحتاج إليه الجمهور الذي يسعى الرازي إلى إفادته. ومن الأمثلة على ذلك ما أضافه الرازي من مصادر الأفعال الثلاثية التي أهملها الجوهري. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك مقدمة المعجم. ففي حين تتألف مقدمة الجوهري لمعجمه (الصحاح) من فقرة واحدة لا تتعدى نصف صفحة، نجد أن مقدمة الرازي لمعجمه ( مختار الصحاح) تناهز ست صفحات ضمنها معلومات صرفية ونحوية تساعد القارئ على استيعاب مواد المعجم وفهم سلوكها اللغوي بصورة أفضل.
610ـ أهداف الاختصار ونطاقه:
في مقدمته لـ (مختار الصحاح) يبين الرازي، أولا، سبب اختياره لمعجم الصحاح دون غيره من المعاجم المطولة الأخرى فيقول:
" هذا مختصر في علم اللغة جمعته من (كتاب الصحاح) للإمام العالم العلامة أبي نصر إسماعيل بن حماّد الجوهري رحمه الله تعالى، لما رأيته أحسن أصول اللغة ترتيبا، وأوفرها تهذيبا، وأسهلها تناولا، وأكثرها تداولا، وسميته (مختار الصحاح). ( 10)
فهو هنا لا يُغفل عنوان المعجم الأصلي ولا يهمل اسم مؤلِّفه بل يذكره بتقدير واحترام ويترحم عليه، وهذا ما تقتضيه آداب التأليف والأمانة العلمية وتواضع الأدباء.
ويوضح الرازي في مقدمته أهداف الاختصار فيذكر أنه أعدّ (مختار الصحاح) ليكون معجما أساسيا ميسرا " لكل عالم فقيه أو حافظ، أو محدّث، أو أديب"(11) . فهو ليس للمتخصصين في علوم اللغة كما هو حال المعجم الأصلي، الصحاح، وإنما توخى الرازي أن يجعل (الصحاح) في متناول عامة المثقفين، حجما ومادة، دون أن يجرده من مزاياه المفيدة وخصائصه المجيدة.
ولا يعني الاختصارُ الاقتصارَ على ما ورد في المعجم الأصلي فقط وإنما قد يرجع المعجمي إلى معاجم أخرى فيفيد منها، أو يضيف من معلوماته الخاصة استكمالا للفائدة. وهذا ما فعله الرازي وأشار إليه في مقدمته بقوله:
" وضممت إليه (أي إلى الصحاح) فوائد كثيرة من تهذيب الأزهري وغيره من أصول اللغة الموثوق بها ومما فتح الله تعالى به عليّ فكل موضع مكتوب فيه (قلت) فإنه من الفوائد التي زدتها على الإصل." (12)
620ـ طرائق الاختصار وقواعده:
إذن، ما هي المنهجية التي اتبعها الرازي في الاختصار؟ أو ما هي الوسائل التي استخدمها لتحقيق أهدافه؟
يلخص لنا الرازي منهجيته حينما يذكر في المقدمة أنه اقتصر على ما لا بدّ من معرفته وحفظه لكثرة استعماله وجريانه على الألسن مما هو الأهم فالأهم، واجتنب فيه عويص اللغة وغريبها طلبا للاختصار وتسهيلا للحفظ .(13)
وبعد إمعان النظر في مواد (مختار الصحاح) ومقارنتها بالمواد الأصلية في (الصحاح)، يمكننا أن نستخلص وسائل الاختصار التي استخدمها الرازي ونلخصها في ما يلي:
621 ـ اختصار المعلومات النحوية:
يقدّم المعجم الجيد لمستعمليه معلومات صرفيه ونحوية تعينهم على تصريف الأفعال ونطق مشتقاتها بصورة صحيحة. ويحتاج مستعمل المعجم العربي الذي تتألف مداخله عادة من الأفعال في صيغة الماضي إلى معرفة الأفعال المضارعة وحركة عين الفعل فيها ومصدرها، وأحيانا اسم الفاعل واسم المفعول إذا كانا شاذين، لأن هذه الأمور سماعية وليست قياسية لا يستطيع القارئ معرفتها بنفسه.
وهذا النوع من المعلومات الصرفية يتطلب استعمال الشكل التام (الحركات) ما يؤدي إلى كثير من التصحيف والتحريف حتى في وقتنا الحاضر التي تطورت فيه الطباعة بالحاسوب بله في ذلك العصر الذي كان يعتمد فيه النشر على النسخ اليدوي والنسّاخ الذين قد تعوزهم المعرفة المتخصصة ويرهقهم العمل ما يؤدي إلى اقترافهم الأخطاء الكثيرة.
وقد استخدم الرازي طريقة ذكية لاختصار المعلومات النحوية في صلب معجمه (مختار الصحاح)، وتساعد، في الوقت نفسه، على تجنب التصحيف والتحريف. وهي طريقة تستخدمها اليوم أحدث المعاجم الإنكليزية مثل معجم كمبرج ومعجم أكسفورد للمتعلمين، مع العلم أن الجوهري لم يستعمل تلك الطريقة في معجمه (الصحاح).
وخلاصة طريقة الرازي تلك أنه ذكر في المقدمة أبواب أو أنواع الأفعال الثلاثية الستة ( فَعَلَ يفعُل، فعَل يفعِل، فعَل يفعَل، فعِل يفعَل، فعُل يفعُل، فعِل يفعِل)، ونصّ على موازين كل باب منها، وهي موازين يحفظها التلاميذ في المراحل التعليمية الأولى، مثل :
" الباب الأول ـ فعَل يفعُل ، بفتح العين في الماضي وضمها في المضارع، والمذكور منه سبعة موازين: نصر ينصر نصرا، دخل يدخل دخولا، كتب يكتب كتابة، ردّ يردّ ردّا، قال يقول قولا، عدا يعدو عدوا، سما يسمو سموا"
ثم أتى على بقية الأبواب وموازينها الشائعة، وذكر القواعد الصرفية التي تتحكم في بعض هذه الموازين. أما في صلب المعجم فإنه أخذ يحيل على هذه الموازين المذكورة في المقدمة، فلا يحتاج إلى ذكر الفعل المضارع، ولا تهجي المصدر، ولا تحديد حركة الحرف الأوسط من الماضي، ولا إيراد حركة عين المضارع. وكل ما يحتاجه هو النص على الباب الذي ينتمي إليه الفعل الماضي. مثلا:
"ح ل ل ـ (حَلّ) العقدة: فتحها (فانحلّت). وبابه ردّ. يقال: يا عاقد اذكر حلاً.."
وعند ذلك يعرف القارئ أن تصريف الفعل الماضي (حلّ) مماثل لتصريف الفعل (ردّ) المنصوص عليه في مقدمة المعجم، وهو : حَلَّ يَحُلُّ حَلاً.
622ـ حذف الألفاظ العويصة والغريبة:
من المعروف أن الناس لا يستخدمون في أحاديثهم اليومية أكثر من ثلاثمائة كلمة، وهي التي اصطلح عليها بالمفردات الشائعة. أما أكبر الكتاب وأطولهم باعا في اللغة وأكثرهم اطلاعا على أوابدها وشواردها فإنه لا يستخدم في كتاباته أكثر من عشرة آلاف كلمة. ولهذا فإن المعجم الوجيز المخصص لعامة الناس من المثقفين لا تتضمن مداخله الكلمات النادرة التي لا يحتاجها مستعملوه عادة. ولذلك فإن الرازي أهمل عددا كبيرا من مداخل الصحاح ذات الألفاظ العويصة التي يصعب على الدارسين حفظها. وهذه إحدى وسائل الاختصار والتسهيل التي اتبعها وأعلن عنها في مقدمته بقوله: " واجتنبت فيه عويص اللغة وغريبها طلبا للاختصار وتسهيلا للحفظ".
وقد تكون المادة برمتها غريبة كما قد يكون أحد مشتقات المادة فقط غريبا. ففي الحالة الأولى يحذف الرازي تلك المادة. وفي الحالة الثانية يُبقي على المادة ويحذف المدخل الغريب فقط.
ومن الأمثلة على المادة الغريبة في الصحاح مادة(ب ج ر م):
" البَجارِم: الدواهي." التي حذفها الرازي،
ومادة (ج ح ل):
" الجُحال بالضم : السَمُّ. وأنشد الأحمر:
جرّعه الذَيْفانَ والجحالا
وأما الجُخالُ بالخاء فلم يعرفه أبو سعيد..."
وأبو سعيد هذا هو أبو سعيد السيرافي شيخ الجوهري صاحب الصحاح. فإذا لم يعرفه أبو سعيد فما فائدته لعامة المثقفين؟ ولهذا تركه الرازي.
ومن الأمثلة على مداخل الصحاح العويصة الغريبة التي أهملها مختار الصحاح على الرغم من احتفاظه ببقية مداخل المادة، مدخل (طَباقاءُ) في مادة ( ط ب ق ):
"(طَبَاقَاءُ) ويقال: جملٌ طَباقاءُ، للذي لا يضرب.
والطَبَاقَاءُ من الرجال: العييُّ، قال جميل بن معمر:
طبقاءُ لم يشهد خصوما ولم يَقُدْ ** ركاباإلى أكوارها حين تعكفُ
ويروى "عَيَايَاءُ" ، وهما بمعنىً "
623 ـ حذف المعاني العويصة والغريبة:
لا يقتصر الاختصار على حذف الألفاظ العويصة والغريبة فقط، وإنما يشمل كذلك حذف المعاني العويصة والغريبة لبعض الألفاظ. فقد يكون المدخل مشتركا لفظيا له عدة معان بعضها عويص غريب لا يحتاجه القارئ المثقف، فيعمد المعجمي إلى حذفه توخيا للاختصار.
ومن الأمثلة على ذلك مدخل (الرخمة) في مادة (ر خ م ) التي أورد لها الصحاح معنيين هما:
ـ "الرَخَمَةُ: طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة يقال له ألأنُوق. والجمع رَخَمٌ. وهو
للجنس. قال الأعشى: يا رَخَماً قاظَ على مطلوبِ
ـ والرَخْمَةُ أيضا قريب من الرحمة، يقال: وقعت عليه رَخَمَتُهُ، أي محبته ولينه.
أبو زيد: رَخِمَهُ رَخْمةً، ورَحِمَهُ رحمةً، وهما سواء. قال الشاعر:
كأنها أمُّ ساجي الطرفِ أخْدَرَها ** مستودعٌ خَمَرَ الوَعساءِ مَرْخومُ
قال الأصمعي: أُلقيت عليه رَخْمَةُ أمّه، أي حُبُّها وإلفُها ، وأنشد لأبي النجم:
مُدللٌ يشتمنا ونَرْخَمُهْ ** أطيبُ شيءٍ نَسْمُهُ ومَلْثَمُهْ ..."
أما الرازي فأهمل المعنى الثاني ( أي الرخمة بمعنى الرحمة) واقتصر على المعنى الأول مختصرا، كما يلي:
ـ" الرَّخْمَةُ : طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، وجمعه (رَخَم) وهو للجنس."
624 ـ حذف المعلومات الموسوعية:
إن أحد الفروق بين الموسوعة والمعجم هو اشتمال الموسوعة على أسماء الأعلام من أشخاص، وأماكن جغرافية ـ مثل البلدان والجبال والأنهار والوديان ـ، وأعياد، ووقائع حربية، وأعمال فنية وأدبية وغيرها مما يُطلق عليه عادة بالمعلومات الموسوعية. أما المعجم اللغوي فإنه يخلو من تلك المعلومات الموسوعية. (14)
وقد دأب أصحاب المعاجم التراثية على إدخال المعلومات الموسوعية فيها جريا على ما سَنّه الخليل في معجمه الرائد، كتاب العين. ويطلق اللغويون المعاصرون على هذا النوع من المعاجم اسم المعاجم الموسوعية. ولكن المعجم اللغوي البحت لا يشتمل على أية معلومات موسوعية. فمكان المعلومات الموسوعية الصحيح هو في المعلمة أو الموسوعة أو دائرة المعارف، وليس في المعجم اللغوي. وهذا ما فعله مجمع اللغة العربية بالقاهرة حينما أصدر المعجم الوسيط خاليا من أسماء الأعلام.
وكان الرازي من أوائل اللغويين العرب الذين تنبهوا إلى هذا الفرق الأساسي بين المعجم والموسوعة ( أو بين المعجم اللغوي والمعجم الموسوعي) وأفاد منه في اختصار الصحاح. ولم ينتبه إلى هذه الحقيقة الهامة المعجمي الشهير مجد الدين الفيروزبادي ( ت 817 هـ ) الذي عاش بعد الرازي بحوالي قرن ونصف قرن من الزمان. فمعجمه (القاموس المحيط) الذائع الصيت هو ،في حقيقة الأمر، خلاصة معجمه المسمى (اللامع المُعلم العُجاب الجامع بين المُحكم والعُباب) الذي كان يتألف من ستين سفرا. ولكن الفيروزبادي حذف في عملية الاختصار معظم الشواهد وأبقى على أسماء الأعلام. وليته اقتدى بالرازي وفعل العكس.
ومن الأمثلة على المعلومات الموسوعية التي أوردها الجوهري في الصحاح وأغفلها الرازي في مختار الصحاح ما يلي:
ـ "جُعْفيٌّ : أبو قبيلة من اليمن، وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مَذحج. والنسبة إليه كذلك. قال لبيد:
قبائل جعفيٌّ بن سعد كأنما سقى جمعهم ماءَ الزعاف منيمُ
وقوله منيم، أي مهلك، جعل الموت نوما. ويقال: هذا كقولهم ثأر منيم.
ومنهم عبيد الله بن الحر الجعفي، وجابر الجعفي. "
ـ "جُحْفة : موضع بين مكة والمدينة، وهي ميقات أهل الشأم، وكان اسمها مَهيَعة، فأجحف السيلُ بأهلها، فسميت جُحفة. "
625 ـ اختصار الشواهد:
والنوع الآخر من المعلومات التي عمد الرازي إلى اختصارها هو الشواهد. ونعني بالشاهد نصا قصيرا، حقيقيا أو موضوعا، يرد فيه اللفظ المراد تعريفه. وقد استخدم المعجميون العرب الشواهدَ لأغراض متعددة أهمها:
1ـ إثبات وجود الكلمة في اللغة العربية، بدليل ورودها في بيت شعري أو مثل سائر أو قول مأثور أو نحوه.
2ـ توضيح معنى الكلمة، لأن السياق يساعد على تحديد معنى اللفظ الوارد فيه.
3ـ مساعدة القارئ على الوقوف على سلوك اللفظ النحوي عندما يستعل في نص حيّ.
إضافة إلى أن الشاهد المقتبس من القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو كبار الشعراء والأدباء يلقي أضواء كاشفة على الثقافة العربية ويثير اهتمام القارئ.
ولكن المعجميين العرب أكثروا من الشواهد أو استطردوا فيها بحيث اضطروا في أحيان كثيرة إلى شرح معنى الشاهد كله أو بعضه، لأن الشاهد أصعب من اللفظ المطلوب فهمه. ومن الأمثلة على ذلك ما مرّ علينا في الفقرة 624 حين اضطر الجوهري إلى شرح الشاهد الذي أورده من شعر لبيد.
وقد تعامل الرازي مع شواهد الصحاح بطرائق أربع:
أولا، الإبقاء على الشاهد القصير المفيد. مثلا، في مادة (س م ع ):
ـ" السَّمْع : سمع الإنسان، يكون واحدا وجمعا، كقوله تعالى: ( ختم الله على قلوبهم وسمعهم)، لأنه في الأصل مصدر قولك:سمعتُ الشيءَ سَمعا وسَماعا. وقد يجمع على (أسماع). وجمع الأسماع ( أسامع).."
ثانيا، اختصار الشاهد بالإبقاء على الجزء المناسب منه. مثلا، في مادة ( ع ص م) ورد في الصحاح :
"وفي المثل: (كن عصاميا ولا تكن عظاميا) يريدون به قوله:
نفسُ عصامٍ سودت عصاما
وعلّمته الكـرَّ والإقـداما
وصيّرته ملكا همـــاما..."
أما الرازي فقد اكتفى بإيراد الشاهد على الوجه التالي:
نفس عصام سودت عصاما ** وعلمته الكرّ والإقداما
وكان بإمكانه، طبعا، أن يقتصر على الشطر الأول فقط، ولكنه آثر أن يحتفظ بالبيت كله لأن الوزن والقافية يسهلان حفظه؛ فالتقصير لا يؤدي دائما إلى التيسير.
ثالثا، إذا ذكر الجوهري عدة شواهد لمدخل واحد، فقد يكتفي الرازي بشاهد واحد منها.
ومن الأمثلة على ذلك مدخل (الغرام) الذي ورد في الصحاح على الوجه التالي:
ـ "ابن الأعرابي: الغرام: الشرّ الدائم والعذاب. قال بشر:
ويومُ النِسار ويومُ الجفارِ ** كانا عذابا وكانا غراما
وقال الأعشى:
إن يُعاقِب يكنْ غراما، وإن يُعـ ** ـطِ جزيلا، فإنه لا يُبالي
وقوله تعالى: ( إن عذابها كان غراما). قال أبو عبيدة: أي هلاكا ولزاما لهم. قال: ومنه رجل مُغرم لحب حبّ النساء. ومنه قولهم: رجل مُغرم من الغُرم والدَين..."
في هذا المدخل من معجم الصحاح ، نجد أن الجوهري أتى بثلاثة شواهد، اثنين من الشعر وواحد من القرآن الكريم. أما الرازي فقد اكتفى بشاهد واحد للاختصار، فاختار الشاهد القرآني، وهو أوضح الثلاثة وأبسطها، لأنه يفسر نفسه بنفسه، وجاء المدخل في مختار الصحاح على الوجه التالي:
ـ الغرام : الشر الدائم والعذاب. وقوله تعالى: ( إن عذابها كان غراما)، قال أبو عبيدة: أي هلاكا ولزاما له. قال: ومنه رجل مُغرَم: يحب النساء، ورجل مُغرَم : من الغُرم والدَين."

رابعا، حذف الشاهد بأكمله، إذا ما شعر الرازي أنه لا حاجة له أو أنه لا يخدم الغرض الذي استخدم من أجله. ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في مادة ( ر ق ع) في الصحاح:
"واسترقع الثوبُ : حان له أن يُرقَع. وأما قول أبي الأسود الدؤلي:
أبى القلبُ إلا أمَّ عمرٍو وحبَّها عجوزاً، ومَن يُحبب عجوزاً يُفنّدِ
كثوب اليماني قد تقادم عهدُه ورُقْعَتُهُ ما شئتَ في العينِ واليدِ
فإنما عني به أصله وجوهره."
أما في مختار الصحاح فنجد المدخل على الوجه التالي:
" استرقعَ الثوبُ: حان له أن يُرقَع."
لأن الشاهد الذي ورد في الصحاح لا يتعلق بـ "استرقعَ " بل بـ " رُقْعة".
626ـ حذف المصادر والمراجع :
تقتضي الأمانة العلمية ومتطلبات تيسير البحث العلمي أن يذكر المعجمي مصادره، وهذا ما دأب عليه الجوهري في المواد التي سمعها من شيوخه أو نقلها من معاجم أخرى ولم يجمعها بنفسه من الأعراب الذين شافههم في البادية. ولهذا نجد الصحاح مليئا بعبارات مثل: "قال أبو عبيدة:" و "أنشدنا أبو عمرو:" و " ابن الأعرابي أو قال ابن الأعرابي:" و" لم يعرفه أبو سعيد" و " أبو زيد:" و " قال الفراء: ".
أما الرازي فقد حذف كثيرا من هذه المصادر، لأن ما يحتاج إليه مستعمل معجمه الوجيز، مختار الصحاح، هو معنى الكلمة والمعلومات المتعلقة بها وليس اسم اللغوي الذي استقيت منه تلك المعلومات. وهذا يذكرنا بمقولة الإمام علي بن أبي طالب: " لا تنظر إلى مَن قال بل أنظر إلى ما قال." ومن أراد الوقوف على المصادر الأصلية يستطيع مراجعة الصحاح.
ومن الأمثلة على حذف الرازي للمصادر حذفه لعبارة "ابن الأعرابي:" التي ذكرناها في النقطة الثالثة من الفقرة 625.
700 ـ الخاتمة:
في هذه الورقة الموجزة لخّصنا الطرائق التي استخدمها الرازي في اختصار معجم الصحاح، وهي طرائق تقوم على تخطيط محكم وأسس علمية جعلت من معجم مختار الصحاح أشهر مختصرات الصحاح وأيسرها، ومكّنته من التفوق على جميع المختصرات الأخرى حتى تلك التي أنجزها علماء مشهود لهم بالمعرفة والخبرة مثل محمود الزنجاني.

* * *
الهوامش:
(1) لخليل بن أحمد، كتاب العين ، تحقيق د. مهدي المخزومي و د. إبراهيم السامرائي ( بغداد: دار الرشيد للنشر، 1980) ج 1، ص 47، من مقدمة الخليل.
(2) ياقوت، معجم الأدباء ( بيروت: دار الفكر، 1980) ج 6،ص 151-152.
(3) إسماعيل بن حماد الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار (بيروت: دار العلم للملايين) ج 1 ص 33.
(4) علي بن أبي الحسن الباخرزي، دمية القصر وعصر أهل العصر، نقلا عن مقدمة المرجع السابق ص 112.
(5) عبد الملك الثعالبي، يتيمة الدهر، تحقيق مفيد محمد قمحية ( بيروت: دار الكتب العلمية، 1983) ج 4، ص 468 .
(6) اسماعيل بن حماد الجوهري، مرجع سابق، المقدمة ص 154-212
(7) محمد بن أبي بكر الرازي، تفسير الرازي، تحقيق محمد رضوان الداية (بيروت: دار الفكر، 1990)
(8) المرجع السابق، ص 9.
(9) من الأمثلة غير الموفقة على اختصار المعاجم، المعجم العربي الميسر ( تونس: الألكسو، 1991)، المستخلص أساسا من المعجم العربي الأساسي. فقد حذف المكلفون بإعداده كثيرا من المعلومات الأساسية الموجودة في المعجم الأصلي، بما في ذلك أسماء اللغويين العرب الذين ألفوه.
(10) محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح ( القاهرة: المطبعة الأميرية، 1922) المقدمة.
(11) المرجع السابق.
(12) المرجع السابق.
(13) المرجع السابق.
(14) للوقوف على الفروق بين المعجم والموسوعة، انظر: علي القاسمي، علم اللغة وصناعة المعجم (الرياض: جامعة الملك سعود، ط2: 1991) ص 43-44.
 
الإطناب في اللغة والبلاغة حدوده ـــ أقسامه وأغراضه

الإطناب في اللغة والبلاغة حدوده ـــ أقسامه وأغراضه

الإطناب في اللغة والبلاغة حدوده ـــ أقسامه وأغراضه
د. ياسين الأيّوبي


1-تعريفه:

أ-في اللغة: جاء في لسان العرب أن الإطناب هو: البلاغة في المنطق والوصف، مدحاً كان أو ذمّاً. وأطنب في الكلام: بالغ فيه. والإطناب: المبالغة في مدح أو ذم والإكثار فيه.

وقال ابن الأنباري: أطنب في الوصف، إذا بالغ واجتهد. وأطنبت الريح: إذا اشتدت في غبار(1).

وأصل الإطناب (بالكسر) من: الطُّنْب والطُّنُب، وهما معاً: حبل الخباء والسرادق ونحوهما. والجمع: أطناب (بالفتح).

وقال ابن سيده: الطنب: حبل طويل يشد به البيت والسرادق. وطنبه: مده بأطنابه وشده(2).

ب-في الاصطلاح البلاغي: الإطناب زيادة اللفظ على المعنى لفائدة(3). هذا هو التعريف البلاغي المختصر. ولو شئنا التوسع قليلاً لقلنا: إن الإطناب باب بلاغي قديم قدم الإيجاز، ارتبط به ارتباط العضو بالعضو يتتامان ليؤلفا هيئة أدبية سوية البنية والملامح... فقد وصفه الجاحظ، ولم يسمه، في ذكره فضائل الصمت والكلام الموزون، يقال في موضعه(4).

ثم ذكره صراحة عندما عرض لحاجات الكلام ومنطقه، رافضاً الفضول والتكلف فقال: هناك أبواب توجب الإطالة وتحوج إلى الإطناب. وليس بإطناب ما لم يجاوز مقدار الحاجة، ووقف عند منتهى البغية(5).

ووصفه أبو العباس المبرِّد (ت 286هـ/ 899م) بالكلام المفَخِّم، في مقابل: الاختصار المفهم، والإيماء البيِّن، واللمحة الدالة(6).

"وقيل لعمرو بن العلاء (ت 154هـ/ 770م) هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم؛ كانت تطيل ليسمع منها، وتوجز ليحفظ عنها"(7).

ج-الربط بين التعريفين اللغوي والبلاغي:

لو قارنا تعريف اللسان، بتعريف البلاغيين القائل: (الإطناب زيادة اللفظ على المعنى لفائدة) لما وجدنا خلافاً. لأن القولين يرميان، من وراء الزيادة اللفظية إلى الفائدة.

و (المبالغة في المدح أو الذم)، من شروط التصوير الفني الأدبي، لأنه لا يصح في الأدب، أن يوصف الممدوح أو المهجو بما فيهما من معالم التمييز الإيجابي أو السلبي، من دون زيادة أو نقصان. إذاً لانتفى دور الأدب وجماله وتأثيره في النفوس. حتى قول المعجم عن (إطناب الريح واشتدادها في غبار)، يصب في هذه الغاية الجمالية التي ينتهي إليها الإطناب. لأن "الغبار" في النهاية هو الدليل الحسي على اشتداد الريح وقسوتها.

والذي يزيد في توضيح صورة الإطناب، تفريق البلاغيين بينه وبين التطويل الذي عدوه زيادة لفظية، من غير فائدة. فقال أبو هلال العسكري (ت 395هـ/ 1004م):

الإطناب بلاغة؛ والتطويل عِيٌّ. لأن التطويل بمنزلة سلوك ما يبعد جهلاً بما يقرب. والإطناب بمنزلة السلوك طريق بعيد نزه يحتوي على زيادة فائدة(8).

"ومن أوفى الشواهد دلالة على فائدة الإطناب، وحسنه، تكرار آية: [فبأيِّ آلاءِ ربِّكُما تُكَذِّبان] من سورة الرحمن، إحدى وثلاثين مرة، لأنه سبحانه وتعالى، عدَّد فيها نعماءه وأذكَر عباده آلاءه، ونبههم على قدرها، وقدرته عليها، ولطفه فيها؛ وجعلها فاصلة بين كل نعمة وأخرى ليعرف موضع ما أسداه إليهم منها"(9).

2-أقسامه أو أنواعه:

أ-الإطناب في الجملة الواحدة:

وهو في معظمه لا يتعدى إطاري الحقيقة والمجاز.

1-إطناب الحقيقة:

وهو ما يزاد الكلام فيه لشرح ما هو معروف فيظن السامع أنه زيادة لا حاجة إليه، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، لأن ما زيد في هذا الصدد يقال في كل شيء يعظم مناله، ويعز الوصول إليه، فيؤكد الأمر فيه على هذا الوجه، دلالة على نيله والحصول عليه(10).

مثل قولهم: رأيته بعيني، وبأم عيني، وقبضته بيدي وذقته بفمي. فالمعروف أن الرؤية لا تكون إلا بالعين، والقبض لا يكون إلا باليد.. وهكذا. ولكن عظم الأمر يستدعي مزيداً من التأكيد والاطمئنان، فيُعمد إلى هذه الإضافات التي ليست أكثر من معان أضيفت إلى نفسها، ليتم الوصول إلى قلب المعنى العزيز الجانب. كقوله تعالى لمن افترى عليه بالقول [ذلكمْ قولُكُمْ بأفواهكمْ].

2-إطناب المجاز:

قرَّظه ابن الأثير وعظَّمه فقال:

"وهذا موضع من علم البيان كثيرة محاسنه، وافرة لطائفه. والمجاز فيه أحسن من الحقيقة، لمكان زيادة التصوير في إثبات وصف الحقيقي للمجازي، ونفيه عن الحقيقي"(12).

كقوله تعالى: )فإنَّها لا تَعْمَى الأبصارُ ولكن تَعْمَى القلوبُ التي في الصدور((13) "ففائدة ذكر الصدور" ههنا أنه قد تُعُورف وعُلم أن المعنى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تُصاب الحدقة بما يَطمس نورها، واستعمالها في القلب تشبيه ومثل. فلما أريد إثبات ما هو خلاف المتعارف من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة، ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف، ليتقرر أن مكان العمى إنما هو القلوب، لا الأبصار"(14).

ب-القسم الثاني، الإطناب في الجمل المتعددة:

ويتضمن أربعة أشكال، فصَّلها ابن الأثير وشرحها بعناية..

1-ذكر الشيء والإتيان به بمعان مختلفة:

إلا أن كل معنى يختص بشيء ليس للآخر وقد استعمله أبو تمام في مواضع كثيرة، كقوله من قصيدة في رثاء القاسم بن طوق(15):

زكيٌّ سجاياهُ تضيف ضيوفُهُ

ويُرجى مرجِّيه ويسأل سائلُهْ


فالفكرة العامة تدور على عظمة الممدوح وقوة عطائه. ولكن الشاعر نَفَذ إلى ما وراء ذلك، عارضاً لصور ومعان أخرى، يتوهمها السامع أنها مكررة، وهي في الحقيقة لازمة لفائدتها في تجميل الصورة العامة وتعميق الفكرة الرئيسة.

ومعنى البيت بصورة تفصيلية: أن ضيفه يستصحب معه ضيفاً طمعاً في كرم مُضيفه؛ ويعطي السائل عطاء كثيراً يصير به معطياً. ومعنى "يرجَّى مُرجِّيه": إذا تعلق به رجاء راج فقد أيقن بالفلاح والنجاح حتى يصبح هذا الأخير موضع رجاء الآخرين، لمكان رجائه الممدوح. وهذا أبلغ الأوصاف الثلاثة(16).

2-النفي والإثبات:

وهو أن يذكر الشيء على سبيل النفي، ثم يذكر على سبيل الإثبات، أو بالعكس.

شرط أن يكون في أحدهما زيادة ليست في الآخر، وإلا عُدَّ تكراراً. كقول الحق المبارك: [لا يَسْتأذنُكَ الذين يؤمنون بالله واليوم الآخرِ أن يُجاهِدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليمٌ بالمتَّقين* إنما يَسْتأذِنُكَ الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارْتابَتْ قلوبُهُم فهم في ريبهم يتردَّدون](17).

فقد ذكر الشيء منفياً، ثم ذكره مثبتاً، لوجود الفائدة في الذكر الثاني، وهي تأكيد المعنى الأول المنفي، فقد نفى ربُّ العزة استئذان المؤمنين للنبي بالجهاد وأثبت ذلك بالنسبة للملحدين المُشكِّكين.

"والمعنى في ذلك سواء. إلا أنه زاد في الآية الثانية قوله: )وارْتابَتْ قلوبهم فهم في ريبهم يترددون( ولولا هذه الزيادة لكان حكم هاتين الآيتين، حكم التكرير"(18).

3-ذكر المعنى الواحد تاماً، ثم يضربُ له مثال من التشبيه:

قال عنه ابن الأثير "هذا الضرب من أحسن ما يجيء في باب الإطناب"(19) كقول أبي عبادة البحتري متغزلاً:

ذات حسن لو استزادت من الحسـ

ـن إليه لما أصابت مزيدا

فهي كالشمس بهجة، والقضيب اللَّـ

ـدْنِ قدَّاً، والريم طرْفاً وجيدا(20)


البيت الأول كاف لبلوغ الغاية في الحسن؛ ومع ذلك فقد جاء الشاعر، في البيت الثاني، بتشبيهات ليزيد السامع تصويراً وتخيلاً.

ومثل ذلك قول البحتري أيضاً- من قصيدة يمدح فيها الفتح بن خاقان:

تنقَّل في خُلقي سؤدد

سماحاً مرجَّى وبأساً مَهيبا

فكالسيف إن جئتَهُ صارخاً

وكالبحر إن جئته مستثيبا(21)


فالبيت الأول تضمن معنيين رئيسيين بارزين هما الكرم والقوة. فجاء البيت الثاني ليصور ذلك تصويراً جمالياً كان التشبيه حليته وزينته، بعد أن كان المعنى عارياً تماماً في البيت السابق.. وفي ذلك وجه آخر من وجوه الحسن في الإطناب.

4-استيفاء معاني الغرض المقصود من الكلام:

كقول الشاعر المخضرم حميد بن ثور الهلالي (ت 30هـ/ 650م) واصفاً ذئباً:

يَنامُ بإحدى مُقلتَيه ويتَّقي

بأخرى، المنايا، فهو يقظان هاجعُ(22)


فالبيت مكتمل المعنى والسياق في صدره ونصف عجزه. لكن الشاعر أراد استيفاء المعنى في خاطره وخاطر السامع، فقال، مضيفاً ومطنباً: فهو يقظان هاجع". وهذه الإضافة مفيدة على الصعيدين الفكري والبلاغي، إذ لخصت الكلام كله، والصورة كلها بهاتين الكلمتين الجامعتين: (اليقظة، والهجوع).

قال ابن الأثير عن هذا الضرب: إنه أصعب الضروب الأربعة طريقاً وأضيقها باباً لأنه يتفرع إلى أساليب كثيرة من المعاني..(23) وضرب لنا مثلاً آخر آية قرآنية غاية في الإيجاز، وهي في وصف بستان، [فيهِ منْ كُلِّ فاكِهَةٍ زوجان] شرحها ابن الأثير شرحاً إطنابياً فقال: جنَّة علت أرضها أن تُمسك ماءً وغنيت بينبوعها أن يستجدي سماء، وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة، وما كل تربة توصف بالنجابة... ففيها المَّشمش الذي يسبق غيره بقدومه... وفيها التفاح الذي رقَّ جلده وتورَّد خدُّه... وفيها العنب الذي هو أكرم الثمار طينة... وفيها الرمان الذي هو طعام وشراب... وفيها التين الذي أقسم الله به تنويهاً بذكره.. وفيها من ثمرات النخيل ما يُزهى بلونه وشكله.. الخ(24).

ج-القسم الثالث: الإطناب وفقاً لتقسيمات القزويني:

كان للقزويني (ت 739هـ) دور هام في وضع القواعد شبه النهائية لعلوم البلاغة ومصطلحاتها، فأسهم في الإضافة والتفريع والترسيخ الأمر الذي جعل البلاغيين المحدثين يعتمدون تقسيماته وتعريفاته التي كانت هي حصيلة التطور النظري للبلاغة العربية خلال العصور السابقة.

وهكذا وجدنا الدارسين المعاصرين يتناولون الإطناب وفقاً لتقسيمات القزويني، على شيء من الاختلاف، لجهة التنويع، فكان له ولهم الأنواع الآتية:

1-الإطناب بالإيضاح بعد الإبهام:

ليُرى المعنى في صورتين مختلفتين؛ أو ليتمكن في النفس أفضل تمكن، ويكون شعورها به أتم(25). كقوله تعالى: )وإنَّ لكُمْ في الأنْعام لَعِبْرةً نَسْقيكُمْ مما في بطونه من بين فَرْثٍ ودَم لَبَنَا خالصاً سائغاً للشاربين((26).

فقد ذكر المعنى العام وهو (العبرة)، غير الواضح، ثم أعقبه بشرح وتوضيح لا لبس فيه ولا غموض. كان التوضيح على مرحلتين: الأولى هي (سُقيا البطون) والثانية: (اللبن السائغ) الذي يخرج من موضع دقيق لا يكاد يعرفه إلا الطبيب الجراح المختص، تماماً كخلق الإنسان، في قوله تعالى: )من ماءٍ دافقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرائِبْ((27). فتأمل فائدة هذا الإطناب التوضيحي، وأهميته في شرح جوامع الكَلِمَ.

2-إطناب التوشيع:

ومعنى التوشيع اللغوي لف القطن بعد ندفه. وهو أن يؤتى في سياق الكلام، وبخاصة الشعر، بمثنى مفسر باسمين، أحدهما معطوف على الآخر. ومنه قول عبد الله بن المعتز (ت 296هـ/ 908م):

سقتني في ليل شبيه بشعرها

شبيهة خديها بغير رقيب

فما زلت في ليلين: شعر وظلمة

وشمسين: من خمرٍ ووجهِ حبيب(28)


فالبيت الثاني، يتضمن ذكر لليلين فسرهما الشاعر بالشَّعر والظلمة، وكذلك عجز البيت نفسه، تضمن ذكراً لشمسين، مفسرين بالخمر ووجه الحبيب.

3-إطناب الخاص بعد العام أو العكس:

بالنسبة إلى الوجه الأول، يكون الإطناب للتنبيه على فضل المذكور أولاً، حتى كأنه ليس من جنسه "تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات"(29) كقوله جلَّ وعلا: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى](30). فالحفاظ على الصلوات، يتضمن حكماً الصلاة الوسطى. لكن الباري آثر التخصيص، بعد التعميم، للتنبيه على فضل المخصَّص وهو هنا الصلاة الوسطى (أي صلاة العصر) كونها حلقة اتصال بين صلاتي السُّحور والعشاء.

أما الجانب الثاني أي، ذكر العام بعد الخاص، فكقوله تعالى، ذاكراً أيام الصوم المتوجبة على الحاج والمعتمر غير القادرين على الصدقة والتضحية في الحج: [... فَمَنْ لم يَجِدْ فَصيامُ ثلاثة أيامٍ في الحجِّ وسبعةٍ إذا رَجَعْتُم تلك عشرة كاملة](31).

4-إطناب التكرير:

فصَّل القزويني أغراض هذا النوع فذكر منها خمسة، نلخصها على الوجه الآتي:

*النكتة؛ وهي هنا الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس(32)، كتأكيد الإنذار في قوله تعالى: )كَلاَّ سوف تعلمون، ثم كَلاَّ سوف تعلمون((33). ففي التكرار إنذار مُبين أشد وأبلغ مما لو اكتفي بالآية الأولى.

*زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليحصل قبول المتلقي لما يقال له أو يخاطب به كما في قوله تعالى: )وقال الذي آمن: يا قومِ اتَّبعونِ أهْدكُمْ سبيلَ الرَّشاد، يا قومِ إنما هذه الحياة الدنيا مَتاعٌ وإنَّ الآخرة هي دارُ القَرار((34).

*طول الكلام، زيادة في التأثير النفسي المطلوب، كقول الحق تبارك: [ثمَّ إنَّ ربَّكَ للَّذين هاجروا من بعد ما فُتِنوا، ثمَّ جَاهَدوا وصَبَروا، إنَّ ربَّكَ من بعدها لَغفورٌ رحيم](35). الفتنةُ ههنا، بمعنى الابتلاء والاختبار.

*تَعدُّد المتعلَّق، لتنوع الغرض الذي يبرز من خلال كل قول مكرَّر. وخير مثال على ذلك تكرار قول الله تعالى )فبأيِّ آلاءِ ربِّكُما تُكَذِّبان( ثلاثين مرة في سورة الرحمن لأنه كان في كل مرة يذكر عَقِبَ نعمة جديدة من نِعَم الله على الإنسان.

*الزَّجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات. نحو قوله تعالى )وَيْلٌ يومئذٍ لِلْمُكَذِّبين( المتكرر عشر مرات في سورة (المُرسلات) "لأنه تعالى، ذكر قصصاً مختلفة، وأتبعَ كل قصة بهذا القول. فصار كأنه قال عقب كل قصة: ويلٌ يومئذٍ للمكذبين بهذه القصة"(36).

وهناك من جعل للتكرير أقساماً، بعضها،

*في اللفظ والمعنى معاً، نحو قولنا، هَلُمَّ! هَلُمَّ! وبعضها الآخر،

*في المعنى دون اللفظ، نحو: اصدُق معي ولا تمكرُ بي!‍ فعدم المكر هو الصدق والوفاء.

*ومنها ما هو مفيد يأتي في الكلام توكيداً له وتسديداً لأمره، وإشعاراً بعظَم شأنه.

كقوله تعالى: )وقال اللهُ لا تَتَّخِذوا إلهَيْنِ اثْنين إنما هو إلهٌ واحد((37).

فهو من تكرير المعنى دون اللفظ؛ والغرض منه تأكيد معنى المعدود ومنع الالتباس في شأنه.

*ومنها ما هو غير مفيد، كقول المتنبي، من قصيدة في مدح المغيث بن العجلي:

ولم أرَ مثل جيراني ومثلي

لِمثْلي عند مِثلهُمُ مقامُ(38)


ومعنى البيت: لم أر مثل جيراني في سوء الجوار وقلة المراعاة؛ ولا مثلي في مصابرتهم مع جفوتهم. فهو يشكو جيرانه ويلوم نفسه على الإقامة بينهم. فقد حذف الشاعر وأوجز، ولكن على حساب التكرار الإطنابي غير المفيد(39).

5-إطناب الإيغال:

وهو ضرب من المبالغة في الوصف والتصوير، أو هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها(40). كقول الأعشى (ت 007هـ/ 629م):

كناطحِ صخرة يوماً ليفلِقَها

فلم يَضِرْها، وأوهى قَرْنَه الوعِلُ(41)


قال ابن رشيق (ت 456هـ) إن المثل في هذا البيت قد تمَّ بقول الشاعر:

"وأوهى قرنه فلما احتاج إلى القافية قال: "الوعِلُ"(42). فقد استخدم الشاعر نوعاً من الإيغال في القافية، لا البيت. ومثله قول ذي الرمة (ت 77 أو 117هـ/ 696 أو 735م):

قِفِ العيس في أطلال مية واسألِ

رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل(43)


فتمَّ كلامه قبل إضافة (المسلسل) ولكنه احتاج إلى القافية، فزاد شيئاً(44)، وأطال المعنى والصورة. ومثله قول ذي الرمَّة، في القصيدة نفسها:

أظنُّ الذي يُجدي عليك سؤالها

دموعاً كتبديد الجُمان المفصَّل


فتم كلامه عند قوله: "الجمان". لكنه احتاج إلى القافية فقال: "المفصَّل" فزاد شيئاً..

وعرَّفه قدامة بن جعفر (ت 327هـ/ 948م) فقال: الإيغال أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاماً من غير أن يكون للقافية في ما ذكره صنع، ثم يأتي بها لحاجة الشعر، فيزيد بمعناها في تجويد ما ذكره من المعنى في البيت، كما قال امرؤ القيس:

كأنَّ عيون الوحشِ حول خِبائنا

وأرحُلنا الجِزعُ الذي لم يُثقَبِ(45)


فقد أوفى الشاعر التشبيه قبل القافية، لأن عيون الوحش شبيهة بالجزع. ولكن إضافة القافية "لم يثقَّب" جعلت الشاعر يوغل في الوصف وتوكيده، فإن عيون الوحش غير مثقبة وهي بالجزع الذي لم يثقب أدخل في التشبيه(46).

ومن هذا القبيل، قول الخنساء (ت 24هـ/ 646م) ترثي أخاها صخراً:

وإنَّ صَخراً لتأتمُّ الهُداةُ به

كأنَّه عَلَمٌ في رأسه نارُ(47)


لم ترض أن تشبهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية، حتى جعلت في رأسه ناراً(48).

6-إطناب التذييل:

معناه إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد بعينه ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند مَن فَهِمَهُ، كقول الشاعر ربيعة بن مقروم الضبِّي (ت 16 هـ/ 637م):

فَدعَوا نَزالِ فكنت أوَّل راكبٍ

وعلام أركبُهُ إذا لم أنْزل؟(49)


فالمصراع الأول مكتمل المعنى. لكن الشاعر لم يكتف بذلك، بل ذيل به مصراعاًُ آخر، توضيحاً للمعنى وتأكيداً، ومثله قول الشريف الرضي متغزلاً:

قمرٌ إذا استَخْجَلتَهُ بعتابِهِ

لبس الغروبَ ولم يعُد لِطلوعِ

أبغي رضاهُ بشافعٍ من غيره

شرُّ الهوى ما رمته بشفيعِ(50)


فقد استوفى المعنى في صدر البيت الثاني. لكنه ذيله في العجز تحقيقاً لمزيد من الفهم والتوضيح وقد جعله بعضهم أحد مواضع البلاغة الثلاثة: الإشارة والمساواة والتذييل، لأن فيه موقعاً جليلاً ومكاناً شريفاً خطيراً يزداد بهما المعنى انشراحاً والمقصد إيضاحاً. ومن الأمثلة الشعرية الدالة على إطناب التذييل، قول أبي نواس يمتدح الخليفة العباسي الأمين:

عَرمَ الزمانُ على الذين عَهِدتُهُمْ

بكِ قاطنينَ، وللزمانِ عُرامُ(52)


المعنى مستوفى في صدر البيت. والعجز المذيَّل جعل منه ما يشبه الحكمة عندما أكَّد شدَّة الزمان وثباتها على الأيام.

ومن البلاغيين القدامى، من جعل التذييل إضافة جملة يذيل بها الكلام ليتحقق بها ما قبلها، فقسمه أو قسم الجملة المذيلة قسمين:

1-قسم لا يزيد على المعنى الأول، وإنما يؤتى بها للتأكيد والتحقيق.

2-قسم يخرجه المتكلِّم مخرج المثل السائر ليحقق ما تضمن الكلام السابق من زيادة المعنى. كقوله تعالى: )إنَّ اللهَ اشترى من المؤمنينَ أنفسَهُمْ وأموالَهُمْ بأنَّ لهم الجنَّةَ، يُقاتلون في سبيل الله فيَقْتلون ويُقتلَون وعْداً عليه حقَّاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومَنْ أوفَى بعهدِهِ من اللهِ، فاسْتَبْشِروا بِبَيْعِكُمُ الذي بايَعْتُمْ به((53) فهذه الآية الكريمة تضمنت القسمين من التذييل. أحد القسمين قوله تعالى: )وعْداً عليه حقَّاً( فقد تم الكلام. ثم أتى سبحانه، بهذه الآية تحقيقاً لما سبق. والقسم الآخر قوله تعالى: )ومَنْ أوفى بعَهْدِهِ مِن الله(، فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر لتحقيق ما تقدمه(54).

ومن أجود ما يصح شاهداً بلاغياً على إطناب التذييل، قول ابن نباتة السعدي، من شعراء البلاط الحمداني في القرن الرابع، مادحاً سيف الدولة:

لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل(55)


فصدر البيت مكتمل المعنى، وليس العجز إلا تذييلاً حسناً، زاد في جمال المعنى وحقيقته..

7-إطناب التكميل أو الاحتراس:

وهو أن يؤتى به في كلام يوهم خلاف المقصود، بما يدفعه(56) وهو ضربان: ضرب يتوسط الكلام، كقول طرفة بن العبد يمدح قتادة بن مسلمة الحنفي:

فسقى بلادكَ –غير مفسدها،

صوب الغمام وديمة تهمي(57)


فجملة: "غير مفسدها" أكملت المعنى وحالت دون الوقوع في وهم غير مقصود، وهو ضرر مطر الربيع للديار؛ وإذا المطر نافع. ولهذا السبب سمى هذا النوع: احتراساً، كقوله تعالى: )فسَوْفَ يأتي اللهُ بقومٍ يُحبُّهمْ ويُحبُّونَهُ، أذلَّةٍ على المؤمنين، أعِزَّةٍ على الكافرين((58) يقول القزويني، شارحاً:

فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلَّة على المؤمنين؛ لتوهم أن ذلتهم لضعفهم، فلما قيل: "أعزَّة على الكافرين" علم أنها منهم تواضع لهم، ومعنى ذلك أن هؤلاء القوم، مع شرفهم، وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين، خافضون لهم أجنحتهم(59).

ومثله قول ابن الرومي، فيما كتب إلى صديق له: إني وليُّك الذي لا يزال تنقاد إليك مودته عن غير طمع ولا جزع، وإن كنت لذي الرغبة مطلباً، ولذي الرهبة مهرباً(60).

ففي قول ابن الرومي كما نرى احتراسان متعاقبان، الأول، في قوله: "عن غير طمع ولا جزع" لأنه أزال توهم المودة الانتفاعية المتخوفة.. والثاني، في قوله: "وإنْ كنت" وما بعدها، لأنه بدَّد ما قد ينشأ في الاحتراس الأول، من شعور بانتفاء دوافع الرغبة والرهبة لدى الناس.. ونرى أن هذا الشاهد من أفضل الأمثلة على إطناب التكميل أو الاحتراس.

ومن هذا النوع قول الشاعر السعودي المعاصر الأمير عبد الله الفيصل:

والنار تعشق، إن تَغِب، فإذا دنت

بك فرَّ من رمضائها الموؤودُ(61)


فالاحتراس من جعل النار معشوقة، اقتضى استكمال المعنى باستدراك لطيف، هو "إنْ تَغِبْ". ومثله، للشاعر نفسه، مكملاً ومحترساً مرتين، على طريقة الاستدراك:

قد ساءلتْ من أنتَ؟ قلتُ أنا الذي

قضَّيتُ عمري –مُدنفاً- أهواكِ

أرنو إليك –على بعادِك- مثلما

يرنو الحزينُ الساطعُ الأفلاكِ(62)


ونختم الكلام على التكميل أو الاحتراس، بإيراد شاهدين معبرين يزيدان في تعريفهما وتحديد ملامحهما، الأول: بيت شعري للشاعر الإسلامي التابعي كعب بن سعد الغنوي:

حليمٌ إذا ما الحلم زيَّن أهلهُ

مع الحلم في عين العدو مهيبُ(63)


البيت في رثاء أخيه أبي المغوار، وقد نعته بالحلم وهو الرويّة والحكمة. وصفة محمودة كهذه توهم أنه لا يهابه أحد، حتى أعداؤه. فأردف الشاعر بالقول: إنه مع ذلك يخافه الأعداء ويتهيبونه. وهذا إطناب احتراسي جيد.

والشاهد الثاني: بيت لأبي الطيب، مادحاً علي بن محمد بن سيَّار بن مكرم التميمي:

أشد من الرياح الهوج بطشاً

وأسرع في النوى منها هبوبا(64)


فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش لأوهم ذلك أنه عنف كله، ولا لطف عنده. فأزال هذا الوهم بالسماحة(65). وهذا من جيد التكميل والاحتراس في الإطناب.

8-إطناب التتميم:

وهو أن يؤتى –أي التتميم- في كلام لا يوهم خلاف المقصود، بفضلة تفيد نكتة، كقول الله عزَّ وجل: )ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ على حُبِّهِ((66). فإضافة "على حُبِّه" أتمت المعنى وزادت عليه فأفادت القارئ: أي إنهم لا يطعمون كيفما كان، بل طعاماً مشتهى وعزيزاً..

مثال آخر، قول الشاعر:

إني على ما تَريْنَ من كِبَري

أعرف من أين تؤكل الكَتِفِ


في البيت نكتة لطيفة تحمل معنى القوة والذكاء، في المرحلة المتقدمة من السن. وهذه النكتة، كامنة في صدر البيت الذي يبدأ بجملة اسمية تقريرية، خبرها في عجز البيت. أي أني ذكي قوي، رغم كِبرَ سني، أو بالعكس: أنا كبير السن، لكنني لا أزال أحتفظ بقواي العقلية. ومثله تماماً، ولكن في اتجاه آخر، قول زهير بن أبي سلمى مادحاً هرماً بن سنان أحد أجواد عصره المشهورين:

مَن يَلقَ يوماً –على علاَّته" هَرِماً

يَلقَ السماحة منه والندى خُلُقا(67)


التتميم كامن في الفضلة "على علاَّته" التي أفادت استمرارية السجايا الكريمة في الممدوح، سجايا لا تؤثر فيها الأحداث وكثرة الانشغالات، لأنها متأصلة فيه لا يحول دونها شيء...

ومن جيد التتميم، في النثر، قول أعرابية لرجل: كبَتَ الله كلَّ عدوٍّ إلا نفسك(68).

فالقول –على ما فيه من تمام المعنى- ناقص لأنه مطلق. وقولها: "إلاَّ نفسك" إضافة لازمة لأنها أوفَت على حقيقة الدعاء وحُسن دلالته ومساره الإنساني. فنفس الإنسان تجري مجرى العدوّ له لأنها تورطه وتدعوه إلى ما يوبقُه(69).

ومن التتميم ما يسيء إلى القصد، فيصبح إطناباً نافلاً، كقول ذي الرمَّة:

ألا يا سلمي يا دار مَيَّ على البِلى

ولا زال منهلاًّ بجرعائِكِ القطرُ(70)


يدعو الشاعر لحبيبته بالسلامة رغم ما أصاب دارها من بلى واندثار. لكنه في العجز، أو هي كما لو أنه يدعو عليها لأن استمرار انهمار المطر على التربة والنبات يفسدهما، فأساء إلى المعنى المقصود من حيث لم يدر..

9-الإطناب بالاعتراض:

وهو أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كلامَين متصلين معنى، بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب، لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل(71).

*ومن وجوه الاعتراض ههنا، التنزيه والتعظيم كما في قوله تعالى: )وَيجعلونَ للهِ البناتِ، سُبْحَانَه، ولهم ما يَشْتَهون((72). فقد اعترضت جملة: "سبحانه سياقَ الآية، تنزيهاً لذات الإله من نسبة الولد إليه، أو تعجباً من قولهم(73).

*ومن وجوهه التنبيه، كما في قول الشاعر:

واعْلَم –فعلمُ المرء ينفعُهُ-

أنْ سوف يأتي كلُّ ما قُدِرا(74)


فالجملة الاعتراضية في الصدر، تنبيه مفيد، يزيد في عمق الوعظ الشعري وترسيخ مغزاه الحكمي.

*ومن وجوهه التكريم، كما في قول المتنبي مادحاً كافوراً في بائيته: "كفى بك داءً":

وتحتقرُ الدنيا احتقارَ مجرِّبٍ

يرى كل ما فيها، وحاشاك، فانيا


شرح العكبري هذا البيت فقال: أنت عظيم القدر. فلهذا تحتقر الدنيا احتقار من جربها وعرفها، وعلم أنها فانية، ولا يبقى إلا ذكر الجميل بين الناس.. "وحاشاك": من أحسن ما خوطب به في هذا الموضع، والأدباء يقولون: هذه اللفظة حشوة، ولكنها حشوة فستق وسكر؛ ومثلها في الحشوات قول عوف بن المحلَّم الشيباني:

إنَّ الثمانين –وبلِّغْتَهَا-

قد أحوجَت سمعي إلى تَرجُمان(75)


فقد اعترضت "وبلِّغْتَهَا" صدر البيت لفائدة كبيرة ما أحوج السامع إليها لأنها تحدث فيه هزة التنبيه أو الانتباه لما يرمي إليه الشاعر من تأكيد الكِبَر والشيخوخة.

*ومن وجوهه المعروفة التخصيص بزيادة التأكيد، كقول الحق تبارك: )ووصَّيْنا الإنسانَ بوالديه، حَمَلَتْه أمُّهُ وَهْناً على وهْن، وفِصالُهُ في عامَيْن، أنِ اشْكُرْ لي ولوالديكَ((76).

في الآية اعتراض ضمني يقع في جملة "حمَلَتهُ أمُّهُ وهْناً على وهْن" وهذا يعني تخصيص حق الأم في التوصية الربَّانية، وما ذكرها هنا إلا من قبيل ما يقوله الفقهاء في أن لها من عمل الولد قبل الحُلْمِ جلُّه وهو مما يفيد تأكيد حقها، والله أعلم(77).

ومن الناس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرناه، بل يجوّز أن تكون دفع توهُّم ما يخالف المقصود. وهؤلاء فرقتان، واحدة لا تشترط فيه أن يكون واقعاً في أثناء الكلام، وفرقة تشترط ذلك(78).

وقد تبسَّط القزويني في شرح وجوه الاعتراض مما لم نرَ فيه صورة للوقوف عنده كالمطابقة مع الاستعطاف، والتنبيه على أمر غريب، ومجيء معنى مستقل بين كلامين مستقلين، قد يأتي المعنى في جملة واحدة أو أكثر من جملة، أو يأتي الاعتراض بغير واو ولا فاء أو يأتي بأحدهما...(79). ليخلص إلى القول الجامع المركَّز: "ووجهُ حُسْن الاعتراض على الإطلاق: حُسْنُ الإفادة، مع أن مجيئه مجيء ما لا معوَّل عليه في الإفادة. فيكون مَثَله مَثَل الحسنة تأتيك من حيث لا تَرتَقبها"(80).

وفي كلمة أوجز وأعمَّ، نقول إن الإطناب معنى كبير عرَّفناه في مطلع هذه المادة (بزيادة لفظية لفائدة..) تفرَّع هذا المعنى واتسع فاتخذ أشكالاً ووجوهاً وسماتٍ متعددة تداخل بعضها ببعض وتشابه، وفي بعض الأحيان اختلط وتشابك، ولا سيما الأنواع الخمسة الأخيرة التي اعتمدها القزويني ومن بعده، وهي: الإيغال، والتذييل، والتكميل أو الاحتراس، والتميم، والاعتراض؛ فهي شديدة التداخل والتشابه فيما بينها حتى ليصعب على الدارس في كثير من الأحيان التفريق بينها فيما عدا الأمثلة التي أعطيت لكل واحد منها، وهي مع ذلك –أي الأمثلة- يمكن نقلها من موقع إلى آخر. فتخدم الغرض الذي وضعت فيه دونما اختلاف يذكر بين ما كانت فيه وما نقلت إليه. ولعل الدارسين البلاغيين القدامى قصدوا من وراء هذه التقسيمات والتفريعات إيفاء الإطناب كلَّ ما يحتاجه من شرح وتمثيل.

الحواشي:

(1)لسان العرب، دار صادر-بيروت جـ1/ 562 (طنب).

(2)نفسه/ 561.

(3)المثل السائر، جـ 2/344.

(4)البيان والتبيين 1/194-195. وفي ص 201 ذم للإسهاب المتكلف، والخطل والتزيد..

(5)الحيوان 6/5-7.

(6)الكامل في اللغة. دار الفكر العربي، القاهرة جـ 1/27.

(7)كتاب الصناعتين/ ص 211.

(8)نفسه/ 210-211.

(9)نفسه/ 213.

(10)المثل السائر 2/346.

(11)سورة الأحزاب/ 4.

(12)المثل السائر 2/350.

(13)سورة الحج/ 46.

(14)المثل السائر 2/350.

(15)ديوان أبي تمام-شرح وتعليق د. شاهين عطية، دار صعب. بيروت- لا. ت. ص 337.

(16)المثل السائر 2/352.

(17)سورة التوبة/ 44 و 45.

(18) المثل السائر 2/353.

(19) نفسه/ 354.

(20) ديوان البحتري جـ 1/591، من قصيدة يفتخر فيها بقومه. وقد أورد ابن الأثير البيت الثاني على شيء من الاختلاف عما في رواية الديوان.

(21)ديوانه 1/151.

(22)"تفسير أرجوزة أبي نواس" صنعة ابن جني. تحقيق محمد بهجة الأثري. مجمع اللغة العربية بدمشق، الطبعة الثانية/ ص 30- والبيت في ديوانه/ 105.

(23)المثل السائر 2/355.

(24)نفسه 2/355-357. وقد اقتطفنا ما وسعنا من كلام ابن الأثير الذي يفيض بالمتعة والفائدة...

(25)الإيضاح في علوم البلاغة، ص 301.

(26)سورة النحل/ 66.

(27)سورة الطارق/ 7.

(28)الإيضاح في علوم البلاغة/ ص 302-303. والبيتان غير موجودين في ديوانه..

(29)نفسه/ ص 303.

(30)بعض الآية 238 من سورة البقرة.

(31)بعض الآية 196 من السورة نفسها.

(32)المعجم الوسيط جـ 2/950 (نكت).

(33)سورة التكاثر/ 3 و 4.

(34)سورة غافر/ الآيتان 38 و 39.

(35)سورة النحل/ 110.

(36)الإيضاح.. ص 305.

(37)سورة النحل/ 51.

(38)ديوان المتنبي –بشرح البرقوقي جـ 4/194.

(39)انظر مزيداً، لتفصيل ما أوردنا من التقسيمات الجديدة للتكرير، كتاب: "جوهر الكنز" لابن الأثير الحلبي (ت 737هـ/ 1336م) ص 257-259 فقد أورد شواهد أخرى أكثر دلالة وتوضيحاً.

(40)الإيضاح في علوم البلاغة/ 305.

(41)ديوان الأعشى، شرح وتعليق محمد محمد حسين. مؤسسة الرسالة ط7. بيروت 1983/ ص 111.

(42)العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، جـ 2/57.

(43)ديوان ذي الرمة، المكتب الإسلامي، ط أولى سنة 1964 ص 586. والثوب المسلسل: الذي رق من البلى ولبسته حتى تسلسل. والأخلاق؛ جمع (خَلَق) وهو البالي..

(44)العمدة 2/57.

(45)ديوان امرئ القيس، صنعة السندوبي، القاهرة سنة 1930 ص 27. والبيت كما يقول السندوبي لعلقمة ابن الفحل الذي غالب امرأ القيس في قصيدة بائية-فخلط الرواة بين القصيدتين حتى عز التمييز بين أبيات امرئ القيس وأبيات علقمة. والجزع (بكسر الجيم وفتحها) الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض، قد شبهت به العيون.

(46)نقد الشعر، تحقيق وتعليق د. محمد عبد المنعم خفاجي. دار الكتب العلمية. بيروت. ص 168.

(47)شرح ديوان الخنساء، دار التراث بيروت. سنة 1968، ص 27.

(48)الإيضاح.. ص 305 وفي شرح القزويني أمثلة شعرية أخرى لإطناب الإيغال...

(49)كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب لابن الأثير الجزري. بغداد سنة 1982 ص / 179. والتعريف نفسه مأخوذ من العسكري في "الصناعتين" ص 413.

(50)عن المصدر السابق/ ص 180.

(51)كتاب الصناعتين/ ص 413.

(52)ديوان أبي نواس. شرح وتحقيق الغزالي. بيروت/ ص 607. والعرام: شدة الزمان وشراسته.

(53)سورة التوبة/ 111.

(54)جوهر الكنز، لابن الأثير الحلبي/ ص244.

(55)ديوانه /وزارة الأعلام العراقية، تحقيق عبد الأمير مهدي الطائي. سنة 1977 الجزء الأول/ ص 208.

(56)الإيضاح.. ص 310.

(57)ورد البيت في معظم المصادر والمراجع: "ديارك" بالكسر والصحيح ما ذكرنا لأنه بصدد امتداح رجل ومخاطبته.

وقبل البيت مباشرة قوله:

وأهنت، إذ قدموا، التلاد لهم

وكذاك يفعل مبتني النعم (ديوانه-صادر/88).


(58)بعض الآية 54/ من سورة المائدة.

(59)الإيضاح/ 310-311.

(60)نفسه/ 311.

(61)ديوانه "محروم" مكتبة الإرشاد- جدة، ودار الكتاب العربي بيروت/ ص 110.

(62) م. ن. ص 79.

(63)الإيضاح.. ص 311 وانظر جوهر الكنز / 234 وفيه ذكر للبيت وسبب التكميل فيه.

(64)شرح البرقوقي 1/269.

(65)الإيضاح/ 312.

(66)سورة الإنسان/ جزء من الآية 8. والتعريف من: الإيضاح.. ص 313.

(67)شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، صنعة ثعلب. النسخة المصورة عن دار الكتب بالقاهرة سنة 1944/ ص 53 والعلة، ههنا معناها، الانشغال أو الحدث الكبير، ولا نظن قصد بها المرض والضعف..

(68)الصناعتين/ 434.

(69)الصناعتين/ 434.

(70)ديوانه/ 290. والجرعاء، مؤنث الأجرع، وهو الكثير الممتد من الرمل.

(71)الإيضاح في علوم البلاغة/ 313-314.

(72)سورة النحل/ 57.

(73)تفسير الكشاف، للزمخشري جـ 2/414.

(74)الإيضاح/ ص314.

(75)شرح العكبري لديوان المتنبي جـ 4/290. وابن المحكم، شاعر جاهلي من أشراف العرب ت نحو 580.

(76)بعض الآية/ 14 من سورة لقمان. الوهن: الضعف الشديد. الفصال: الفطام ومنع الرضاعة.

(77)حاشية تفسير الكشاف جـ 3/232، للإمام ناصر الدين أحمد بن المنير الاسكندري..

(78)الإيضاح.. ص 317.

(79)الإيضاح في علوم البلاغة/ ص 315-316.

(80) نفسه/ 317.

-------------------------------------------


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 44 - السنة 11 - تموز "يوليو" 1991 - محرم 1412
 
البَحْر في مَعَاجم اللغة

البَحْر في مَعَاجم اللغة

** البَحْر في مَعَاجم اللغة **
لـ أحمَد عبد القادر صَلاحية


إن هذا البحث عصارة لغوية، ودراسة تطبيقية مختصرة شديدة الاختصار لأطروحات ونظريات استنتجها بعض علماء اللغة العربية القدامى بسبرهم الدائم لها، وينحو إلى ضرب من الفلسفة اللغوية تتمثل في محاولة اكتناه ذاتي للجذر "بحر".‏

لقد تتبعت جذر المادة اللغوية "بحر" في ستة عشر معجماً لغوياً تراثياً(1)، ولم أقتصر على معجم بعينه أو معجمين، لعدة أسباب أولها: أني أردت تتبع معاني هذه المادة اللغوية تتبعاً تاريخياً، وثانيها: أني كلما فتحت معجماً جديداً وجدت معاني إضافية زائدة عن سابقه، وثالثها: أني لم أقتصر على المعاجم الموسوعية كاللسان والتاج وفيهما غناء عن سواهما لتأخرهما زمنياً، وأني أردت أن أستقي المادة اللغوية من منبعها الأصيل الصافي.‏

1 ـ معنى البحر :‏

إن للجذر "بحر" دلالات كثيرة مختلفة، غير أن ما يطلق عليه اسم البحر من الجذر ذي الدلالة المائية؛ أربعة:‏

أ ـ الماء الكثير العذب أو المِلْح(2).‏

ب ـ البحيرة الكبيرة.‏

ج ـ الأنهار أو الأنهار العظيمة.‏

د ـ البحر بدلالته الحالية.‏

ـ أما معنى "الماء الكثير العذب أو الملح"، فقد ذكر ابن دريد أن: "العرب تسمي الماء المِلْح والعذب بحراً إذا كثر"(3)، وذكر ابن سيده أن: "البحر الماء الكثير ملحاً كَان أو عذباً وقد غلب على الملح حتى قلَّ في العذب"، وأعاد هذا الكلام كل من (ابن منظور ـ الفيروز آبادي ـ الزبيدي).‏

ـ وأما معنى "البحيرة الكبيرة" فهو مستمد من قول الخليل: "إذا كان البحر صغيراً قيل له بحيرة وأما البحيرة في طبرية فإنها بحر عظيم وهو نحو من عشرة أميال في ستة أميال". وأجد صدى هذا الكلام عند الأزهري وابن منظور كليهما.‏

ـ وأما معنى الأنهار أو الأنهار العظيمة، فقد قال الأزهري: "قال: [أي الزجاج]: وكل نهر ذي ماء فهو بحر. قلت: كل نهرٍ لا ينقطع ماؤه مثل دجلة والنيل وما أشبههما من الأنهار العذبة الكبار فهي بحار وأما البحر الكبير الذي هو مغيض هذه الأنهار الكبار فلا يكون ماؤه إلا مِلْحاً أجاجاً ولا يكون ماؤه إلا راكداً وأما هذه الأنهار العذبة فماؤها جارٍ وسميت هذه الأنهار بحاراً لأنها مشقوقة في الأرض شقَّاً".‏

وقال الجوهري: "وكل نهر عظيم: بحر"، ومثله ذكر الزنجاني في تهذيبه.‏

وعمّم ابن فارس فقال: "والأنهار كلها بحار"، ونقل ابن منظور عن الأزهري وسواه ما قالوه.‏

ـ وأما معنى البحر بدلالته الحالية فهو الأغلب والأشهر، وهو المعنيّ بإطلاقه، فقد ذكره أحد أصحاب المعاجم كلهم إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ولكني ـ مع هذا ـ لا أجد له تعريفاً دقيقاً في معاجم اللغة فقد اكتفى كل من ابن دريد وابن فارس والحميري بالقول: "البحر : معروف"، أو أعثر على شذرات قليلة إذ اقتصر الفارابي على قوله: "البحر نقيض البر"، ومثله الجوهري فقد قال: "البحر خلاف البر"، وكذلك فرّق الأزهري بين النهر العظيم الذي يسمى بحراً والبحر ـ الفقرة السابقة ـ.‏

غير أن المهم حقاً هو ذلك الرأي المتفرّد الذي ينقله الزبيدي عن شيخه أن البحر هو الأرض التي فيها الماء أو محلّ الماء وليس هو الماء نفسه، يقول: "قال شيخنا: في قوله الماء الكثير، قيل: المراد بالبحر الماء الكثير كما للمصنّف، وقيل المراد الأرض التي فيها الماء ويدلّ له قول الجوهري: لعمقه واتساعه، وجزم في القاموس بأن كلام المصنف على حذف مضاف وأن المراد محل الماء، قال: بدليل ما سيأتي من أن البر ضد البحر، ولحديث: "هو الطهور ماؤه"، يعني والشيء لا يضاف إلى نفسه، قال شيخنا: ووصفه بالعمق، والاتساع قد يشهد لكل من الطرفين".‏

وأما سائر أصحاب المعاجم المدروسة هنا فلا أجد لديهم أي تعريف للبحر.‏

2 ـ سبب تسميته:‏

قد احتفل علماء العربية كثيراً بتبيين سبب وقوع الاسم على المسمى وقد حظي هذا المسطح المائي الذي يحيط باليابسة بتعليلات خمسة لتسميته بالبحر:‏

أولهما: السعة، يقول ابن فارس في المجمل: "سمّي بذلك لاتساعه"، (الحميري ـ الفيوّمي).‏

ثانيها: الانبساط، يقول الخليل: "سمي به لاستبحاره وهو انبساطه وسعته"، (الأزهري ـ ابن فارس في المقاييس ـ ابن منظور ـ الزبيدي).‏

ثالثها: العمق، يقول الجوهري: "يقال سمّي بحراً لعمقه واتساعه"، (الزنجاني ـ ابن منظور ـ الزبيدي).‏

رابعها: الملوحة، ينقل ابن منظور عن ابن برّي قوله: "وسمّي بحراً لملوحته"، (الزبيدي).‏

خامسها: الشق، يقول الأزهري: "سمي البحر بحراً لأنه شقّ في الأرض شَقَّاً، وجعل ذلك الشق لمائه قراراً، والبحر في كلام العرب الشق، ومنه قيل للناقة التي كانوا يشقُّون في أذنها شقاً بحيرة". (ابن منظور ـ الزبيدي).‏

هذه هي التعليلات الخمسة التي ذكرها اللغويون الأوائل ونقلها عنهم المتأخرون من دون كبير تمحيص أو تدقيق أو مراجعة سوى الفيروز آبادي الذي يتفرّد برأيه النافذ وإشارته المضيئّة فلم يذكر في القاموس المحيط سبب تسمية البحر، ولم يعلّل ذلك بل على العكس تماماً، فإنه ـ كما يتراءى لي من استقراء كلامه ـ يرى أن هذه التعليلات إن هي إلا معان مجازية مستنبطة منه طارئة عليه، وذلك فيما نقله الزبيدي في تاج العروس عن الفيروز آبادي في كتابه البصائر، يقول: "وقال المصنف في البصائر:"وأصل البحر مكان واسع جامع للماء(4)، الكثير، ثم اعتبر تارة سعته المكانية فيقال: بحرت كذا: وسَّعته سعة البحر، تشبيهاً به: ومنه: بحرت البعير: شققت أذنه شقاً واسعاً، ومنه البحيرة. وسموا كل متوسّع في شيء بحراً فالرجل المتوسّع في علمه بحر، والفرس المتوسّع في جريه بحر. واعتبر من البحر تارة ملوحته فقيل: ماء بحر، أي ملح، وقد بحر الماء".(5).‏

ولست أود الخوض في قضية نشوء اللغة وكيفية وقوع الدال على المدلول فلا طائل تحتها، غير أني أود القول إنه ليس ثمة من علاقة حقيقية بين الدال والمدلول كما أشار عبد القاهر الجرجاني في قوله إن "نظم الحروف هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضى عن معنى.. فلو أن واضع اللغة كان قد قال ربض مكان ضرب لماكان في ذلك مايؤدي إلى فساد"(6)، وكما توصل إليه حديثاً عالم اللغة السويسري دي سوسير الذي يؤكد أن "الرابط الذي يجمع بين الدال والمدلول رابط اعتباطي"(7). وإن وجدت فهي المصادفة وإن أوجدت فهي ضرب من الفلسفة اللغوية التي تحتمل الرجحان1. وهذا المسطّح المائي يسمى في العربية بحراً وفي الإنكليزية Sea وفي الفرنسية Mer.‏

3 ـ جمعه وتصغيره:‏

يجمع البحر على "أبحر وبحور وبحار"، الجوهري ـ ابن سيده ـ ابن منظور الفيومي ـ الفيروز آبادي ـ الزبيدي).‏

ويصغر على أُبَيْحِر" ويجوز أن يصغّر على القياس "بُحَيْر"، وإن كان قليلاً (التاج).(8).‏

4 ـ دراسة في معاني الجذر "بحر":‏

لقد لفت انتباهي في أثناء استقرائي مادة بحر في المعاجم اللغوية أن ابن فارس في معجمه مقاييس اللغة يتفرد من بين اللغويين: "إذ يرى مفردات كل مادة من مواد اللغة إلى أصولها المعنوية المشتركة"(9)، وهو في الجذر "بحر"، يرجع أغلب مفرداته، المتشابهة والمجازية والمختلفة والمتناقضة أحياناً إلى أصلين هما الاتساع والداء، وهما يرجعان بمعناهما إلى البحر وصفاته.‏

وباستقراء جميع مفردات مادة بحر في سائر المعاجم تبدي لي أنها تنقسم ثلاثة أقسام:‏

القسم الأول: المفردات ذات الاتصال بالبحر بدلالته المشهورة:‏

(بحر: فزع من البحر ـ البحار ـ البحيرة ـ تاجر بحري ـ بنات بحر: السحب).‏

القسم الثاني: المفردات ذات الاتصال المجازي بالبحر:‏

(الملوحة ـ الاتساع، الاتساع في الأشياء عامة، الرجل الكريم ـ الفرس الكثير العدو).‏

القسم الثالث: سائر المفردات:‏

كانت تلك هي المفردات المتصلة بالبحر أو المشتقة منه، والمفردات التي كان فيها المجاز واضحاً، ولم يزل ثمة الكثير من المفردات التي يصعب ردها إلى أصل أو أصلين وسأكتفي ـ هنا ـ بعرض معانيها وهي: (السل ـ العطش ـ الاصفرار ـ احمرار الأنف ـ دم الجوف أو عمق الرحم (10) ـ الأحمق ـ الكذاب ـ الفضولي ـ الفجوة ـ الشق ـ البروز بلا حجاب ـ المصادفة ـ المكان الواسع ـ القرية أو المدينة ـ الروضة ـ عظم البطن ـ المنخفض من الأرض ـ الضعف ـ الاستخبار ـ الناقة الصفية ـ شجر شائك ـ القمر ـ صنم ـ الحر ـ تغير العليل).‏

ويتبين من هذه الخلاصة اللغوية المكثفة تعذر انضمام سائر هذه المفردات إلى جذر أو اصل واحد أو أصلين اثنين كما ذكر ابن فارس.‏

وقبل أن أختم هذا الجزء من البحث أود أن أذكر أنَّ في المعاجم العربية أسماء مواضع كثيرة مشتقة من البحر من أشهرها البحرين وهي ـ قديماً ـ "موضع بين البصرة وعُمان"، (الفراهيدي)، غير أن الموضع الأهم الذي يجلو عنه غبار النسيان هو أن البحرة أو البحيرة اسم للمدينة المنورة، يقول ابن منظور:‏

"البحيرة مدينة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تصغير البحرة، وقد جاء في روايةٍ مكبراً".‏

وفي المعاجم أيضاً أسماء أعلام كثيرة يقول ابن دريد: "وقد سمت العرب بَحِيراً ـ وبُحَيْراً وبحراً وبنو بحري بطن منهم وقد سمت العرب يبحرة ـ ه الياء زائدة وهو مأخوذ من التبحر والسعة".‏

ومن أسماء العرب أيضاً: "بُحُر ـ بَحَر ـ بيحر ـ يبحر ـ بحره ـ بحران".(11).‏

ومن الأعلام المشهورين: عمرو بن بحر الجاحظ ـ وأبو بحر صفوان بن إدريس الأندلسي صاحب كتاب زاد المسافر وكذلك أبو بحر يوسف بن عبد الصمد(12)، الذي رثى المعتمد بن عباد.‏

وإن تغلغل لفظة "بحر" في أسماء المواضع والأعلام لهي من الدلائل على معرفة العرب البحر.‏

5 ـ دراسة في تقاليب الجذر "بحر":‏

تحاول هذه الدراسة الحاضرة الغور على تقاليب الجذر بحر وتطبيق عليها ما أطلق عليه ابن جني اسم الاشتقاق الأكبر، وليس من شك في أن هذه النظرية غير مطردة في جذور اللغة جميعها كما يدرك صاحبها ذلك (13)، غير أنه مما دفعني إلى تطبيقها هو أنها من دلائل عظمة لغتنا وأنها قد تبرز خصوصية الجذر بحر وأن عالماً هو الكفوي ( ـ 1094هـ)، يؤكد انطباق هذه النظرية وتحققها في الجذر بحر، يقول: "البحر: كل مكان واسع جامع للماء الكثير فهو بحر، ثم سموا كل متوسع في شيء بحراً وفي تقاليبه معنى السعة"(14)، وبعد الدرس وتنخل معاني السعة، من هذه الجذور رتبتها حسب تطابقها مع معنى السعة واقترابها منه: ـ‏

آ ـ الرحب:‏

والمعنى الأساسي في هذا الجذر هو الاتساع، يقول ابن دريد: "والمكان الرَحْب: الواسع، وكذلك الرحيب والرحبة بتسكين الحاء وفتحها ـ الفجوة الواسعة بين دور وغيرها"، ويقول ابن فارس في المقاييس "الراء والحاء والباء أصل واحد يدل على السعة".‏

ب ـ البرح:‏

ولهذا الجذر عدة معان منها الاتساع والشدة، وقد يؤول هذا الأخير "بلطف الصنعة"، بمعنى الاتساع في الشيء.‏

أما المعنى الأول فيقول الفارابي: "البراح: ما اتسع من الأرض"، ويقول الجوهري " البراح بالفتح: المتسع من الأرض، لا زرع فيه ولا شجر"ويقول ابن منظور: "وأرض براح واسعة ظاهرة لا نبات فيها ولا عمران".‏

وأما المعنى الثاني: فيقول الأزهري:"فإن اشتدت الحمى فهي البرحاء، والبرحاء: الشدة والمشقة، وقال الأصمعي: أبرحت: بالغت لؤماً وأبرحت كرماً: أي جئت بأمر مفرط". ويقول الجوهري: "تباريخ الشوق: توهجه".‏

ويقول ابن فارس:"والباء والراء والحاء: أصلان يتفرع عنهما فروع كثيرة فالأول الزوال والبروز، والثاني الشدة والعظم وما أشبهها".‏

وعلى هذا فالجذر برح يطابق الاتساع في المعنى الأول له، ويقترب منه في معنى، الاشتداد والمبالغة والإفراط، أي اتساع الشيء وازدياده.‏

ج ـ الحبر:‏

قد تفرد الخليل بالإشارة إلى معنى الاتساع في قوله: "المِحْبار الأرض الواسعة"، ومن معاني الحبر: العالم: يقول الخليل: "الحِبْر والحَبْر: العالم من علماء أهل الدين وجمعه أحبار ذمِّياً كان أو مسلماً بعد أن يكون من أهل الكتاب"، وقال ابن منظور: "وكان يقال لابن عباس : الحبر والبحر لعلمه".‏

وأحسب أنه لو تناول ابن جني هذا المعنى لرده بيسر إلى معنى الاتساع في العلم.‏

د ـ الربح:‏

قال ابن فارس:"الراء والحاء والباء واحدة، يدل على شف في مبايعة"، والشف هو الفضل والربح والزيادة وقال ابن سيده: "الربح والرّبح"، النماء في التجر، وقال الحميري: "الربح: الزيادة". فهل يمكن القول: ربح أي اتسع في المال؟...‏

هـ ـ الحرب:‏

قال الفارابي: حرب "اشتد غضبه".‏

وقال ابن فارس: "والحرب معروفة واشتقاقها من الحرب وهو الهلاك، ولعلي لا أستطيع هنا سوى أن أهمس: هل يمكن القول: حرب أي اتسع في الغضب. أو أن الحرب هي اتساع المشاجرة أو العراك.‏

6 ـ دراسة في حروف الجذر "بحر":‏

قمت فيما سبق بمحاولة اكتناه معاني الجذر بحر، ومعاني تقاليبه، وما أقوم به هنا، هو محاولة اكتناه هذا الجذر نفسه بعد تشريحه وتحليله إلى وحداته الأصلية، وستقتصر الدراسة على جانبين اثنين هما: صفات أحرف هذا الجذر ومخارجها.‏

أولاً: صفات أحرف الجذر بحر:‏

في البدء لابد لي من أن أنوه بسبق علماء اللغة العربية في هذا النوع من الدرس اللغوي وأن أشيد بجهودهم الجبارة وبحوثهم المتميزة ونتائجهم القريبة مما توصل إليه علماء اللغة المحدثون بأجهزتهم الحديثة ومختبراتهم الصوتية.‏

وأذكر هنا انطباق صفات أحرف الجذر "بحر" ومخارجه التي ذكرها علماؤنا القدامى مع نتائج تحليل العلماء المحدثين لها. ومن صفات هذه الأحرف:‏

آ ـ الباء: الجهر والشدة.‏

ب ـ الحاء: الهمس والرخاوة.‏

ج ـ الراء: الجهر والشدة، أو كما ذكر ابن جني: أنها "بين بين"، والتكرار(15).‏

وإذا تركنا دلالة هذه الصفات الاصطلاحية وانطلقنا من دلالتها اللغوية فإننا واجدون توافقاً مدهشاً لهذه الصفات، مع صفات البحر وتصور العرب له، ففي هذا الجذر حرفان مجهوران بينهما حرف مهموس أي أن الصوت يرتفع ثم ينخفض ثم يرتفع مرة أخرى، وكذلك صوت الموج إذ يبدأ بصوت مرتفع ثم ينخفض هنيهة ثم يرتفع مرة أخرى في جزره، مواكباً حركة الموج.‏

وفي هذا الجذر أيضاً حرفان شديدان يتوسطهما حرف رخو، وهذا يعني أن معنى الشدة والصعوبة ضعف معنى السهولة والرخاوة، فهو يدل دلالة خفية على رجحان معنى صعوبة ركوب البحر على سهولته أي يدل على رجحان هيبة العرب أمام هذا المخلوق العجيب على الاطمئنان منه، وهذا يطابق نظرة العرب القدامى إلى البحر من أن هوله وشدته وهيجه أكثر من سهولته وهدوئه ويمكن برهان ذلك على ثلاثة مستويات: المستوى اللغوي والمستوى الشعري والمستوى التاريخي والإخباري، فالجذور الدالة على اضطراب البحر أضعاف الجذور الدالة على هدوئه، وصورة البحر الهائج المخيف هي الغالبة في صور البحر الشعرية وكذلك أكثر الأخبار والأحداث التاريخية.‏

وأما صفة التكرار فسوف أتركها للتحليل القادم.‏

ثانياً: مخارج أحرف الجذر "بحر":‏

"قال الخليل: فأقصى الحروف كلها العين ثم الحاء ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين لقرب مخرجها من العين... فالعين والحاء والخاء والعين حلقية لأن مبدأها من الحلق... والراء واللام والنون ذلقية لأن مبدأها من ذلق اللسان وهو تحديد طرفي ذلق اللسان، والفاء والباء والميم شفوية وقال مرة شفهية لأن مبدأها من الشفة".(16).‏

وقد خالف سيبويه ترتيب الخليل في بعض الأحرف تبعه ابن جني وأغلب من جاء بعده، وقد نال حرف الحاء هذا الاختلاف في الترتيب من أحرف الجذر بحر إذ جعله سيبويه الخامس من نهاية المدرج الصوتي: الهمزة والألف والهاء والعين والحاء... أي أنه جعل مخرجه وسط الحلق لا من أقصاه(17)، ويمكن ترتيب مخارج هذه الأحرف على النحو الآتي:‏

آ ـ الباء: حرف شفوي.‏

ب ـ الحاء حرف من أواسط الحلق.‏

ج ـ الراء: حرف ذلقي.‏

وبسبر هذه الأحرف والاكتناه المتعمق فيها تراءت للباحث هذه النتائج، فالباء حرف مخرجه من بداية المجرد الصوتي والحاء حرف من أواسط الحلق يشتم منه رائحة العمق بل هو كما ذكر الخليل ـ من أ عمق الحروف مخرجاً، وكذلك البحر ففي بدايته يكون ضحضاحاً قليل الماء ومن ثم يزداد عمقه ويكون أعمق ما يكون في وسطه ويأتي الراء هذا الحرف التكراري الذي "لو لم يكرر لم يجر الصوت فيه"(18)، ليذكِّر بحركة الموج الدائبة إلى الأبد أو ليس البحر قلب الحياة النابض؟..‏

ومن ناحية أخرى، الباء أول الحروف مخرجاً والحاء من أواخر الحروف مخرجاً وتشبه إحاطة هذين الحرفين بأغلب الحروف بإحاطة البحر باليابسة ثم يأتي حرف الراء من وسط هذا المجرد الصوتي كما يأتي الموج من أواسط البحر ليظل متحركاً مستمراً حتى ينكسر على الشاطئ.‏

7 ـ البحر في الاصطلاح:‏

يطلق لفظ "بحر" في اصطلاح العروضيين على الوزن الذي ينظم عليه الشعر، وهو اختراع الخليل بن أحمد الفراهيدي، بيد أن هذا المصطلح على قدمه لم يرد في معاجم اللغة وأغفلته أغلب كتب الاصطلاحات فلم أجده إلا في كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي يقول: ـ"وفي اصطلاح العروضيين هو الكلام الموزون المقفى الذي يشمل على نوع الشعر... ويطلق على وزن الشعر بحر أيضاً لأنه كالأصل للفروع...".(19).‏

*الحواشي:‏

(1) ـ انظر: المعاجم المدروسة في المسرد.‏

(2) ـ يقال ماء ملح وليس مالحاً: "قال البطليوسي في شرح الفصيح: المشهور في كلام العرب ماء ملح ولكن قول العامة مالح لا يعد خطأ وإنما هو لغة قليلة"، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، للسيوطي شرح ـ محمد جاد المولى بك ـ محمد أبو الفضل إبراهيم ـ علي محمد البجاوي ـ المكتبة العصرية 1986 ـ صيدا ـ بيروت 1/215، وقال: ابن منظور: "ولا يقال مالح إلا في لغة رديئة"، اللسان مادة (ملح).‏

(3) ـ الإحالة في القبوسات اللغوية في هذا البحث على مادة بحر في المعاجم المذكورة.‏

(4) ـ ويقال التهانوي: "والبحر في أصل اللغة شق في الأرض يجري فيه الماء وتعيش فيه حيوانات مختلفة الأنواع ولذلك سمي البحر"1/167، كشاف اصطلاحات الفنون ـ محمد بن علي الفاروقي التهانوي. تح. لطفي عبد البديع ترجم النصوص الفارسية، د.عبد المنعم محمد حسنين. راجعه أمين الخولي المؤسسة المصرية ا لعامة للتأليف والترجمة والنشر ـ 1963.‏

(5) ـ انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي تح. محمد علي النجار. لجنة إحياء التراث الإسلامي القاهرة ـ 1965 ـ ج2 /225 ـ 226.‏

(6) ـ دلائل الإعجاز. عبد القادر الجرجاني: تحقيق محمود محمد شاكر ـ الناشر مكتبة الخانجي. د.ت. القاهرة ـ ص49.‏

(7) ـ دروس في الألسنية العامة: فردينان دي سوسير. تعريب صالح الفرمادي، محمد الشاوش، محمد عجينة. الدار العربية للكتاب ـ 1985 ـ ص 111.‏

(8) ـ وانظر الاختلافات في شمس العلوم والقاموس المحيط وتاج العروس، وكتب النحو.‏

(9) ـ مقدمة مقاييس اللغة: عبد السلام هارون 1/23.‏

(10) ـ من المدهش حقاً أن البحر هو رمز للرحم في التحليل النفسي وأن الهروب إليه هو الحاجة اللا شعورية إلى العودة إلى الرحم وهذا ما أسمته مود بودكين في كتابها النماذج المثالية في الشعر أنموذج الولادة الجديدة ومنها يستفيد د.إحسان عباس في تحليل قصيدة لأبي شبكة ولم يتنبه إلى معاني بحر: عمق الرحم في اللغة العربية. انظر فن الشعر. عباس ص 226 ـ 230.‏

(11) ـ وانظر: الاشتقاق لابن دريد ـ تح: عبد السلام هارون ـ مكتبة المثنى ـ بغداد ـ ط2 ـ 1979 ـ ص 93 ـ ص 191 ـ ص 508.‏

(12) ـ انظر: المغرب في حلى المغرب لابن سعيد المغربي تح: د.شوقي ضيف ـ ط3 منقحة دار المعارف ـ 1980 ـ ج2/203. وقد تفضل الدكتور علي دياب بإمدادي بهذه المعلومة القيمة.‏

(13) ـ الخصائص ـ لعثمان بن جني ـ تح. محمد علي النجار. دار الهدى للطباعة ط2 ج2/138.‏

(14) ـ الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى اللغوي. تح. عدنان درويش ومحمد المصري ـ وزارة الثقافة ـ دمشق ـ 1/ 390 ط2 ـ 1982.‏

(15) ـ كتاب سيبويه أبي بشر عمرو بن عثمان ـ ج4. عالم الكتب ـ بيروت 4/434 ـ 435 ـ وسر صناعة الإعراب لأبي الفتح عثمان بن جني. تح. د.حسن هنداوي. دار القلم ـ دمشق ـ ط1 ـ 1985 ـ 1/ 60، 61، 63 وكذلك 1 /119، 1/ 179، 1/ 191 وانظر المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث، د.رمضان عبد التواب ـ مكتبة الخانجي ـ القاهرة ط2 ـ 1985 ـ ص 31 ـ 60، فقه اللغة: علي عبد الواحد وافي ـ دار نهضة مصر ـ القاهرة ـ د.ت.ص 165 ـ 168، دراسات في فقه اللغة د.صبحي الصالح ط2 منشورات المكتبة الأهلية ـ بيروت ص 322 ـ 328 الأصوات ووظائفها. محمد منصف القماطي منشورات جامعة الفاتح 1986 ليبيا ، ص 54، ص57، ص58، ص62، ص63، الوجيز في فقه اللغة ـ محمد الإنطاكي ـ ط3 ـ مكتبة دار الشرق ـ د.ت. ص 178، ص 191، ص 198.‏

(16) ـ معجم العين للفراهيدي 1 /47 ـ 48.‏

(17) ـ انظر كتاب سيبويه 4 /433، وسر صناعة الإعراب لابن جني 1/47 ـ 48.‏

(18) ـ كتاب سيبويه 4/435.‏

(19) ـ كشاف اصطلاحات الفنون: للتهانوي 1/167.‏

المعاجم المدروسة حسب الترتيب الزمني لوفيات أصحابها:‏

(1) ـ العين: للخليل بن أحمد الفراهيدي (ـ 175).‏

(2) ـ جمهرة اللغة: لابن دريد الأزدي (ـ 321).‏

(3) ـ ديوان الأدب: لإسحاق بن إبراهيم الفارابي (ـ 350).‏

(4) ـ تهذيب اللغة: لأبي منصور الأزهري (ـ 370).‏

(5) ـ الصحاح: لإسماعيل بن حماد الجوهري (393).‏

(6) ـ مجمل اللغة: لأحمد بن فارس (ـ 395).‏

(7) ـ مقاييس اللغة: لأحمد بن فارس (ـ 395).‏

(8) ـ المحكم والمحيط الأعظم في اللغة لابن سيده الأندلسي (ـ458).‏

(9) ـ أساس البلاغة لجار الله الزمخشري (ـ 538).‏

(10) ـ شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم: لنشوان بن سعيد الحميري (ـ 554).‏

(11) ـ التكملة والذيل والصلة للصحاح: لمحمد بن الحسن الصغاني (ـ 650).‏

(12) ـ تهذيب الصحاح: لمحمد بن أحمد الزنجاني (ـ 656).‏

(13) ـ لسان العرب: لابن منظور الإفريقي (ـ 711).‏

(14) ـ المصباح المنير في ريب الشرح الكبير: لمحمد بن أحمد الفيومي (ـ770).‏

(15) ـ القاموس المحيط لمجد الدين الفيروز آبادي (ـ 817).‏

(16) ـ تاج العروس من جواهر القاموس لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي (ـ1205).‏

1 ـ وهذا ما أسقوم به في دراسة الجذر ـ المبحث السادس ـ.‏

-------------------


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 54 - السنة 14 - كانون الثاني "يناير" 1994 - شعبان 1414
 
النُّحَاةُ العَرَب وسُبلهم في التألِيف

النُّحَاةُ العَرَب وسُبلهم في التألِيف

النُّحَاةُ العَرَب وسُبلهم في التألِيف
لـ: محمّد وليد حافظ


يدهش الباحث حين يفتح كشف الظنون على مادة "ألفية ابن مالك" مثلاً، فيجد لها زهاء سبعين خادماً بين شارح ومحشٍ وناظم وشارح شواهد. ويزداد دهشة حين يجد لكافية ابن الحاجب في النحو مئة من الخدمة، بل إن للآجرّومية، وهي الأخرى من مقدمات النحو، ما يزيد على أربعين شرحاً وحاشية في المكتبة الظاهرية وحدها.

هاجم ابن خلدون هذه الظاهرة، أعني ظاهرة كثرة التآليف هجوماً عنيفاً، قال "اعلم أنه مما أضرّ الناس في تحصيل العلوم كثرة التآليف، واختلاف اصطلاحات التعليم، وتعدد طرقها"(1) وهاجمها كذلك المرحوم أحمد أمين الذي عدّ كل ما أُلف في النحو تكراراً لكتاب سيبويه الذي "كان من القوة بحيث كان المرجع في العالم الإسلامي من تاريخ تأليفه. وكل ما فعله الناس أنهم شرحوا غامضاً، أو اختصروا مطوّلاً، أو بسّطوا معضلاً، أما الأسس التي بني عليها الكتاب فبقيت كما هي في النحو والصرف إلى اليوم، من عهد شرح السيرافي لكتاب سيبويه إلى "النحو الواضح" للمرحوم الجارم بك"(2).

وعزا المرحوم أحمد أمين هذه الظاهرة إلى أن النحو العربي ظل متأثراً طوال حياته بنظرية العامل التي قدمها سيبويه في كتابه، فالفاعل مرفوع بالفعل، والمفعول به منصوب بالفعل. وإذا لم يوجد عامل ظاهر قدر عامل مستتر. ولم يستطع ابن جني –392هـ وابن مضاء الأندلسي- 593هـ تحرير النحو من هذه النظرية(3).

وقد أجمل صاحب كشف الظنون أنواع التآليف فيما يلي، وهي أنواع تنطبق على عالم النحو:

1-مختصرات تجعل تذكرة لرؤوس مسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار، وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء.

2-مبسوطات تقابل المختصرات، وهذه ينتفع بها للمطالعة.

3-متوسطات، وهذه نفعها عام للمبتدئ والمتوسط والمنتهي(4).

ونظن ظناً أن صعوبة النسخ وتكاليفه كانت وراء تأليف المختصرات، ثم الاتجاه في القرون المتأخرة إلى تلقين النحو لا إلى تفهيمه، ونظن كذلك أن هذه المختصرات اشتغل بها المعلمون، يستعينون بها في استحضار أفكار الموضوع، ويشرحونها لطلابهم شروح المختصرات المتخذة كتباً تعليمية، كألفية ابن مالك والمقدمة الآجرومية.

هاجم ابن خلدون هذه المختصرات موضحاً أضرارها، قال: "ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه خلطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، هو لم يستعد لقبولها بعد. وهو من سوء التعليم كما سيأتي، ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل منها، لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت. ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين. وإذا اقتصر عن التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة، فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعباً يقطعهم على تحصيل الملكات النافعة وتمكنها"(5).

وتفهم بسهولة مرامي ابن خلدون من هذا الموقف، وهي:

1-عدم إرهاق المبتدئ في التعلم بما لا يستطيع فهمه.

2-عدم إرهاق المبتدئ بتتبع ألفاظ الاختصار، وتضييع وقته.

3- فائدتها –إن كان لها فائدة- أقل من فائدة المبسوطات.

ويلاحظ أن بعض شارحي الكتب النحوية ألّفوا الأنواع الثلاثة على الكتاب الواحد، وكأنما يراعون مستويات المتعلمين أو يجهزون مذكرات للمعلمين، ومنهم عبد القاهر الجرجاني الشهير بكتابه "دلائل الإعجاز"، فقد ألف ثلاثة شروح لكتاب "الإيضاح في النحو" لأبي علي الفارسي، يقع أوسعها في ثلاثين مجلداً بعنوان "المغني"، وللقارئ أن يتصور صعوبة استعمال هذا المطول، بله اقتناءه. ومنها شروح ركن الدين حسن بن محمد الاستراباذي الحسيني –717هـ على كافية ابن الحاجب.

بل إن معظم أصحاب الأمهات في النحو صنع شرحاً لمختصره، أو اختصر مطوله، أو شرح شواهده، ومنهم:

1-الزمخشري اختصر "المفصّل" في "الأنموذج".

2-ابن الحاجب شرح "الكافية"، ونظمها في أرجوزة سماها "الوافية" وشرحها.

3-ابن مالك شرح "التسهيل"، والتسهيل مؤلف شديد الإيجاز، جمع فيه خلاصة آرائه النحوية.

4-ابن هشام شرح "قطر الندى" و "شذور الذهب" وشرح شواهد "مغني اللبيب" أكثر من مرة.

ويبدو ابن خلدون أشد تسامحاً تجاه ظاهرة كثرة التآليف رغم مهاجمته لها، فهو لا يعد كل الكتب النحوية والشروح تكراراً لكتاب لسيبويه، بل يصنف أغراض التأليف بعقل منطقي كما يلي:

1-كمال مهارة المصنف، فإنه لجودة ذهنه، وحسن عبارته يتكلم من معان دقيقة بكلام موجز، يكفي في الدلالة على المطلوب، وغيره ليس في مرتبته، فربما عسر عليه فهم بعضها، أو تعذر، فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر المعاني الخفية.

2-حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتماداً على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، أو إهمال ترتيب بعض الأقيسة، فأغفل علل بعض القضايا، فيحتاج الشارح إلى أن يذكر تلك المقدمات المهملة، ويعطي علل ما لم يعط المصنف.

3-وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر منه، من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات، وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة إلى غير ذلك، فيحتاج أن ينبه عليه(6).

أما النوع الأول من الشروح فأوضح أمثلته شرح النحوي لمصنفه، وهذا ما فعله ابن هشام بكتابيه "شذور الذهب" و "قطر الندى" وهذا مثال من قطر الندى:

ص: جميع الحروف مبنية.

ش: لما فرغت من ذكر علامات الحرف، وبيان ما اختلف فيه منه، ذكرت حكمه، وأنه مبني لاحظّ لشيء من كلماته في الإعراب.

ص: والكلام لفظ مفيد.

ش: لما أنهيت القول في الكلمة وأقسامها الثلاثة، شرعت في تفسير الكلام..."(7). ويجدر بالذكر أن ابن هشام يسمي مؤلفه "مقدمة" ويسمي شرحه نكتاً "رافعة لحجابها –يعني المقدمة- كاشفة لنقابها، كافية لمن اقتصر عليها، وافية ببغية من جنح من طلاب علم العربية إليها"(8).

وأما النوع الثاني، فمن أمثلته شروح كتاب سيبويه وشروح مغني اللبيب. يقول ابن هشام في المغني: "إذ لا مجازاة هنا"(9) والإشارة إلى مثال أبي علي الفارسي: "يقال لك: أحبك فتقول: إذن أظنك صادقاً" بضم الفعل المضارع، فيشرح الشمني العبارة قائلاً: "قال الرضي لأن الشرط والجزاء إما في الاستقبال أو في الماضي، ولا مدخل للجزاء في الحال"(10).

وأما الثالث من أسباب التصنيف فقد استغله بعضهم أبشع استغلال للتشنيع على أسلافهم، والانتقاص من أقدار غيرهم. وما أكثر ما نقرأ في كتب النحو اتهامات بالزعم والوهم والتعسف والخلط، هذا أبو حيان النحوي الأندلسي (-745هـ) يتهم أبا علي الفارسي والزمخشري "بعجرفة العجم" وعدم معرفة كلام العرب. ويصف كافية ابن الحاجب بأنها "نحو الفقهاء". وابن مالك يصف الزمخشري بأنه "نحوي صغير" وبين ابن مالك وأبي حيان ما بينهما رغم كون الثاني شارحاً للأول. ثم بين ابن هشام وأبي حيان. ثم ابن هشام يتهم الزمخشري بالخروج عن كلام العرب(11)، والكذب فيما نقله عن سيبويه(12).

وأسوأ من يلقانا في هذا الباب الأسود الغندجاني المتوفى بعد 430هـ، وهو عالم بالشعر والأنساب من غندجان بأرض فارس. تتلمذ على شيخ مجهول يكنى بأبي الندى، فتطاول على أربعة من أسلافه: ابن الأعرابي، وأبي علي الفارسي، وابن السيرافي، وأبي عبد الله النمري. فألف في الرد على كل منهم كتاباً، وأنعم على ابن السيرافي بكتابين فأطلق لسانه "حاداً نابياً لا يتورع عن الساقط من الكلام بحق الأئمة من العلماء في إطار التهكم والسخرية، وضرب الأمثال السوقية في بعض الأحيان، مما عبّر عنه ياقوت بقوله "وكان الأسود لا يقنعه أن يرد على أئمة العلم رداً جميلاً، حتى يجعله من باب السخرية والتهكم وضرب الأمثال"(13). وأمثاله في غاية الفحش والبذاءة أحياناً(14)، وأغلبها مما صنعه الغندجاني نفسه، بالإضافة إلى تحميله ابن السيرافي ما لم يقله(15)، وتصحيف كلامه، وغير ذلك مما يضيق المقام بذكره.

إلا أن نظرة متأنية منصفة تجعلنا نضيف إلى ما سبق من تصنيف ابن خلدون ما يلي:

نحن نعلم أن الأخفش الأوسط (-215هـ) فتح باب الخلاف على أستاذه سيبويه، وأن هذا الخلاف تمخض عن مدرستي البصرة والكوفة، ثم نشأت مدارس أخرى. ونعلم أن هذه المدارس استقطبت النحاة. ونعلم أن جدلاً دار حول أصول النحو، مثل الاحتجاج والقياس ومصطلحات النحو، دون أن يعني هذا خفوت الأصوات الفردية والخلافات الجانبية ضمن كل مدرسة، فإن الأسباب التي أدت إلى ظهور الخلافات، وهي طبيعة اللغة العربية نفسها، وطبيعة العلل التي تتحكم في العلاقات اللغوية، والدلالات التي تحملها الألفاظ، وطبيعة البحث العلمي (16)، هذه الأسباب إلى جانب أسباب أخرى سنتطرق إليها فيما بعد –ظلت نبعاً لا ينضب لتعدد الآراء دون أن تفلح مدرسة الفارسي في الخروج من مأزق الخلاف رغم تأثيراتها العميقة:

أ-فلابد أن كلاً من عمالقة النحو العربي كان في ذهنه شيء جديد يريد تقديمه، ولاسيما أن معظمهم كان من المعتزلة المؤمنين أعمق إيمان بحرية العقل وسلطانه. فالفرّاء بعد الكسائي وطد أركان مدرسة الكوفة. والرماني (-384هـ) اتهم بنزعته المنطقية. وأبو علي الفارسي صاحب مدرسة مستقلة، هو وتليمذه ابن جني. والزمخشري عاد إلى كتاب سيبويه واختصره في المفصل. وابن الحاجب نحوُه "نحو الفقهاء". وابن مالك توسع في الاستشهاد بالحديث النبوي. وابن هشام صاحب آراء مستقلة.

ب-وارتاد بعضهم ساحات جديدة في التصنيف:

1-فصنف الزجاجي (-337هـ) كتاب اللامات. والرماني (-384هـ) "معاني الحروف" والهروي (-415هـ) "الأزهية في علم الحروف" وهي كما هو واضح تجميع للأدوات في مؤلفات مستقلة.

2-وظهرت كتب إعراب القرآن الكريم بدءاً من معاني القرآن للأخفش، مروراً بمعاني القرآن للفراء، حتى اضطر ابن هشام إلى تقديم شكل جديد يغني عن كتب الأعاريب التي كثرت وطالت، فكان "مغني الليبب" دون أن يوقف هذا المغني سيل كتب الأعاريب.

3-وظهرت كتب الأمالي، للزجاج، والمرتضى (-436هـ) وابن الشجري (-542هـ) وابن الحاجب، وغيرهم. وتبحث كتب الأمالي شتاتاً من الموضوعات يتراوح بين جواب لسائل، وإعراب آية، وشرح بيت مشكل.

4-وعني بعض النحاة بشرح الشواهد النحوية، وهو عمل جليل يخفف العبء عن متون النحو، ويسمح للمؤلف أن يستمر في عرض مادته دون الانصراف إلى الشواهد، في زمن لم تكن الحواشي فيه معروفة. وللنحاس (-338هـ) وابن السيرافي (-385هـ) والأعلم الشنتمري (-476هـ) شروح لأبيات سيبويه. وقد يشرح النحوي نفسه شواهده كما فعل ابن هشام بشواهد المغني، أو يشرح شواهد غيره. كما فعل ابن هشام نفسه بشواهد ابن الناظم بدر الدين بن مالك (-686هـ). وبلغ من عظمة شارح أبيات الرضي، وهو عبد القادر البغدادي (-1093هـ) أن حمل مؤلفه عنوان "خزانة الأدب" عن جدارة، فيها عشرات المقطعات والقصائد، وتراجم لعشرات الشعراء، ومعرض لآراء النحاة. وكذلك شرحه لأبيات مغني اللبيب.

5-وألف بعضهم في محاور خاصة مثل كتب الأحاجي النحوية، وكتاب "الاقتراح" للسيوطي.

هذا فيما يخص مناجي التأليف النحوي، أما اتهام أحمد أمين تراث العرب النحوي بأنه تكرار لكتاب سيبويه فإننا نبدي عليه التحفظات التالية:

1-كان من مظاهر ارتقاء العقل العربي بعد سيبويه الميل إلى التعليل. وإذا كان القياس أساسه الفقه والنحو، فالعلة أساس القياس، والقياس "هو حمل غير المنقول على المنقول في حكم لعلة جامعة"(17) "ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول، وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره، فإذا سمعت "قام زيد" أجزت: ظرف بشرٌ وكرُم خالدٌ"(18).

جهد النحاة العرب لوضع القاعدة النحوية على أساس علِّيّ. وكانت العلل هشة بادئ الأمر، يطعن الطاعن فيها بسهولة، فلما كان ابن جني عمل للتخلص مما يسمى بتخصيص العلل، أي من إمكان نقضها لعدم الاحتياط في وصفها، مثل قولهم في علة قلب الواو والياء ألفاً: إن الواو والياء متى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين" وهي قاعدة منقوضة بمثل: (غَزَوَا)، وبمثل (عَوِر)، فسدّ ابن جني كل خلل في القاعدة، وجعل قاعدته شاملة مطردة لا يطعنها طاعن من جهة، وتخاطب العقل قبل الذاكرة من جهة أخرى، فجعلها كما يلي "إنهما متى تحركتا حركة لازمة، وانفتح ما قبلهما، وعري الموضع من اللبس، أو أن يكون في معنى ما لابد من صحة الواو والياء فيه، أو أن يخرج على الصحة منبهة على أصل بابه، فإنهما يقلبان ألفاً"(19).

وأضحى التعليل من موضوعات الخلاف في العصور المتأخرة، ففي حين أنكره بعض النحاة، ولاسيما نحاة المغرب والأندلس الذين كان للمذهب الظاهري في الفقه أثر واضح على مذهبهم النحوي، كابن مضاء القرطبي وأبي حيان النحوي، عمّق نحاة المشرق بشكل خاص الاتجاه التعليلي، هذا ابن يعيش النحوي الحلبي الكبير، وهو من أواخر المعتزلة، تتلمذ عليه ابن مالك نفسه، وإن كانت تلمذة سطحية على ما يبدو لشدة البعد بين منحيي الرجلين، هاهو يشرح للقارئ سبب انقسام الضمير إلى متصل ومنفصل "القياس فيها أن تكون كلها متصلة لأنها أوجز لفظاً وأبلغ في التعريف، وإنما أتي بالمنفصل لاختلاف مواقع الأسماء التي تضمر، فبعضها يكون مبتدأ، نحو "زيد قائم" فإذا كنيت عنه قلت: هو قائم، أو أنت قائم إن كان مخاطباً لأن الابتداء ليس له لفظ يتصل به الضمير، لذلك وجب أن يكون ضميره منفصلاً.."(20) ويعلل حركة تاء الرفع بأن "التاء هنا (أي في مثل: جلستُ) اسم قد بلغ الغاية في القلة فلم يكن بد من تقويته بالبناء على حركة لتكون الحركة فيه كحرف ثانٍ.."(21).

ويمضي ابن يعيش على هذا النحو الرائع من التعليل، ومخاطبة العقل مفسراً سبب اختلاف حركات التاء، وسبب اقتصار المخاطب المثنى على ضمير واحد، في حين أن للجمع ضميرين.

بل إن الفراء، وهو المؤسس العملي لمدرسة الكوفة والمتوفى عام 207هـ أي بعد وفاة سيبويه بربع قرن فقط، يحتج لسقوط نون الوقاية في (أنّ) و (كأنّ) و (لعلّ) "بأنها بعدت عن الفعل، إذ ليست على لفظه، فضعف لزوم النون لها، و (ليت) على لفظ الفعل، فقوي فيها إثبات النون، ألا ترى أن أولها مفتوح وثانيها حرف علة ساكن وثالثها مفتوح، فهو كقام وباع.."(22) أفننكر بعدئذ على هذه العقول الكبيرة أمثال الفراء وابن جني وابن يعيش والرضي جهدها، ونعد ما تعمقوه في النحو تكراراً لكتاب سيبويه؟!

2-ومعتمد التعليل المنطق، وما من شك أنك تلمح خلف كلام ابن يعيش الذي نقلنا بعضه في الفقرة السابقة ذلك المنطق الإنساني العام الذي لا يختلف فيه اثنان، مثل تعليله انفصال ضمير النصب "وبعضها يتقدم على عامله، نحو "زيداً ضربت" فإذا كنيت عنه مع تقديمه لم يكن إلا منفصلاً لتعذر الإتيان به متصلاً مع تقديمه، لذلك تقول "إياه ضربت" وقال الله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين"(23)....".

أما المنطق الذي كان موضع نزاع بين النحاة فهو ذاك الذي ترجم من اليونانية، ومازج النحو، مثل ما لاحظ الفارسي على معاصره الرماني (374هـ) قال: "إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء"(24). ومع ذلك لم يسلم الفارسي نفسه من تهمة إقحام المنطق في النحو. ويجدر بالذكر أن لغويي مختلف العصور اتجهوا هذا الاتجاه، ومنهم على سبيل المثال رائدا مدرسة بور رويال في فرنسا في القرن السابع عشر، اللذان كان لقواعدهما ردة فعل عنيفة، لكنها كانت في مطلع القرن العشرين حافزاً لانطلاقة علم اللغة العام.

اصطنع الشراح المتأخرون أساليب المناقشة المنطقية مثل "فان قلت" و "سلّمنا" وهم بذلك يقتفون أثر ابن جني الذي كان منهجه تفنيد كل رد محتمل. غير أن المتأخرين استخدموا أساليب المنطق ومصطلحاته، يردّ الشمني أحد شراح المغني على الدماميني وهو الآخر من شراح المغني –قوله: "قد يقال: ليس بين تأثير الأداة (أن) لتخليص الاستقبال وتأثيرها لنصب اللفظ تلازم بدليل (سوف)" قائلاً "لا دلالة في عبارة المصنف المعنى إلى –يعني ابن هشام- على التلازم، ولو سلم، فالتاثير اللفظي لوجود التأثير المعنوي، لا لماهيته، ولازم الوجود لا يجب ثبوته لكل فرد من أفراد ملزومه بل قد يثبت لبعضها فقط، ككون الجسم ذا ظل في الشمس، فإنه لازم لوجود الجسم، غير ثابت لبعض أفراده كالهواء"(25).

ونقل الشمني شرحاً منطقياً وافياً لقوله تعالى: "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا"(26)، وللحديث المنسوب إلى عمر رضي الله عنه "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" عن التفتازاني صاحب المطول، يدل على مدى اتساع عقول أولئك البلاغيين المشارقة المتهمين بتجميد البلاغة العربية(27).

وإن سلمنا بأن المنطق جمد النحو العربي والبلاغة فمن ينكر أثر التفكير المنطقي في مثل كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري المتوفى عام 577هـ فهو يسرد في مطلع كل مسألة رأي الكوفيين فرأي البصريين، ثم حجج الكوفيين فحجج البصريين، وأخيراً يحكم بينهما مفنداً رأي أحد الطرفين.

3-وازدهر علم المعاني، ولاسيما بعد كتاب الإمام عبد القاهر الجرجاني "دلائل الإعجاز" واستوى على يد الزمخشري في "الكشاف"، يعقب الزمخشري على الآية الكريمة "ولكم في القصاص حياة"(28) بقوله: "هذا كلام فصيح لما فيه من الغرابة، وهو أن القصاص الذي هو قتل وتفويت للحياة قد جعل مكاناً وظرفاً لها"(29) وهو بهذا يشرح معنى الظرفية المجازية لحرف الجر (في). ويشرح قوله تعالى "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله"(30): "الأصل ما أمرتهم إلا ما أمرتني به، فوضع القول موضع الأمر رعاية لقضية الأدب الحسن، لئلا يجعل نفسه وربه معاً آمرين"(31). وفي تفسير قوله تعالى: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه"(32): "هو تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى، منها الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهية موصولاً بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى "أحدكم"، والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك"(33).

والحق أن صلة النحو بعلم المعاني وثيقة تكاد لا تتبين حدود كل منهما ولاسيما أبحاث الأدوات أو حروف المعاني، فأول ما يفعله المؤلف في بحث الأداة أو الحرف تفصيل معانيها، ومهمة علم المعاني تعميق فهم الطالب، فإذا قال ابن هشام عن الهمزة "إنها ترد لطلب التصور، نحو: أزيد قائم أم عمرو؟ ولطلب التصديق"(34) استعان الشارح بالسيد الشريف الجرجاني في حاشيته على المطول "والتحقيق أنها، أي الهمزة، في قولك (أدبسٌ في الإناء أم عسل) لطلب التصديق أيضاً، فإن السائل قد يتصور الدبس والعسل، وبعد الجواب لم يزد له في تصورهما شيء آخر أصلاً، بل بقي تصورهما على ما كان، فإن قيل: التصديق حاصل له حال السؤال فكيف يطلبه؟ أجيب بأن الحاصل هو التصديق بأن أحدهما في الإناء مثلاً، والمطلوب بالسؤال هو التصديق بأن أحدهم كالعسل مثلاً في الإناء"(35).

4-وعلى أثر الخلافات السياسية والصراعات الدموية تبلورت فرق عقائدية شتى، من قائل بالجبر، وقائل بالاختيار، ومن أهل العدل والتوحيد، إلى أهل التشبيه، إلى ما هنالك من فرق أذكت الأحداث عواطفها، وصقلت التجارب أفكارها، فوجد علم الكلام، يبحث في موضوع صفات الله، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف... وبسط هذا العلم جناحه على أهل العراق وفارس خاصة. ووجد مكاناً له في ساحة النحو، كما في سوح العلوم الأخرى. فإذا اختلف النحاة في إعراب (أنْ) في قوله تعالى "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً"(36) لجأ بعضهم إلى علم الكلام، فقال: "إلهام الله تعالى لعباده بقوله وأمره" فرد الآخر بأن الإلهام مفسر في الكتب الكلامية بإلقاء معنى في القلب بطريق الفيض"(37). وإذا قال ابن هشام في معرض خروج (إذا) عن الاستقبال في قوله تعالى "والنجم إذا هوى"(38) "والليل إذا يغشى"(39) لأنها لو كانت للاستقبال لم تكن ظرفاً لفعل القسم لأنه إنشاء، لا إخبار عن قسم سيأتي، لأن قسَم الله قديم، أجابه الشمني "إن أراد القسم اللفظي فقد تقرر في علم الكلام أن الكلام اللفظي المؤلف من الحروف الملفوظة المسموعة ليس بقديم، ومعنى إضافته إلى الله تعالى أنه مخلوق له تعالى، ليس من تأليفات المخلوقين، وإن أراد النفسي فقد تقرر أيضاً أن الكلام النفسي صفة واحدة في الأزل ليست بمنقسمة إلى أقسام الكلام التي هي الخبر والأمر والنهي وغير ذلك"(40) ثم مضى يشرح مواقف الكرّامية الذين يثبتون الصفات لله تعالى والتجسيم والتشبيه، ومواقف الحنابلة المشابهة، وأبي الحسن الأشعري الذي خرج على المعتزلة من خلال أشهر كتب علم الكلام. ومعلوم ما أثارته مسألة خلق القرآن من مشكلات وصراعات بين المعتزلة وخصومهم زمن المأمون وبعده.

5-وبعد توضح المذاهب الفقهية نشأ علم أصول الفقه على ثلاثة أسس: علوم اللغة العربية، وعلم الكلام، والفقه. وكان ابن الحاجب صاحب "الكافية" الشهيرة من كبار أصوليي عصره، وكان منهم بهاء الدين السبكي(763هـ) والسعد التفتازاني (793هـ). ولا عجب أن يبدأ التفتازاني كتابه "شرح التلويح" بأبحاث نحوية في معاني الحروف والأدوات، فكثير من الاختلافات الفقهية منشؤها الاختلاف في فهم النصوص القرآنية، لذلك رجع الأصوليون إليها مسلحين باللغة. وكما كان القرآن الكريم نواة العلوم اللغوية فيما سبق، كان فيما بعد نواة لعلم أصول الفقه، وكما بنيت أحكام فقهية على اختلافات لغوية، بنيت أحكام لغوية على اختلافات فقهية.

فاختلافهم على معاني الواو جعلهم يختلفون في فهم آية الوضوء "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم"(41) فعند بعضهم تفيد الواو التفصيل، وعند غيرهم المعية، وعند آخرين لا تفيد أياً منهما.

وبالمقابل فهم بعضهم من قول الإمام الشافعي بالترتيب في الوضوء، أن الواو تفيده. ونقل جماعة الترتيب عن الإمام أبي حنيفة من قوله: "إذا قال الزوج لغير المدخول بها: أنتِ طالق طالق وطالق، تقع واحدة. ويناقشون في كتب النحو قول القائل "والله لا أتزوج النساء" أيقع الحنث بالواحدة لأن (ال) التعريف الماهية أم لا يحنث إلا بتزويج ثلاث، وهو مذهب الشافعي، بناء على أن معنى الجمع باقٍ مع أداة العموم"(42).

وكتب الرشيد ليلة إلى القاضي أبي يوسف، وهو أحد كبار أعوان الإمام أبي حنيفة، أو كتب الكسائي إلى محمد بن الحسن الشيباني، وهو الآخر أعظم منظري المذهب الحنفي، "ما قول القاضي فيمن قال لامرأته:

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن

وإن تخرقي يا هند فالخُرق أشأم

فأنتِ طلاق والطلاق عزيمة

ثلاث، ومن يخرق أعقّ وأظلم


فكتب القاضي (أو محمد بن الحسن): إن رفع "ثلاثاً" تقع واحدة، وأن نصب يقع ثلاث، لأنه إذا رفع ثلاثاً فقد تم الكلام بقوله "أنت طلاق" ثم ابتدأ بقوله: "والطلاق عزيمة"(43).

6-وبعد ما كان العلماء الأوائل كالأصمعي يتحرجون من تفسير القرآن تحرجاً عظيماً، ويكتفون أن فسَّروا بنقل المأثور، تحمس المعتزلة للتفسير بالمعنى، وغيرهم للتفسير الباطني، وجمع بعضهم بين أكثر من طريقة في التفسير. هذا الزمخشري أكبر مفسري المعتزلة، وابن عطية الأندلسي معاصره من مفسري المأثور، فيجمع أبو حيان تفسيريهما رغم عدائه الشديد للزمخشري، فيصنف "البحر المحيط". وهذا الرازي مفسر آخر من مفسري المعتزلة، ولكنه من مذهب أبي الحسن الأشعري. وما انقطع المفسرون إلى يومنا. ولا يشك أحد، كما يقول السمين الحلبي (756هـ)، أنه لابد لمن يتعرض لعلم التفسير أن يعرف جملة صالحة من العلوم الأخرى.

حتى إذا وصلنا إلى القرن التاسع الهجري وجدنا آثار الوهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعواقب الغزوات المدمرة التي تعرض لها العالم الإسلامي من الشرق والغرب بدأت تفعل فعلها في هذا الكيان المنخور منذ أواخر الخلفاء العباسيين الأقوياء. وظهر بوضوح أنها أخطر من أن يستطيع النحو وسائر العلوم تجاوزها. ونظل نحمد لعلماء هذا القرن وسالفه على نحو خاص انصرافهم إلى علومهم رغم ظروفهم القاتمة، ونظل نحمد للمماليك تشجيعهم للعلوم مهما كانت دوافع هذا التشجيع، ونظل نحمد للمماليك اعتمادهم على أنفسهم في معاركهم دون قوى الشعب.

على أننا نجد في هذا القرن المجدب، من الذرا النحوية والقرن الذي سبقه صُوّة ينبغي التوقف عندها، وهي محاولة إعادة اللحمة بين علوم اللغة العربية، وهي العلوم التي استعرضنا آنفاً أثرها في غزارة التأليف اللغوي، والتي شذب بعض النحاة النحو منها ليتحول النحو إلى قوانين جافة لا روح فيها. وكان بإمكان موسوعي كبير مثل بهاء الدين السبكي (763هـ) أن ينجز هذا العمل العظيم لو أنه تحمس له وأكمل ما بدأه في شرحه للتخليص في علوم البلاغة، المعروف بعروس الأفراح.

وشروح أهل القرن التاسع على العموم تتصف بالتحقيق الدقيق في المتن المشروح، والجمع المستقصي للآراء. وإن كان يعيبها التكلف الشديد لدى بعضهم، والبحث عن مكامن الضعف لدى خصومهم. وأعتقد أن من المفيد أن نكمل الخطوات التي خطاها نحاة ما قبل العهد العثماني بإعادة النظر في ذلك التراث الكبير كماً وكيفاً، فننسق بين الشروح المتعددة للكتاب الواحد، شريطة أن تكون شروحاً حسنة، فنصنع منها مؤلفاً واحداً على نحو ما فعل البرقوقي بشروح ديوان المتنبي. ونضع البقية من التراث الذي لا يساوي أكثر من قيمته التاريخية في مكانه اللائق، فنريح بذلك مطابعنا وقراءنا وطلابنا الباحثين عن مخطوطات للتحقيق، تكون مرتقى لهم إلى الدرجات العلمية، خير من أن نسوق الجميع بعصاً واحدة، فننكر على أمثال ابن يعيش والرضي أعمالهم العظيمة.

* * *

الحواشي:

(1)مقدمة ابن خلدون 1230.

(2)ظهر الإسلام 2/115.

(3)أما ابن جني فقال في الخصائص 1/109: "ألا تراك إذا قلت: ضرب سعيد جعفراً، فإن (ضرب) لم تعمل في الحقيقة شيئاً، وهل تحصل من قولك (ضرب) إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء، على صورة (فعل)، فهذا هو الصوت، والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوباً إليه الفعل، وإنما قال النحويون: عامل لفظي، وعامل معنوي، ليروك أن بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه، كمررت بزيد، وبعضه يأتي عارياً من مصاحبة لفظ يتعلق به، كرفع المبتدأ بالابتداء.. هذا ظاهر الأمر، وعليه صفحة القول؛ أما في الحقيقة ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه، لا لشيء غيره. وإنما قالوا: لفظي ومعنوي، لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامه اللفظ للفظ، أو باستكمال المعنى على اللفظ، وهذا واضح".

وأما ابن مضاء فهو ظاهري المذهب، لا يؤمن بالتأويل والقياس فيجري في النحو مجراه في الفقه، فلا تأويل لعامل، ولا عمل له.

(4)كشف الظنون 35.

(5)مقدمة ابن خلدون 1232.

(6) مقدمة ابن خلدون 1227 وكشف الظنون 35.

(7)شرح قطر الندى 43.

(8)المصدر السابق 10.

(9)المغني 30.

(10)المنصف من الكلام على مغني ابن هشام 1/41.

(11)مغني اللبيب 601.

(12)مغني اللبيب 460.

(13)فرحة الأديب مقدمة المحقق 23.

(14)انظر مثلاً ص51-53-74-76-105.

(15)فرحة الأديب ج2، ص101.

(16)مقال الكاتب في التراث العربي العدد 30 بعنوان: أسباب الخلاف اللغوي وأسلوب البحث في تراث العالم.

(17)في أصول النحو 78.

(18)الخصائص 1/357.

(19)الخصائص 1/146-147. والمقصود بالصحة مقابل الاعتلال. وما يسميه النحاة شاذاً يعده ابن جني باقياً على أصله منبهة على بابه، مثل صحة الواو في (القود) والياء في (الغيب) تبنيها على أصل (باب) و(عاب).

(20)شرح المفصل 3/85.

(21)المصدر السابق 3/86.

(22)المصدر السابق 3/91.

(23)المصدر السابق 3/85.

(24)في أصول النحو ج1، ص137.

(25)انظر مغني اللبيب 44، ص137.

(26)الأنفال 8/23.

(27)المطول 128- 129 والمنصف.

(28)البقرة 3/179.

(29)الكشاف 1/333.

(30)المائدة 5/117.

(31)الكشاف 1/657.

(32)الحجرات 49/12.

(33)الكشاف 3/568

(34) مغني اللبيب 21.

(35)حاشية على المطول 139 والمنصف 1/28.

(36)النحل 16/68.

(37)انظر المغني 47 والمنصف 1/69.

(38)النجم 53/1.

(39)الليل 92/9.

(40)المنصف من الكلام، مخطوطة الظاهرية 58/أ.

(41)المائدة /5/6.

(42)انظر مغني اللبيب 76 والمنصف 1/107.

(43)البيتان في شرح المفصل لابن يعيش 1/107 ومع الخبر في خزانة الأدب 2/69 وشرح أبيات المغني 1/124 والمبسوط 6/77.

* * *

المصادر والمراجع:

-الإنصاف في مسائل الخلاف للأنباري. دار الجيل 1982.

-حاشية على المطول للشريف الجرجاني 1289هـ.

-خزانة الأدب للبغدادي. مطبعة بولاق 1299هـ.

-الخصائص لابن جني. ت محمد علي النجار. دار الهدى –الطبعة الثانية.

-شرح أبيات المغني للبغدادي. ت رباح ودقاق. مطبعة زيد بن ثابت 1973.

-شرح قطر الندى لابن هشام. مطبعة السعادة. ط 11، 1963.

-شرح المفصل لابن يعيش. بيروت. عالم الكتب.

-ظهر الإسلام لأحمد أمين. دار الكتاب العربي. بيروت 1969م.

-الكشاف للزمخشري. البابي الحلبي 1966م.

-كشف الظنون لحاجي خليفة. مطبعة المعارف. استانبول 1941.

-المبسوط للسرخسي.

-المطول للتفتازاني استانبول 1304هـ.

-مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام للشمني، وبهامشا الدماميني على المغني. المطبعة البهية مصر 1305هـ.

-المنصف من الكلام. مخطوطة الظاهرية رقم 8685 عام.

-مجلة التراث العربي. العدد 30 كانون الثاني 1988.

-----------------------------------------------------------


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 35 و 36 - السنة التاسعة - نيسان وتموز "أبريل ويوليو" 1989 - رمضان وذي الحجة 1409
 
(الصّمْصَامَة) أشهر سيوف العرب أين ذهب؟

(الصّمْصَامَة) أشهر سيوف العرب أين ذهب؟

((الصّمصامة أشهر سيوف العرب أين ذهب؟))
تأليف: محمود مفلح البكر


لم يبلغ سيف من سيوف العرب ما بلغه "الصمصامة" سيف عمرو بن معديكرب الزبيدي، من شهرة وما مر عليه من أحداث، وما دار حوله من حكايات، رأته في مجال الواقع، ودفعته إلى مشارف الأسطورة، فغدا أشهر من ملوك كثيرين، وهناك أناس لا نجد أنفسنا في حاجة إلى ذكرهم، أو تذكرهم، لولا ارتباط أسمائهم- وإن مصادفة- بهذا السيف الذي توغل بداياته في عالم الحكايات، وتنطوي نهايته في مرحلة رديئة صنعها فساد الحكم.

عراقة الصمصامة:

يذكر بعض الرواة أن الملكة بلقيس أهدت إلى الملك سليمان خمسة أسياف هي: ذو الفقار، وذو النون، ومجذوب، ورسوب، والصمصامة.

وجميعها مشهورة قبل الإسلام، فقد كان ذو الفقار لمنبه بن الحجاج أخذه الرسول منه يوم بدر. ومجذوب ورسوب للحارث بن جبلة الغساني، وذو النون والصمصامة لعمرو بن معديكرب الزبيدي(1) أحد مشاهير الأبطال في الجاهلية والإسلام.

ويروي بعضهم أن "الصمصامة" من بقايا السيوف اليرعشية الحميرية، وأن الملك الحميري علقمة بن ذي قَيْفان أهداه لعمرو بن معديكرب الذي يقول فيه:
وسيفٍ لابن ذي قَيفانَ عندي = تخيَّرهُ الفتى من عهدِ عادِ(2)

ولهذا البيت رواية ثانية تنسب "الصمصامة" إلى كنعان جد الكنعانيين:
وسيفٍ من لَدُنْ كنعانَ عندي = تُخيِّرَ نَصْلُهُ من عهدِ عادِ(3)

ويقال أن حديد "الصمصامة" من جبل "نقم" في اليمن(4)، ويروي آخرون أن حديدة وجدت عند الكعبة، مدفونة في الجاهلية، فصنع منها ذو الفقار، والصمصامة(5).

وهذه الروايات لا تخلو من المبالغة، وربما كانت من اختلاق عمرو ذاته، وربما سمعها، واقتنع بها فعلاً، أو أضافها الرواة المعجبون مع الأيام، ليضيفوا على أقاصيصهم مزيداً من التشويق والإدهاش، ومهما يكن من أمر فلهذه الأقاصيص أهداف معنوية هامة، فهي تمنح صاحبها ثقة بقدراته، وتملأ نفسه بعزة أمته، في السلم والحرب.

صفاته:

الصمصامة، والصمصام السيف الصارم الذي لا يثنيه شيء(6)، وصمم السيف، وصمصم: مرَّ في العظام وقطعها(7)، وصمصامة عمرو بن معديكرب الزبيدي يزن ستة أرطال، حسب ما ذكره بعض الرواة(8)، وله حد واحد(9).
ووصفه شاعر متأخر بقوله من أبيات:
أخضر المتنِ بين حدَّيه نورٌ = من فرندٍ تمتدُّ فيه العيونُ(10)

وفي رواية ثانية من الأبيات ذاتها:
سيف عمرو قد كان فيما سمعنا = خير ما أغْمِدت عليه الجفونُ
أوقدتْ فوقه الصواعقُ ناراً = ثم شابتْ به الزعافَ القيونُ(11)

وقد ذكره ابن عباس بقوله لبعض اليمنيين: "لكم من السماء نجمها، ومن الكعبة ركنها، ومن السيوف صمصامها" يعني سهيلاً، والركن اليماني، وصمصامة عمرو(12).

مقدرته على القطع:

تحدث الرواة كثيراً عن صرامة هذا السيف، وأول من تغنى بذلك عمرو بن معد يكرب، كما في قوله، أو المنسوب إليه:
وصمصاماً بكفِّي لا = يذوقُ الماءَ من يَرِدهُ(13)

وفي قصيدة ثانية يذكر عمرو أنه قد أعد للحرب درعاً طويلة، وجواداً غليظاً قوياً، وسيفاً قاطعاً يقدُّ الخوذ، والأجساد المكسوة بالدروع:
أعددت للحدثان سا = بغةً وعدَّاءً عَلَنْدَ
نهداً، وذا شطبٍ يقـ = ـدُّ البيضَ والأبدانَ قدّا(14)

وإذا كانت الأبيات السابقة تحتمل أن يكون المقصود فيها "الصمصامة" أو غيره من سيوف عمرو، فهناك أبيات واضحة الدلالة كهذه:
وسيف لابن ذي قَيفان عندي = تخيره الفتى من عهد عادِ
يقدُّ البيض والأبدان قدّاً = وفي الهام الململم ذو احتدادِ(15)

وفي هذا المعنى حول مقدرة "الصمصامة" على القطع ما أشار إليه عمرو من أبيات قالها عندما أهدى سيفه لخالد بن العاص عامل الرسول على اليمن:
خليلٌ لم أخُنْهُ ولم يخنِّي = إذا ما الخطبُ أنحى بالعظام
وودعتُ الصفيَّ صَفيَّ نفسي = على الصمصام أضعافُ السلام(16)

ومن القصص المشهورة ما روي من ان ملك الهند قد أرسل وفداً إلى هارون الرشيد يحمل معه هدايا ثمينة بينها عشرة سيوف من أجود سيوف الهند، وحين قُدِّمتْ إليه دعا بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب ليختبرها فقُطعت به السيوف سيفاً سيفاً كما يقطع الفجل، من غير أن تنثني له شفرة، أو يفلّ له حدّ(17).

وروي أن عمر بن الخطاب سأل يوماً عن أمضى سيوف العرب، فقيل له: (صمصامة عمرو بن معد يكرب الزبيدي) فأرسل إلى عمرو أن يبعث إليه سيفه المعروف بالصمصامة، فبعثه إليه، فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه فكتب إليه في ذلك، فردَّ عمرو: (إنني إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به)(18).

وهذا الخبر، بهذه الصورة مشكوك بصحته لأمرين:

أولهما: أن الصمصامة لم يكن بحوزة عمرو بن معد يكرب في عهد عمر بن الخطاب، فقد سبق أن وهبه لخالد بن سعيد بن العاص عامل الرسول على اليمن، وقد حمله خالد معه إلى بلاد الشام بعد حروب الردة مباشرة حين ضمه أبو بكر إلى جيش شرحبيل بن حسنة، مما يعني أن عمر لو رغب في رؤية "الصمصامة" لطلبه من خالد لا من عمرو، وما كان لأمر كهذا أن يفوته، وهو الذي لا تغيب عنه لا صغيرة ولا كبيرة في دولته.

وثانيهما: أن الكلمات المنسوبة إلى عمرو في رده على الخليفة عمر تبطن غمزاً بعمر بن الخطاب، ولا تخفى دوافع المعارضة من اليمنيين الذين كانوا على خلاف مع بعض القادة الكبار حينذاك.

وإذا صح شيء من الخبر، فإنه ينتهي عند تساؤل عمر عن أمضى السيوف، والجواب عليه بـ: (صمصامة عمرو بن معد يكرب الزبيدي) فحسب، أما ما لحق بهذا الخبر من تتمة فهو، بلا شك، من اختلاق الرواة المعارضين لأسباب لا مجال الآن للخوض في تفاصيلها.

وعلى أية حال، يبدو لنا أن صرامة "الصمصامة" أمر مؤكد، وإلا لما تسابق المحاربون، والأمراء، والخلفاء للحصول عليه، ودفع بعضهم في سبيله أموالاً طائلة.

وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى أن نوع المعدن ونقاءه، وما يشوبه، ودرجة الحرارة التي يصنع فيها، وطريقة التبريد، وظروفها، وخبرة الصائغ... الخ.. كلها لها أثرها في مواصفات السيف، ومدى صلابته، ومقدرته على القطع. ولذلك لا نجد غرابة من وجهة النظر العلمية في أن يتمتع سيف أكثر من غيره بصرامة متفوقة. لكن الصمصامة حين آل إلى الخليفة العباسي الواثق بالله(19)، أو المهدي في رواية ثانية(20) دعا بصيقل، فلما سُقي السيف تغير، وقل قطعه.

رحلة الصمصامة:

تطرقنا في البداية إلى شيء مما يحيط ببدايات هذا السيف من غموض يمتزج فيها الديني بالتاريخي بالخيالي. والأمر المؤكد أنه كان أحد سيوف عمرو بن معد يكرب الزبيدي حتى جاء خالد بن سعيد بن العاص عاملاً للرسول على اليمن فوهبه له عمرو. وبين الروايات اختلاف حول سبب هذه الهبة.

فقد ذكر الكلبي أن خالد بن سعيد حين بعثه الرسول عاملاً على اليمن أغار على رهط عمرو بن معد يكرب، لتمردهم على الإسلام، فوقع عدد منهم أسرى في يده بينهم امرأة عمرو- أو أخته ريحانة(21)- فعرض عمرو على خالد أن يمن عليهم بالإفراج فقبل، وأسلموا، فوهبه عمرو سيفه "الصمصامة" وقال في ذلك:

خليلٌ لم أهبهُ من قِلاه = ولكن المواهبَ للكرام
خليلٌ لم أخنْه ولم يخنّي = كذلك ما خِلالي أو نِدامي
حبوتُ به كريماً من قريش = فسُرَّ به وصِينَ عن اللئام(22)

وذكر الهيثم بن عدي رواية ثانية للبيت الثاني:
خليلٌ لم أخنْه ولم يخني = على الصمصام أضعافُ السلام(23)

والأبيات كما نلاحظ لا إشارة فيها إلى الإغارة المذكورة، ولا تشي باعتراف بالجميل لأي سبب، وإنما تركز على فكرة الكرم عامة، والعبارة الوحيدة التي يمكن التوقف عندها لمعرفة خليفتها هي (المواهب للكرام) أو (التواهب في الكرام) في رواية ثانية، والأخيرة أكثر قرباً إذا صحت والتي ربما تتضمن إشارة خفية إلى ما لخالد من يد على عمرو. إلا أن الأخبار المتفرقة عن خالد بن سعيد تلمح بوضوح إلى أنه يتمتع ببطولة، وخصال لم تخرج عن روحها الجاهلية التي يتمتع بها عمرو أيضاً وهي كفيلة بأن يتبادل الرجلان الإعجاب، والصنيع. فقد ذُكر أن المسلمين كانوا (إذا اجتمعوا لحرب أقرّه الأمراء فيها، لبأسه، وكيده، ويمن نقيبته) وقد قاد معركة (دائن) قرب غزة وانتصر فيها على الروم قبل قدوم خالد بن الوليد(24).

ويبدو أن هناك تقارباً في الطباع بينهما أيضاً. نلمح ذلك من إشارة عمر بن الخطاب- قبل أن يصبح خليفة- في نهايات حروب الردة، حين عقد أبو بكر ثلاثة ألوية لثلاثة رجال، هم: خالد بن سعيد بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص السهمي، ليوجههم إلى بلاد الشام، فلما عقد أبو بكر لخالد بن سعيد كره عمر بن الخطاب ذلك، وكلم أبا بكر في عزله، ووصفه بـ(إنه رجل فخور يحمل أمره على المغالبة والتعصب) فعزله أبو بكر- مع أنه كان ثالث أو رابع من اعتنقوا الإسلام(25)- وسلم اللواء ليزيد بن أبي سفيان(26) مما يشير إلى اقتناع أبي بكر بما قاله عمر. وهذه الخصال التي ينتقدها عمر في شخصية خالد، ويؤيده أبو بكر في انتقادها هي مما يفتخر به عمرو بن معد يكرب، ولم تفارقه بعد إسلامه، كما أن خالد بن سعيد ظل متحلياً بها إلى آخر أيامه، وهو الذي كان يُنشد في اليوم الذي استشهد فيه:
من فارس كرهَ الطِّعانَ يُعيرُني = رمحاً إذا نزلوا بمرج الصُّفَّرِ

ولذلك فباب الإعجاب كان مفتوحاً بين خالد وبين عمرو، وأستبعد أن يهب الأخير، سيفه العزيز عليه لرجل لا يملأ عينه مهما كانت الأسباب.

ويتضح من الأخبار أن "الصمصامة" ظل مع خالد بن سعيد إلى يوم (مرج الصفر) جنوبي دمشق- عام 13هـ- 634م(27)- حين دارت رحى معركة دامية مع الروم صبيحة الليلة التي تزوج فيها أمَّ الحكم بنت الحارث المخزومي أرملة عكرمة بن أبي جهل- الذي استشهد في اليرموك- فقضى خالدٌ شهيداً، ووجده معاوية فاخذ الصمصامة منه، ثم طالب به فيما بعد سعيد بن العاص بن سعيد.. فتقاضيا عند عثمان فقضى له، وظل عنده إلى أن وقع (يوم الدار) ووقع مروان بن الحكم على مقربة منه. فأخذ الصمصامة رجل من جهينة، ودفعه الجهني إلى صيقل ليجلوه، وحين رأى الصيقلُ السيف عرف قدره، واستبعد أن يكون للجهني، فرفض أن يعيده له، وأتى به إلى مروان بن الحكم، وهو والي المدينة حينذاك، فسأل الجهنيَّ عنه، فحدثه بما حدث معه يوم الدار، فقال مروان: (أما والله لقد سُلبت سيفي يوم الدار، وسُلب سعيد بن العاص سيفه) وحين جاء سعيد عرف السيف، فاسترده، وختم عليه، ثم بعث به إلى عمرو بن سعيد الأشدق، وهو على مكة فمات سعيد، وبقي السيف عند عمرو بن سعيد، ثم أصيب عمرو بدمشق، فأخذ السيف أخوه محمد بن سعيد، ثم صار إلى يحيى بن سعيد، وبعد موته انتقل إلى عنيسة بن سعيد بن العاص.. ولما أصبح في يد أبان بن يحيى بن سعيد حلاه بحلية ذهبية وعندما آلت الخلافة إلى العباسيين تمكن المهدي من الحصول عليه، بعد بحث، فاشتراه من أيوب بن أبي أيوب بن سعيد.. بنيف وثمانين ألفاً، ورد حليته الذهبية إليه(28).

أما أبو عبيدة فيذكر أن المهدي حين كان في واسط أرسل إلى بني العاص يطلب "الصمصامة" فقالوا: (إنه في السبيل محبساً) فقال: (خمسون سيفاً قاطعاً في السبيل أغنى من سيف واحد) وأعطاهم خمسين سيفاً، وأخذه(29).

وفي رواية أخرى أن "الصمصامة" لم يزل في آل سعيد إلى أيام هشام بن عبد الملك فاشتراه خالد القسري بمال كثير، وأوصله إلى هشام الذي كان يجد في البحث عنه، ولم يزل عند بني مروان حتى آلت الأمور إلى بني العباس. فطلبه السفاح، والمنصور، والمهدي، فلم يجدوه، وجدّ الهادي في طلبه حتى ظفر به(30).

أما الهيثم بن عدي فيذكر أن ولد سعيد بن العاص ظلوا يتوارثون "الصمصامة" إلى مجيء موسى الهادي- بعد وفاة المهدي- فاشتراه منهم بمال كثير، وكان موسى من أوسع بني العباس خلقاً، وأكثرهم عطاءً للمال، فجرده، ووضعه بين يديه، وأذن للشعراء بالدخول ودعا بإناء واسع فيه دنانير مكافأة لمن يحسن وصف "الصمصامة" فقال أحدهم:

حازَ صمصامةَ الزبيديِّ من بيـ = ـن جميع الأنام موسى الأمينُ
سيف عمرو وكان فيما سمعنا = خيرَ ما أغمدتْ عليه الجفونُ
أوقدت فوقه الصواعق ناراً = ثمَّ شابت به الزعافَ القيونُ
فإذا ما هززتَه بهرَ الشمـــ = (م) = س ضيــاءً فلم تكد تستبينُ
يستطير الأبصارَ كالقبس المش = (م) = ـعل ما تستقر فيه العيونُ
وكأن الفرندَ والجوهرَ الجا = (م) = ريَ في صفحتيه ماءٌ معينُ
نعمَ مخراقُ ذي الحفيظة في الهيـ = ـجا بعضَّاتها ونعمَ القرينُ
ما يبالي إذا انتضاهُ لضربٍ = أشمالٌ سطت به أم يمينُ
وكأن المنونَ نِيطتْ إليه = فهو من كلِّ جانبيهِ منونُ

فقدم الهادي السيف والإناء للشاعر، ففرق الشاعر الدنانير على الشعراء، واكتفى بالسيف، الذي اشتراه منه الهادي ثانية بمال كثير(32).

وحين أصبح "الصمصامة" في يد المتوكل قدمه هدية إلى غلامه التركي (باغرا) فقتله به. وعند (باغرا) ينقطع خبر هذا السيف(33). ويغيب حدُّه المشرق. ولسنا بحاجة إلى مزيد من الاجتهاد لندرك أنه بدءاً من مقتل المتوكل قد حُوِّلَ اتجاه "الصمصامة" ليسلط على رقاب العرب عامة، وهذه طبيعة التاريخ. حين يتردّى حاكم تعاقب الأمة كلها، والتاريخ لا يشفق، ولا يجامل، ولا يتردد، ولا يهتز، وما أعمق إدراك أبي بكر حين قال: "وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت، فقوموني".

****************
الحواشي:

(1)-ابن نباته- سرح العيون- ط1- القاهرة 1377هـ- 1957م- ت.ص 272.
(2)-نشوان الحميري- منتخبات من أخبار اليمن- صححه: عظيم الدين أحمد- مطبعة بريل- ليدن 1916م- ص 62-63.
(3)-ابن عبد ربه- العقد الفريد- ج1- ط2- القاهرة 1367هـ- 1948م- ص 121.
(4)-الهمذاني- الإكليل- ج8- بغداد 1931م- ص 257.
(5)-عبد الرحمن الخثعمي السهيلي- الروض الأنف- ج1- المطبعة الجمالية بمصر 1332هـ- 1914م- ص 39.
(6)-الصحاح- باب الميم- فصل الصاد- وتاج العروس.
(7)-لسان العرب- صمم.
(8)-أبو هلال العسكري- ديوان المعاني- ج2- مكتبة القدسي- القاهرة 1352هـ- ص 53.
(9)-ابن هذيل الأندلسي- حلية الفرسان وشعار الشجعان- ج2- دار المعارف 1951- ص 191.
(10)-المصدر نفسه- ص 189.
(11)-ديوان المعاني- ج2- ص 52- مصدر سابق.
(12)-الثعالبي- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب- القاهرة 1326هـ- 1908م- ص 497.
(13)-شعر عمرو بن معدي كرب الزبيدي- جمعه: مطاع طرابيشي- ط2- مجمع اللغة العربية بدمشق 1405هـ- 1985م- ص 91.
(14)-المصدر السابق- ص 80- وعلندى: طويل، ضخم- نهد: جسيم مشرف، وهما صفتان للجواد- ذو شطب: فيه آثار طرق.
(15)-منتخبات من أخبار اليمن- ص 63- مصدر سابق.
(16)-ثمار القلوب- ص 498- مصدر سابق.
(17)-العقد الفريد- ج2- القاهرة 1359هـ- 1940م- ص 203.
(18)-حلية الفرسان- ج2- ص 188-189- مصدر سابق.
(19)-البلاذري- فتوح البلدان- تحقيق: عبد الله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع- دار النشر للجامعيين- 1377هـ- 1957م- ص 165.
(20)-منتخبات- ص 63- مصدر سابق.
(21)-الروض الأنف- ج1- ص 39- مصدر سابق.
تختلف الروايات حول "ريحانة" هذه، فيقال مرَّة: حبيبته، ومرة: أخته، وثالثة: امرأته... وفيها يقول قصيدة مشهورة مطلعها:
أمن ريحانة الداعي السميع = يؤرقني وأصحابي هجوع
(22)-فتوح البلدان- ص 163- مصدر سابق.
(23)-ديوان المعاني- ج2- ص 53- مصدر سابق.
وللشطر الخير خاصة روايات مختلفة، وقال ابن بري: صواب إنشاده: "على الصمصامة أمْ سيفي سلامي" و(أمْ) زائدة، وهي لغة- انظر لسان العرب- صمم.
(24)-فتوح البلدان- ص 151- مصدر سابق.
(25)-ابن حجر- الإصابة في تمييز الصحابة- المكتبة العلمية بمصر 1323هـ- ص 91-92.
(26)-فتوح البلدان- ص 149-150- مصدر سابق.
(27)-حول تفاصيل مجريات المعركة وموقعها انظر: الجنرال أ.أكرم- سيف الله خالد بن الوليد- ترجمة العميد الركن صبحي الجابي- مؤسسة الرسالة- ط6- 1408هـ- 1988م- ص 381 وما بعدها.
(28)-فتوح البلدان- ص 163-164- مصدر سابق.
(29)-سرح العيون- ص 273- مصدر سابق.
(30)-ثمار القلوب- ص 498-499- مصدر سابق.
(31)-ديوان المعاني- ج2- ص 52- مصدر سابق.
تتنسب القصيدة لعدد من الشعراء بروايات متقاربة في مصادر مختلفة ففي:
-ديوان المعاني: لابن يامين البصري.
-حلية الفرسان: ص 189- لأنس.
-فتوح البلدان: ص 164- لأبي الهول الحميري.
(32)-ثمار القلوب- ص 499- مصدر سابق.
(33)-سرح العيون- ص 273- مصدر سابق.

--------------------------------------------------




مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 64 - السنة 16 - تموز "يوليو" 1996 - صفر 1417
 
الضرورة الشعرية ومفهوم الانزياح

الضرورة الشعرية ومفهوم الانزياح

** الضرورة الشعرية ومفهوم الانزياح**
لـ أحمد محمد ويس


ثمة ما يشبه الاتفاق على أن للشعر لغة خاصة تمتاز بسمات معينة (وربما غير معينة أيضاً) تميزه من لغة النثر. والإقرار بهذا يعني أنّ الحكم على لغة الشعر ينبغي أن ينبثق من إدراك لطبيعة لغة الشعر دونما تحكيم لمعايير لغة النثر، لأن مثل ذلك التحكيم يؤدي إلى أن تفقد اللغة الشعرية الكثير من سماتها.

ولعل أكثر ما يمكن أن ينطبق على لغة الشعر هو أنها لغة النفس بكل ما في النفس من توتر وانفعال، في حين أنّ لغة النثر أقرب إلى برود العقل. ومن الممكن أن نَسِم لغة الشعر بأنها لغة انفعالية، ولغة النثر بأنها تعاملية أو منطقية[1]، ففي اللغة الانفعالية "يقتصر الاهتمام [على] إبراز رؤوس الفكرة؛ فهي وحدها التي تطفو وتسود الجملة، أما الروابط المنطقية التي تربط الكلمات بعضها ببعض، وأجزاء الجملة بعضها ببعض فإمّا ألاّ يُدَلّ عليها إلا دلالة جزئية بالاستعانة بالتنغيم والإشارة إذا اقتضى الحال، وإمّا ألاّ يُدَلّ عليها مطلقاً ويترك للذهن عناء استنتاجها. هذه اللغة المتكلمة تقترب من اللغة التلقائية، ويطلق هذا الاسم على اللغة التي تنفجر من النفس تلقائياً تحت تأثير انفعال شديد، ففي هذه الحالة يضع المتكلم الألفاظ الهامة في القمة، إذ لا يتيسر له الوقت ولا الفراغ اللذان يجعلانه يطابق فكرته على تلك القواعد الصارمة قواعد اللغة المتروية المنظمة، وعلى هذا النحو تتعارض اللغة الفجائية مع اللغة النحوية"[2]

وإذا كان صحيحاً ما قاله ووردز وورث (1770-1850م) من "أن الشعر يتضمن الانفعال بصفة دائمة"[3] فإن الصحيح أن" لكل انفعال نبضه االخاص [و] أنماطه التعبيرية المميزة له"[4] على حدّ قول كولريدج (1772-1834م).

والحق أننا نروم من خلال إيراد مثل هذا الكلام ههنا الخلوص إلى أن ماشاع عند القدامى من نحويين وبلاغيين ونقاد مما سمّي "الضرورة الشعرية" كان في القسم الكبير منه مظهراً من مظاهر لغة الشعر التي يحلّق الشاعر بها ومن خلالها في فضاء رحيب من الخيال غير ملتزم بما يسمى قيود اللغة، إذ الشاعر الحق هو من يطوع تلك القيود لفنه، فكأنه بذلك يجاوزها. ولعل هذا ما دعا أبا العتاهية كي يقول في غير قليل من الأنفة: "أنا أكبر من العروض"[5] وكأنه يريد القول إن العروض لا يمكن إن يقف حائلاً دون أن يعبر عما يريد وبما يريد. فإذا وقف حائلاً فلا عليه إنْ هو ابتدع لنفسه عروضاً آخر.

ولكننا لا ينبغي أن نغتر بكلام أبي العتاهية على إطلاقه، فنظن بأن من السهل على الشاعر أن يكون أكبر من العروض، كما لا ينبغي الظن بأن الشعر سهل المسالك خال من القيود، فليس الأمر كذلك، وليس ثمة فن يخلو من قيود.. لا بل إن هناك من يرى أن الفن "لا يحيا بغير قيود"[6] ولكنها القيود التي تؤدي إلى غنى القن لا إلى تجميده. وهكذا فإن القافية- وهي مما جرى اعتباره ضمن القيود-" كثيرا ما تسوق الشاعر إلى معنى لم يكن بباله" [7] كما قال مندور. وطبعاً فإن مثل هذا المعنى إنما يتصيده المتلقي أو يلوح للمبدع نفسه بعد أن يفرغ مما كتب.

وعلى الرغم من أن كلام مندور لا يؤدي حتماً إلى الوقوع في الضرورة فإن مجرد التفاته إلى أن القافية هي من قيود الشعر يصلنا برؤية العلماء القدامى التي كانت تعتبر الوزن والقافية قيدين ترتبط بهما "الضرورة" ارتباط النتيجة بالسبب، أو هذا ما يقوله المبرد: "فالوزن يحمل على الضرورة، والقافية تضطر إلى الحيلة"[8] وعلى مثل هذا النحو كانت نظرة كثير من القدامى فهي عند بعضهم رخصة" [9] وعند بعضهم الآخر "خطأ" أو "غلط" أو "شذوذ" [10] وهي عند أبي هلال العسكري "قبيحة" إذ يقول "وينبغي أن يجتنب ارتكاب الضرورات، وإن جاءت فيها رخصة من أهل العربية؛ فإنها قبيحة تشين الكلام وتذهب بمائه، وإنما استعملها القدماء في أشعارهم لعدم علمهم بقباحتها، ولأن بعضهم كان صاحب بداية. والبداية مزلة، وما كانوا أيضاً تُنْقَد عليهم أشعارهم، ولو قد نُقدت وبُهرج منها المعيب كما تنقد على شعراء هذه الأزمنة ويبهرج من كلامهم ما فيه أدنى عيب لتجنبوها"[11]

ولا يبدو مقنعاً تسويغ أبي هلال لورود الضرورة عند القدامى. وهو إلى عدم إقناعه فيه اتهام خفي لذوقهم الشعري. ولا يبعد ابن رشيق عن هذا الاتجاه فيرى أن"لاخير في الضرورة، غير أنّ بعضها أسهل من بعض ، ومنها ما يسمع عن العرب ولا يعمل به لأنهم أتوا به على جبلتهم. والمولَّد المحدث قد عَرف أنه عيب. ودخوله في العيب يُلزمه إياه. [12]

وليس ثمة حاجة إلى إيراد مزيد من النصوص، إذ يبدو أن هذه النظرة إلى"الضرورة الشعرية" كانت شائعة قديماً سواء عند أهل العروض أو عند أهل اللغة أو النحو أو البلاغة، فالشعر عندهم موضع اضطرار، أو أسير الوزن . والوفاء للوزن قد يقتضي من الشاعر أن ينحرف بالكلمة أو بالتركيب عما تقتضيه قواعد اللغة من نحو وصرف. والنتيجة التي يؤدي هذا الفهم إليها هي أن الوزن قيد يحد من حرية الشاعر. ولكنها نتيجة تلحق بالوزن وصمة ينبغي ألاّ تكون له. وكان من الممكن أن ينظر إلى هذه التي دعوها "ضرورة" على أنها سمة من سمات اللغة الشعرية. ولكنهم ما فعلوا ذلك، فكان هذا الوصف بالضرورة" وصمة وصموا بها الشعر العربي عن حسن نية منهم" [13]

ولقد حاول بعض المحدثين أن ينأى "بالضرورة" عما حُمّلت به، فرأى كمال بشر -مثلاً- أنها"ليست من باب الخطأ، كما يظن بعض الناس.[وإنما هي] تجيء على قاعدة جزئية تختلف مع القاعدة التي سموها قاعدة عامة، أو تجيء على وفاق لهجة من اللهجات، أو تجيء على وفاق مستوى لغوي معين..."[14]

ويفسر أحمد مختار عمر لجوء النحاة إلى الوصف بـ"الضرورة" علىأنه مخرج لهم حين تعجزهم الحيل عن إيجاد علة منطقية لتفسيرها، "فأطلقوها دون قيد، لتكون سيفاً مصلتا وسلاحاً يشهرونه في وجه كل بيت يخالف قواعدهم ويعجزون عن تخريجه، فيجدون المخلص في هذا الوصف السهل يلقونه دون نظر أو تفكير"[15]

ولكنّ هذا القول لا يخلو من حيف، فنحن نرى أن النحاة ما انفكوا عن النظر والتفكير، بيد أن المعيارية هي التي غلبت عليهم، وهي التي حرصوا عليها، فكان الوصف بالضرورة من مظاهر هذه المعيارية.

ومهما يكن من أمر هذه المعيارية فإن النظرة إلى الضرورة الشعرية لم تكن على نحو واحد؛ فقد يكفي أن نقرأ للخليل بن أحمد كلاماً يلامس فيه ما ينبغي أن يتسم به الشاعر من حرية وامتياز، إذ يقول: "والشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاؤوا، ويجوز لهم مالا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده... ومد المقصور وقصر المددود، والجمع بين لغاته،والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقرّبون البعيد ويبعّدون القريب ويُحتج بهم ولا يحتج عليهم ويصورون الباطل في صورة الحق، والحقّ في صورة الباطل"[16]

ويعلّق حازم على هذا بالقول: "فلأجل ما أشار إليه الخليل رحمه الله من بعد غايات الشعراء وامتداد آمادهم في معرفة الكلام واتساع مجالهم في جميع ذلك، يحتاج أن يحتال في تخريج كلامهم على وجوه من الصحة، فإنهم قلما يخفى عليهم ما يظهر لغيرهم، فليسوا يقولون شيئاً إلا وله وجه، فلذلك يجب تأوُّل كلامهم على الصحة، والتوقف عن تخطئتهم فيما ليس يلوح له وجه،وليس ينبغي أن يعترض عليهم في أقاويلهم إلا مَن تُزاحم رتبتُه في حسن تأليف الكلام وإبداع النظام رتبتَهم"[17]

والحق أن كلام الخليل هذا فريد في بابه، وكان منتظراً له أن يتكرّر بقوة أكبر عند تلميذه سيبويه ، ولكن هذه القوة لم تحدث. وعلى الرغم من ذلك فإن سيبويه قد عقد للضرورة باباً سمّاه "باب ما يحتمل الشعر"[18]

والذي يمكن استخلاصه من كلام سيبويه هوأنه أدرك ان للشعر لغة خاصة به يقع فيها الذي لا يقع في الكلام العادي، ويقول: "اعلم أنه يجوز في الشعر مالا يجوز في الكلام من صرف مالا ينصرف، ويشبهونه بما ينصرف من الأسماء لأنها أسماء كما أنها أسماء. وحذف مالا يحذف، ويشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفاً"[19] ثم قال بعد أن أورد جملاً مما يجوز في الشعر دون الكلام: "ليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً "[20]. والظاهر من هذا أن سيبويه يقر بوقوع الضرورة، ولكنه يشير إلى إمكان تسويغها على وجه من الصواب؛ أي أن سيبويه يجهد في ألاّ يُخَطَّأ الشاعر. فإذا تقدمنا في الزمن قليلاً وجدنا ابن قتيبة يُضيِّق ما رآه الخليل واسعاً، فتراه يقول: "وقد يضطر الشاعر فيقصُر الممدود، وليس له أن يمد المقصور. وقد يضطر فيصرف غير المصروف، وقبيح ألاّ يصرف المصروف... وأما ترك الهمز من المهموز فكثير واسع لا عيب فيه على الشاعر. والذي لا يجوز أن يهمز غير المهموز:.[21]

وهكذا اختصر ابن قتيبة مجال الحرية إلى النصف ممّا كان عند الخليل. وتبقى الخشية قائمة من مثل هذا الاتجاه العام نحو التضييق على الشاعر، والتقعيد للغة الشعرية.

وعلى الرغم مّما يمكن أن نجده من سطوة هذا التضييق عند بعض اللغويين والنقاد فإن ذلك لا يعني أن كل النقاد أخذوا بمثل هذا التضييق أو ساروا في ركبه، ولذلك فلسنا نوافق مصطفى ناصف في تعميمه الجازم حين قال: "فالمخالفات النحوية اعتبرت على أيدي النقاد جميعاً هفوات، ذلك لأن الشعر ينبغي ألا يخرج على حدود المستوى الأول أو الصورة الوهمية السابقة، ومن أجل ذلك تعقبوا ما سمّوه سقطات المتنبي وسقطات الجاهليين"[22]؛ لا نوافقه، لأنا سنرى وشيكا، إضافة إلى ما رأينا عند الخليل، أن عدداً من العلماء القدامى فهموا الضرورة على غير ما يوحي به اسمها؛ أي على أنّ استعمالها لايكون اضطرارا دائماً وإنما هي تأتي في أحايين كثيرة على نحو اختياري حرّ مقصود في ذاته؛ فقد ورد التعريف بالضرورة على أنها "ما وقع في الشعر دون النثر، سواء كان للشاعر عنه مندوحة، أم لا"[23]؛

أي أن الشاعر إذا وقع فيما يسمى بالضرورة وكانت له عنها مندوحة فهذا يعني أنه يقصد إليها قصدا، وأن له من ورائها غاية فنية أو غير فنية.

ويبدو للباحث أن ما جاء به ابن جني في أمر الضرورة كان ذا أهمية بالغة . وعلى الرغم مّما قد يبدو فيه من عدم اتساق، فإن خلاصة كلامه تؤدي به إلى أن يُسلَك ضمن هذا الاتجاه الذي يمثل التعريف الآنف أحسن تمثيل.

يرى ابن جني أن "الشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار، وكثيراً ما تُحرّف فيه الكلم عن أبنيته،وتحال فيه المثل عن أوضاع صيغها لأجله"[24] وهكذا فإن "عطية" تصير "عطاء" في قول الشاعر:

أبوك عطاء ألأم الناس كلهم

فقبّح من فحل وقبِّحتَ من نجل

وواضح أن ابن جني ههنا يميل إلى اعتبار الشعر موضع اضطرار. فأما سبب الاضطرار فلعله من دون شك الوزن وإن لم يصرّح بذلك هنا. ويكاد ابن جني في هذا النص يكرر ما رأيناه عند سيبويه؛ فهو مع ذهابه إلى أن الشعر موضع اضطرار يرى إمكانية الاعتذار . ولعل من الاعتذار أن تُحمل الضرورة على وجه من الصواب مثلما ذهب سيبويه.

على أن لابن جني رأياً آخر في الضرورة يذهب فيه إلى أن العرب تركبَ الضرورة مع قدرتها على تركها، وهي " تفعل ذلك تأنيساً لك بإجازة الوجه الأضعف لتصح به طريقك، ويرحُب به خناقك إذا لم تجد وجها غيره، فنقول : إذ أجازوا نحو هذا ومنه بدّ وعنه مندوحة، فما ظنك بهم إذا لم يجدوا منه بدلا، ولا عنه معدلا، ألا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها؛ ليُعِدّوها لوقت الحاجة ؛إليها[25]، ثم يستشهد على ذلك بجملة أبيات من الشعر يعلّق بعد كل واحد منها بأن الوزن ليس هو ما ألجأ الشاعر إلى الضرورة؛ وإنما كان ذلك منه رغبة في الاعتياد عليها[26] حتى يكون وقعها عند ارتكابها اضطراراً أخف على الناس وطأة مّما لو لم يعتادوا سماعها.

ويذهب ابن جني إلى أبعد من ذلك حين يرى أن مرتكب الضرورة يرتكبها لا عن ضعف وعجز، وإنما عن قوة طبع وفيض، ويقول: "فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها، وانخراق الأصول بها، فاعلم أن ذلك على ما جَشِمه منه، وإن دل من وجه على جوره وتعسفه،فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله، وتخمطه [أي تكبره]، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته، ولا قصوره عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته، بل مَثَله في ذلك عندي مثل مُجري الجَمُوح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس حاسراً من غير احتشام. فهو وإن كان ملوما في عنفه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته، وفيض مُنَّتِه؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تكفر في سلاحه، أو اعتصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة ، وأبعد عن المَلْحاة لكنه جشِم ما جشِمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالا بقوة طبعه, ودلالة على شهامة نفسه"[27] وإذن فإنما شأن الشاعر في ارتكاب الضرورة اختياراً شأنُ المغامر في ركوبه المخاطر، فهو، إذلا يبالي بالمخاطر، فلأنه يحصل على لذة مضاعفة تنسيه الخطر. ولعل اللذّة لم تأته إلا لأنه في مغامرته راد عالماً مجهولاً، وحصّل تجربة جديدة ما كان ممكناً بغير المغامرة تحصّلها.

وإذ يرى ابن جني أن الشاعر لم يرتكب الضرورة مضطراً بل حراً مختاراً، فإنه بعد قليل من كلامه ذاك يذكر أن انجلاء المعنى في ذهن الشاعر يجعله حين يقع فيها غير مدرك لها" فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعباً، ولا جشم إلا أَمماً، وافق بذلك قابلاً له، أو صادف غير آنسٍ به، إلا أنه هو قد استرسل واثقاً، وبنى الأمر على أنه ليس ملتبساً"[28]

هما إذاً تفسيران يعرضهما ابن جني لارتكاب ما سميّ بالضرورة: تفسير يجعل الشاعر واعياً بما يفعل، ومدلاً بقوة طبعه، وآخر يجعله غير واع يما يفعل حين تنثال عليه الألفاظ فيصوغها في شكل يظنّه واضحاً لغيره مثلما هو واضح في نفسه. على أن المهم في كلام ابن جني ميلُه العامّ إلى اعتبار ما سمي بالضرورة أمراً سائغاً للشاعر ارتكابه، خاصة من كان ذا فصاحة واقتدار لغويّ. وهو بعد أن يستعرض جملة من الضرائر يقول : "إذا جاز هذا للعرب من غير حصر ولا ضرورة قول كان استعمال الضرورة في الشعر للمولدين أسهل وهم فيه أعذر" [29]

وربما أمكن عقد صلة بين ما يقوله ابن جني هنا وبين بحثه في "شجاعة العربية" فالضرورة ما هي إلا مظهر من مظاهر هذه الشجاعة.

وثمة من شارك ابنَ جني رأيه في الضرورة؛ فقد ورد عن معاصره أبي الطيب المتنبي أنه قال: "قد يجوز للشاعر من الكلام مالا يجوز لغيره، لا للاضطرار إليه، ولكنْ للاتساع فيه واتفاق أهله عليه، فيحذفون ويزيدون"[30] وقال: " وللفصحاء المدلين في أشعارهم مالم يسمع من غيرهم..."[31] وليس بمستغرب على مثل أبي الطيب أن يصدر عن مثل هذا الرأي، وهو المبدع الذي نشد الحرية وانطوى على شعور مَن أيقن أن اللغة ملك له.

وفي هذا العصر نفسه نلفي لغوياً آخر هو حمزة بن حسن الأصفهاني (ت360هـ) لا يكتفي بأن يقرّ الضرورة فحسب، بل هو يعدها وسيلة من وسائل نماء اللغة وغناها، وعلى الرغم من أنه يرى أن الضرورة سببها ما في الشعر من مضايق يرى أن الشعراء يبتكرون بسبب من هذه المضايق صيغا ومفردات تدخل متن اللغة وتزيد في غناها. ويذهب الأصفهاني في سبيل توكيد ذلك إلى القول بأن علماء الآزادمرية إذ "ألْفوا لغات جميع الأمم... لا يتولد فيها الزيادات والنماء على مرور الزمان... وجدوا اللغة العربية على الضد من سائر لغات الأمم، لما يتولد فيها مرة بعد أخرى وأن المولد لها قرائح الشعراء الذين هم أمراء الكلام، بالضرورات التي تمر بهم في المضايق التي يدفعون إليها عند حصر المعاني الكثيرة في بيوت ضيقة المساحة، والإقواء [اي الإحراج] الذي يلحقهم عند إقامة الثواني التي لا محيد لهم عن تنسيق الحروف المتشابهة في أواخرها، فلا بد من أن يدفعهم استيفاء حقوق الصنعة إلى عرض اللغة بفنون الحيلة، فمرة يعسفونها بإزالة أمثلة الأسماء والأفعال عما جاءت عليه في الجبلة -لما يُدخلون من الحذف والزيادة فيها- ومرة بتوليد الألفاظ على حسب ما تسمو إليه هممهم عند قرض الأشعار"[32]

ثم يورد الأصفهاني بعدئذ عدداً من الألفاظ التي ولَّدها الشعراء القدامى ولم يكن لها في اللغة وجود، فيقول: "أمّا ما خرج إلى الوجود بالتوليد فكثير... يدل عليه قليل ما نحكي منه. فمن ذلك قول النابغة:

إلا الأواريّ لأيا ما أبيّنها

والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

فزعم الرواة والعلماء بالشعر أنه أول من سمّى الأرض مظلومة؛ وهي التي حفر فيها ولم تكن قبل ذلك محفورة"[33]

ومن ذلك أيضاً ألفاظ "الشكم " و"الشكد" و"الشكب" التي صارت لغات في "الشكر" بعد أن استعمل طرفة الأولى والثانية في قصيدتين له: قافية الأولى "ميم" وقافية الثانية "دال" واستعمل مزرد الثالثة.[34]

وعلى الرغم من أن ابن رشيق رأى كما مرّ معنا سابقاً "أنه لا خير في الضرورة" فإنه يقع فيما يشبه الاستدراك على نفسه حين يختتم حديثه عن "الرخص في الشعر" بعرض" أشياء من القرآن وقعت فيه بلاغة وإحكاما لاتصرفا وضرورة "[35]

والذي نريده ههنا أنه قال عقب هذا القول رأسا: "فإذا وقع مثلها [يعني الأشياء] في الشعر، لم ينسب إلى قائله عجز ولا تقصير، كما يظن من لا علم له ، ولا تفتيش عنده؛ من ذلك أن يذكر شيئين، ثم يخبر عن أحدهما دون صاحبه اتساعاً، كما قال عز وجل: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها)*

أو يجعل الفعل لأحدهما ويشرك الآخر معه، أو يذكر شيئاً ، فيقرن به ما يقاربه ويناسبه ، ولم يذكره، كقوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)(**) وقد ذكر الإنسان قبل هذه الآية دون الجان وذكر الجان بعدها. وقال المثقب العبدي:

فما أدري إذا يممت أرضاً

أريد الخير، أيهما يليني


أَأَلخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

فقال: "أيهما" قبل أن يذكر الشيء؛ لأن كلامه يقتضي ذلك... ومن ذلك إضمار ما لم يذكر جلّ اسمُه : (حتى توارت بالحجاب) (***)

يعني الشمس... وقال حاتم:

أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر


يعني النفس. وحدف"لا" من الكلام وأنت تريدها كقوله تعالى: (كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم)(****)

(أي : ألا تحبط) وزيادة "لا" في الكلام كقوله سبحانه : (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) (*) فزاد "لا"؛ (لأنهم لا يؤمنون)... وقال جل اسمه: (وما منعك ألا تسجد)(**) أي: ما منعك أن تسجد... وقال أبو النجم العجلي:

فما ألوم البيض ألا تسخرا

يريد: "أن تسخرا..."36

ليس على ابن رشيق حرج في أن يؤدي القياس به وبغيره أيضاً إلى اعتبار مثل هذه الأشياء التي جرت العادة أن تحمل على الضرورة في الشعر، مظهراً من مظاهر البلاغة والفصاحة فإن مجرد ورود مثلها في القرآن -وهو الذروة في البلاغة والفصاحة والمثال الذي يحتذى -كاف في تسويغها بل عدّها من مظاهر القوة الشعرية أيضاً.

ثم نلتقي بعد نحو قرنين من عصر ابن رشيق بابن عصفور (ت669هـ)؛ فنراه يفتتح كتابه "ضرائر الشعر" بالقول: "إن الشعر لما كان موزوناً... أجازت العرب فيه مالا يجوز في الكلام؛ اضطروا إلى ذلك أم لم يضطروا إليه ، لأنه موضع ألفت فيه الضرائر"37

وبحسبنا من هذا القول التفاتته إلى أنّ ما لا يجوز في الكلام قد يأتي في الشعر دونما اضطرار إليه؛ لأن هذا الذي لا يجوز في الكلام هو مما يقوم عليه الشعر حتى لكأن وروده في الشعر صار أمراً مألوفاً. ولعل هذا هو مؤدّى قوله: إن الشعر"موضع ألفت فيه الضرائر".

ونلتقي في هذا العصر بنحوي آخر وهو ابن مالك (ت672هـ) فنراه قد ضيّق من مفهوم الضرورة، إذ هي عنده "ماليس للشاعر عنه مندوحة"38 فأما ما لا يؤدي الوزن والقافية إليه فليس هو من الضرورة في شيء. وعلى ذلك فإن دخول "أل" على الفعل في قول الشاعر:

يقول الخنى وأبغض العجم ناطقاً

إلى ربنا صوت الحمار اليجدع


وفي قول الآخر:

وليس اليَرى للخلّ مثل الذي يرى

له الخل أهلاً أن يعد خليلا


هو دخول اختياري39 وفي هذا يقول ابن مالك : "وعندي أن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة لإمكان أن يقول الشاعر: صوت الحمار يجدع، وما مَن يرى للخل، وإذا لم يفعلوا ذلك مع الاستطاعة ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار"40

ويبدو أنّ ما أدّى بابن مالك إلى أن يضيِّق من مجال الضرورة هو منهجه في الاعتداد باللهجات المختلفة والقراءات القرآنية والحديث النبوي؛ فإذا ورد من هذه شيء مما يقول النحاة عن نظيره إنه من الضرورة لا يعده هو كذلك، بل يعيد كل ظاهرة إلى أصلها، وقد نص على أنه لهجة قبيلة معينة، وضرورة عند غيرهم.41 وعلى ذلك فإن ابن مالك لا يسدّ باب الضرورة وإنما يضيقه.

بيد أن رأي ابن مالك لم يسلم من النقد الشديد من بعض المتأخرين كأبي حيان (ت745هـ).والشاطبي ( ت790 هــ) . وقد نقل السيوطي عن أبي حيان قوله في ابن مالك إنه "لم يفهم معنى قول النحويين في ضرورة الشعر، فقال في غير موضع: ليس هذا البيت بضرورة، لأن قائله متمكن من أن يقول كذا... الضرورة إنما هي دليل قصور من الشاعر، ولكنه القصور القابل لإمكانية التصحيح.

ويشير الشاطبي في معرض رده إلى أمر مهم جداً، وهو "أنه قد يكون للمعنى عبارتان أو أكثر، واحدة يلزم فيها الضرورة إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال، ولا شك أنهم في هذه الحال يرجعون إلى الضرورة؛ لأن اعتناءهم بالمعاني أشدّ من اعتنائهم بالألفاظ"42 فههنا مهمة إشارة إلى أن الضرورة قد جاءت اختيارا وأن من ورائها غاية معنوية.

ونقف أخيراً على كلام لبهاء الدين السبكيّ (ت763هـ) يتضح فيه جلياً أن ما قد يعدُّ ضعيفاً وغير فصيح في الكلام النثريّ قد يعد في الشعر على خلاف ذلك قوياً وفصيحاً. وقد عرض السبكي لهذا الرأي في سياق حديثه عن عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة في مثل "ضرب غلامه زيدا". ويقول: "وقد اختلف في جواز ذلك، فالجمهور على منعه، وجوزه أبو الحسن والطُّوال وابن جني وابن مالك مستدلين بقوله:

جزى ربه عني عدي بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

ثم قال: "وأعلم أن المصنف [يعني القزويني] والشراح [يعني شراح التلخيص] قالوا: إنما كان ضعيفاً لأن ذلك ممتنع عند الجمهور، ولا يجتمع القول بضعفه وكونه غير فصيح مع القول بامتناعه، فإن أرادوا أنه جائز ولكنه ضعيف لأن الأكثر على امتناعه... فلا يلزم من القول بجواز مامنعه الجمهور الاعتراف بضعفه، فربما ذهب ذاهب إلى جواز شيء مع فصاحته مع ذهاب غيره إلى امتناعه... وعليه اعتراض ثان وهو أن هذا على تقدير جوازه وضعفه ليس مثالاً صحيحا"ً، لأن هذا ليس ضعيفاً في الكلام... ثم ذلك الضعف ربما كان في النثر دون الشعر، لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز فقد تقوي ما هو ضعيف ، فعلى البيانيّ أن يعتبر ذلك، فربما كان الشيء فصيحا في الشعر غير فصيح في النثر"43

ومن الواضح أن السبكيّ مدرك تمام الإدارك أن للكلام مستويين: مستوى نثرياً وآخر شعرياً. ويبدو طريفاً ومقنعاً حِجاجُه المنطقيّ هذا الذي ابتغى من ورائه تقرير أن ما يُحكم عليه بالضعف في الكلام النثري قد ينقلب في الشعر فيغدو قويا، فهذا ينبغي أن يكون مثل جعلهم ما ليس بجائز في الكلام جائزاً في الشعر. وهو ما جرت تسميته "بالضرورة". بيد أن هذا لا يعني البتة أن كل ضعيف في الكلام يقوى إذا هو ورد في الشعر... وإنما الشأن راجع إلى فحولة الشاعر واقتداره. والسبكيّ كان في الحق دقيقاً ومحتاطاً إذ استعمل في عبارته الأداتين "قد" و"ربما"؛ ليشير بهما إلى أنّ الأمر ليس في مكنة كل من يتعاطى قرض الشعر.

وبالجملة فإن من الممكن القول بعد هذا بأن الضرورة الشعرية هي في كثير من أحوالها خصيصة من خصائص اللغة الشعرية. وعلى ذلك فلا تكون عيباً، بل هي في الغالب مظهر من مظاهر الاقتدار الفني. ولعل هذا قد اتضح من خلال ما سقناه من نصوص لامس فيها أصحابها الفكرة على نحو مباشر أو غير مباشر.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] - اقتبست هذه التسمية من فندريس في كتابه: اللغة، تر: عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص مكتبة الأنجلو المصرية 1950، ص182

[2] - فندريس: اللغة ص194-195

[3] - كولريدج: النظرية الرومانتيكية في الشعر، سيرة أدبية لكولريدج، تر: عبد الحكيم حسان، ط دار المعارف بمصر 1971، ص302

[4] - المصدر السابق ص303 وقد عبر كروتشه عن مثل ذلك فقال: إن اللغة خلق دائم، فما عبر عنه تعبيراً لغوياً لن يتكرر مطلقاً.. فالانطباعات الدائمة الجدة تفسح المجال لظهور تغييرات مستمرة في الصوت والمعنى.. والبحث عن لغة نمطية هو البحث عن سكون الحركة، ويمزات وبروكس: النقد الأدبي، تر: محيى الدين صبحي، مطبعة جامعة دمشق 1973-1976،3/738

[5] - الأصفهاني: الأغاني، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب، مؤسسة جمال، بيروت د.ت ، 4/13

[6] - مندور: محمد: في الأدب والنقد، طـ5 دار نهضة مصر د.ت ص11 وهو يشير إلى أن هذا مثل فرنسي.

[7] - المصدر نفسه ص11

[8] - البلاغة، تح: رمضان عبد التواب، ط2 مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة 1985، ص81 وانظر الفراء: معاني، تح: عبد الفتاح شلبي، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972، 3/118 وابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، تح: السيد أحمد صقر،ط1 دار الرجاء إحياء الكتب العربية القاهرة 1954 ص154

[9] - انظر: ابن رشيق: العمدة، تح: محمد قرقزان، ط1 دار المعرفة بيروت 1988، ص1020

[10] - انظر: ابن فارس: ذم الخطأ في الشعر ، تح: رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي بمصر 1980، ص21 والصاحبي في فقه اللغة، تح: مصطفى الشويمي، مؤسسة بدران، بيروت، 1963، ص276 وابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، ص154.

[11] - الصناعيتن، تح: علي البجاوي وأبو الفضل إبراهيم، ط عيسى البابي الحلبي القاهرة 1952، ص150

[12] - العمدة، ص102

[13] - أنيس، إبراهيم: من أسرار اللغة، ط الأنجلو المصرية القاهرة 1951، ص252

[14] - دراسات في علم اللغة، دار المعارف بمصر 1969، 2/115

[15] - البحث اللغوي عند العرب، ط4 عالم الكتب بالقاهرة 1982، ص41.

[16] - منهاج البلغاء ص143-144 ،وانظر: ابن فارس: الصاحبي، ص275، والسيوطي: المزهر في علوم اللغة ، تح: جاد المولى ورفيقيه ، ط2 دار إحياء الكتب العربية القاهرة (د.ت) 2/471.

[17] - منهاج البلغاء ، ص144.

[18] - الكتاب، تح:عبد السلام هارون ،ط دار القلم ، القاهرة 1966، 1/26.

[19] - الكتاب 1/26

[20] - الكتاب 1/32.

[21] - الشعر والشعراء، تح: أحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر 1966،/1/101 وانظر: المرزباني: والموشح، تح: علي البجاوي، ط دار نهضة مصر 1965، ص144-145

[22] -نظرية المعنى في النقد العربي ، دار القلم القاهرة 1965، ص67

[23] - البغدادي: خزانة الأدب 1/3. وانظر: الآلوسي، محمود شكري: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر، ط المطبعة السلفية بمصر 1341،ص6.

[24] - الخصائص، تح: محمد علي النجار، ط دار الهدى بيروت ،د.ت، 3/188

[25] - الخصائص 3/60-61

[26] - انظر: الخصائص 3/61 وانظر تأكيداً لهذا في ص303-304

[27] - الخصائص 2/392

[28] - الخصائص 2/393.

[29] - الخصائص 1/329

[30] - القاضي الجرجاني : الوساطة بين المتنبي وخصومه ، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البجاوي ط مصطفى البابي الحلبي بمصر د.ت ، ص450

[31] - المصدر السابق، ص452.

[32] - التنبيه على حدوث التصحيف، تح: محمد حسن آل ياسين، ط1 مكتبة النهضة بغداد 1967 ص159-160

[33] - المصدر السابق ، ص158-159

[34] - انظر المصدر نفسه ، ص159-160

[35] - العمدة، ص1032

* - الجمعة 11

(**) -الرحمن13

(***) -ص32

(****) - الحجرات 2

(*) - الأنعام

(**) - الأعراف 12

36 - العمدة، ص1032-1037

37 - ضرائر الشعر، تح: السيد ابراهيم محمد ، ط2، دار الأندلس بيروت 1982، ص13، انظر كتابه الآخر: المقرب، تح:الجواري و الجبوري، ط1، مطبعة العاني بغداد 1972، ج2/ص202

38 - البغدادي: خزانة الأدب 1/33 والآلوسي: ضرائر الشعر، ص6

39 - انظر: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد ، تح: محمد كامل بركات، ط دار الكاتب العربي، القاهرة 1967، ص48 من تقديم المحقق، والبغدادي: خزانة الأدب 1/31-32

40 - البغدادي: خزانة الأدب1/33

41 - انظر: تسهيل الفوائد، ص24

42 - البغدادي: خزانة الأدب 1/34

43 - عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، طبع مع مختصر السعد التفتازاني على تلخيص المفتاح المطبعة الأميرية ببولاق 1317هـ 1/98-99

-----------------------------


مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 68 - السنة السابعة عشرة - آب "أغسطس" 1997 - ربيع الآخر 1418
 
( نحو علم لغة خاص بالعلوم الشرعية )

( نحو علم لغة خاص بالعلوم الشرعية )

(نحو علم لغة خاص بالعلوم الشرعية)
د. أحمد شيخ عبد السلام
الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية - الجامعة الإسلامية - ماليزيا

ملخص البحث
المعرفة اللغوية العربية من أهم الأدوات التي استند إليها العلماء في تأسيس العلوم الشرعية وتطويرها. ولم تزل الأسس اللغوية معتمدة فيها، ومن المتوقع أن يسهم تخصيص المنهجية والموضوعات اللغوية بعلم لغة خاص في تطوير هذه العلوم. ويدرس المقال هذه الفكرة، ويهدف بصفة خاصة إلى تقديم مقترحات في إيجاد هذا النوع من العلوم اللغوية الذي يتخذ الدراسة الشرعية مجالا تطبيقيا له، وينظر في القضايا الشرعية اللغوية، والأسس اللغوية النظرية المتعلقة باستنباط الأحكام الشرعية وتطبيقها. وحاول المقال مناقشة دواعي تأسيس هذا العلم، وملامح تأصيله، وخصائصه، وموضوعاته، وأساليب تنفيذ محتوياته، وبعض فروعه، وضرورة تخصيصه بمساق علمي، وقدم مقترحات في تنفيذ هذا المساق.

• • •

تمهيد :
إن المعرفة اللغوية العربية من أهم الأدوات التي استعان بها العلماء في فهم النصوص القرآنية والحديثية واستنباط الأحكام الشرعية منها، وقد جُعل العلم بأسرار العربية شرطا أساسا من شروط الاجتهاد. وتحتلّ المباحث اللغوية حيّزا ملحوظا في مباحث العلوم الشرعية، وتتألف هذه المباحث من موضوعات واسعة ومهمة تكفي لتؤلّف تخصصا علميا مستقلا تتناسق مفرداته. ويؤيد هذا التوجه اهتمام العلماء بالمسائل اللغوية الشرعية وتأليف كثير منهم أو تطرقهم إلى جوانب منها، ولكن ما قدموه بحاجة إلى جمع وتصنيف وترتيب، ولهذا يقترح الكاتب إيجاد علم خاص بهذه المباحث يقدم في الأقسام الشرعية واللغوية، وقد يتفرع هذا العلم إلى فروع داخلية يتم فيها التركيز على بعض المستويات أو الخصائص اللغوية.

ويهدف هذا المقال إلى تقديم مقترحات يرجى أن تكون مفيدة في الإعداد لمساق علمي لنوع من العلوم اللغوية يتخذ الدراسة الشرعية مجالا تطبيقيا، ويهتم بالمسائل النظرية الضرورية لتقديم هذا المساق، كما يعتني بتطوير المسائل اللغوية الشرعية، والقضايا الشرعية المبنية على الأسس اللغوية، فيسهم في خدمة التراث الإسلامي السخي. وينظر المقال في دواعي تأسيس هذا العلم، وملامح تأصيله، ويقدم نماذج شرعية لغوية، ويناقش أهمية تطوير الأسس اللغوية للعلوم الشرعية، وضرورة تخصيصها بالدرس، وخصائص العلم المقترح، وفروعه، وموضوعاته، وأساليب تنفيذ محتوياته. ويتحدد هذا البحث بإبراز ملامح هذا العلم لما قد يسهم به في تطوير المنهجية اللغوية في العلوم الشرعية، وتحقيق الترابط بين مباحثها، وتوثيق نواحي التكامل بين العلوم الشرعية واللغوية، تقوية لهدف خدمة القرآن الكريم التي نشأت الدراسات اللغوية العربية من أجلها. ومن المؤمّل أن تسفر محاولات ترجمة هذه المقترحات إلى واقع عملي، بإذن الله، عن وجهات نظر أخرى عملية تعين في استقرار هذا الفرع العلمي التخصصي.

وتعني "الشريعة" ما شرعه الله تعالى من العقائد والأحكام العملية. ويشمل هذا المصطلح جانبين مهمين هما: الجانب العقدي المتمثل في القضايا المتعلقة بأصول الدين والمعتقدات التي تؤثر في التطبيقات العملية، والجانب التطبيقي العملي المتمثل في القضايا المتعلقة بالمصالح الفردية والاجتماعية الدنيوية والأخروية. ولا ينحصر هذا المفهومُ "الشريعة" في الفقه، وأصوله، وقواعد الفقه الكلية، وما يتصل بهما بشكل مباشر([1]). ويقصد بـ "العلوم الشرعية" في هذا المقال تلك العلوم والمعارف التي وضعت لفهم الخطاب القرآني والنبوي، واتخذت الكتاب والسنة أصلين للدراسة وفق مناهج عقلية وعلمية محددة، وتتناول الأصول والفروع والمفاهيم المستفادة من هذين المصدرين وأوجه تطبيقها في القضايا المتعلقة بالوقائع المعيشة والمصالح الدنيوية الفردية والاجتماعية، والمسائل الأخلاقية والتعبدية ([2]).

أولا: دواعي تأسيس هذا العلم
يناقش المقال الأساس النظري للأسس والمباحث اللغوية التي تختص بها العلوم الشرعية، ويقترح بناء هذا العلم على الإسهامات الموجودة في العلوم الشرعية واللغوية، ليكون علما مستقلا يمكن التوسع فيه بما يخدم أغراض العلوم الشرعية. ويقدم في الفقرات التالية دواعي تأسيس العلم المقترح بالنظر في الحاجة إلى التطوير في العلوم الشرعية بشكل عام، وتطوير الأسس اللغوية الشرعية، وبيان أهمية بناء منهجية لغوية مستقلة للمباحث اللغوية في العلوم الشرعية.

- التطوير في العلوم الشرعية
من محاولات تطوير العلوم الشرعية([3]) إبراز أهمية توسيع مباحث العلوم الشرعية ليندرج فيها فقه المجتمع الإنساني، وفقه الحضارات الإنسانية، والمعطيات المفيدة من العلوم الإنسانية، وأدوات البحث فيها وما سواها من القضايا التي لها صلة بفهم الخطاب القرآني والنبوي وتطبيقاتهما، والتركيز على الوظيفة الحضارية للعلوم الشرعية التي منها تحقيق غاية الاستعمار في الأرض والاستخلاف عليها، ومثلها المباحث المتعلقة بفهم النصوص وربطها بالواقع، وتصحيح التصنيف التقليدي للعلوم إلى شرعية وغير شرعية، أو عقلية ودينية، أو عقلية محضة لا يحث الشرع عليها، ونقلية محضة، ونقلية عقلية([4])؛ لأن الشريعة تشمل المصالح الدنيوية والأخروية. وقد حظي الفقه، وأصوله بنصيب وافر من محاولات تطوير العلوم الشرعية([5]).

ونظرًا لعدم مواكبة بعض المؤلفات في هذه العلوم للتطورات المستجدة في مجالات الحياة من حيث مصطلحاتها، وأساليبها، والقضايا العلمية، والنماذج التطبيقية، فقد ناقش المجالي([6]) الحاجة إلى تطوير محتوى مادة الفقه الإسلامي، وناقش القضايا المتعلقة بالمسافات الزمانية، والمقاييس، والموازين، والمقادير، والأنصبة، والعملات، ونادى بإعادة كتابة بعض الأبواب مثل أبوب الطهارة، والاستنجاء، والزكاة باستخدام المصطلحات المعاصرة تقريبا لهذه الأبواب من متعلمي الفقه الإسلامي.

وتوجد محاولات قديمة في تطوير القواعد المعتمدة في هذه العلوم. فبعد أن كانت محاور علم الأصول هي علوم اللغة، والكتاب والسنة وعلومهما، والأحكام الشرعية، أضيف إليها القواعد المنطقية لدى المتكلمين الأصوليين. وأعاد الإمام الغزالي ترتيب أبوابه ومسائله، وأبرز المسائل غير الأصيلة في علم أصول الفقه([7]). وحاول الإمام الشاطبي توجيه مباحثه نحو المقاصد الشرعية([8]). ولعل الاستفادة من مبادئ العلوم الإنسانية المتعلقة بربط النصوص بالواقع، وفهم الخصائص النفسية والاجتماعية للمجتمع الذي يطبق فيه النص يفيد في تطوير منهجية استنباط الأحكام الشرعية وتطبيقها.

وبما أن المسائل اللغوية أساسية في كثير من العلوم الشرعية الفقهية والعقدية، فإن الحاجة ماسة إلى تطوير منهجية البحث اللغوي فيها، وتجديد الأداة اللغوية لها. ولعل ما وضع من كتب حديثة في تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، وسبل الاستنباط من الكتاب والسنة([9]) يشهد لأهمية توسيع آليات فهم نصوص القرآن والحديث لتشمل مباحث مفيدة من العلوم الاجتماعية، والتشريعية، واللغوية الحديثة، وغيرها. ويعدّ السعي إلى تطوير المنهجية اللغوية للعلوم الشرعية لتصبح علم لغة خاصا بالدراسات الشرعية تطويرا لآليات قراءة التراث الإسلامي، وإعادة تقديمه لأهله وفقا لظروفهم التي يعيشونها، والمستجدات الفكرية التي وصلوا إليها.

- تطوير الأسس اللغوية الشرعية
ليس غريبا على هذا التراث السعي نحو تجديد منهجية دراسته([10])؛ إذ تعبر العلوم الإسلامية عن تراكم الخبرات، واستفادة المتأخرين عن أسلافهم، وبنائهم على جهودهم، وهذا واضح في صنيع المفسرين، وأصحاب المعاجم، وغيرهم من علماء المسلمين الأجلاّء. وقد اهتمت الحضارة الإسلامية بقراءة النصوص الدينية وإعادة قراءتها، وبالتجديد في منهجية القراءة بهدف ربط النصوص بوقائع حياة الناس، وتطبيق الأحكام الشرعية عليها. ويؤكد اهتمام العلماء المسلمين بتفسير القرآن الكريم وتجديد تفسيره على مرّ الأزمان مناسبة الرسالة القرآنية لكل زمان ومكان. قال أبو السعود: "ولقد تصدى لتفسير غوامض مشكلاته (أي القرآن الكريم) أساطين أئمة التفسير في كل عصر من الأعصار، وتولى لتيسير عويصات معضلاته سلاطين أسرة التقرير والتحرير في كل قطر من الأقطار فغاصوا في لججه وخاضوا في ثبجه، فنظموا فرائده في سلك التحرير وأبرزوا فوائده في معرض التقرير، وصنفوا كتبا جليلة الأقدار وألفوا زبرا جميلة الآثار"([11]).

أما عن مبلغ المباحث اللغوية في العلوم الشرعية فإننا نلحظ أن المحتويات الأساسية لعلم أصول الفقه تتألف من علم الكلام، والمنطق، وعلم العربية، والعلم بالمقاصد والأحكام الشرعية. وأما عن تألفه من علم العربية فلتوقف معرفة دلالات الألفاظ من الكتاب والسنة ، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة، من جهة الحقيقة، والمجاز، والعموم، والخصوص، والإطلاق، والتقييد، والحذف، والإضمار، والمنطوق، والمفهوم، والاقتضاء، والإشارة، والتنبيه، والإيماء، وغيره، مما لا يعرف في غير العربية([12]). وفي ضوء اهتمام بعض المتخصصين في علم أصول الفقه بالمقاصد الشرعية في استنباط الأحكام من النصوص والنظر في وسائل تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإن على القائم بالتحليل اللغوي أن يسعى إلى بيان المقاصد من النصوص الشرعية، ولا يقتصر على تحليل الخصائص اللفظية للتراكيب الواردة فيها.

وتتضح أهمية تطوير الأسس اللغوية في العلوم الشرعية في الآراء المتعلقة بالقياس، والمعهود، والسياق، والمجاز، وغيرها، وما يؤدي إليه اختلاف المواقف منها في فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام والمفاهيم منها. فلقضية إنكار القياس في أصول الفقه صلة بالمنهجية اللغوية للتعامل مع النصوص الشرعية عند "الظاهرية"، إذ ترد أهمية القياس من أن النصوص، والأفعال، والإقرارت الشرعية متناهية في ألفاظها، على الرغم من عدم تناهيها في مفاهيمها، وعدم تناهي الوقائع الحيوية مع تناهي العقل البشري. وقد انطلقت المذاهب الفقهية من فكرة تناهي النصوص لاتخاذ القياس دليلا شرعيا رابعا بعد الكتاب، والسنة، والإجماع([13]).

بيد أن الظاهرية ترى أن مقابلة غير المتناهي بالمتناهي محال([14])، وتتخذ هي من هذه الخاصية نفسها مندوحة لإثبات بطلان القياس، والاعتداد بدليل العقل، وشهادته، والأخذ بالمعنى المنطوق للألفاظ. وتتبنى الظاهرية منهجا يذهب إلى أن النص قادر على شمول الوقائع -مهما تعددت، وكثرت- بأحكامه دون حاجة إلى القياس، وتسلك مسلك تجريد النص وتحويله إلى قاعدة كلية يمكن أن تشتمل على ما لا يتناهى من الوقائع، بحجة أن لغة النص الشرعي ليست كأية لغة أخرى. فإن لغة المتكلم من البشر تحيط بها قرائن كثيرة، أما لغة النص الشرعي فينبغي أن تكتشف معانيها من خلال قوانين، وعلاقات لغة هذا النص ذاتها([15]). ويؤدي التعامل الظاهري مع النصوص إلى استثمار المجالات الدلالية للألفاظ لكي يتم إدراج المفاهيم التي تستند إليها الأحكام الشرعية.

وسيؤدي ترك الأخذ بالقياس في فهم معاني الألفاظ في النصوص الشرعية إلى العودة إلى وقائع استخدام الألفاظ، والفحص في مدى انطباق دلالة الألفاظ على هذه الوقائع، دون البناء على القياسات الافتراضية في توسيع دلالات الألفاظ، أو فهم الدلالات المستجدة، ودون ربط فهم الواقع باللفظ بل يربط اللفظ بالواقع الذي يرد فيه، ودون اللجوء إلى القول بالتضمين في تحديد معاني الألفاظ العامة، أو الوظيفية. وباستبعاد القول بالتضمين تزداد الدقة في تحديد دلالة الألفاظ ويزيد التمسك بما ورد به السماع عن العرب.

أكد الشافعي، ومن بعده الشاطبي، وغيرهما من العلماء أهمية الالتزام بمعهود العرب في تلقي الخطاب الديني عند محاولة الوقوف على معانيه أو بيانها([16]). ويقتضي ذلك أن يحمل النص على معهود المتكلم به: قرآنا وسنة، وهو معهود يستفاد من النصوص الشرعية مجتمعة طبقا لعرف العرب الذين تلقوا هذه النصوص. والمعلوم أن هناك معهودين في التعامل مع الخطاب الشرعي: معهود شرعي، وآخر عرفي لغوي عام([17]). فإذا لم يكن لهذا النص معهود شرعي محدد، أو تمّ صرفه عن هذا المعهود وفقا للقرائن يحمل على المعهود العرفي العام للمخاطبين الذين نزل فيهم الكتاب ووردت لهم السنة. ولكن ابن حزم يذهب إلى أن الأولى حمل الخطابات على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص، أو إجماع، أو ضرورة، وإذا وجد مانع من هذه الموانع الثلاثة حمل معنى اللفظ على المعهود الشرعي. ويقترح ابن مضاء الاعتداد بمعهود الخطاب لدى العرب في توضيح الظواهر اللغوية، أخذا باستقراء المتواتر الذي يوقع العلم بالقاعدة دون محاولة استنباط علة لنقل حكمها إلى ما يشبهها من التراكيب اللغوية([18]).

ونشير إلى عدم لزوم ربط المصطلحات الشرعية بالمعاني اللغوية كما جرت به العادة في العلوم الشرعية حيث يقدم المؤلف المعنى اللغوي، ثم يعقبه بالمعنى الاصطلاحي الشرعي؛ إذ إن نصوص القرآن والحديث تتضمن إعادة تحديد لبعض المعاني اللغوية، مما لم تكن معهودة في العرف اللغوي العام قبل التنزيل، على الرغم من ارتباطها بالمعهود اللغوي العام. ويلحظ أن المعاني اللغوية التي تذكر للمصطلحات الشرعية لا تعكس في بعض المواضع صورة مكتملة لما يمكن أن يرد لها المصطلح لغويا؛ لأن المؤلفين يهتمون في الغالب بالمعاني المعينة على استيعاب المفهوم الشرعي للمصطلح. وتفيد هذه الملحوظة أن معرفة المعهود الشرعي تكفي في فهم المصطلحات الشرعية، أما إذا كان فهم المعهود الشرعي متعلقا بالمعهود اللغوي العام فيكون إيراد المعهودين معا ضروريا، كما قد يحدث في ألفاظ العقود مما يفهم في ضوء أعراف الناس القائمة في تخاطبهم.

سيساعد اتخاذ معهود العرب في تلقي الخطاب القرآني في عصر التنزيل مرجعية في فهم النصوص على الوصول إلى المعنى المراد من الشارع في النص الشرعي، وهو معنى يؤخذ إما من ظاهر النص، وإما من تأويل النص حسب الشروط التي تحمي من تحريف معنى النص. ويقتضي الرجوع إلى هذا النوع من المعهود انتفاء استمرار احتمالية دلالة النصوص القرآنية، كما يقتضي عدم قياس الدلالات المبنية على ما يزعم من الاحتمال في دلالة هذه النصوص بخصائص هذا المعهود، ورفض الاحتكام في فهم النصوص الشرعية إلى معهود العرب في التخاطب في العصر الحديث. وتقتصر أهمية المعهود اللغوي الحديث على التعرف على أوجه التعامل اللغوي بين مستخدمي اللغة العربية حديثا ولا يؤخذ به في استنباط الأحكام الفقهية والمفاهيم العقدية من النصوص الشرعية.

وينتج عن اعتبار السياق أو عدمه في فهم النصوص القرآنية والحديثية اختلافٌ في الأحكام الفقهية والمفاهيم العقدية أيضا. ونجد استغلالا واسعا للسياق الموقفي في الأحكام الشرعية المتعلقة باستخدام اللغة في المعاملات والعقود حيث يؤخذ بما يجري في عرف التخاطب اللغوي ومقاماته عند إصدار الأحكام الفقهية وتطبيقها، ومن ثم يعتمد مقصد المتكلم من خطابه، وليس ظاهر هذا الخطاب([19]). ومن مراعاة السياق اللفظي في الترجيح الفقهي موافقة ابن تيمية للحنفية والظاهرية([20]) في جواز قصر الصلاة والفطر في رمضان في كل سفر سواء كان سفرا مباحا أو غير مباح([21])؛ نظرا لتعليق الحكم في النص على مطلق السفر. قال تعالى: "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر" (البقرة: 184) وقال عزّ من قائل: "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" (النساء: 101)، وهذا على خلاف الشافعية والحنابلة الذين لا يجيزون القصر والفطر في السفر المحرم، بحجة أن السفر المحرّم معصية. والرخصة للمسافر في معصية إعانة على ذلك، ولا تجوز الإعانة على المعصية، فتمّ تقييد القصر والفطر بحكم آخر خارج النص([22]).

وهناك أسس نظرية أخرى يؤدي اختلاف المواقف منها إلى اختلاف فهم النصوص أو تطبيقها، ومنها القول بالمجاز أو عدمه، أو بالاستعمال اللغوي في تحديد دلالة ألفاظ النصوص الشرعية، وكذلك مبدأ الاستناد في استنباط الحكم إلى مقاصد النصوص أو إلى معانيها المأخوذة من النصوص مباشرة أو غير مباشرة. ومن المتوقع أن يؤدي تطوير هذه الأسس إلى نتائج جديدة مفيدة في التعامل مع النصوص الشرعية، إذا تضمنت النظر في أسس استثمار أدلة الأحكام الإجمالية والتفصيلية، وتحديد ضوابط مراعاة معهود العرب في الخطاب بما يتناسب مع النصوص الشرعية ببيان أنواع المعهود، وشروط مراعاته، وعلاقته بالمقصد من الخطاب، وكذلك النظر في تقنين ربط النص بمواقف وروده وسياقاته، مع توضيح نقطة الانطلاق في فهم العلاقة بين النص والواقع في التعامل مع الخطاب الشرعي، ومثلها النظر في تطوير أساليب بيان المقاصد في النصوص الشرعية، وتوضيح مدى تأثرها بالتطور اللغوي والتطور الاجتماعي والفكري.

وينبغي أن نحذر مما سبق أن أشار إليه الغزالي([23]) من أن إقامة الدليل على منكري العلم والنظر، مع حب صناعة الكلام قد جرّ المتكلمين من الأصوليين إلى خلط مسائل كثيرة من علم الكلام بعلم أصول الفقه، كما حمل حب اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول، فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الإعراب جملا هي من علم النحو خاصة. ولعل الغزالي كان يحذر من إدراج الموضوعات التي لا يتعلق بها غرض في علم أصول الفقه. وهذا شيء ينبغي أن ننتبه له في محاولة تحديد معالم علم لغة خاص بالعلوم الشرعية، ولا ينبغي تقليد بعض العلماء الذين يقحمون جلّ القضايا المعرفية في تخصصاتهم في العلوم الشرعية([24]).

والمؤمل أن يؤدي البحث في المنهجية اللغوية الشرعية بشكل مستقل إلى مستوى علمي أعمق يجاوز مستوى التوفيق بين موضوعات متفرقة من مختلف العلوم الشرعية إلى تأسيس علم لغة خاص بالعلوم الشرعية.

نحو منهجية لغوية مستقلة :

يجد المطالع في العلوم الشرعية اهتماما بالغا بالمسائل اللغوية، ويلحظ أن الأساس اللغوي كان موجِّها لمسائل كثيرة من هذه العلوم، سواء أكان ذلك مباشرا أم غير مباشر؛ وذلك لارتباط هذه المسائل بتحليل النصوص الشرعية ومعرفة وجوه دلالاتها. ويدور كثير من المداولات حول المفاهيم الفقهية والعقدية، والدلالات العرفية للألفاظ والتراكيب المستنبطة من الخطاب القرآني والنبوي. وتجدر الإشارة إلى أن المباحث والقواعد اللغوية كانت مستفادة من إنتاج اللغويين والبيانيين، إضافة إلى معطيات أبحاث علماء الشريعة الذين كان الكثير منهم علماء نابغين في اللغة العربية وآدابها([25]).

لقد نشأ الدرس النحوي والبياني في خدمة القرآن الكريم إسهاما في إبراز مفاهيمه، فكان تطبيقيا ووصفيا معا، ثم غلب عليه الجانب النظري والاهتمام بوصف اللغة العربية بشكل عام في المراحل التي عقبت مراحلها الأولى. ويقدم علم التفسير ونقد متن الحديث أمثلة رائعة للغويات النص التطبيقية في تحليل النصوص وربطها بوقائع حياة المتعاملين بها، كما تمثل بعض مباحث علم أصول الفقه علم الدلالة الإسلامي التطبيقي. ويبدو لي أن المحافظة على اللغة العربية تجاه حملات الشعوبية قديما، والمحافظة على الفصحى والتراث الإسلامي في مواجهة هجوم أعداء الفصحى ودعاة العامية حديثا، والمحافظة على التراث الديني واللغوي تجاه الماسونية والصهيونية والمبادئ الهدامة، واعتزاز المسلمين بتراثهم، والنظرة القدسية إليه، لم تسعف في إنجاح محاولات تطوير مناهج دراسة اللغة العربية، وتحليل تراكيبها، وخصائصها الدلالية، أو تحديثها، أو تيسير تعليم قواعدها النحوية والبلاغية. فأصبح كثير من المتخصصين في اللغة العربية يتخذون موقفا سلبيا من الجهود الرامية إلى تحديث تخصصهم أو تطويره.

ولكن علم اللغة الخاص بالعلوم الشرعية سينطلق من توجيه المقاصد الشرعية في تخير المفيد من الدراسات اللغوية والتشريعية الحديثة محاولة تطوير المنهجية اللغوية الشرعية، ومن المؤمّل أن يفيد تطوير هذه المنهجية في إغناء الدراسات الشرعية بالدلالات العامة والمفاهيم الخاصة التي تفيد في التعامل مع المصطلحات الشرعية. فعلى الرغم من أن كتب العلوم الشرعية تكتفي بالإشارة إلى أوجه الاستخدام الواردة في النصوص الشرعية التي تعد موضوعا لها، نظرا لتعلق استنباط الأحكام بالأوجه المذكورة، ولا تعتمد أوجه الاستخدام المستجدة، أي الاستخدامات اللغوية كانت قد تطورت في اللغة التي يتعامل الناس بها، إلا في فهم أحاديث الناس الذين تطبق فيهم الأحكام الشرعية، وبخاصة في المعاملات. فإن الدلالات اللغوية العامة قد توسّع مدارك المتعاملين مع النصوص الشرعية. فلا يكتفى مثلا بالقول بأن معنى لفظة (الصلاة) في اللغة الدعاء، بل يشار إلى معان لغوية أخرى للفظة مثل الترحم أو الرحمة، أو التبريك، أو التسبيح، بغض النظر عن قربها من معنى الدعاء. ويشار إلى أن لفظة (الزكاة) تدل على الطهارة، والنماء، والبركة، والمدح، والصلاح، وصفوة الشيء، ولا تنحصر دلالتها في اللغة على التطهير والتزكية([26]).

ولذا يحسن أن يهتم المتخصصون في العلوم الشرعية بمراجعة مصادر العلوم اللغوية لدى تناولهم للجوانب اللغوية في تخصصهم، وألا يقتصروا على ما ورد عنها في كتب الدراسات الشرعية لدى معالجتها للقضايا اللغوية المتعلقة بالدرس الشرعي؛ إذ في العودة إلى المراجع اللغوية توثيق لصلة العلوم الشرعية بالمصادر اللغوية الأساسية للمسائل المتداولة في هذا التخصص، وتمكين للمتخصصين من متابعة التطورات العلمية التي قد تفيدهم في تطوير المسائل المشابهة في مجالهم العلمي.

وقد نتصور مدى تأثير تحديث المباحث اللغوية في العلوم الشرعية، إذا علمنا مدى حاجة المتخصص للعلوم الشرعية إلى العلوم اللغوية، وحجم البحث اللغوي في مختلف العلوم الشرعية، ووقفنا على المبادئ والمباحث اللغوية والموضوعات المبنية على أسس لغوية. ولقد ذكر الغزالي أن أعظم علوم الاجتهاد تشتمل على ثلاثة فنون: الحديث، واللغة، وأصول الفقه([27]). وقرر الشاطبي أهمية المعرفة اللغوية في هذه العلوم بأنه لا غنى لمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب([28]).

ولعل نظرة في تفاعل العلوم اللغوية مع العلوم الشرعية من حيث المصطلحات، والأسس، والمناهج، والموضوعات التي تعالج في سياق الفهم اللغوي للنص تنبئ بهذا التأثير المحتمل. فكثير من القضايا والمعاملات بين الأفراد، بل المعاهدات والاتفاقات بين الدول تتوقف على تحديد معاني الألفاظ، كما يتوقف عليه كثير من التفسيرات التشريعية والفكرية. وللقواعد اللغوية صلة ببناء الأحكام الشرعية واستنباط أدلتها مما يستفاد من التحليل التركيبي، وتحديد معاني حروف المعاني، والمسائل اللغوية الدلالية والمسائل اللغوية العرفية العامة، والقضايا المتعلقة بالقياس والعلة([29]).

ثانيا: تأصيل علم لغة شرعي :

يتطلب تأصيل علم اللغة الشرعي المقترح تأسيسه تقديم تحديدات يرجى أن تفيد في بناء مساق علمي خاص به. وترد هذه التحديدات في بيان خصائص هذا العلم، وبعض فروعه، وموضوعاته، وتنفيذ محتوياته.

خصائصه :

إن المنطلق الأساسي لهذا النوع من الدرس اللغوي رصد القواعد والأسس والموضوعات اللغوية المستخدمة في العلوم الشرعية، وجمعها، والربط بينها، ومناقشة الجوانب النظرية والتطبيقية المفيدة في فهم النصوص الشرعية وتنزيلها في الواقع. وهدفه تقديم صياغة موحدة لهذه القواعد والأسس بالإفادة بالتراثين الشرعي واللغوي، وبالمعطيات المفيدة من الدرسين اللغوي والتشريعي الحديثين، مع السعي إلى تطوير هذه المحتويات اللغوية. وطبيعته أنه علم لغة تطبيقي([30]) خاص بالعلوم الشرعية بجانبيه النظري والعملي، ويفيد من النظريات اللغوية العامة وتطبيقاتها في فهم النصوص ، وربطها بالمواقف الخطابية المتعددة المتجددة، ويفيد أيضا من مجالات الأبحاث اللغوية الأخرى. وتمتزج في المواد التي يقدمها القضايا النظرية والمجالات التطبيقية، والمناهج التراثية والحديثة. وتتعلق محتوياته بمختلف فروع العلوم الشرعية. ونؤكد أن هذا التخصص يختلف عن الدرس اللغوي العام في الموضوعات، والمحاور، والمفردات العلمية.

ونظرا لتميّز أهداف هذا التخصص ومحاوره، فقد نحتاج، مثلا، في علم النحو الشرعي إلى إعادة تنظيم الأبواب النحوية، وإعادة تنسيق موضوعاتها لكي تتفق مع أهداف المتخصصين في العلوم الشرعية، فيقتصر من النحو العام على ما يعين على استنباط معاني النصوص الشرعية، وتضم إليه القضايا الأسلوبية من علم المعاني. فالنحو المتعلَّم هنا نحو خاص لهدف محدد، وهو نحوٌ تطبيقي خاص بالعلوم الشرعية يسعى إلى فهم النصوص، ولا يقف عند التحليلات التركيبية الجزئية. وبعبارة أخرى، إنه لا يكون نحوا للجملة، بل يكون نحوا للنص الشرعي يقدم القواعد النحوية المساعدة في فهمه، ويستبعد المبادئ والأسس النظرية الافتراضية التي لا تفيد في تحقيق أهداف المادة. وهو نحوٌ يهتم بالقواعد المستخدمة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكتب التراث الموضوعة في فهمها عرضا، وتوضيحا، وتطبيقا، ويجعلها أسسا لتحليل المكونات التركيبية للنص الشرعي.

سيعطي هذا التخصص نظرة موضوعية شاملة للأساس اللغوي لاختلاف المذاهب العقدية؛ إذ إن من أسس تصنيف هذه المذاهب اختلاف مواقفها من التعامل مع النص الشرعي، فمنها طوائف تنزع إلى التمسك بالنص، وأخرى تميل نحو العقل. فالموقف السلفي يتمثل في التوسط بين العقل والنقل، وإعطاء الكلمة العليا للوحي دون إغفال للعقل؛ إذ النصوص تتضمن الحجج العقلية وهي لا تتناقض معها، ولا يسرف في تأويل النصوص إلا بقدر ما توجبه قواعد اللغة واستعمالات الشرع، مع نفي المعاني المستلزمة للتشبيه والكيفيات الحسية. أما الحشوية فتتعصب للنصوص والفهم الحرفي لها مما يؤدي بهم إلى سوء فهم للنصوص الدينية نفسها. ويجعل الحنابلة المرجع الأخير في أمر الحكم الشرعي عقديا أو عمليا هو النص الصحيح دون حرفية الفهم لها، مع مقاومة النزعات الباطنية في فهم النصوص، والاحتكام إلى النص بدءا أو نهاية دون إهمال لدور العقل في كلتا الحالتين. وتعادي الظاهرية الإسراف في استخدام الرأي والعقل في أمور الشرع، وتنكر القياس في التفكير الديني فقها أو اعتقادا، وترفض استمداد الحكم الشرعي من استحسان العقل وحده، أما استخدام العقل في فهم النص، أو دعم الحكم المأخوذ من النص بدليل عقلي يضاف إلى دليل النص فلا شيء فيه، بل هو الواجب. ويتراوح موقف الأشعرية والماتريدية بين الميل إلى مزيد من الالتزام بالنص والنزوع إلى شيء من التأويل العقلي. أما المعتزلة فيؤكدون دور العقل في مقابلة النص من حيث المنهج([31]).

فروع علمية مقترحة :

إن التصور المبدئي لعلم اللغة الخاص بالعلوم الشرعية أن يكون فرعا من فروع علم اللغة التطبيقي، وأن يحتوي نظرات ومداخل لغوية نظرية، ومناهج تحليل، وتطبيقات تتكامل فيها نتائج أبحاث الدرس اللغوي مع نتائج البحث في مختلف فروع العلوم الشرعية من أجل تحقيق تعامل أفضل مع النصوص الشرعية، أو الخطاب الشرعي في المجالات الفقهية، والعقدية، والخلقية. وتكمن أهمية مثل هذا العلم في الإفادة من التراثين الشرعي واللغوي ومن بعض أوجه التطوير في الدراسات اللغوية والتشريعية الحديثة في المجالات النظرية والتطبيقية([32]). ويقترح أن ينظر هذا العلم في مختلف المستويات اللغوية المتعلقة بأدلة الأحكام في النصوص الشرعية، محققا للتكامل بين الأهداف الشكلية والمقصدية في التحليل اللغوي. وليس كثيرا على النصوص الشرعية تخصيصها بعلم لغة خاص على الرغم من كونها محصورة في مواطنها المعروفة، وذلك لسعة معانيها وأهمية المفاهيم المستفادة منها، ولأن القضايا التي تتناولها غير محدودة بزمن، أو مكان، بل هي موجهة للإنسانية بأسرها في جميع الوقائع الحيوية، ولها تأثير غير متناه في حياة المخاطبين بها. وتتفادى طبيعة هذا العلم كونها تكرارا للمعلومات القديمة المتداولة، أو أن تنحصر فيها دون أن يطورها أو يبني عليها؛ لأنه علم يعكس حقيقة الاستخدام اللغوي حيث تتكامل المستويات اللغوية، ويعكس قوة علاقة اللغة بالظواهر الإنسانية الأخرى.

من الشعب الفرعية المتضمنة في علم اللغة الخاص بالعلوم الشرعية:

- علم المصطلحات الشرعي: الذي يمكن أن ينظر في أسس تحديد مفاهيم المصطلحات الشرعية، وأهميتها في استنباط الأحكام الشرعية، وتصنيفها([33])، والأسس المنطقية لهذا التحديد، والعلاقة بين المفاهيم اللغوية والشرعية لهذه المصطلحات، وتطور دلالات الألفاظ الإسلامية. ولنا نموذج في منهج كتاب التعريفات للجرجاني، وكتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري، وغيرهما، وستصادفنا أمثلة عديدة في كتب الدراسات الشرعية في تحديد المصطلحات. وتسهم المعاجم الفقهية في هذا الفرع بتوضيح معاني المصطلحات والعبارات الشائعة في الفقه، ويقول زكريا الأنصاري في مقدمة "الحدود لأنيقة" "أما بعد، فلما كانت الألفاظ المتداولة في أصول الفقه والدين مفتقرة إلى التحديد تعين تحديدها لتوقف معرفة المحدود على معرفة الحد." ([34]) ثم شرع في تقديم التعريفات والحدود للمصطلحات التي اختارها.

- علم الدلالة الشرعي: الذي يمكن أن يتناول وظيفة استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية من خلال دراسة الدلالات المفردة، والمركبة، والمترادفة، والمشتركة، والمطلقة، والمقيدة، والمجازية، وغيرها، وكذلك ربط الدلالات والأحكام بالوقائع العملية. وتلقانا مادة غزيرة لهذا الفرع في علم أصول الفقه، حيث يندرج ما يقارب ثلث مباحثه في دراسة الدلالة الشرعية، وكتب الوجوه والنظائر في القرآن الكريم. ومن المصادر المفيدة هنا: الرسالة للشافعي، والموافقات للشاطبي، والمحصول للرازي، والقواعد والأشباه والنظائر لابن السبكي، والمستصفى للغزالي، وغيرها من كتب علم الأصول.

ومما يندرج في هذا الفرع ما أشار إليه ابن تيمية من أسباب الاختلاف في فهم النصوص القرآنية والحديثية، فقال: "وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين .. إحداهما قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، والثانية قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به، فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام، ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة كما يغلط في ذلك الذين قبلهم كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق." ([35])

ويدخل فيه ما وصف ابن السيد البطليوسي للخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة: "هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام، أحدها اشتراك في موضوع اللفظة المفردة، والثاني اشتراك في أحوالها التي تعرض لها من إعراب وغيره، والثالث اشتراك يوجبه تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض. فأما الاشتراك العارض في موضوع اللفظة المفردة فنوعان: اشتراك يجمع معاني مختلفة متضادة، واشتراك يجمع معاني مختلفة غير متضادة." ([36])

- علم تحليل النص الشرعي (أو علم تحليل الخطاب الشرعي): ويدرس الروابط بين الكلمات والعبارات في النص، والعلاقات بينها وبين النصوص التي ترد فيها، ويهتم بعناصر الاتساق في النص، من إحالة، أو استبدال، أو وصل، والعلاقات الدلالية، من ترابط، وانسجام، وترتيب لمكونات بنية الخطاب. وهي عناصر اهتم بها المفسرون، والدارسون لعلوم القرآن، ويعتني بالخصائص البيانية للقرآن الكريم والحديث الشريف([37]). وتجدر الإشارة إلى أن ما يقارب الخمسين في المائة من التفسير، وعلومه قضايا لغوية([38]). ومن مصادر هذا الفرع: البرهان في علم القرآن للزركشي، والإتقان في علم القرآن للسيوطي، ودلائل الإعجاز للجرجاني، وغيرها من كتب علوم القرآن، والتفاسير.

ومن قضايا هذا العلم قول الزركشي في معرفة المناسبات بين الآيات: "واعلم أن المناسبة علم شريف تحزر به العقول ويعرف به قدر القائل فيما يقول، .. ومرجعها والله أعلم إلى معنى ما رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، وغير ذلك من أنواع العلاقات، أو التلازم الذهني، كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين، والضدين، ونحوه، أو التلازم الخارجي، كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر، وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء. وقد قلّ اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي وقال في تفسيره أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط." ([39])

- علم الأسلوب الشرعي: حيث تدرس الخصائص الأسلوبية للنصوص الشرعية، وأسس الإعجاز النظمي، وأثره في استنباط الأحكام، وفهم الخطاب الإسلامي. وتسهم الاتجاهات المذهبية في التفسير، فضلا عن الدراسات النصية، في توفير المواد العلمية لهذا الفرع من العلم. ومن مصادره دلائل الإعجاز للجرجاني، والكشاف للزمخشري، وأسرار ترتيب القرآن للسيوطي، وتناسق الدرر في تناسب السور له أيضا، وما سواها من المصادر.

ومما يمكن أن يناقش فيه ما أورده الشاطبي في تحديد الخاصية الأسلوبية اللغوية للقرآن الكريم، قال: "فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي، ولا من تعلق بعلم كلامها. فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم؛ لاختلاف الأوضاع والأساليب.." ([40])

- علم النحو الشرعي: الذي يعتني بأهم القواعد النحوية الشائعة في تحديد الأحكام الفقهية، وأثر الخلاف النحوي في تقرير الحكم الشرعي، وفي الترجيح والتعارض، وأثر الخصائص النحوية للألفاظ والأدوات والتراكيب في تحديد الأحكام وتطبيقها، وأوجه التفاعل بين أصول النحو وأصول الفقه، ومدى تأثر التحليل النحوي بالعقيدة، والفقه، وأصوله. وقد قدم الاسنوي وغيره نماذج تطبيقية رائعة لذلك في كتابه الكوكب الدري. ومن المصادر أيضا كتاب إعراب مشكل القرآن لابن قتيبة.

ومن المسائل التي تدرس في هذا الفرع ما ذهب إليه الأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي في مسألة اشتراط الطهارة في "مس" المصحف من أن الطهارة شرط في مس المصحف، وذهبت الظاهرية إلى أنها ليست بشرط في ذلك. والسبب في اختلافهم في تحديد مفهوم (المطهرون) وتحديد النوع النحوي للجملة المنفية في قوله تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون"([41]) فالمالكية والشافعية والحنفية تفهم أن المقصود بلفظ (المطهرون) بنو آدم، وأن الجملة الخبرية المنفية تفيد النهي، فكان معنى الآية: لا يجوز أن يمسن المصحف إلا آدمي طاهر. أما الظاهرية فتفهم من لفظ (المطهرون) الملائكة، ومن الجملة الإخبار المنفي، فرأت أنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مس المصحف، فبقي الأمر على الإباحة. وقد احتج جمهور الفقهاء لمذهبهم في اشتراط الطهارة بأدلة أخرى من الآثار المنقولة([42]).

موضوعاته :

يقصد من الدرس اللغوي الخاص بالعلوم الشرعية أن يكون منطلقا لدراسة القواعد اللغوية في مختلف فروع العلوم الشرعية مجتمعة ومتكاملة، فتتنوع مفرداته لتشمل القصايا الدلالية، والصوتية، والنظمية، والأسلوبية، والاصطلاحية، والفكرية التي تتعلق باللغة وأوجه استخدامها، والنص وأساليب تأليفه، واستيعابه، وتحليله، وتطبيق مضامينه في الوقائع المعيشة للذين وجه إليهم هذا النص. إن الموضوعات التي يمكن أن تدرس في هذا التخصص واسعة ترتبط بمختلف العلوم الشرعية، وينبغي أن يكون التركيز فيها على البحث عن القواعد اللغوية المؤثرة في دراسة موضوعات هذه العلوم، على الرغم من إمكان تخصيص بعض الموضوعات لفرع بعينه، أو التعمق في جانب من هذه الموضوعات في مرحلة من مراحل التخصص في العلوم الشرعية. ولكننا نقترح في الفقرات التالية موضوعات عامة شاملة يمكن أن تدرس فيه:

يشمل التمهيد لهذا العلم مقدمة نظرية تبين أهمية تجديد المنهجية اللغوية للعلوم الشرعية، لكي تنبني على القواعد اللغوية التراثية لهذه العلوم، وتفيد من الدراسات اللغوية والتشريعية الحديثة. وتدرس أوجه التكامل والتشابه بين العلوم الشرعية واللغوية من حيث المصطلحات، والأسس، والمناهج.

وتعتمد النصوص المتداولة في العلوم الشرعية أمثلة في تأسيس القضايا المطروحة للبحث، ويوجه الدارسون نحو تطبيق الأسس والمبادئ والقواعد التي تختار للدراسة على أمثلة أخرى من النصوص الشرعية العقدية والفقهية في ظروف تطبيق محتوياتها في مختلف وقائع الحياة ومناحيها. ويحرص على إبراز الوحدة الموضوعية والفكرية بين الموضوعات والقضايا المقررة، كما يهدف نحو تحقيق التكامل بين القضايا اللغوية وبين المسائل العقدية، والشرعية. وتخصص مواد قرائية إضافية للدارسين من مصادر الدراسات الشرعية واللغوية التراثية والحديثة، من أجل توسيع مداركهم وتوثيق صلتهم بالمجال التطبيقي للمادة العلمية التي يدرسونها.

ينظر في الأصول والمبادئ النظرية التي كَلِف بها علماء أصول الفقه من أجل فهم الخطاب القرآني والنبوي، مثل أسس بناء النص، والوحدة الموضوعية والمنطقية له، ويتم تطويع المبادئ والقواعد التي يمكن أن يستفاد من النظريات اللغوية الحديثة في التعامل مع القرآن، والسنة؛ لكي تتناسب مع طبيعة نصوصهما، ووظيفتها في حياة المخاطبين بها، وتكون مستكملة لمباحث الدراسات اللغوية التراثية، ومن ثم لا تدرس النصوص لذاتها، بل تدرس لأهداف تطبيقية تسهم في تحقيق الرسالة الربانية التي تحملها هذه النصوص، وتنتقى المبادئ والمناهج المتوافقة مع تقديم هذه الرسالة، وتربط التفسيرات الفقهية والعقدية للنصوص بالأحداث الواقعية، وتبنى الأحكام على أدلة مستفادة من التطبيقات اللغوية التحليلية.

تدرس ظاهرة التجانس الصوتي في القرآن الكريم، وسبل تطوير التلقي الشفهي، وأثر المتنوعات الصوتية في فهم المقروء، وأساليب ربط التلاوة والحفظ بالفهم والاستيعاب، وتأثير هذا الربط في الجوانب النفسية والاجتماعية للقارئ والمستمع، كما تبرز آثار الاختلاف في الخصائص النحوية، والمعجمية، والصوتية في فهم نصوص القرآن، والحديث، وتدرس أوجه القراءات التي تخالف القواعد النحوية الشائعة والمقررة في متون الكتب النحوية إذا تعلق بها اختلاف في المفاهيم، ومسألة الوظيفة اللغوية للقرآن الكريم([43]).

تدرس أهمية المعرفة اللغوية العربية في تفسير القرآن الكريم، وصلتها بأسس التفسير بصفة عامة، والمبادئ اللغوية في تفسير النصوص في مناهج التفسير، وسبل توجيه التفسير اللغوي البياني للقرآن ليدرج المواقف الخطابية له، ومعرفة معهود الخطاب لدى العرب، وأنواع المعهود وتأثره بالخبرات التاريخية، وسياقات ورود النصوص الشرعية، ومعرفة التناسب بين الآيات والسور، والانسجام بين تراكيبها، وأجزائها، وأثرها في التعرف على الوحدة الموضوعية القرآنية، وأوجه استخدام وسائل الربط فيما يتعلق بقرائن الكلام وعناصره في فهم النصوص، وأنواع دلالات الألفاظ القرآنية، وأساليب التعامل مع مفردات القرآن في ضوء الجهود التي قدمت في التراث الشرعي في تحقيق الترادف، والمجاز وما سواهما في القرآن الكريم، وأثر التطور الدلالي في فهم آياته، وصلة مراعاة نظمه باستيعاب رسالته، والتفكير في تطبيقها على الواقع. وتناقش أهمية ترجمة القرآن، ومواقع استخدامها، وآراء العلماء في اعتمادها، وأثرها في التطبيقات العملية للرسالة القرآنية. تتناول المادة أسس وضع مصطلحات الأسانيد ودقة الفروق بينها، والقضايا المبنية على الربط بين محتوى المتن وظروف الراوي، وقواعد معرفة لغة الحديث، وفقه مضامينه، وأنواع دلالات ألفاظه، والربط بين هذه الأنواع وبين ما ورد في دلالات الألفاظ القرآنية، والمباحث اللغوية المتعلقة بنقد متن الحديث والعلاقة بين متن الحديث وسنده وقائله.

تندرج في هذا الدرس أيضا المسائل الفقهية والعقدية المبنية على القضايا النحوية، والدلالات اللغوية المستفادة من دلالة المفردات، والتراكيب، والأدوات، والصيغ، وأثر أساليب الكلام، وأوجه الاستخدام اللغوي في الأحكام الفقهية([44])، والأحكام المتعلقة باستخدام الكلام([45])، وتدرس ماهية الكلام من حيث المعنى القائم بالنفس، وأثره في تحديد دلالة الألفاظ المسموعة المتداولة، وكيفية حمل الألفاظ الشرعية لدلالاتها، وصلة الحديث في مبدأ اللغات بتحديد دلالات الألفاظ الحقيقية، والمجازية، والاستعمالية، وغيرها، وتأثير القول بالوضع، أو الاستعمال، أو الحمل، أو الترميز الدلالي في التعامل بالنصوص، وأثر تحديد الدلالات على الموقف من تطور المصطلحات، والمفردات، والمقولات الشرعية. وتدرس أهمية معرفة أنواع هذه الدلالات في تقرير الأحكام الشرعية، وأثر المعرفة اللغوية العربية في الاجتهاد في استنباط الأحكام، ومزاولة الإفتاء. وأهمية الاستنتاج، وتفسير قصد المتكلم في إنجاز عملية التخاطب، وقواعد الاستنباط والاستدلال من الخطاب([46]).

يتم تناول الجانب الأخلاقي لاستخدام اللغة، والمصطلحات اللغوية الأخلاقية الأساسية والثانوية، وآثارها الفكرية، والشرعية، والعقدية، والحضارية، والتوجيهات الأخلاقية اللغوية، وأثر الكلام على العقيدة قولا، وسماعا، وانعكاس اللغة للعقيدة، وصلة العقيدة بالصياغة اللفظية للواقع، ودور الحرية، والإرادة في استخدام الكلام، والمسألة العقدية المتصلة بالكلام النفسي، وقضية الاستدلال على المذاهب العقدية من خلال المسائل اللغوية، وصلة العقيدة بقضايا اللفظ والمعنى. وتدرس أسس اختيار لغة الدعوة، وأثر نوع اللغة في الإقناع بالاتجاه العقدي، والفكري، والآثار النفسية، والاجتماعية، والفكرية للتعامل اللغوي في القيام بالدعوة إلى الله ، وأهمية المعرفة والثقافة اللغوية للداعية.

أما مصادر العلوم الشرعية التي تتضمن القضايا اللغوية فمنها كتب أصول الفقه، وقد عالج أصحابها المشكل اللغوي في سنهم لقواعد التشريع واستنباط الأحكام، ومن الاتجاهات البارزة فيها: الاتجاه السني الذي يمثله الشافعي في كتاب (الرسالة)، والاتجاه الظاهري الذي يمثله ابن حزم الأندلسي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، والاتجاه الأشعري الذي يمثله أبو حامد الغزالي في كتابه (المستصفى في علم الأصول). ومنها كتب التفسير حيث يعتني المفسرون عادة في تقديرات لغوية عامة، وفي تحاليل نظرية متنوعة عندما يواجهون بعض الآيات المتصلة بنشأة الكلام، أو بخلق الإنسان، فضلا عن بيان معاني المفردات والتراكيب، والأساليب البيانية، ومن الاتجاهات السائدة فيها: الاتجاه السني الذي يتمثل في تفسير الطبري (الجامع لأصول الأحكام)، والاتجاه الاعتزالي المتمثل في تفسير الزمخشري (الكشاف)، وتعليقات ابن المنير السني على تفسير الرازي الكبير "الاعتزالي". وترد في علم الكلام تساؤلات عن قضايا عقدية محورها الظاهرة اللغوية، وبالذات في نشأتها، واتصاف الخالق والمخلوق بها، وكذلك المصطلحات اللغوية العقدية، ثم التراث الفلسفي حيث تبرز القضية اللغوية في تفكير الفلاسفة في المقولات، والقياس، والبرهان، والخطابة([47]).

ونعتقد أن تحديد المصادر المعتمدة في تقديم هذا العلم لا يمثل صعوبة كبيرة؛ إذ إن الاطلاع في محتويات أمهات الكتب الشرعية التي تطرقت إليها سيثمر دون عناء كبير عن اختيار المراجع المتضمنة لموضوعات متفرقة عن بعض أجزاء هذا العلم، أو فروعه. ونقترح أن ينفذ مشروع بحث في تحديد هذه المصادر قبل الشروع في تنفيذ المساق الخاص بهذا العلم، وتقترح الاستعانة بطلبة الدراسات العليا في إعدادها تحت الأستاذ الذي سيتولى تدريس هذا المساق.

تنفيذ محتوياته :

أما النصوص التي تبنى عليها القواعد أو التي يؤتى بها لتوضيح القواعد موجها، فيقترح أن يتم اختيارها في ضوء احتياجات التخصص، وتربط المسائل الشرعية بالخصائص الدلالية والنحوية والأسلوبية للنصوص، وتدرج هذه المسائل في تحليل التراكيب اللغوية في ضوء سياقات ورودها. وقد يقتصر في التوضيح والتحليل على الآيات والأحاديث التي تفيد القضايا الشرعية، أو تخصص بعض الأبواب النحوية والبلاغية والدلالية بالنصوص التي تندرج في باب معين، أو مسألة محددة من العلوم الشرعية، ويشار من خلال الشرح إلى المقاصد الشرعية للنصوص، وتعتمد الآيات والأحاديث الصحيحة في الاستشهاد دون إخضاعها للنمط العام لكلام العرب، بل تحافظ على خصائصها. وبذلك يحقق الدارس لمثل هذا العلم هدفين: أحدهما لغوي عام، وآخر شرعي خاص.

وتجدر الإشارة إلى ضرورة تطويع أي منهج لغوي يختار للتحليل ليتناسب مع الطبيعة العربية المتميزة لتراكيب النصوص الشرعية المدروسة. ولا ينتظر في المرحلة الأولية لهذا النوع من التخصص اقتراح بدائل للمناهج اللغوية الموروثة، أو التطوير عليها، إذ يمكن أن يكتفى في البدء بإعداد مواد تعليمية مساعدة في تأسيس هذا التخصص، وإعداد مقدمة نظرية له توجه إلى مجالات البحث المهمة في الدرس اللغوي المتعلق بالدراسات الشرعية.

ويحسن أن يتم التركيز على الجوانب التطبيقية من القضايا اللغوية التراثية والحديثة المهمة التي تفيد في فهم الخطاب الشرعي، وفي استنباط الأحكام منه، وعلى الأسس النظرية التي ترشد المخاطبين بهذا الخطاب إلى حسن التعامل معه. ومن تلك الجوانب الاستغناء في تدريس النحو المعين في العلوم الشرعية عن التمرينات النحوية والأبواب النظرية البحتة، وعن مسائل الصنعة النحوية التي يغلب ألا يتعلق بها غرض خطابي، وكذلك اعتماد جميع الأوجه اللغوية الواردة في النصوص الشرعية أساسا للتعامل اللغوي من غير لجوء إلى تصنيف أو تقويم لهذه الاستعمالات التي قد ترد بقواعد يختص بها القرآن أو الحديث. ويلزم البحث عن أساس نظري عام موحد للموضوعات التي تقدم في مفردات التخصص، وهو أساس يساعد في المضي قدما في الأبحاث العلمية اللغوية المفيدة في تخصص الدراسات الشرعية. ومن أمثلة ذلك أن ينتهي التحليل اللغوي إلى بيان المقصد من النص الشرعي، ولا يقف عند تحليل الخصائص اللفظية.

ثالثا: نماذج شرعية لغوية :

يعتقد الباحث إمكان تنفيذ المقترحات السابقة في تأسيس علم لغة خاص بالعلوم الشرعية، وفيما يلي نماذج من المسائل والقضايا الشرعية اللغوية التي تتضمنها العلوم الشرعية.

مسائل شرعية لغوية :

الدراسات الشرعية مجال تطبيقي للدرس اللغوي العربي، لأنها مستندة إلى دراسة الخطاب الشرعي واستنباط الأحكام من أدلته الإجمالية والتفصيلية. ويقترح أن يتجه البحث نحو مراجعة المسائل اللغوية في هذه العلوم، لإبراز الخيط المشترك بينها، وبيان أساليب العلماء في ربط المسائل اللغوية بالمسائل الشرعية، والمنهج المتبع في عرض هذه المسائل، وإمكان تطوير هذا المنهج، ومراجعة المسائل التي أسست عليها.

وبالنظر في كتب علوم القرآن نجد أن السيوطي([48]) يتعرض لمعرفة إعراب القرآن، ومعرفة سبب النزول، والوقف والابتداء، والإمالة، والفتح، والإدغام، والإظهار، وغيرها من التنوعات الصوتية، وكيفية تحمل القرآن، وكيفية قراءته، وتجويده، ومعاني الألفاظ والآيات القرآنية، والإيجاز، والإطناب، والخبر والإنشاء، وغيرها من المباحث اللغوية والبيانية. ويدرس الزركشي([49])، فضلا عن ذلك ما يراه ضروريا لمفسر القرآن الكريم من علاقات اللفظ بالمعنى، ومعرفة التصريف، والأحكام من جهة إفرادها وتراكيبها، وفصاحة اللفظ والتركيب، وأوجه التناسب بين الألفاظ والآيات والسور، والحقيقة والمجاز، والأساليب الخبرية والإنشائية، والأساليب القرآنية النحوية والصرفية والبلاغية بصفة عامة.

ودرس محمد أديب صالح([50]) تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، ورأى أن وظيفة المفسر أن يعمل بالبحث والاجتهاد على إزالة الغموض من النص إن كان المعنى المقصود غير متبادر، وأن من أنواع التفسير معرفة مرامي الألفاظ التي منها الواضح والمبهم، ومعرفة دلالات الألفاظ على الأحكام من حيث تعدد وجوهها ومناحيها، وإدراك معاني الألفاظ في حالات عمومها واشتراكها، وغير ذلك من الموضوعات. وأشار إلى أن الحقيقة الراسخة عند العلماء أن البعد عن التفسير ضمن حدود اللغة والشريعة عدول عما تعبدنا الله من الكتاب بفهم آياته واستنباط أحكامه. وتعرض لأنواع الدلالات.

وعني محمود توفيق محمد سعد([51]) بالخصائص التي امتاز بها بيان الكتاب والسنة والتي تقتضي أن يكون منهج استنباط المعاني منه وحركته مضبوطين بضوابط تضمن الإيفاء بحق هذه المعاني، وتحفظ الاستنباط من الزيغ إفراطا وتفريطا. ومنها ضابط الوعي بخصائص اللغة ودلالاتها الإفرادية والتركيبية، بحيث تستنبط الدلائل وفق قواعد اللسان العربي ومواضعاته الدلالية عند نزول النصوص وورودها، وليس عن طريق الإسقاط الدلالي التأويلي للغة عصر الوحي، وكذلك ضابط الوعي بالسياق المقامي لبيان الكتاب والسنة، وواقع البيان التطبيقي له، وضابط الوعي بالتكامل الدلالي لنصوص الوحي قرآنا وسنة، وضابط الوعي بمقاصد الوحي الكلية والجزئية.

لا تنحصر المسائل اللغوية في علوم الحديث في دراسة المتن، بل يمتد إلى الإسناد وعلاقته بالمتن وبقائله([52])، وذلك من حيث التمييز بين الحديث المرفوع، والموقوف، والمقطوع، والمباحث المتصلة بمعنى الحديث من حيث فقهه، ويشمل ذلك معرفة مختلف الحديث، وناسخه ومنسوخه، ومشكله، وغريبه، وأسباب وروده، والمباحث المتعلقة باختلاف رواياته، كمعرفة زيادات الثقات، والشاذ، والمضطرب، والمقلوب، والمدرج، والمصحف، والمعلل. ومثلها المسائل المتعلقة برواية الحديث بلفظه والترخيص في روايته بالمعنى بقيود، والعلاقة بين السند والمتن.

تتضح أهمية الدرس اللغوي في دراسة علوم الحديث، في معرفة المصطلحات وتطور مفاهيمها، وربط الحديث بوسائل نقله في نقد الحديث الذي يعني: الحكم على الرواة تجريحا أو تعديلا بألفاظ خاصة ذات دلائل معلومة عند أهله، والنظر في متون الأحاديث التي صح سندها لتصحيحها، أو تضعيفها، ولرفع الإشكال عما بدا مشكلا من صحيحها، ودفع التعارض بينها، بتطبيق مقاييس دقيقة. وتبرز هذه الأهمية أيضا في مراحل نقد الحديث التي منها الاحتياط في الرواية تحملا وأداء، ونقد معنى الحديث، ودفع التعارض بين المتون ولرفع الإشكال عنها، ومن أهداف هذه المراحل التأكد من سلامة معنى الحديث بنقد معنى المتن، والكلام في الرجال من جانب حفظهم، وصيانة مبنى المتن بالجرح في الضبط، وبيان تخالف دلالات الأحاديث وأسباب ورود الحديث. وهي مباحث مهمة في نقد المتون، والمقارنة بين النصوص، قام بها رجال مختصون في الحديث، والأصول، والفقه، والعقيدة، واللغة، فاستطاعوا أن يوضحوا معناها بدقة. ومن أكثر مراحل نقد الحديث التصاقا بالدرس اللغوي نقد لغة الحديث، أي تفسير غريبه، وتصويب تصحيفاته، وبيان فقه الحديث، أي فهمه، واستخراج معناه. وقد قال الحاكم النيسابوري([53]) بأن معرفة فقه الحديث ثمرة علوم الحديث، وبه قوام الشريعة، وأن علوم الحديث كلها تتعاضد لتثمر بيان المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم للعمل به.

ويتركز التشابه بين علم أصول الفقه وعلم النحو بصورة خاصة في مبحث القياس، فضلا عن التشابه في مصطلحات تقسيم الحكمين الشرعي والنحوي، وأدلة الفقه والنحو الرئيسة. وتجدر الإشارة إلى أن صلة النحو بالفقه وأصوله صلة ذات شقين([54]): شق تظهر فيه مقولات النحاة في أصول النحو محمولة على أصول الفقه، ولعل ابن جني أول من أشار إلى الصلة القوية بين أصول الفقه وأصول الكلام وبين أصول النحو في كتابه " الخصائص"([55])، وقدم السيوطي نموذجا واضحا له في كتاب "الاقتراح"([56]). وشق يظهر فيه أثر النحو الكبير في مباحث الفقه، وجاء كتاب الإسنوي تطبيقا عمليا لهذا الشق الثاني.

قضايا شرعية مبنية على أسس لغوية :

درس جمال الدين عطية([57]) القواعد اللغوية وأشار إلى مكانها البارز في كتب أصول الفقه بسبب أهميتها في تفسير نصوص الكتاب والسنة واستخراج الأحكام منها، وإلى أن ابن السبكي قد أفرد لها قسما خاصا في كتابه " القواعد والأشباه والنظائر"، فبحث في حروف المعاني، والمركبات، وما ينبني على العربية من الفروع الفقهية، وأثر هذه القواعد في تفسير النصوص المختلفة. ويعتبر جمال الدين الإسنوي أول من خصص كتابا مستقلا عنوانه:" الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية" لدراسة القواعد النحوية التي بني عليها عدد من المسائل الفقهية. واهتم القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" بإبراز الأسس اللغوية للقضايا الفقهية التي عرضها. وتوجد جهود أخرى قديمة وحديثة في هذا الاتجاه. ونشير إلى جهود عبد القادر عبد الرحمن السعدي في مؤلفه الذي عنوانه: "أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية".

ونعرض فيما يلي لبعض القضايا الشرعية اللغوية:

حصر ابن رشد القرطبي([58])، الأسباب المؤدية إلى الاختلاف بين الفقهاء في تحديد معاني الألفاظ التي تبنى عليها الأحكام في ستة : تردد الألفاظ بين العموم والخصوص ودلالة الخطاب، والاشتراك الحاصل في الألفاظ المفردة والمركبة، والاختلاف في الإعراب لأهميته في التمييز بين المعاني التركيبية، وتردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو على المجاز ، من حذف، أو زيادة، أو تقديم، أو تأخير ، أو تردده على الحقيقة أو الاستعارة، وإطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة أخرى، والتعارض بين الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي تؤخذ منها الأحكام، ومثله التعارض الحاصل في الأفعال، أو الإقرارات، أو القياسات، أو بينها جميعا. ويتضح من محاولة رجع الألفاظ إلى هذه الأسباب الستة أن معظم أسباب الاختلاف في أحكام الفروع الفقهية قائمة على أساس لغوي مما يدعو للرجوع إلى اللغة رجوعا كليا في توجيه قصد الإنسان لإصدار الحكم الشرعي على تصرفه. وترجع أسباب الاختلاف الباقية إلى أمور أخرى من غير اللغة، كالقياس، أو الإجماع، أو العرف، أو الاستحسان. وقد تأتي بعض الفروع الفقهية مخالفة لما تقتضيه قواعد اللغة العربية، أو مخالفة للأرجح من قواعدها، مع موافقتها للمرجوح([59]).

وقد ذكر ابن السيد البطليوسي ثمانية أوجه للخلاف بين المسلمين بعضها متعلق ببعض، وهي: اشتراك الألفاظ والمعاني، والحقيقة والمجاز، والإفراد والتركيب، والخصوص والعموم، والرواية والنقل، والاجتهاد فيما لا نص فيه، والناسخ والمنسوخ، والإباحة والتوسع([60]). ومن الواضح أن أربعة أوجه منها لها صلة مباشرة بالمسائل اللغوية، وفيها أغلب أوجه الخلاف.

ومما أورده الإسنوي([61]) من القضايا الفقهية المؤسسة على القواعد اللغوية أن مقتضى اسم الفاعل صدور الفعل منه، ومقتضى اسم المفعول صدوره عليه. وإذا تقرر هذا فيتفرع عليه إذا حلف لا يأكل مستلذا، فإنه يحنث بما يستلذه هو أو غيره، بخلاف ما إذا قال (شيئا لذيذا) فإن العبرة فيه بالحالف فقط. ومسألة أخرى أن (إذا) ظرف للمستقبل من الزمان، وفيه معنى الشرط غالبا، وقد يقع للماضي..، وقد ينتفي فيها معنى الشرط ... وإذا دلت على الشرط فلا تدل على التكرار.. . إذا علمت ذلك فينبني على المسألة الأيمان والتعاليق والنذور. فإذا قال لزوجته مثلا: إذا قمت فأنت طالق، فقامت، ثم قامت أيضا في العدة ثانيا وثالثا، فإنه لا يقع بهما شيء ..كما لا تدل (إذا) على التكرار لا تدل أيضا على العموم، .. وقيل تدل عليه. ومن فروع المسألة أن تكون له عبيد ونساء، فيقول: إذا طلقت امرأة فعبد من عبيدي حرّ، فطلق أربعا بالتوالي، أو المعية، فلا يعتق إلا عبد واحد، وتنحل اليمين.

هذا، ويقترح أن يتطرق البحث في دراسة القضايا الشرعية المبنية على الأسس اللغوية إلى طبيعة هذه القضايا، والدافع إلى الاحتجاج باللغة فيها مع توفر الدليل الشرعي، أو عدم توفره، ودرجة هذا الاحتجاج، وأساليب اعتماد الأسس اللغوية أو استغلالها، ومنهج عرض هذه القضايا، وإمكان الربط بينها، وتجديد هذا المنهج، والعلاقة بين المسائل والقضايا اللغوية الشرعية.

• • •

خاتمة :

ينبغي أن نؤكد أن اقتراح تخصيص المنهجية اللغوية للعلوم الشرعية بالدراسة لا يعني محاولة لإقحام المسائل اللغوية في المسائل الشرعية، أو الإكثار من القضايا اللغوية في غير موضعها مما حذّر منه الغزالي([62])، وإنما القصد هو تأكيد المزاوجة بين المعرفة اللغوية والمعرفة الشرعية، وتوجيه الدرس اللغوي العربي إلى مواصلة السعي في تحقيق الهدف الذي نشأ من أجله، ألا وهو خدمة القرآن الكريم، وخدمة بيانه، والإسهام في فهم النصوص الشرعية، وفي استثمار المبادئ العقدية والأحكام الشرعية العملية منها ومن ثمَّ تطوير المنهجية اللغوية للعلوم الشرعية.

إن المحتويات العلمية التعليمية لهذا الدرس متوفرة بكثرة في التراث الإسلامي الشرعي، ولها تشعبات متنوعة، وستفيد الأبحاث التي تجرى في هذا المجال اللغوي التطبيقي الشرعي في إثراء التراث الإنساني بالآراء النيرة التي قدمها المسلمون في دراسة الظاهرة الكلامية، وعلاقتها بالعقيدة، والفكر، والثقافة، والكيان الإنساني بوجه عام. ولا ريب في أن الإفادة من الدراسات اللغوية التركيبية، والأسلوبية الحديثة في الجوانب النفسية، والاجتماعية، والأخلاقية، والإعلامية، والتشريعية، طبقا لطبيعة النصوص الشرعية تساعد في فهم الخطاب الشرعي الذي وضعت هذه العلوم لدراسته.

ويقترح الكاتب أن يقرر مساق خاص لهذا العلم في البدء في المرحلة الجامعية العليا للدراسات الإسلامية والشرعية، والدراسات اللغوية، قبل أن يقرر في المرحلة الجامعية الأولى، ويقترح أن تحدد ساعاته المعتمدة بثلاث ساعات إذا تقرر تدريسه بشكل عام، أما إذا قصد تدريس فروعه الداخلية فتحدد لكل فرع ساعة واحدة معتمدة. ويقترح أن يبدأ تقديمه لطلبة الدراسات العليا بشكل ندوات علمية يمكن أن يشترك فيها المتخصصون في العلوم اللغوية، والشرعية، أو أن يتولى تدريسه متخصصون في الدراسات اللغوية لهم خلفية كافية في الدراسات الإسلامية، وذلك من أجل تحقيق نوع من الانسجام بين المفردات التي تقدم للدارسين، والربط بين القضايا اللغوية، وبين المسائل الشرعية على أمل أن يفضي تطور الأبحاث المستقبلية إلى تحقيق هدف هذا المساق. أما عن المقررات والمراجع فتوفر في البدء بانتقاء الموضوعات المتصلة بمفردات هذا المساق من أمهات الكتب التي تتناول فروع العلوم الشرعية التي أشرنا إلى بعض موضوعاتها، وتؤخذ النماذج التطبيقية الأولية منها ريثما يتم تأليف كتاب مخصص له. ومن الممكن استغلال أبحاث طلبة الدراسات العليا في تحقيق هذا الهدف النبيل، وفق أهداف مرسومة ومفردات محددة، ومناهج تعليمية تتفق مع أهداف المؤسسة الجامعية التي تحتضن هذا المساق.

----------------
الحواشي والتعليقات
(1) انظر: سعدي أبو حبيب، القاموس الفقهي: لغة واصطلاحا، دار الفكر، دمشق، 1402هـ (الشريعة).
(2) توجد تقسيمات متعددة للعلوم في التراث الإسلامي، كما يوجد تداخل في تصنيف العلوم وفقا لتباين المعايير المعتمدة في هذا التصنيف. انظر نوعا من مناقشة تصنيف للعلوم الإسلامية في: محمد عمارة، إسلامية المعرفة، دار الشرق الأوسط، القاهرة، 1991م. ص 14- 17، وانظر في تحديد العلوم الشرعية: أبو حامد محمد الغزالي، إحياء علوم الدين، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، د. ت.، ج3، ص18 .
(3) تجدر الإشارة إلى أن أي تطوير أو تجديد في العلوم الشرعية، إن اقتضته الضرورة، ينبغي أن يتم في حدود مقاصد الشرع، وألا يخالف الغايات العليا للرسالة الإسلامية كما حددها سلف هذه الأمة. ولا ينبغي من جانب آخر أن يصرف أي مقترح في التطوير إلى الاحتكام إلى العقل وإهمال النقل؛ ذلك لأن الفيصل في قبول التطوير أو التجديد في منهجية الدراسة والفهم صدورُه عن العقيدة الصحيحة واتفاقه مع المقاصد الشرعية.
(4) انظر : أبو حامد محمد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ، ج1، ص3-5 .
(5) من المحاولات العلمية في تطوير الدراسات الشرعية وتحديثها صنيع الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه المعنون بـ (الزكاة)، وهناك محاولات أخرى له ولغيره، وهي كثيرة.
(6) انظر: عبد الحميد إبراهيم المجالي، مدى الحاجة إلى تطوير محتوى مادة الفقه، في: فتحي حسن ملكاوي، ومحمد عبد الكريم أبو سل، بحوث مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان، 1416هـ، ص 49 – 65 .
(7) انظر: أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج1، ص4-10 ، ومحتويات الجزأين.
(8) انظر: إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الفكر العربي، بيروت، د.ت.، ج2، 5- 40، و ج2، ص5-40.
(9) انظر مثلا: محمود توفيق محمد سعد، سبل الاستنباط من الكتاب والسنة: دراسة بيانية ناقدة، مطبعة الأمانة، مصر، 1413هـ. ومحمد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ .
(10) نشير في هذا الصدد إلى أن تجديد منهجية الدراسة في أي علم من العلوم لا يقتضي بالضرورة أن تكون المناهج السابقة ناقصة، أو غير وافية بالغرض؛ إذ إن المنهجية الجديدة قد تفضي إلى إضافة محمودة إلى نتائج البحث في المجال العلمي المعنيّ، وقد تفتح مجال اهتمام آخر تتلاقح فيه الخبرات، ويعالج فيه بعض القضايا التخصصية المستجدة في هذا المجال.
(11) أبو السعود محمد العمادي، تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص4 .
(12) جمال الدين الإسنوي، الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية، تحقيق محمد حسن عواد، دار عمار، الأردن، 1405هـ، ص43 (مقدمة المحقق).
(13) راجع في الاحتجاج لإثبات القياس والرد على هذه الشبه: أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج2، ص256-278.
وانظر في نقد الاعتماد على القياس في الاستدلال والاحتجاج في الفقه وفي التعامل مع نصوص الكتاب والسنة: علي بن أحمد بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1400هـ، مج2، ج8، ص2-76 .
(14) محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر، ط2، 1370هـ ، ج1، ص2-3 .
(15) راجع: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، مج2، ج7، ص 57- 58 و 62- 63 .
وانظر: أنور خالد الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي: نظرية المعرفة ومناهج البحث، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتب عمان، الأردن، 1417هـ، ص 3-6 (تقديم طه جابر العلواني للكتاب.)
(16) انظر: محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، دار التراث، القاهرة، ط2، 1979م، ص51- 52، فقرة 173 . والشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص65- 70 .
(17) محمود توفيق محمد سعد، سبل الاستنباط من الكتاب والسنة:دراسة بيانية ناقدة، مطبعة الأمانة، مصر، 1413هـ، ص38-41 .
(18) راجع: ابن مضاء القرطبي، كتاب الرد على النحاة، ط3، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1988م، ص 71- 141 .
حاول شوقي ضيف تقديم نموذج متكامل لتصوره لتيسير النحو العربي مستفيدا من آراء ابن مضاء، وذلك في كتابه (تجديد النحو)، وقد قدم تحليلا أسس نظريا لهذا التجديد في كتابه (تيسير النحو التعليمي قديما وحديثا مع نهج تجديده).
(19) ابن القيم محمد بن أبي بكر الجوزي، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد بن محيي الدين عبد الحميد، ، ج3، 107- 111 .
(20) علي بن أحمد بن حزم، المحلى بالآثار، تحقيق عبد الغفار البندراوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ج3، ص187- 188
(21) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ، مجموعة الرسائل والمسائل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م، ص294 .
(22) عبد الرحمن الحريري، الفقه على المذاهب الأربعة، دار الفكر، بيروت، ج2، ص474 .
(23) أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج1، ص10 .
(24) من النماذج الشائعة في هذا، صنيع الرازي في تفسيره، حيث أطلق لنفسه العنان في إقحام المسائل العقلية في تفسير القرآن الكريم.
(25) ولعل الإمام الشافعي يعد خير دليل على النبوغ في المجالين الشرعي واللغوي. اقرأ نبذة عن الإمام الشافعي في تقديم المحقق للرسالة: محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار التراث، القاهرة، 1399هـ ص 5-8
(26) راجع: جمال الدين بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1990م، مادة (صلا) ومادة (زكا).
(27) أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج2، ص353 .
(28) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة ج4، ص114-118 وج4، ص 62 .
(29) انظر: عبد القادر عبد الرحمن السعدي، أثر الدلالة النحوية واللغوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بغداد، 1406هـ، ص 31- 74 .
(30) وردت تحديدات متنوعة لعلم اللغة التطبيقي، ولكنه علم يمثل تكاملا بين مختلف المعارف الإنسانية في دراسة القضايا اللغوية التطبيقية مما يتعلق بفهم الظاهرة اللغوية ، واستخدام اللغة، وتوظيفها في العلاقات الاجتماعية، ومجالات الخبرات الإنسانية، وتقديم الحلول العملية لمشكلات استخدام اللغة في مجالات الاتصال الإنساني المعرفي، أو المهني، أو الاجتماعي، أو غيرها.
(31) انظر: حسن محمود الشافعي، المدخل إلى دراسة علم الكلام، ط2، مكتبة وهبة، القاهرة، 1411هـ، ص 72- 98 .
(32) تشمل الدراسات اللغوية الحديثة توجهات متعددة، ويمكن الاستفادة منها في بناء علم اللغة الخاص بالعلوم الشرعية، وبصفة خاصة ما يتعلق من موضوعاته بربط النصوص بالخصائص المقامية لها، وربط التراكيب والنصوص بالجوانب المعرفية والثقافية والنفسية، وتحديد مفاهيم المصطلحات.
(33) قدم أبو حامد الغزالي مثالا للغلط في تمييز المشترك من الألفاظ، محللا لمفاهيم لفظة "مختار" في التعليل لحكم المكره على القتل لدى كل من الشافعية والحنفية. (أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج1، ص 33) .
(34) زكريا الأنصاري، الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، تحقيق مازن المبارك، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1411هـ، ص65 .
(35) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة ابن تيمية، ط2، د. ت.، مج13 ، ص 355 – 358 .
(36) عبد الله بن السيد البطليوسي، الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الخلاف، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الفكر، بيروت، ط2، 1403هـ، ص 36- 37.
(37) انظر: محمد خطابي، لسانيات النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1991م، ص11-87 (وقد أبرز المؤلف إسهام المسلمين في دراسة النصوص وبيان أوجه الانسجام فيها، في التفسير، وعلوم القرآن، والبلاغة العربية، ص95- 204)
(38) انظر: بدر الدين محمد الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، عيسى البابي الحلبي، 1390هـ، (قائمة المحتويات). وعبد الرحمن السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية، بيروت ، 1973م، (قائمة المحتويات).
(39) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج1، ص35 – 36 .
(40) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص65 –66 .
(41) الواقعة: 79 .
(42) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج1، ص 41- 42 .
(43) يمكن أن يدرس إمكان وجود نحو قرآني خاص، وما يدعو إليه بعض الكتاب من ضرورة اتباع الأساليب التركيبية والبيانية للقرآن الكريم، ونظرتهم إلى القواعد اللغوية القرآنية بأنها ملزمة، وينبغي هجر غيرها. وتجدر الإشارة إلى أن هذه النظرة لا تراعي حقيقة أن الأسلوب القرآني أسلوب نموذجي رفيع، وأنه معجز بنظمه، ومضمونه، وأن تقليد الشيء الخارج عن الطوق البشري لا طائل من دونه، كما أن الأسلوب القرآني لا يمثل كل الأساليب العربية التي منها الرفيع، والوضيع.
(44) من ذلك الاستحلاف، وأساليب إيقاع الطلاق، والطلب والقبول في النكاح، وصيغ العقود، والاعتراف بالجريمة، وغيرها.
(45) فمثلا: أوقات وساعات منع أنواع من الكلام في بعض الظروف أو الشعائر الدينية، ومواقف السكوت، والحديث مع الوالدين، وإساءة استخدام الكلام.
(46) انظر مثلا: أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ج1، ص 337 (طريق فهم المراد).
(47) عبد السلام المسدي، التفكير اللساني في الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، تونس، ط2، 1986م، ص 35- 36 .
(48) عبد الرحمن السيوطي، الإتقان في علوم القرآن.
(49) بدر الدين محمد الزركشي، البرهان في علوم القرآن.
(50) انظر: محمد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، المكتب الإسلامي، دمشق، ط3، 1404هـ 1/ 60-61 و 69 و 109 و 139 .
(51) محمود توفيق محمد سعد، سبل الاستنباط من الكتاب والسنة: دراسة بيانية ناقدة، ص 18-25 .
(52) انظر: محمد طاهر الجوابي، جهود المحدثين في نقد متن الحديث النبوي الشريف، مؤسسات ع. الكريم بن عبد الله، تونس، 1991م، ص84- 128 و 284- 291، وغيرها.
(53) الحاكم محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري، كتاب معرفة علوم الحديث، مكتبة المتنبي، القاهرة، د. ت.، ص63
(54) الإسنوي، الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية، ص146 : مقدمة المحقق.
(55) انظر: أبو الفتح عثمان بن جني، الخصائص، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1952م 1/163 حيث قال: "وكذلك كتب محمد بن الحسن - رحمه الله - إنما ينتزع أصحابنا منها العلل، لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق." وانظر: ج1، ص115- 200 و ج1، ص49- 96 ، 115- 164 في: نوع علل العربية، وجواز القياس، وتعارض السماع والقياس، والاستحسان، وتخصيص العلل.
(56) عبد الرحمن السيوطي، كتاب الاقتراح في علم أصول النحو. (قسم السيوطي هذا الكتاب إلى أجزاء، هي: المقدمات، ثم الكتاب الأول في السماع، والثاني في الإجماع، والثالث في القياس والرابع في الاستصحاب، والخامس في الاستدلال، والسادس في التعارض والترجيح.)
(57) جمال الدين عطية، التنظير الفقهي، ص109- 111
(58) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص15-6 .
(59) جمال الدين عطية، التنظير الفقهي، 110- 111 .
(60) ابن السيد البطليوسي، الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الخلاف، ص34 .
(61) الإسنوي، الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية، ص 243 و 266- 267 .
(62) أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول ج1، ص 10 .
 
تَدَرُّجُ المَعَانِي ـــ صلاح الدين الزعبلاوي

تَدَرُّجُ المَعَانِي ـــ صلاح الدين الزعبلاوي

تَدَرّج المعاني ـــ صلاح الدين الزعبلاوي

من النقاد من يتعلق بظاهر النص المدرج في المعاجم، على اختصار وجمود، وعلى قصد وإجمال، وفي غير بسط أو إحاطة أو استيعاب. والكشف عن دلالات الكلم مرهون بتبين أصول اشتقاقها أو اجتلاء مدارجها في المجاز والنقل، وتعرّف مساريها في أداء أغراضها والتعبير عن قصودها، واستشفاف قرائنها في متباين مواقعها في الاستعمال والتركيب.‏

فمن الخطأ أن يظن ظان أن معاجم اللغة وما إليها من أسفار النحو وحواشيها، وكتب الصرف وشروحها، هي عدة اللغوي وحدها، وأن نقولها معوّل تحقيقه وغاية بحثه وحكمه دون سواها. والصحيح أن مراجع اللغوي، إلى ذلك، كتب التفسير والأدب ودواوين الشعر وصحف الرسائل والرقاع، ومصنفات القوم في التاريخ والأخبار والأسفار، بل مؤلفاتهم في مختلف العلوم والصناعات ووضائعهم في الحكم والأمثال.‏

وقد دأب الأئمة الأوائل في كثير مما دونوه وألّفوه على البحث عن أصل اللفظ، لما تواضعوا عليه من أنه لابد للكلم في كل مادة أن يشتق بعضها من بعض فترد إلى جنس من المعنى يعد أصلاً لما يشتق منها جميعاً. بل تابع بعضهم البحث في تدرج معناه وفي تقلبه وتنقله وتجدد دلالاته في مراحل حياته، ولكنهم لم يستوفوه فيتخذوه منهجاً وسنناً.‏

وقد عني علم اللغة الحديث بهذا منذ القرن الماضي وأسمى العلماء أصول البحث فيه: علم معاني الأسماء Science de Sémantique واللفظ مستعار من اليونانية Sêmantikos أي المعنى ولعل أول رسالة ألفّت في ذلك رسالة العالم اللغوي الفرنسي ( ميكال بريال: Michel Bréal عام 1897، وعنوانها Essai de Sémantique و (بريال) هذا من العلماء المحققين في علم اللغة التاريخي، وقد توفي 1915م(1).‏

يقول العالم الإنكليزي (سكيت ولتر وليم) المتوفى عام 1914: (يُنصح المؤلف بتحقق طبيعة استعمال اللفظ في أول نشأته. ويُعين في هذا التحقق ملاحظة النصوص المنقولة التي جرى اللفظ في أثنائها منذ نشأته الأولى)(2). ويقول الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح في مقاله الطريف (مدخل إلى علم اللسان الحديث)(3): (اللسان لا يحدد مضمونه المادي والصوري إلا على أساس المواقع التي تقع فيها وتتعاقب عليها عناصره، إما في درج الكلام فيما يخص الوحدات الدالة، وإما في مدارج الجهاز الصوتي فيما يخص العناصر غير الدالة(4)، وذلك مثل مدلولات الألفاظ فإنها لا تحدد إلا بسياقاتها، لا بما تذكره المعاجم من معانيها، لأن المعاجم تكتفي غالباً بذكر بعض المعاني بالاعتماد على بعض السياقات. وإنما يكون المعجم هو أساس في تحديدها إذا لم يرد اللفظ في أي نص إلا في الذي يذكره هو وحده) ويردف (فبتلك المواقع التي يشاهدها اللغوي في الكلام المسموع يستطيع أن يعرف، بالموضوعية المطلقة، أنواع الأداء وتشعبات المعاني الجزئية. ثم بالنظر في كيفية تقابلها بعضها ببعض وتعاقبها على الموضع الواحد، ودخول هذه على تلك، يستطيع أيضاً أن يكشف عن وضعها ونظامها..). فعلى الناقد إذاً ألا يتلمس معاني الكلم في نصوص معاجمنا وما يتصل بها وحسب، بل عليه أن يبتغيها في معالمها الأخرى، ويتطلبها من مآتيها المتعددة. ويؤديه هذا إلى البحث عن أوجه تصرف الكلم في متنوع النصوص المحكية، وصور دلالاتها في سائر الموضوعات المطروحة، كما يقتاده إلى التماس وجوه التقلب التي تلحق بها وصور تجدد أغراضها ومراميها، وانحرافها عن أصولها وتشعبها عن جذورها وذلك بتبدل الموضوعات والبيئات وتغير الأفكار والأحكام واختلاف العصور والأزمان. والأصل في اللفظ أن تتباين شعاب معانيه فيكون له من تدرجه وتقلب دلالاته مجال بسيط ومذهب فسيح.‏

* * *‏

هذا والسبيل إلى تدرج المعاني هو المجاز والنقل. والذي نريده ها هنا بالمجاز معناه اللغوي الشامل الذي أخذ به المبرّد في كامله (2/301) وابن جنيّ في خصائصه (2/446) وابن رشيق في عمدته. وهو طريق القول ومأخذه على حد تعبير ابن رشيق، أي كل ما جزت به الأصل لمناسبة في التركيب والاستعمال فاحتاج في إعادته إليه، إلى تأويل بإظهار مواضع الحذف أو الزيادة أو التقديم أو التأخير أو غير ذلك. فهو لا يقتصر على استعارة أو مجاز كما فعل أصحاب البيان. فقد ذهب هؤلاء إلى أن المجاز هو انتقال اللفظ من المعنى الذي وضع له إلى المعنى الذي انتهى إليه بمناسبة أو علاقة تبنى على مجرد التشبيه كالاستعارة أو غير التشبيه كسببية أو مجاورة كما هو المجاز المرسل أو تشبيه تمثيل كما هو المجاز المركب. ولم يتعدوا به هذا الحد إلى ما يتناوله علم البيان وهو يشمل التشبيه والمجاز والكناية جميعاً، أو ينطوي عليه البديع من وجوه تحسين الكلام.‏

قال المبرّد: (من الآيات التي ربما يغلط في مجازها النحويون قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهد بلده في الشهر فليصمه. والتقدير فمن كان شاهداً في شهر رمضان فليصمه. ونصب الشهر للظرف لا نصب المفعول). كما حكا الثعالبي في فقه اللغة(546). وأوضح المبرد كلامه فقال (أي أن نصب الشهر نصب الظروف لا نصب المفعول به).‏

وقال ابن جني: (أبواب الحذف والزيادات والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف كلها من المجاز).‏

ومهما يكن من أمر فإنه إذا أريد باللفظ ما وضع له أصلاً، في التقدير، فإنه الحقيقة، وإذا جازوا به موضعه الأول هذا في اللغة فأوقعوه موقعاً آخر بسبب يصل ما انتقل منه بما انتقل إليه، فإنه المجاز. فلابد أن يكون ثمة سبب يصل المجاز بالحقيقة. وقد جاء في المزهر (1/211): (المجاز كل كلام تجوز به عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنة بينهما في الذات أو المعنى). وقال الشريف الجرجاني في تعريفاته: (المجاز ما تعدى محله الموضوع له إلى غيره بمناسبة بينهما، أما من حيث الصورة أو من حيث المعنى اللازم المشهور، أو من حيث القرب أو المجاورة). ومن ثم كان لابد لكل مجاز من حقيقة. قال صاحب الكليات(50): (الأصل أن يكون لكل مجاز حقيقة).‏

هذا وليس يبعد أن يعتد المجاز بكثرة استعماله أصلاً فيتفرع عليه مجاز آخر، لكنه لا يخرج عن كونه مجازاً. ولابد هنا من وضوح العلاقة بينه وبين الأصل الأول على كل حال. قال الزمخشري في الأساس: (ومن مجاز المجاز تداعت إبل بني فلان هُزلت أو هلكت)، وأصله الأول (تداعى القوم لمهم) إذا دعا بعضهم بعضاً فاجتمعوا لأمر مهم. وقد بُني على هذا قولهم (تداعت الحيطان للخراب) كأن بعضها دعا بعضاً للسقوط والانهيار. ثم تفرع على هذا قولهم (تداعت عليه الحيطان) إذا تهدمت و (تداعى البنيان) إذا تصدع، وتداعت الإبل إذا هزلت أو هلكت. فليس ينكر، على هذا، أن يتفرع مجاز على مجاز، بتعاقب الحقب والأجيال، وأن يختلف القول بالأصلية والفرعية بتباين وجهات النظر والاعتبار.‏

* * *‏

هذا ويكون تدرج المعنى بالنقل، وذلك بأن يغلب على لفظ معناه المجازي حتى يشتهر به ويُعرف بلا قرينة. وهو ما أسماه أصحاب البيان المجاز الراجح، فيدعى كسب اللفظ معناه الجديد هذا نقلاً. ومن ذلك غلبة الألفاظ الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، على ما قُصد بها شرعاً، ومنه شهرة ألفاظ بمعانيها المستحدثة في موضوعات وعلوم وصناعات شتى، كمصطلحات النحو والصرف والوضع والمعاني والبديع والبيان والعروض والحكمة والعقائد والأصول، ومصطلح الحديث والتفسير، وسواها من مواضعات الطبيعة والفلك والعلوم الرياضية.. قال الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي في كتابه (توجيه النظر إلى أصول الأثر): (الاصطلاح اتفاق القوم على استعمال لفظ في معنى غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة. وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم. وقد اصطلح الفقهاء على وضعه لما يثاب على فعله ويعاقب على تركه..)، ثم قال: (واللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضعه له المصطلحون يكون حقيقة بالنسبة إليهم ومجازاً بالنسبة إلى غيرهم. قال في المفتاح: الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق. والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى لغوية وشرعية وعرفية... فقلت لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة، وقلت شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع، ومتى لم يتعين قلت عرفية. وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه، غير ممتنع في نفس الأمر).‏

ويدخل في النقل ما وضع لمعنى خاص فاستعمل عاماً. وقد مثل صاحب المزهر لهذا بـ (النجعة) فأصلها طلب الغيث، ثم صار كل طلب انتجاعاً. و(المنيحة) وأصلها الناقة أو الشاة تعطى الرجل ليشرب لبنها ثم أصبحت كل عطية منيحة. ونقل المزهر (1/253) قول ابن فارس في فقه اللغة )كان الأصمعي يقول أصل الورد إتيان الماء، ثم صار إتيان كل شيء ورداً). ونظيره (الصَدر) فإن أصله الانصراف عن الماء ثم أصبح كل انصراف صدراً. قال صاحب المفردات (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً –الآية- والصدر في الحقيقة صدر عن الماء). وقال الجوهري في الصحاح (وطريق صادر أي صدر بأهله عن الماء) ثم قال (والصَدر بالتحريك الاسم من قولك صادرت عن الماء وعن البلاد)، وأردف (وفي المثل تركته على مثل ليلة الصدر، يعني حين يصدر الناس من حجهم). فأورده خاصاً ثم عممه.‏

و (المجلة) وضعت لمعنى خاص فقيل إنها الصحيفة التي تكون فيها الحِكم، كما قال الجرجاني في تعريفاته، لكنها استعملت لكل كتاب. ففي الصحاح (والمجلة الصحيفة فيها الحكمة. قال أبو عبيد: كل كتاب عند العرب مجلة).‏

ومما اجتهد فيه أحمد فارس الشدياق في كتابه سر الليال في القلب والإبدال (551) قوله: (ألا ترى لفظة الدار مثلاً في الأصل من دار يدور، فحقيقة معناها الأصلي ربع مستدير، ثم أطلق على كلّ شكل من البناء)، وقوله (بل الأمر نفسه من هذا القبيل لأنه في الأصل ما يؤمر به ثم عمم، وكذلك الشيء فإنه في الأصل مصدر شاء).‏

ومن النقل أن يوضع اللفظ لمعنى عام ثم يخصص. وقد عرّفوا التخصيص فقالوا أنه قصر العام على بعض ما يتناوله، كلفظ (الدابة). قال الجواهري في الصحاح (دبّ على الأرض يدبّ دبيباً، وكل ماشٍ على الأرض دابة...) فجاء بمعنى الدابة عاماً، ثم قال (والدابة التي تُركت) فخصص. وقال صاحب المصباح: (وكل حيوان في الأرض دابة... وهو قوله تعالى: والله خلق كلّ دابة من ماء. قالوا أي خلق الله كل حيوان مميزاً كان أو غير مميز) ثم قال: (وأما تخصيص الفرس والبغل، عند الإطلاق، فعرف طارئ).‏

ومما نقل من العام إلى الخاص الصفات الغالبة، وهي التي أفردت عن موصوفها فخصّت بدلالة وغلبت عليها الاسمية. فـ (نكباء) في قولك (ريح نكباء) صفة لها عموم الدلالة لأنها جارية على الفعل فهي تصف (ريحاً) بأنها تتنكب. وهي لا تختص في الأصل بالريح. أما (النكباء) في قول المرزوقي في شرح الحماسة (806): (والنكباء ريح تنكبت عن الرياح الأربع) فإنها صفة غالبة أُفردت عن موصوفها وخُصت بنوع من الرياح، فأنزلت لذلك منزلة الأسماء وجمعت جمعها على (نكباوات). قال المرزوقي (وإذا كثرت النكباوات واشتد هبوبها شمل القحط).‏

و(الخضراء) في الأصل صفة للبقلة، لكنها استغنت عن موصوفها فخصصت دلالتها فقيل (ليس في الخضراوات صدقة) أي في البقول، فأنزلت منزلة أسماء الجنس. فالخضراء الصفة الغالبة تدل على البقلة دون النظر إلى اللون، وتجمع على الخضراوات لا على الخُضْر.‏

و(الدكّاء) صفة (للأرض) إذا انبسطت، ولكنها قُطعت عن موصوفها وخُصصت فعُدَّت اسماً للرابية، وجمعت جمع الأسماء على (دكاوات).‏

و(الدنيا) في الأصل صفة (للحياة) أو (للدار). ثم أفردت عن موصوفها فقيل (الدنيا)، كما قيل (الأولى)، وهما بمقابل (الآخرة). قال تعالى (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة –النساء/ 133)، وقال (وللآخرة خير لك من الأولى- الضحى/4) وقال (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا.. يوسف /109). فالدنيا اشتقاقها من (الأدنى) وهو الأقرب. قال الشيخ أبو حاتم الرازي في كتابه الطريف (الزينة في الكلمات الإسلامية العربية 2/143): (أي أن هذه الحياة الآخرة هي الحياة الأخرى، وكل شيء له طرفان فالأدنى منهما إليك الدنيا والأبعد هو الآخرة). وقال صاحب المفردات (ويعبر بالدار الآخرة عن النشأة الثانية كما يعبر بالدار الدنيا عن نشأة الأولى)، وقال (وقد توصف الدار بالآخرة تارة، ويضاف إليها تارة أخرى..). وقال الفراء في هذه الإضافة (هذا كثير في كلامهم أن يضيفوا الشيء إلى نعته إذا اختلف فيه اللفظان كقوله: ولدار الآخرة، وكقوله حق اليقين).‏

وذكر (الرائد) فيما كان عاماً فخصص. قال ابن الأثير في النهاية (وفي حديث علي –رضي الله عنه- في صفة الصحابة، رضي الله عنهم: يدخلون رواداً ويخرجون أدلة، أي يدخلون عليه طالبين العلم وملتمسين ما عنده، ويخرجون أدلة للناس). ثم قال: (وأصل الرائد الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث). وقد اعتمد هذا الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتاب علم اللغة (229) فقال: (والرائد في الأصل طالب الكلأ ثم صار طالب كل حاجة رائداً). وجرى على ذلك الأستاذ محمد المبارك عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، في كتابه (فقه اللغة).‏

أقول إن هذا وإن صح، لا يمنع أن يكون لكل من (رائد الكلأ) و (رائد القوم) دلالة خاصة كما هو شأن الصفة الغالبة. ويتبين ذلك إذا رُدّوا إلى معنى الفعل في الأصل فـ (راد) على ما جاء في مفردات الراعب (تردد بطلب الشيء برفق). فالرائد الصفة إذاً المتردد لطلب الشيء برفق، أما الرائد الصفة الغالبة التي أفردت عن موصوفها فإن بها خصوصاً. فليس (رائد الكلأ) أو (رائد القوم) الطالب للشيء يبتغيه وحسب. وما أظن قول الدكتور عبد الواحد (ثم صار طالب كل حاجة رائداً) هو الوجه، وإلا كان كل من احتاج فابتغى حاجته رائداً. بل ما إخال قول الأستاذ المبارك (ثم عمم لكل من يتقدم القوم بطلب شيء) قد أحاط بالدلالة المقصودة واستوفى ملامحها. ذلك أن الرائد هو متقدم قومه الصادق في حديث علي (يدخلون روّاداً ويخرجون أدلة) وحديث عبد القيس (لكنا قوم رادة أي نرود الخير والدين لأهلنا). وقد تفرع على هذا ما جاء في الحديث‏

(الحمى رائد الموت). قال ابن الأثير (أي رسوله الذي يتقدمه كما يتقدم الرائد قومه) أقول بل هي رسوله الصادق الجاد في طلبه.‏

ومما يدخل في الصفات الغالبة: السائبة للناقة إذا تركت راغدة لا تُهاج ولا تمنع من ماء أو مرعى، والراحلة للإبل إذا صلحت للرحيل، والسارية لكل ما دب بليل من الهوام، وللسحابة تمطر ليلاً، والسابغة للدرع الواسعة، والصاعقة للنار تسقط من السماء، والجارية للسفينة والأمَة. قال صاحب المصباح (والجارية السفينة سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمَة جارية على التشبيه لجريها مستسخرة في أشغال مواليها). ولفظ (الدابة) الذي أتوا به مثالاً متعارفاً لانتقال العام إلى الخاص، ليس إلا صفة غالبة، وكذلك (الماشية) على أنها من مشت المرأة إذا كثر أولادها. ففي الأساس: (وناقة ماشية: ولاّدة، ومنه الماشية والمواشي على التفاؤل).‏

* * *‏

هذا ولابد أن نأتي بأمثلة نكشف بها عن وجه اشتقاق الكلم بعضه من بعض، وسبل تجدد معانيها وتدرّج دلالاتها وتحولها بالنقل من حال إلى حال. وقد يسلُس الأمر ويستيسر فيبدو داني القطوف قريب النجعة، وقد يصعب وينبو فيبدو شديد المطلب وعث المبتغى فيلجئك أن تتلطف له وتتأتى، وتسلك إليه كل سبيل.‏

قالوا (لا أبالي) ومعناه لا أهتم، فما هو أصل اشتقاقه؟‏

قال جماعة المبالاة من البلاء بالفتح. والبلاء في الأصل الاختبار. قال المرزوقي في شرح الحماسة(71): (فلان لا يبالي العواقب، يقال ما باليته بالة وبالية ومبالاة وبلاء وما باليت به، وكأنه أخذ من البلاء). ونحو من ذلك في اللسان والتاج. ففي الأول والبلاء الاختبار، وفي الثاني أصل الابتلاء الاختبار.‏

وليس بعيداً عن هذا قولهم (المبالاة) من (البِلاء) وهو الهم كما حكاه صاحب المصباح عن أبي زيد، وأوردوا البلاء مصدراً لبالَى كما جاء في اللسان والتاج.‏

وعلل المرزوقي كيف انتهى (بالى) من معنى البلاء وهو الاختبار إلى المفاخرة فكان الامتناع من مفاخرة القِرن استهانة به واستخفافاً، فقال (وقوله لا يبالي العواقب.. كأنه أخذ من البلاء واستعمل في المفاخرة وتعداد الخصال الحسنة عند المنافرة، ثم كثر استعماله حتى صار يقال في الاستهانة بالشيء).‏

واستشهد بقول الشاعر (مالي أراك قائماً تبالي) أي تفاخر. وقال في موضع آخر: (وقوله تبالي تفاعل من البلاء فإذا قال لا أباليه كأنه أراد لا أحتفل به فأُعادّه بلائي وبلاءه وأفاخره، هذا أصله). أي أن تبادل الاختبار يقود إلى المفاخرة والمنافرة، فإذا أبيت أن تفاخر خصماً أو تنافره أو تكاثره فقد استخففت به.‏

وأحسب دون ما ذكرناه قول آخرين أن المبالاة من البال وهو الروع والخاطر، انتقل فيه حرف العلة بالقلب فكان وسطاً فأصبح طرفاً، كما قال ابن فارس في مجمله والمزمخشري في أساسه، وقول جماعة أن أصله المبادرة إلى الاستقاء فمعنى لا أبالي لا أبادر إهمالاً له، كما ارتآه ابن فارس في مجمله، وقد انتهى إلى رده إلى (البال) في مقاييسه، وذكره الفيومي في مصباحه.‏

ولعله قولهم (لا أباليه) متعدياً، إنما يدل على أصله في التعدية لأنه مفاعلة من البلاء، وهو الاختبار، وقولهم (لا أبالي به) محمول على ما انتهى إليه من معنى، وهو لا أحتفل به ولا أعتد.‏

* * *‏

وتقول في معنى ما أباليه وما أبالي به، ما أكترث له. وقد جاء في اللغة كرَثه وأكرثه وكرّثه فاكترث. فما معناه الأول؟ أقول دلّ على ذلك الزمخشري فقال في الأساس: (كرّثه الأمر إذا حركه، وأراك لا تكترث لذلك ولا تنوص: لا تتحرك له ولا تعبأ به، وكرّثته الكوارث أقلقته). فالكرث والإكراث والتكريث هو التحريك في الأصل. وكذلك الإقلاق والإزعاج فحقيقتهما التحريك. فإذا كرثك الشيء فقد جعلك تضطرب حقيقة أو مجازاً، ومن ثم قيل كرثه: ساءه، كما حكاه اللسان.‏

وتأسيساً على ذلك كان اكتراث في الأصل كتحرك واضطرب، وكاستاء واغتم واهتم في المجاز. وعندي أن قولك (ما اكترث له) متعدياً باللام بني على أصل معناه، أي لا أتحرك له ولا أقلق من أجله. ولكن هل يقال (ما اكترث به) متعدياً بالباء؟ أقول قد جاء ذلك نصاً، وأرى أنه محمول على قولك لا أغتم به ولا أهتم ولا أُعنى، وهو ما انتهى إليه معناه.‏

على أن من المعاجم ما خطّأ قول القائل (ما اكترث به) كالتاج، فقد جعل صوابه (ما أكترث له) ونسب الخطأ في الأصل إلى الصحاح. وأخذ بهذا الأستاذ محمد العدناني في معجم الأخطاء الشائعة. أقول لم يخطئ الجوهري حين قال (ما اكترث به)، فقد قال الراغب في مفرداته وقد عايش صاحب الصحاح. قال الراغب الأصبهاني (البال الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال ما باليت بكذا بالة، أي ما اكترثت به). وقد قاله صاحب النهاية في موضعين وحكاه عنه ابن منظور في غير مجال.‏

* * *‏

وقيل في نحو ما أكترث له (ما آبه له). ففي المعاجم (أبهِ) بالكسر كفرح، و (أبَه) بالفتح كمنع، وقد عدوا الأول باللام والباء فقالوا ما أبهت له وما أبهت به، وعدوا الثاني باللام دون الباء فقالوا ما أبهت له، كما حكاه ابن القوطية والجوهري وصاحب النهاية واللسان. فما أصل معناه؟‏

يعتد ابن القوطية (أبه) مما جاء على فعَل وفَعِل بمعنى واحد. ويجعل معناه (تنبّه). فإذا استقر هذا فأبِه له بالكسر والفتح تنبه له. وكذلك ما جاء في الصحاح. ولما كان ما يتنبه له في الغالب هو الجليل، فالذي لا ينتبه له ولا يؤبه هو التافه الحقير. ومن ثم قيل فلان لا يؤبه له أي لا يلتفت إليه لحقارته. وعلى ذلك ما جاء في النهاية. وقد عُدّي الفعل بالباء لما انتهى إليه معناه، في السلب، من الاستهانة.‏

ولكن لِمَ خصت التعدية بالباء هذه بأبه المكسور العين في الماضي دون المفتوح؟ أقول قد يكون ذلك لأن الغالب في اللازم أن يكون كـ (أبِه يأبَه) مثل نَبِه ينبَه الذي هو معناه، من باب فرح يفرح، فهو الأصل. وقد اتَسعوا بتعديته بالباء كما اقتضاه الاستعمال لما آل إليه معناه من الاستهانة. أما (آبَه يأبَه) من باب منع يمنع فلم يتجاوزوا به تعديته الأولى باللام، فليس هو الأصل، لأنه لا يكثر في اللزوم. ولا يُقطع في هذا بيقين على كل حال. على أني رأيت الشدياق في (سر الليال) يسوي بين البابين في التعدية فيقول (وأبه له وبه كمنع وفرح أبْها وتحرك، فطن أو نسيه ثم فطن له) فهل وقف فيه على نص؟‏

* * *‏

ويستعمل (التنزه) لترويح النفس بالخروج إلى المكان النزه. أما أصل معناه فكما قال صاحب النهاية (نزه نزاهة وتنزه تنزهاً إذا بَعُد). وقد منعه ابن السكيت على ما حكاه المصباح وجعله فيما تضعه العامة في غير موضعه. وصححه ابن قتيبة فقال: (ذهب بعض أهل العلم في قول الناس خرجوا يتنزهون إلى البساتين أنه غلط، وهو عندي ليس بغلط. لأن البساتين في كل بلد إنما تكون خارج البلد. فإذا أراد أحد أن يأتيها فقد أراد البعد عن المنازل والبيوت، ثم كثر هذا حتى استعملت النزهة في الخضر والجنان). وأكد الزمخشري هذا فقال في الأساس (خرجوا يتنزهون يطلبون الأماكن النزهة، وهي النزهة والنزه مثل غرفة وغرف). كما أيده علي بن حمزة البصري اللغوي في التنبيهات (298) رداً على ابن السكيت فقال: (فلما كانت الروضة إذا بعدت عن الناس كان أحسن.. وجب على المتنزه أن يقصدها ويعتمدها بنزهة. وهو لا يصل إليها حتى يبعد كل البعد عن الناس والمياه فقالوا لمن قصد ذلك تنزه فوافق قولهم الحق ووضعوه في موضعه ثم نقلوه إلى من أراد مثل ذلك فيما هو على المياه وبقربها..).‏

* * *‏

ويقال (رُشّح فلان للرئاسة) إذا أُهّل لها. قال الجوهري في الصحاح (والترشيح أن ترشّح الأم ولدها باللبن القليل تجعله في فيه شيئاً بعد شيء إلى أن يقوى على المص. وتقول فلان يرشّح للوزارة أي يربى ويؤهل لها). وقال المرزوقي في شرح الحماسة (1/73): (والترشيح أصله التنبيت والتربية.‏

ومنه قيل رشحت المرأة ولدها إذا درّجته في اللبن. ثم قيل رشح فلان لكذا توسعاً). ولا يخفى أن تنبيت الشجر غرسه، ومنه تنبيت الصبي تربيته. ونحو من ذلك في الأساس للمزمخشري.‏

* * *‏

وقال صاحب المصباح في (تعالى): (وتعالى تعالياً من الارتفاع أيضاً. وتعالَ فعل أمر من ذلك. وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل فيقول: تعالَ، ثم كثر في كلامهم حتى استعمل بمعنى هلمَّ مطلقاً، سواء كان موضع المدعو أعلى أو أسفل أو مساوياً، فهو في الأصل لمعنى خاص ثم استعمل في معنى عام). وفي كتاب الفروق لإسماعيل حقي نحو من ذلك. وكذلك في شرح الحماسة للمرزوقي(56).‏

* * *‏

وهكذا (عثر) فأصل معنى العثور أن تزلّ القدم بشيء كحفرة فيسقط صاحبها، ومثله (تعثر). ومن ثم كان (العاثور) هو الحفرة، ففي اللسان (.. ومن هذا يقال فلان وقع في عاثور شرٍّ إذا وقع في ورطة لم يحتسبها ولا شعر بها، وأصله الرجل يمشي في ظلمة الليل فيتعثر بعاثور المسيل أو في خدخد سيل المطر..). وعلى هذا فأنت تقول عثر فلان بعاثور أي بحفرة، على الأصل، كما تقول عثر بعاثور شر أي مكيدة أو ورطة على المجاز.‏

وقد تدرج معنى العثور من الكبو والسقوط إلى الخطأ في العمل والنطق، تقول عثر فلان أو عثر لسانه إذا تعثر. قال الزمخشري (ومن المجاز عثر في كلامه وتعثر).‏

وقد آل به التوسع فقيل عثر الحظ إذا خاب صاحبه، وعثر جده إذا تعس، وأعثره الله أتعسه، وفي الأساس (وعثر الزمان به وجدّ عثور وأعثر به عند السلطان إذا قدح فيه وطلب توريطه وأن يقع في عاثور).‏

بل قيل (عثر عليه) إذا اطلع. قال صاحب المقاييس (وقال بعض أهل العلم إنما قيل عثر من الاطلاع وذلك لأن كل عاثر لابد أن ينظر إلى موضع عثرته).‏

وعندي أن الفعل قد عُدّي بعلى بطريق التضمين. فكأن قولك عثرت عليه، على تقدير عثرت به فاطلعت عليه. ثم شاع أمره. وفي العربية مالا يحصى من الأفعال تجاوزوا بها الأصل إلى المجاز فعدّوها بحرف غير حرفها، ثم شاع استعمالها بهذا الحرف وكأنه الأصل. وقد عقدت لذلك فصلاً في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (المجلد 55، الجزء الأول، عام 1980). فأنت تقول مثلاً (أنس به). قال ابن القوطية (وأهلت بالشيء وأنست به) ونحو من ذلك في الصحاح وغيره من المظان. لكنهم عدوا الفعل بـ (إلى) فقالوا (أنست إليه) كما قالوا (استأنست إليه)، ذكره الزمخشري في أساسه. وكان من حقه أن يفرد فيسلكه في المجاز كما فعل في (سكن إليه واطمأن إليه وركن إليه وانبسط إليه) لكنه لم يفعل، إذ قال: (وأنست به واستأنست به وأنست غليه واستأنست إليه). ولعل عذره هو اشتهار تعديته بـ (إلى). وقل مثل ذلك في (استأنس له وتأنس) فلم يلحقه بالمجاز واكتفى بأن قال (واستأنس له وتأنس: تسمّع) وقد يكون تسمَّح به أيضاً وكثيراً ما قرن المجاز بالحقيقة متى اشتهر وشاع. وعندي أن (أنس إليه) على تضمين الفعل معنى (مال) أو نحوه.‏

* * *‏

وانظر إلى تدرج معنى (تفقد)، فقد جاء في معجم الأخطاء الشائعة للأستاذ محمد العدناني أن قول القائل (تفقد مزرعته) خطأ..، صوابه (زارها ودرس أحوالها) لأن تفقد معناه (طلب الشيء عند الغيبة). ثم استدرك فأدرك ما أتى به المعجم الوسيط (تفقد أحوال القوم ودقق النظر فيها ليعرفها حق المعرفة)، وقال (وأنا أؤيده على أن يفوز بموافقة المجمع)‍! أقول إذا كان أصل (التفقد) تطلب الشيء عند الفقد، فقد تجاوز الفعل هذا المعنى إلى تتبع الشيء وتعرّف أحواله، ثم تعدى هذا إلى متابعة النظر في كل ما يستقيم به حال الشيء أو الشخص الذي تتفقده. فقد جاء في مفردات الراغب (التفقد التعهد، ولكن حقيقة التفقد تعرّف فقدان الشيء)، وهذا يعني أن أصل التفقد تعرّف الفقدان لكنه آل بالمجاز إلى التعهد أو إلى ما انتهى إليه التعهد. ففي المصباح (وتعهدت الشيء ترددت إليه وأصلحته، وحقيقته تجديد العهد به، وتعهدته حفظته).‏

وقد جاء في نهج البلاغة (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما -3/102) و (تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله –3/106)، وقول ابن قتيبة في أدب الكاتب (فإن رأيت الكتاب قد تركوا تفقد هذا من أنفسهم..)، وقول أبي حيان في البحر (10/64): في قوله تفقد الطير –أي قوله تعالى: وتفقَّد الطير –النمل/ 20- دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم).‏

وهكذا صح (التفقد) في التعبير عن الرعاية والتربية والعناية والبر. قال المرزوقي (لم أزل أجري في تربيته وتفقده) إلى أن استكمل شبابه /757) وقال (لحسن توفره وجميل تفقده لأصحابه /923)، وقال (واستصلاح الرعية وتفقد مصالحهم /1091).‏

بل نحوا بالتفقد فعنوا به الإنعام والإفضال وكأنهم ضمنوه هذا المعنى. قال المرزوقي (بل قد وصّى بها وبأمثالها فيُتفقدون بأوفر الأنصباء عند قسمة الجذور/1050). وقال أبو حيان التوحيدي في (أخلاق الوزيرين/ 336): (فإن كان قد كتب بخطه: يُتفقد فلان بكذا أو يسأل عن فلاه لينظر في مصلحته).‏

فأين هذا كله من قول العدناني (التفقد طلب الشيء عند الغيبة) ولزومه هذا المعنى، وتعلقه بظاهر النص المدرج في المعاجم على قصد وإجمال، بل سكونه إليه لا يبرحه ولا يتحول عنه. وقد استبان بهذا أن قول الكتاب (تفقد مزرعته) بمعنى تعهدها ورعاها وتوفر عليها، صحيح مستقيم، غني عن أن يجيزه مجمع لغوي أو يقر صحته. وقد قالوا قديماً (فلان يتعهد ضيعته) المغني 2/113.‏

فيتضح بما قدمنا وفصّلنا القول فيه أن لا وجه لجمود المعنى في اللفظ كما يبدو ذلك حيناً في كثير من المعاجم العربية، وإن اعتماد كثير من المحدثين على ظاهر النص والتعويل عليه في التخطئة والتصويب مخالف لأصول ارتقاء اللغة وسنن تحول معانيها وطرائق تعبيرها بتحول العصور والأجيال. ولو كانت تؤلف في العربية معاجم حديثة على مثال ما يؤلف في اللغات الحية الأخرى، دقة وأحكاماً واستقصاء لأنست بالتجدد والتدرج والتوالد في معاني الكلم، ولمست بمعارضة النصوص المحكية بعضها ببعض ترجمة لحياة كل كلمة تظهرك على قصة حالها وتقفك على مسالك تحولها ودروب تنقلها والتدرج بها حالاً بعد حال. وأنت لو لم تطف بمراحل التقلب جفا عليك وجه الاعتداد به البتة. يقول العالم النفسي السوفييتي ل.س.فيجوتسكي المتوفى عام 1934، أنه لا سبيل إلى احتساب معنى الكلمة أمراً ثابتاً، بل لابد من تصوره في نمو مطرد وتحول مستمر دائب(4). والبحث في تاريخ معاني الكلم وأصول اشتقاقها موضوع شائق له في اللغات الحية الأخرى شأن أي شأن. وأحوج ما يكون إليه المشتغلون بتاريخ الأدب وفقه اللغات. وليست معالجة هذه المسألة في العربية وتدارك ما فات من أمرها بعدما كان من الإغفال، على شيء من اليسر والسهولة. ولا ننسَ ما انتحاه المستشرق الأستاذ فيشر وقد أمضى أكثر عمره (بين سنة 1907 و 1950م) في إعداد معجم تاريخي للغة الآداب العربية حتى نهاية القرن الثالث الهجري، أي حتى منتهى ما وصلت إليه اللغة الفصحى من الكمال كما يقول، فلم يخلّف بعد جهد جاهد ونصب ناصب وطول عناء، غير جذاذات لهذا الذي بذل الطوق في إعداده. ولابد أن تضطلع المجامع اللغوية باستتمامه واستفراغ الوسع في إصداره فلا تدخر دون ذلك سعياً. ولكن هل يمم أئمتنا قديماً مثل هذا السمت من البحث وحاولوا ارتياده والجري على منهاجه؟ أقول لاشك أن كتاب (الزينة) قد استن بهذه السنة ونهج هذا السبيل فإن به لوناً طريفاً من ألوان البحث اللغوي التاريخي. فقد وضع الشيخ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي المتوفى 322هـ كتاباً جامعاً في أوائل القرن الرابع الهجري كان أول مرجع يستفتى في الأسماء العربية التي نطق بها القرآن الكريم فكانت من مصطلحات الإسلام، كما أشار إليه الدكتور حسين الهمداني في مقدمة الكتاب. وقد حاول مؤلف الكتاب أن يجمع بين ألفاظ عربية شتى تغيرت مدلولاتها ومعانيها في العصر الإسلامي عما كانت عليه في العصر الجاهلي، ففات أقرانه في وضع اللبنة الأولى في علم معاني الأسماء العربية والمصطلحات الإسلامية وكان رائداً متأنقاً في هذا المضمار بل إماماً بارعاً في هذا الركن: Arabic Islamic Sémantics.‏

فانظر إلى ما ذكره الرازي مثلاً في (الإثم 225)، فقد أتى بأصل معناه فقال (قال أبو سعيد سمي الإثم إثماً لأن الآثم يُبطئ عن طاعة ربه، ويقال أثِمَ إذا أبطأ والآثم المبطئ. ويقال أثمت الناقة إذا أبطأت). ثم تحول إلى ما تدرج إليه معناه فقال: (فالإثم ضد الأجر يقال فلان مأثوم وفلان مأجور، لأن المأجور يسعى في الطاعة.. وذلك الثواب هو أجر له بعمله. والآثم لم يعمل وأبطأ عن الطاعة فلا أجر له فهو آثم أي مبطئ عن الطاعة). فحاول الربط بين الأصل والمجاز. ثم تابع البحث عن تدرج آخر فذكر أن الإثم ضد البر، وأتى بالحديث (البر ما سكنت إليه القلوب واطمأنت إليه النفوس، والإثم ما حك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه) وهكذا..‏

وقد ذهب الأستاذ عبد العزيز الميمني إلى أن المفضّل بن سَلَمة المتوفى 291هـ قد ضرب على هذا القالب في كتابه (الفاخر)، وكذلك فعل أبو بكر بن الأنباري المتوفى (328هـ) في كتابه (الزاهر). أقول أما كتاب الفاخر فإن مضامينه تدور كما ذكر مؤلفه في مقدمة الكتاب حول (معاني ما يجري على ألسن العامة في أمثالهم ومحاوراتهم من كلام العرب وهم لا يدرون معنى ما يتكلمون به من ذلك). وأردف المؤلف يقول (فبينّاه من وجوه اختلاف العلماء في تفسيره ليكون مَنْ نظر في هذا الكلام عالماً بما يجري من لفظه ويدور في كلامه). وقد عمد صاحب الفاخر في تحقيق ذلك إلى حكاية ما روي من أحداث دفعت إلى النطق بالأمثال مما كانت تطوع به ألسنة الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم، وذكر أول من نطق بها، وبحث في اشتقاق ما جاء بها من ألفاظ وردها إلى أصلها وفصّل القول في معانيها. وقد أفاد أبو بكر محمد بن القاسم بن الأنباري في كتابه (الزاهر) من كتاب الفاخر هذا وبسط ما جاء فيه وكثّره بالشواهد كما قال مختصر الكتاب أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي. قال الزجاجي (وكان المفضل بن سلمة صاحب الفراء قد أنشأ كتاباً في هذا المعنى سماه... فعمد أبو بكر محمد بن القاسم لذلك الكتاب فنقله نقلاً... وبسطه وكثّره بالشواهد). ولا يزال كتاب (الزاهر) مخطوطاً لم يطبع.‏

هذا وليس كتاب الفاخر والزاهر ولو أفادا في إصابة الغرض الذي ابتغيناه ككتاب الزينة في تحقيق النهج اللغوي التاريخي والجري على أسلوبه.‏

يقول الدكتور داود حلمي السيد في كتابه (المعجم الإنكليزي بين الماضي والحاضر): (فليس بخاف أن معجميي العربية المحدثين تشدهم تجربة ضاربة في أعماق التاريخ وتقيد حركتهم تقاليد معجمية راسخة تجعلهم دائماً يتلفتون إلى الوراء حين يقررون أي المناهج يتبعون كلما شرعوا في وضع معجم حديث للغة العربية، أهو المنهج التقليدي برمته، أم المنهج الغربي في وضع معجم حديث للغة العربية، أهو المنهج التقليدي برمته، أم المنهج الغربي الحديث برمته. أم يأخذون من هذا وذاك ما يتفق مع طبيعة اللغة العربية). وقال: (ولم أجد أمامي إلا المعاجم العربية القديمة التي مضى على أحدثها أكثر من قرن ونصف من الزمان، أو بعض المحاولات المعجمية الحديثة التي لا ترقى إلى المستوى الذي يجب أن تكون عليه معاجم اللغة العربية في العالم المعاصر، والتي سنعرض لها..). ثم عَرّف المعجم الحديث فقال: (فالمعجم بالدرجة الأولى كتاب كلمات. فهو يحتوي بين غلافيه على مفردات اللغة مصحوبة بمعلومات عن اتيومولوجيتها- أي أصول اشتقاقها الأولى- ومعانيها ومدلولاتها واستعمالاتها). أقول لا شك في أن الطريقة النشوئية في القرن التاسع عشر قد أدت إلى ازدهار المباحث اللغوية التاريخية، وإلى وضع معاجم تكشف عن أصول الكلم وتدرج معانيها، وتأكيد اعتقاد أن –الظاهرة اللغوية- لا تتسم بسمة الوضوح أو الجلاء الذي يراد لها ما لم تدرج في سياقها التاريخي(6). وقد ألّف (سكيت ولتر وليم) العالم الإنكليزي المتوفى عام 1912 معجمه الشهير الذي عول فيه على اللون التاريخي من التسجيل اللغوي، فذكر أصول الكلم وألقى الضوء على هذه الأصول بالرجوع إلى جملة من النصوص التاريخية التي عرضت بها هذه الكلم ليظهر القارئ على أصولها الصحيحة ودلالاتها الأولى، وتدرّج هذه الدلالات من عصر إلى عصر، كما أشار إليه الدكتور السيد الخلوي، وقد أومأنا إليه في موضع آخر.‏

ولكن إذا كان قد أدى اشتغال علماء اللغة الفرنسيين مثلاً إلى تأليف معاجم في تاريخ الكلم وأصولها وتسنى ذلك بالعودة إلى الأصول التي تحدرت منها لغتهم يونانية كانت أو لاتينية أو غير هذه وتلك، فليس كذلك حال العربية التي لا يصح ردها إلى ما أسموه باللغة السامية الأولى التي تصوروا أنها أم اللغات السامية، كما كانت اللاتينية مثلاً أُمّاً للفرنسية والإيطالية والإسبانية، إذ لم يقف البحث العلمي التاريخي على لغة من هذا القبيل، وإنما يعوّل على الأصول العربية وحدها. ولكن أليس يصح في العربية الاستعانة في تقرير أصول الكلم وتاريخها حيناً، والكشف عن ظلال معانيها بالعودة إلى بعض اللغات السامية؟‏

يقول الدكتور داود الحلبي في كتابه (الآثار الآرامية في لغة الموصل العامية) المطبوع عام 1935: (إن تمييز الكلمات الآرامية من الكلمات العربية صعب جداً. وما سبب هذه الصعوبة إلا كون اللغتين شقيقتين، أي فرعين من اللغة السامية الأم. حتى إن نحو أربعة أخماس الكلمات الآرامية تشترك والعربية إما حرفاً أو باختلاف يسير في التلفظ أو تبديل بعض الحروف..). وقال: (على أني وجدت بعض كلمات مشتركة معانيها، واضحة كل الوضوح في المعاجم الآرامية، ولكنها في المعاجم العربية مضطربة لم يبت لغويو العرب فيها وذهب كل منهم فيها مذهباً. حتى أن بعضهم أتى في صدد إيضاح أصلها بتأويلات غريبة..). ثم قال (ولو كان للغويين العرب القدماء وقوف على الآرامية لما وقعوا في حيص بيص عند بيان معاني أمثال هذه الكلمات. إذ لا يشك في أن معرفة الآرامية وغيرها من اللغات السامية يكون وسيطاً لحل مشاكل لغوية كثيرة في العربية. كما أن معرفة اللغة العربية تحل مشاكل أخواتها اللغات السامية).‏

أقول ذلك ما بحثه الدكتور محمد حسني قنطر في مقاله حول العربية واللغات السامية (من دراسات الملتقى الرابع لابن منظور في قفصة، في آب 1976). قال الدكتور قنطر: (إنه من واجب الباحث عن كنه الكلمات العربية وعن تاريخها شكلاً ومضموناً، أي عن التطور الذي اعتراها من حيث هي ظرف ومظروف أن يتجه إلى أخوات اللغة العربية ويستنطقها بالدرس والمقابلة والمقارنة عله يدرك الغاية ويجدحل المشكلة ويتمكن من الإجابة عن الأسئلة التي قد تثيرها الكلمة لديه). وقال: (فإذا عُدت للعبرية مثلاً لفهم كلمة عربية وتعرّف حالها تاريخاً واشتقاقاً، فذلك لا يعني أن اللفظة العربية تولدت من لفظة عبرية، بل حدثتك بالعبرية فعرّفتك بالعربية والعكس بالعكس).‏

وقد أتى الدكتور قنطر بأمثلة فأخذ على معجم اللسان أنه لم يوضح مثلاً معنى (لأك) الذي اشتق منه لفظ (الملَك والملائكة) فقال ولعل الباحث لا يوفق إلى المعنى للمادة، وهو معنى الرسالة. فلأك يعني أرسل، والملَك بالفتح المرسل). وأردف: (فالعودة إلى اللغات السامية القديمة التي عرفت هذه المادة تيسِّر إدراك الحقيقة اللغوية).‏

أقول إن معجم اللسان قد أشار إلى معنى المادة، ولو أن التعويل على معجم عربي واحد في القطع بحرف ومعناه وأصل اشتقاقه ليس بالوجه. فقد جاء في اللسان (فالملك من الملائكة واحد وجمع. قال الكسائي أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك وهي الرسالة) وفي اللسان أيضاً (قال ابن بري ملأك مقلوب من مألك، ومالك وزنه مفعل في الأصل من الألوك. قال وحقه أن يذكر في فصل ألك، لا فصل ملك). فابن بري وسواه قد جعلوا الأصل (ألك) ثم قلب فأصبح (لأك)، فما الذي قالته المعاجم في (ألك).. قال الجوهري (الألوك الرسالة.. وكذلك المألك والمألكة بضم الميم فيهما). وقال ابن القوطية (وألك بين القوم ألْكاً وألوكاً ترسّل والألوك الرسالة منه، والملائكة أيضاً). وقال ابن دريد في الاشتقاق (ومنه قولهم ألكني إلى فلان أي كن رسولي إليه). بل في اللسان ألك بمعنى ترسل. أفليس في هذا ما يجزي لإيضاح معنى الفعل واشتقاقه؟ وقد تصرف العرب في (ألك) فقالوا (استألك). فانظر ما جاء في الأساس (ألِكْني إلى فلان واحمل إليه ألوكي ومألُكتي وهي الرسالة. قال:‏

ألِكني إليها عمرك الله يا فتى‏

: بآية ما جاءت إلينا تهادياً‏

. ومن يستألك لي إليه أي من يحمل رسالتي. وجاء فلان فاستألك ألوكته). أفليس هذا واضحاً جلياً. ومن الطريف أن يكون قائل هذا البيت سحيماً وهو عبد بني الحسحاس، وهو حبشي اشتراه أبو سعيد فشبب بابنته عميرة. وقد نسب لفظ (ألك) فيما نسب إلى الحبشية.‏

هذا ولا يخفى أن في المظان اللغوية العربية أن (الملائكة) من (ألك بين القول)، وأن أصل المادة عبري أو سرياني أو حبشي. وليس يعني هذا بالطبع أن ثمة تبعية لغوية بين سامية وأخرى. بل ليس في لغات الأسرة أمهات وأخرى بنات كما يقول الأستاذ (فندريس) في كتابه (اللغة)(7). ولا يمنع هذا أن يكون بين الألفاظ السامية المشتركة ما هو أعلق بلغة، منه بلغة أخرى. ولا يُقطع بهذا حتى يوقف على اشتقاق الكلمة. فقد تكون في لغة أظهر وأبرز منها في لغة أخرى أي أكثر تصرفاً. أو تكون واضحة الأصل في إحداها فريدة غريبة يتيمة في سواها. أو تكون الكلمة في المعنى الشائع للزنة التي جاءت بها في لغة ولا تكون كذلك في غيرها وهكذا..‏

وقد عُني الأب أنستاس ماري الكرملي برد بعض الألفاظ العربية إلى السامية والاستعانة بالأصول السامية في استبانة معانيها وفك مُشكلها وإظهار مكنوناتها على نحو ما فعل في مجلة الثقافة القاهرية، وسواها.‏

هذا ما وددت الكشف عنه والتمثيل له في سبل تدرج المعاني في الكلم العربية وما تشعب عن ذلك من وجوه الرأي. وأرجو أن أكون قد وفقت إلى إيضاح المنهاج وجلاء الغامض والإفصاح عن المضمون فيما حاولت تحريره من المسائل في هذا القصد.‏

دمشق 10/2/1982‏

صلاح الدين الزعبلاوي‏

* * *‏

الحواشي:‏

(1)الدكتور حسين الهمداني في (مقدمة كتاب الزينة للشيخ أبي حاتم الرازي) والدكتور بدر الدين القاسم في ترجمة (تاريخ علم اللغة لجورج مونين).‏

(2)سكيت واتجاهاته في اللسانيات للدكتور شكري السيد الخلوي في (مجلة اللسانيات لمعهد العلوم اللسانية والصوتية بجامعة الجزائر)، العدد الرابع 73/1974.‏

(3)المصدر السابق.‏

(4)في علم اللغة الحديث تقسم البنية اللغوية إلى وحدات لغوية دالة، وأخرى غير دالة. ويقصد بغير الدالة حروف المباني أي حروف الهجاء، وهي أصغر صورة معتمدة، ويدعونها بالفونام. ويقصد بالدالة أصغر وحدة لغوية ذات معنى كالأسماء والأفعال وحروف المعاني ويدعونها بالمورفام، فالفونام أصغر وحدة للأصوات والمورفام أصغر وحدة للمعاني. وقد ميز العالم البولوني بودوان كورتناي المتوفى عام 1929، بين مفهوم الصوت اللغوي وبين الفونام الذي هو وحدة لغوية أساسية. ذلك أن الفونام لا يتضمن أصواتاً لغوية وإنما يتألف من صور صوتية هي وحدات نفسية لا مادية. ومن ثم فرّق كورتناي بين العلم الصوتي الفيزيائي، وهو علم الصوت نفسه، وعلم الصوت النفسي الذي سيغدو بارتقائه وتقدمه علم الأصوات الشفهية. ولكن ما حد الكلمة عند النحاة وحد المورفام في علم اللغة الحديث؟.‏

قال الإمام جلال الدين السيوطي في الهمع: (وقد اختلفت عباراتهم في حد الكلمة اصطلاحاً. وأحسن حدودها: القول المفرد المستقل أو المنوي معه- كالضمير المستكن وجوباً. فخرج بتصدير الحد بالقول غير ذلك من الدوال كالإشارة والخط.. وبالمفرد، وهو ما يدل جزؤه على جزء معناه، المركب كغلام زيد فهما كلمتان. وبالمستقل أبعاض الكلمات الدالة على معنى كحروف المضارعة وياء النسب وتاء التأنيث وألف ضارب، فليست كلمات لعدم استقلالها).‏

فتبين بهذا أن ما يدخل في حد المورفام من حروف المضارعة وياء النسب وتاء التأنيث وغيرها مما سمي أبعاض الكلمة لا يدخل في حد الكلمة، على ما اختاره السيوطي، لأنه ليس مستقلاً. على أنه استدرك فقال (ومن أسقط هذا القيد، قيد استقلال اللفظ، رأى ما جنح إليه الرضي، من أنها مع ما هي فيه كلمتان..). وهكذا أشبه حد المورفام في علم اللغة الحديث حد الكلمة عند الرضي، وبدأ هذا العلم مؤيداً لما جاء به بعض النحاة في إبراز البنية اللغوية. قال الرضي في شرح الكافية: (إن قيل إن في قولك مسلمان ومسلمون وبصري وجميع الأفعال المضارعة جزء لفظ كل واحد منها يدل على جزء معناه، إذ الواو تدل على الجمعية والألف على التثنية، والياء على النسبة، وحروف المضارعة على معنى في المضارع، وعلى حال الفاعل أيضاً، وكذا تاء التأنيث في قائمة، والتنوين ولام التعريف وألف التأنيث، فيجب أن يكون لفظ كل واحد منها مركباً، وكذا المعنى، فلا يكون كلمة بل كلمتين، فالجواب أن جميع ما ذكر كلمتان صارتا من شدة الامتزاج ككلمة واحدة، فأعرب المركب إعراب الكلمة..).‏

وأنت ترى أن الحكم في ذلك اعتباري. ولكن أليس فيما ذهب إليه الرضي من إبراز البنية اللغوية للفظ جلاء لشأن هذه الدوال في تأليف هذه البنية وتحديد معناها؟ والرضي مع ذلك لم يخرج في تصوره لحد الكلمة ورسم نطاقها عن حدود الأوائل في تعريف الكلمة والاقتباس بها. فإذا كانت هذه الدوال قد دلت على ما دلت عليه من المعاني، فكيف تعتد من حروف المبالي أي حروف الهجاء، كما فعل الآخرون، وحروف الهجاء لا تعني غير الأصوات لا تختلف إلا باختلاف مقاطعها؟ ألم يقل سيبويه في فاتحة الكتاب (فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل)، والدوال المذكورة حروف جاءت لمعان، وليس هي بأسماء ولا أفعال، فهي على هذا الحد، كلم، كما ذهب إليه الرضي وغيره.‏

(5)التفكير واللغة لفيجوتسكي ترجمة الدكتور طلعة منصور المعرفة 178 لعام 976.‏

(6)البنوية والعقلانية لأنطون شاهين –المعرفة 136 لعام 1971.‏

(7)ترجمة الأستاذ عبد الحميد الدواخلي والأستاذ محمد القصاص.‏

----------------
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد الثامن- السنة الثانية- تموز "يوليو" 1982.
 
عودة
أعلى