رشيد بن ابراهيم
New member
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : يسرّني أحبّتي في الله أنا أخوكم الخطيب : رشيد بن ابراهيم الجزائري أن أستفتح معكم هذا المنتدى المتخصص في جمع الخطب القرآنيّة تحديدًا ، والتي يكتبها أعضاء هذا الملتقى المبارك وتجودُ بها قلوبُهم و أقلامهم و ألسنتهم ، إبرازًا لهدايات القرآن العظيم ، و كشفًا عن كنوزه و بركاته التي لا تنتهي في إصلاح العقول والنفوس والأوضاع .
المنتدى مفتوحٌ للجميع ، وشرطُهُ :
- أن تكون الخطبة قرآنيّة تبرز كنزًا من كنوز القرآن .
- التزام التخريج العلمي للشواهد .
- و بطبيعة الحال ملتزمة بالضوابط العلمية والعقدية والمنهجيّة المعروفة .
و أستفتح بهذه الخطبة التي ألقيتها منذ مدّة في مسجد محمد البشير الإبراهيمي بعين البيضاء الجزائر ، و أسأل الله لي ولكم التوفيق و الاستمرار في هذا المنتدى الفرعي خدمة لكتاب الله :
الحمد لله ربّ العالمين ، نحمده سبحانه حمدًا كثيرًا طيّبًا مبارَكا فيه ، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما ، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادَةَ حقٍّ وصدق ، من قلبٍ مومِنٍ موقِن ، ندّخِرُها ليومِ الجمعِ والتغابُن ، يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتَى اللهَ بقلبٍ سليم ، وأشهد أنَّ محمّدًا عبد الله ورسوله ، بلّغ الرسالة و ختمَها ، و أدّى الأمانةَ وأتمّها ، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين المؤمنين المُوَحّدِين وصحبِهِ الأخيار البَرَرة ، ومن تبعَهُم على الحقّ و الهدى إلى يوم الدّين وسلَّم ، ثم أما بعد :
أيها الأحباب المؤمنون ؛ حيّاكم اللهُ و جعلكم ممّن يُحبُهم اللهُ ويحبُّونَه :
قال ربنا سبحانه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ( المائدة:54 ) . خمسُ صفاتٍ عظيمة ذكرها اللهُ تعالى في هذه الآية المباركة ، أوضحَ بها ملامح جيل النصر والتمكين و بيّنها أتمّ بيان ،كلها نتاجُ التربية الربانية القرآنيّة الأصيلة :
جيلٌ فاز بحبِّ اللهِ تعالى ورضوانه : لقيامه بأسباب ذلك الحبِّ والرضوان ، ففي القرآن الكريم ذكرٌ لصفات من يحبُّهم اللهُ عز وجل ، فإنَّ اللهَ يُحبُّ التوابين ويحب المتطهرين ، ويحبُّ المتقين ، ويحبُّ المحسنين ، ويحبُّ المقسطين ، ويحبُّ الصابرين ، ويحبُّ المتوكلين ، ويحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنَّهم بنيانٌ مرصوص. فهذا الجيل قد تركَّزت فيه كلُّ صفاتِ الخيرية والبركة والخلُقِ الحسن ، تُرى كم يأخذ هذا الجيل وهذه الخصال . . من الأوقات والجهود والتجرد . . ؟! .
في موقعة اليرموك سنة ثلاثِ عشرة للهجرة أرسل قائدُ الروم جاسوسًا من العرب النصارى ليتجسس له عن أمر المسلمين ورأيهم في المكان الذي نزلوا فيه،فلما رجع قال لقائد الروم : "جئتًكَ من عندِ رجالٍ دِقاق، يركبونَ خيولاً عتاقًا ، أما الليلَ فرهبان ، وأمَّا النَّهارَ ففرسان ، يريشُون النَّبلَ ويَبرونها ، ويثقَفُونَ القَنَا ، لو حدَّثتَ جليسَكَ حديثًا ما فهمه عنك لما علاَ من أصواتهم بالقرآن والذكر " . فالتفت قائد الروم إلى أصحابه فقال لهم : " أتاكم منهم ما لا طاقةَ لكم به..! " [1] . تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
الصفة الثانية لجيل النصر والتمكين : أنَّه جيلٌ يحبُّ اللهَ تعالى :
فاللهُ عنده أحبُّ إليه مما سواه كائنًا ما كان في الحياة،كما قال اللهُ تعالى:﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾(البقرة:165).وهذه الصفة أيضا نتاجٌ للتربية الربانية الأصيلة على التوحيد يرضعها الطفل مع اللبن ، ويسمعها صغيرًا في المهد ينام عليها ويصحو عليها ، ويتعلمها صبيًّا ، ثم يتفهَّمها شابًّا يافِعًا ليعيشها منهجَ حياة حين يدبُّ في الحياة . . ! تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
الصفة الثالثة لجيل النصر والتمكين : أنَّه جيلُ رجالٍ﴿أذِلَّةٍ على المؤمنين﴾ :
لأنَّه جيلٌ يشعرُ بقيمة الجسدِ الواحد للمؤمنين فعاملهم بالرحمة والمودة والحبِّ والنصيحة وخفض الجناح ، قال الله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الحشر:10).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم،مثَلُ الجسد الواحد؛إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[2]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان،كما يألم الرأس لما يصيب الجسد"[3]. فبعد أن أحبُّوا اللهَ تعالى وأحبَّهم انتظموا في جسدٍ واحدٍ كالبناء المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا ! .
وانظروا - معشر المؤمنين - كم تحتاج هذه الصفة من الأوقات والجهود والتربية . . ؟! .
هل رأيتم علاقةً بين اثنين تلحقُ بهما في الحياة وفي القبر ، إنَّها صفة الحبِّ في اللهِ تعالى ، في مسند الإمام أحمد[4] حين أمر صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحُدٍ قال : " انظروا إلى عمرو بن الجموح،وعبد الله بن عمرو بن حَرَام فإنَّهما كانَا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد".
تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
والصفة الرابعة لجيل النصر والتمكين : أنَّه جيلُ رجالٍ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ :
عزة القويِّ الذي يستعلي بإيمانه وعقيدته وشخصيته ومنهجه في الحياة..عزة القوي الذي ليس له غايةٌ دون اللهِ جل وعلا ، ولا يتعوَّضُ عن اللهِ بشيءٍ سواهُ كائنًا ما كان في الحياة..عزَّةٌ تُبًغِضُ الكفرَ وتتبرَّأُ من الكافرين ظاهرًا وباطنًا.. جيلٌ بغضُ الكفر عندهم و البراءة من الكافرين ليس حرفًا يُلْفَظْ،ولا شعارًا يُحْفَظْ..بل هو قولٌ باللسان،وعقيدة في القلب وعمل في الحياة..! تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
والصفة الخامسة لجيل النصر والتمكين أنَّه جيلٌ مجاهِدٌ للكافرين في سبيل إعلاء كلمة اللهِ في الأرض : كما قال الله تعالى:﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾:
في موقعة اليرموك سنةَ ثلاثِ عشرةَ للهجرة حين التقى صفُّ الإيمان بصفوف الروم الكافرين نادى عمرو بن العاص في المؤمنين-وكان أميرًا على الميمنة-:"يا أيها المسلمون،غضُّوا الأبصار،واجثوا على الرُّكب،واشرعوا الرماح،فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم،حتى إذا ركبوا أطرافَ الأَسِنَّةِ،فَثِبُوا إليهم وثبة الأسد،فوالذي يرضى الصِّدقَ ويُثيبُ عليهِ،ويمقتُ الكَذِبَ ويجزي بالإحسانِ إحسانَا،لقد سمعتُ أنَّ المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا،وقصرًا قصْرً،فلا يهولُكم جموعُهم ولا عددُهم،فإنَّكم لو صدقتموهُم الشَّدَّ تطايروا تطايرَ أولادِ الحَجَل.."[5].
ولما برز قائدُ جيش المسلمين خالدُ بن الوليدِ رضي الله عنه بين الصفين بطلبٍ من "ماهان" أحدِ قادة الروم،قال له قائد الروم:"إنَّا قد علمنا أنَّ ما أخرجكم من بلادكم الجَهدُ والجُوع،فهلُمُّوا إليَّ أن أُعطيَ كلَّ رجلٍ منكم عشرة دنانير وكسوةً وطعامًا،وترجعون إلى بلادكم،فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها"،فقال خالد رضي الله عنه :"إنَّه لم يُخرجنا من بلادنا ما ذكرت،غير أنَّا قومٌ نشربُ الدِّماء،وأنَّهُ بلغنا أن لا دَمَ أطيبَ من دمِ الرُّوم فجئنَا لذلك".فقال أصحاب "ماهان" :"هذا واللهِ ما كُنَّا نُحَدَّثُ به عن العرب"[6].
تُرى كم أخذ هذا الجيل..وكم أخذت هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟! نسأل اللهَ العظيم أن يوفقنا لما يحبُّ ويرضى ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم. قال الله تعالى:﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(النحل:44). قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي-رحمه الله- في تفسير هذه الآية:"..ولعلهم يتفكرون فيه،فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه "[7]. والآن وقفةُ تدبُّر وتأمل وتفكُّر مع قول الله تعالى:﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمْ﴾:
لنسأل أنفسنا-معشر المؤمنين- كيف يأت اللهُ بهؤلاء القوم ؟!
هل ينزلون من السماء،أو يخرجون من تحت الأرض،أم ننتظرهم حتى يأتوا إلينا من مكان بعيد ؟!
هل يأتون إلينا بطريقة غامضة سحرية خارقةٍ للأسباب والطاقة والواقع..؟
ترى لماذا يخرج المسلمون كلَّ يوم إلى المضارب ينتظرون قدوم هذا الجيل..فإذا ما لفحهم حرُّ الظهيرة رجعوا خائبين ينتظرون الفجر ليخرجوا في اليوم الثاني والثالث..؟!
أيها الإخوة في الله . . يا أولي الألباب :
إن وعود الله صادقةٌ لا شك فيها ، وإنما الشَّكُّ في صدقنا وفهمنا للقرآن العظيم..!
نحن ننتظر تحقق وعود الله تعالى بالخوارق المجهولة الأسباب وبالطرق السحرية الغامضة..
نحن نحب أن نفسِّر التاريخ المجيد للأمة بعزِّه ونصرهِ ومجدِه على أنه خوارق غامضة فوق الطاقة البشرية تم بوسائل سحرية غامضة..فكان لهم من الخوارق والمبهمات ما لا يكون لأحدٍ بعدهم..! لذلك نحن نخرج كل يوم إلى المضارب ننتظرُ قدوم الخوارق والمعجزات التي تبعث جيل النصر والتمكين..فطال انتظارنا..وطال معه ذلُّنا وهواننَا في الأرض..!
إن دين الله عز وجل منهج إلهيٌّ لحياة الناس،يتم تحقيقه في الأرض بجهدِ النَّاس أنفسهم في حدود الفطرة البشرية وطاقة النَّاس أنفسهم،وإنَّما من الله التأييد والتوفيق والمعونة والمعية حين نقدّم أسباب ذلك بجهدنا وطاقتنا وحركتنا في الأرض..! كما قال الله تعالى :﴿وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المحْسِنِين﴾(العنكبوت:69).وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(الرعد:11).
إذًا كيف يأتِ جيل النصر والتمكين؟
الجواب : أنتم من سيبعث هذا الجيل..!لا أحد سواكم ..!و إلا فلن ينكسر القيد..!سيطول بقاؤنا في الأسر..!سيطول انتظارنا،وسيطول ذلُّنا وهواننا في الأرض..!. قال ربنا سبحانه :﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾(الأنفال:60). أعدُّوا جميعًا..واستعدُّوا جميعًا..رجالاً ونساءً . .كلٌّ في مجال عمله و اختصاصه ، و سوف يأتي يقينًا اليوم الذي تُشرقُ فيه شمسُنا كما أشرقت أوّل مرّة ! . فعَلِّمْ ما استَطَعْتَ لَعَلَّ جيلاً سيأتي يُحْدِثُ العجبَ العُجَابَا نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى.. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] - البداية والنهاية(7/17).
[2] -متفق عليه.
[3]- الصحيحة(1137).
[4] - المسند(5/299)،وذكره ابن حجر في الفتح(3/256-257)وعزاه إلى أحمد بإسناد حسن.
[5] - البداية والنهاية لابن كثير(7/10)- دار التقوى.
[6] - البداية والنهاية(7/11).
[7] - تيسير الكريم الرحمن للسعدي(ص394).
المنتدى مفتوحٌ للجميع ، وشرطُهُ :
- أن تكون الخطبة قرآنيّة تبرز كنزًا من كنوز القرآن .
- التزام التخريج العلمي للشواهد .
- و بطبيعة الحال ملتزمة بالضوابط العلمية والعقدية والمنهجيّة المعروفة .
و أستفتح بهذه الخطبة التي ألقيتها منذ مدّة في مسجد محمد البشير الإبراهيمي بعين البيضاء الجزائر ، و أسأل الله لي ولكم التوفيق و الاستمرار في هذا المنتدى الفرعي خدمة لكتاب الله :
خطبة : فسوف يأتِ اللهُ بقومٍ يحبهم ويحبُّونه . . من هم ؟
أيها الأحباب المؤمنون ؛ حيّاكم اللهُ و جعلكم ممّن يُحبُهم اللهُ ويحبُّونَه :
قال ربنا سبحانه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ( المائدة:54 ) . خمسُ صفاتٍ عظيمة ذكرها اللهُ تعالى في هذه الآية المباركة ، أوضحَ بها ملامح جيل النصر والتمكين و بيّنها أتمّ بيان ،كلها نتاجُ التربية الربانية القرآنيّة الأصيلة :
جيلٌ فاز بحبِّ اللهِ تعالى ورضوانه : لقيامه بأسباب ذلك الحبِّ والرضوان ، ففي القرآن الكريم ذكرٌ لصفات من يحبُّهم اللهُ عز وجل ، فإنَّ اللهَ يُحبُّ التوابين ويحب المتطهرين ، ويحبُّ المتقين ، ويحبُّ المحسنين ، ويحبُّ المقسطين ، ويحبُّ الصابرين ، ويحبُّ المتوكلين ، ويحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنَّهم بنيانٌ مرصوص. فهذا الجيل قد تركَّزت فيه كلُّ صفاتِ الخيرية والبركة والخلُقِ الحسن ، تُرى كم يأخذ هذا الجيل وهذه الخصال . . من الأوقات والجهود والتجرد . . ؟! .
في موقعة اليرموك سنة ثلاثِ عشرة للهجرة أرسل قائدُ الروم جاسوسًا من العرب النصارى ليتجسس له عن أمر المسلمين ورأيهم في المكان الذي نزلوا فيه،فلما رجع قال لقائد الروم : "جئتًكَ من عندِ رجالٍ دِقاق، يركبونَ خيولاً عتاقًا ، أما الليلَ فرهبان ، وأمَّا النَّهارَ ففرسان ، يريشُون النَّبلَ ويَبرونها ، ويثقَفُونَ القَنَا ، لو حدَّثتَ جليسَكَ حديثًا ما فهمه عنك لما علاَ من أصواتهم بالقرآن والذكر " . فالتفت قائد الروم إلى أصحابه فقال لهم : " أتاكم منهم ما لا طاقةَ لكم به..! " [1] . تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
الصفة الثانية لجيل النصر والتمكين : أنَّه جيلٌ يحبُّ اللهَ تعالى :
فاللهُ عنده أحبُّ إليه مما سواه كائنًا ما كان في الحياة،كما قال اللهُ تعالى:﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾(البقرة:165).وهذه الصفة أيضا نتاجٌ للتربية الربانية الأصيلة على التوحيد يرضعها الطفل مع اللبن ، ويسمعها صغيرًا في المهد ينام عليها ويصحو عليها ، ويتعلمها صبيًّا ، ثم يتفهَّمها شابًّا يافِعًا ليعيشها منهجَ حياة حين يدبُّ في الحياة . . ! تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
الصفة الثالثة لجيل النصر والتمكين : أنَّه جيلُ رجالٍ﴿أذِلَّةٍ على المؤمنين﴾ :
لأنَّه جيلٌ يشعرُ بقيمة الجسدِ الواحد للمؤمنين فعاملهم بالرحمة والمودة والحبِّ والنصيحة وخفض الجناح ، قال الله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(الحشر:10).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم،مثَلُ الجسد الواحد؛إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[2]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان،كما يألم الرأس لما يصيب الجسد"[3]. فبعد أن أحبُّوا اللهَ تعالى وأحبَّهم انتظموا في جسدٍ واحدٍ كالبناء المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا ! .
وانظروا - معشر المؤمنين - كم تحتاج هذه الصفة من الأوقات والجهود والتربية . . ؟! .
هل رأيتم علاقةً بين اثنين تلحقُ بهما في الحياة وفي القبر ، إنَّها صفة الحبِّ في اللهِ تعالى ، في مسند الإمام أحمد[4] حين أمر صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحُدٍ قال : " انظروا إلى عمرو بن الجموح،وعبد الله بن عمرو بن حَرَام فإنَّهما كانَا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد".
تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
والصفة الرابعة لجيل النصر والتمكين : أنَّه جيلُ رجالٍ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ :
عزة القويِّ الذي يستعلي بإيمانه وعقيدته وشخصيته ومنهجه في الحياة..عزة القوي الذي ليس له غايةٌ دون اللهِ جل وعلا ، ولا يتعوَّضُ عن اللهِ بشيءٍ سواهُ كائنًا ما كان في الحياة..عزَّةٌ تُبًغِضُ الكفرَ وتتبرَّأُ من الكافرين ظاهرًا وباطنًا.. جيلٌ بغضُ الكفر عندهم و البراءة من الكافرين ليس حرفًا يُلْفَظْ،ولا شعارًا يُحْفَظْ..بل هو قولٌ باللسان،وعقيدة في القلب وعمل في الحياة..! تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
والصفة الخامسة لجيل النصر والتمكين أنَّه جيلٌ مجاهِدٌ للكافرين في سبيل إعلاء كلمة اللهِ في الأرض : كما قال الله تعالى:﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾:
في موقعة اليرموك سنةَ ثلاثِ عشرةَ للهجرة حين التقى صفُّ الإيمان بصفوف الروم الكافرين نادى عمرو بن العاص في المؤمنين-وكان أميرًا على الميمنة-:"يا أيها المسلمون،غضُّوا الأبصار،واجثوا على الرُّكب،واشرعوا الرماح،فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم،حتى إذا ركبوا أطرافَ الأَسِنَّةِ،فَثِبُوا إليهم وثبة الأسد،فوالذي يرضى الصِّدقَ ويُثيبُ عليهِ،ويمقتُ الكَذِبَ ويجزي بالإحسانِ إحسانَا،لقد سمعتُ أنَّ المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا،وقصرًا قصْرً،فلا يهولُكم جموعُهم ولا عددُهم،فإنَّكم لو صدقتموهُم الشَّدَّ تطايروا تطايرَ أولادِ الحَجَل.."[5].
ولما برز قائدُ جيش المسلمين خالدُ بن الوليدِ رضي الله عنه بين الصفين بطلبٍ من "ماهان" أحدِ قادة الروم،قال له قائد الروم:"إنَّا قد علمنا أنَّ ما أخرجكم من بلادكم الجَهدُ والجُوع،فهلُمُّوا إليَّ أن أُعطيَ كلَّ رجلٍ منكم عشرة دنانير وكسوةً وطعامًا،وترجعون إلى بلادكم،فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها"،فقال خالد رضي الله عنه :"إنَّه لم يُخرجنا من بلادنا ما ذكرت،غير أنَّا قومٌ نشربُ الدِّماء،وأنَّهُ بلغنا أن لا دَمَ أطيبَ من دمِ الرُّوم فجئنَا لذلك".فقال أصحاب "ماهان" :"هذا واللهِ ما كُنَّا نُحَدَّثُ به عن العرب"[6].
تُرى كم أخذ هذا الجيل..وكم أخذت هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟! نسأل اللهَ العظيم أن يوفقنا لما يحبُّ ويرضى ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
لنسأل أنفسنا-معشر المؤمنين- كيف يأت اللهُ بهؤلاء القوم ؟!
هل ينزلون من السماء،أو يخرجون من تحت الأرض،أم ننتظرهم حتى يأتوا إلينا من مكان بعيد ؟!
هل يأتون إلينا بطريقة غامضة سحرية خارقةٍ للأسباب والطاقة والواقع..؟
ترى لماذا يخرج المسلمون كلَّ يوم إلى المضارب ينتظرون قدوم هذا الجيل..فإذا ما لفحهم حرُّ الظهيرة رجعوا خائبين ينتظرون الفجر ليخرجوا في اليوم الثاني والثالث..؟!
أيها الإخوة في الله . . يا أولي الألباب :
إن وعود الله صادقةٌ لا شك فيها ، وإنما الشَّكُّ في صدقنا وفهمنا للقرآن العظيم..!
نحن ننتظر تحقق وعود الله تعالى بالخوارق المجهولة الأسباب وبالطرق السحرية الغامضة..
نحن نحب أن نفسِّر التاريخ المجيد للأمة بعزِّه ونصرهِ ومجدِه على أنه خوارق غامضة فوق الطاقة البشرية تم بوسائل سحرية غامضة..فكان لهم من الخوارق والمبهمات ما لا يكون لأحدٍ بعدهم..! لذلك نحن نخرج كل يوم إلى المضارب ننتظرُ قدوم الخوارق والمعجزات التي تبعث جيل النصر والتمكين..فطال انتظارنا..وطال معه ذلُّنا وهواننَا في الأرض..!
إن دين الله عز وجل منهج إلهيٌّ لحياة الناس،يتم تحقيقه في الأرض بجهدِ النَّاس أنفسهم في حدود الفطرة البشرية وطاقة النَّاس أنفسهم،وإنَّما من الله التأييد والتوفيق والمعونة والمعية حين نقدّم أسباب ذلك بجهدنا وطاقتنا وحركتنا في الأرض..! كما قال الله تعالى :﴿وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المحْسِنِين﴾(العنكبوت:69).وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(الرعد:11).
إذًا كيف يأتِ جيل النصر والتمكين؟
الجواب : أنتم من سيبعث هذا الجيل..!لا أحد سواكم ..!و إلا فلن ينكسر القيد..!سيطول بقاؤنا في الأسر..!سيطول انتظارنا،وسيطول ذلُّنا وهواننا في الأرض..!. قال ربنا سبحانه :﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾(الأنفال:60). أعدُّوا جميعًا..واستعدُّوا جميعًا..رجالاً ونساءً . .كلٌّ في مجال عمله و اختصاصه ، و سوف يأتي يقينًا اليوم الذي تُشرقُ فيه شمسُنا كما أشرقت أوّل مرّة ! . فعَلِّمْ ما استَطَعْتَ لَعَلَّ جيلاً سيأتي يُحْدِثُ العجبَ العُجَابَا نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى.. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] - البداية والنهاية(7/17).
[2] -متفق عليه.
[3]- الصحيحة(1137).
[4] - المسند(5/299)،وذكره ابن حجر في الفتح(3/256-257)وعزاه إلى أحمد بإسناد حسن.
[5] - البداية والنهاية لابن كثير(7/10)- دار التقوى.
[6] - البداية والنهاية(7/11).
[7] - تيسير الكريم الرحمن للسعدي(ص394).