المنتدى المفتوح للخطب القرآنية

إنضم
11/11/2011
المشاركات
10
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
العمر
47
الإقامة
عين البيضاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : يسرّني أحبّتي في الله أنا أخوكم الخطيب : رشيد بن ابراهيم الجزائري أن أستفتح معكم هذا المنتدى المتخصص في جمع الخطب القرآنيّة تحديدًا ، والتي يكتبها أعضاء هذا الملتقى المبارك وتجودُ بها قلوبُهم و أقلامهم و ألسنتهم ، إبرازًا لهدايات القرآن العظيم ، و كشفًا عن كنوزه و بركاته التي لا تنتهي في إصلاح العقول والنفوس والأوضاع .
المنتدى مفتوحٌ للجميع ، وشرطُهُ :
- أن تكون الخطبة قرآنيّة تبرز كنزًا من كنوز القرآن .
- التزام التخريج العلمي للشواهد .
- و بطبيعة الحال ملتزمة بالضوابط العلمية والعقدية والمنهجيّة المعروفة .
و أستفتح بهذه الخطبة التي ألقيتها منذ مدّة في مسجد محمد البشير الإبراهيمي بعين البيضاء الجزائر ، و أسأل الله لي ولكم التوفيق و الاستمرار في هذا المنتدى الفرعي خدمة لكتاب الله :
خطبة : فسوف يأتِ اللهُ بقومٍ يحبهم ويحبُّونه . . من هم ؟
الحمد لله ربّ العالمين ، نحمده سبحانه حمدًا كثيرًا طيّبًا مبارَكا فيه ، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما ، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادَةَ حقٍّ وصدق ، من قلبٍ مومِنٍ موقِن ، ندّخِرُها ليومِ الجمعِ والتغابُن ، يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتَى اللهَ بقلبٍ سليم ، وأشهد أنَّ محمّدًا عبد الله ورسوله ، بلّغ الرسالة و ختمَها ، و أدّى الأمانةَ وأتمّها ، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين المؤمنين المُوَحّدِين وصحبِهِ الأخيار البَرَرة ، ومن تبعَهُم على الحقّ و الهدى إلى يوم الدّين وسلَّم ، ثم أما بعد :
أيها الأحباب المؤمنون ؛ حيّاكم اللهُ و جعلكم ممّن يُحبُهم اللهُ ويحبُّونَه :
قال ربنا سبحانه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( المائدة:54 ) . خمسُ صفاتٍ عظيمة ذكرها اللهُ تعالى في هذه الآية المباركة ، أوضحَ بها ملامح جيل النصر والتمكين و بيّنها أتمّ بيان ،كلها نتاجُ التربية الربانية القرآنيّة الأصيلة :
جيلٌ فاز بحبِّ اللهِ تعالى ورضوانه : لقيامه بأسباب ذلك الحبِّ والرضوان ، ففي القرآن الكريم ذكرٌ لصفات من يحبُّهم اللهُ عز وجل ، فإنَّ اللهَ يُحبُّ التوابين ويحب المتطهرين ، ويحبُّ المتقين ، ويحبُّ المحسنين ، ويحبُّ المقسطين ، ويحبُّ الصابرين ، ويحبُّ المتوكلين ، ويحبُّ الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنَّهم بنيانٌ مرصوص. فهذا الجيل قد تركَّزت فيه كلُّ صفاتِ الخيرية والبركة والخلُقِ الحسن ، تُرى كم يأخذ هذا الجيل وهذه الخصال . . من الأوقات والجهود والتجرد . . ؟! .
في موقعة اليرموك سنة ثلاثِ عشرة للهجرة أرسل قائدُ الروم جاسوسًا من العرب النصارى ليتجسس له عن أمر المسلمين ورأيهم في المكان الذي نزلوا فيه،فلما رجع قال لقائد الروم : "جئتًكَ من عندِ رجالٍ دِقاق، يركبونَ خيولاً عتاقًا ، أما الليلَ فرهبان ، وأمَّا النَّهارَ ففرسان ، يريشُون النَّبلَ ويَبرونها ، ويثقَفُونَ القَنَا ، لو حدَّثتَ جليسَكَ حديثًا ما فهمه عنك لما علاَ من أصواتهم بالقرآن والذكر " . فالتفت قائد الروم إلى أصحابه فقال لهم : " أتاكم منهم ما لا طاقةَ لكم به..! " [1] .
تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
الصفة الثانية لجيل النصر والتمكين : أنَّه جيلٌ يحبُّ اللهَ تعالى :
فاللهُ عنده أحبُّ إليه مما سواه كائنًا ما كان في الحياة،كما قال اللهُ تعالى:
﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ(البقرة:165).وهذه الصفة أيضا نتاجٌ للتربية الربانية الأصيلة على التوحيد يرضعها الطفل مع اللبن ، ويسمعها صغيرًا في المهد ينام عليها ويصحو عليها ، ويتعلمها صبيًّا ، ثم يتفهَّمها شابًّا يافِعًا ليعيشها منهجَ حياة حين يدبُّ في الحياة . . ! تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
الصفة الثالثة لجيل النصر والتمكين : أنَّه جيلُ رجالٍ
﴿أذِلَّةٍ على المؤمنين :
لأنَّه جيلٌ يشعرُ بقيمة الجسدِ الواحد للمؤمنين فعاملهم بالرحمة والمودة والحبِّ والنصيحة وخفض الجناح ، قال الله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(الحشر:10).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم،مثَلُ الجسد الواحد؛إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[2]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان،كما يألم الرأس لما يصيب الجسد"[3]. فبعد أن أحبُّوا اللهَ تعالى وأحبَّهم انتظموا في جسدٍ واحدٍ كالبناء المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا ! .
وانظروا - معشر المؤمنين - كم تحتاج هذه الصفة من الأوقات والجهود والتربية . . ؟! .
هل رأيتم علاقةً بين اثنين تلحقُ بهما في الحياة وفي القبر ، إنَّها صفة الحبِّ في اللهِ تعالى ، في مسند الإمام أحمد[4] حين أمر
صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحُدٍ قال : " انظروا إلى عمرو بن الجموح،وعبد الله بن عمرو بن حَرَام فإنَّهما كانَا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد".
تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!

والصفة الرابعة لجيل النصر والتمكين :
أنَّه جيلُ رجالٍ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ :
عزة القويِّ الذي يستعلي بإيمانه وعقيدته وشخصيته ومنهجه في الحياة..عزة القوي الذي ليس له غايةٌ دون اللهِ
جل وعلا ، ولا يتعوَّضُ عن اللهِ بشيءٍ سواهُ كائنًا ما كان في الحياة..عزَّةٌ تُبًغِضُ الكفرَ وتتبرَّأُ من الكافرين ظاهرًا وباطنًا.. جيلٌ بغضُ الكفر عندهم و البراءة من الكافرين ليس حرفًا يُلْفَظْ،ولا شعارًا يُحْفَظْ..بل هو قولٌ باللسان،وعقيدة في القلب وعمل في الحياة..! تُرى كم يأخذ هذا الجيل..وكم تأخذ هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟!
والصفة الخامسة لجيل النصر والتمكين أنَّه جيلٌ مجاهِدٌ للكافرين في سبيل إعلاء كلمة اللهِ في الأرض
: كما قال الله تعالى:﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ:
في موقعة اليرموك سنةَ ثلاثِ عشرةَ للهجرة حين التقى صفُّ الإيمان بصفوف الروم الكافرين نادى عمرو بن العاص في المؤمنين-وكان أميرًا على الميمنة-:"يا أيها المسلمون،غضُّوا الأبصار،واجثوا على الرُّكب،واشرعوا الرماح،فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم،حتى إذا ركبوا أطرافَ الأَسِنَّةِ،فَثِبُوا إليهم وثبة الأسد،فوالذي يرضى الصِّدقَ ويُثيبُ عليهِ،ويمقتُ الكَذِبَ ويجزي بالإحسانِ إحسانَا،لقد سمعتُ أنَّ المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا،وقصرًا قصْرً،فلا يهولُكم جموعُهم ولا عددُهم،فإنَّكم لو صدقتموهُم الشَّدَّ تطايروا تطايرَ أولادِ الحَجَل.."[5].
ولما برز قائدُ جيش المسلمين خالدُ بن الوليدِ
رضي الله عنه بين الصفين بطلبٍ من "ماهان" أحدِ قادة الروم،قال له قائد الروم:"إنَّا قد علمنا أنَّ ما أخرجكم من بلادكم الجَهدُ والجُوع،فهلُمُّوا إليَّ أن أُعطيَ كلَّ رجلٍ منكم عشرة دنانير وكسوةً وطعامًا،وترجعون إلى بلادكم،فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها"،فقال خالد رضي الله عنه :"إنَّه لم يُخرجنا من بلادنا ما ذكرت،غير أنَّا قومٌ نشربُ الدِّماء،وأنَّهُ بلغنا أن لا دَمَ أطيبَ من دمِ الرُّوم فجئنَا لذلك".فقال أصحاب "ماهان" :"هذا واللهِ ما كُنَّا نُحَدَّثُ به عن العرب"[6].
تُرى كم أخذ هذا الجيل..وكم أخذت هذه الخصال..من الأوقات والجهود والتجرد..؟! نسأل اللهَ العظيم أن يوفقنا لما يحبُّ ويرضى ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
قال الله تعالى:﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(النحل:44). قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي-رحمه الله- في تفسير هذه الآية:"..ولعلهم يتفكرون فيه،فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه "[7]. والآن وقفةُ تدبُّر وتأمل وتفكُّر مع قول الله تعالى:﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمْ:
لنسأل أنفسنا-معشر المؤمنين- كيف يأت اللهُ بهؤلاء القوم ؟!
هل ينزلون من السماء،أو يخرجون من تحت الأرض،أم ننتظرهم حتى يأتوا إلينا من مكان بعيد ؟!
هل يأتون إلينا بطريقة غامضة سحرية خارقةٍ للأسباب والطاقة والواقع..؟
ترى لماذا يخرج المسلمون كلَّ يوم إلى المضارب ينتظرون قدوم هذا الجيل..فإذا ما لفحهم حرُّ الظهيرة رجعوا خائبين ينتظرون الفجر ليخرجوا في اليوم الثاني والثالث..؟!
أيها الإخوة في الله
. . يا أولي الألباب :
إن وعود الله صادقةٌ لا شك فيها ، وإنما الشَّكُّ في صدقنا وفهمنا للقرآن العظيم..!
نحن ننتظر تحقق وعود الله تعالى بالخوارق المجهولة الأسباب وبالطرق السحرية الغامضة..

نحن نحب أن نفسِّر التاريخ المجيد للأمة بعزِّه ونصرهِ ومجدِه على أنه خوارق غامضة فوق الطاقة البشرية تم بوسائل سحرية غامضة..فكان لهم من الخوارق والمبهمات ما لا يكون لأحدٍ بعدهم..! لذلك نحن نخرج كل يوم إلى المضارب ننتظرُ قدوم الخوارق والمعجزات التي تبعث جيل النصر والتمكين..فطال انتظارنا..وطال معه ذلُّنا وهواننَا في الأرض..!

إن دين الله عز وجل منهج إلهيٌّ لحياة الناس،يتم تحقيقه في الأرض بجهدِ النَّاس أنفسهم في حدود الفطرة البشرية وطاقة النَّاس أنفسهم،وإنَّما من الله التأييد والتوفيق والمعونة والمعية حين نقدّم أسباب ذلك بجهدنا وطاقتنا وحركتنا في الأرض..! كما قال الله تعالى :﴿وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المحْسِنِين(العنكبوت:69).وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ(الرعد:11).
إذًا كيف يأتِ جيل النصر والتمكين؟

الجواب :
أنتم من سيبعث هذا الجيل..!لا أحد سواكم ..!و إلا فلن ينكسر القيد..!سيطول بقاؤنا في الأسر..!سيطول انتظارنا،وسيطول ذلُّنا وهواننا في الأرض..!. قال ربنا سبحانه :﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(الأنفال:60). أعدُّوا جميعًا..واستعدُّوا جميعًا..رجالاً ونساءً . .كلٌّ في مجال عمله و اختصاصه ، و سوف يأتي يقينًا اليوم الذي تُشرقُ فيه شمسُنا كما أشرقت أوّل مرّة ! . فعَلِّمْ ما استَطَعْتَ لَعَلَّ جيلاً سيأتي يُحْدِثُ العجبَ العُجَابَا نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى.. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] - البداية والنهاية(7/17).

[2] -متفق عليه.

[3]- الصحيحة(1137).

[4] - المسند(5/299)،وذكره ابن حجر في الفتح(3/256-257)وعزاه إلى أحمد بإسناد حسن.

[5] - البداية والنهاية لابن كثير(7/10)- دار التقوى.

[6] - البداية والنهاية(7/11).

[7] - تيسير الكريم الرحمن للسعدي(ص394).
 
خطبة : مِن بَرَكَات سورة الحديد !
ألقيت بمسجد محمد البشير الإبراهيمي عين البيضاء – الجزائر
إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضِلّ له ، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشِدَا ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ينطقُ بها لساني ، ويؤمنُ بها جَنانِي ، وتعيشُ في سبيلها جوارِحي و أركاني ، شهادةً لا لغوَ في مقالها ، ولا انفصال لاتّصالِها ، و أشهدُ أنَّ محمّدًا عبد الله ورسوله ، أرسله اللهُ على حين فترةٍ من الرُّسل ، بخيرِ كتابٍ أُنزِل ، فأقامَ به الملّة و أرسَاها ، و أوضحَ به الشّرعةَ وجلاّها ، و أخرجَ به من الظلمات إلى النور ، صلى الله عليه و على آله آناءَ الليل و أطراف النّهار ، وصحبِهِ الطيّبين الأخيار ، ومن تبِعَهُم بإحسانٍ وسلّم ، ثم أما بعد :
قال الله تعالى:﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(16)اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون(الحديد:16-17).
ما أحوجنا - معشر المؤمنين - أن نعقِلَ عن اللهِ تعالى مواعِظَهُ وآياتِه ، فتخشعَ قلوبُنَا لذكر الله تعالى وما نَزَلَ من الحق ، فلا نكون كالذين أوتوا الكتاب من قبلنا ، سمعوا الآيات ، وحفظوا الكلمات ، ولكن ضيَّعوا موعظة رَبِّ الأرض والسماوات . . فكانوا كما ذكر اللهُ تعال :
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُون(الأنفال:21) .
ما أحوجنا أن نعلمَ أنَّ اللهَ تعالى يُحيي الأمَّةَ بعد موتها كالأرض بعدَ موتها ، إذا توَفَّرت أسبابُ الحياة والنبات بإذْنِ ربِّ الأرض والسموات . .
أيها الإخوة في الله : إنَّ القرآن الكريم حبلُ اللهِ المتين ، وصراطُهُ المستقيم ، ما استَمسكت به الأمَّةُ في كلِّ زمان إلا ظهرت وعَزَّت ، وما تركتهُ إلاَّ هانت وذَلَّت ، ومصداقُ ذلك في القرآن الكريم وفي تاريخِ الأمَّةِ وصراعها الطويل مع الباطل: اقرأ إن شئت أقوال أعداء الإسلام وخوفهم من القرآن الكريم أن يبعثَ الأمَّة من جديد ،فقبل عقودٍ من الزمن قال الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى الاحتفال بمرور مائة سنة على الاستعمار : " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ، ويتكلمون العربية ، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم " [1].وحاقِدٌ آخرُ يقول : " ما دام هذا القرآن موجودًا في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان " .
هذه كلماتٌ من أعداء القرآن الكريم تبيِّن بصراحةٍ خوفَهم من القرآن الموجودِ في أيدي المسلمين ، أن يصنعَ عزَّنا ومجدنا ، ويحُولَ
دون تعبيدِ الأمَّةِ لشهواتهم وأطماعهم ومصالحهم . .
أيها المسلمون : نظرةٌ في حال الأمَّةِ العريضة تدعو إلى الدهشةِ والعجب ! ، نظرةٌ تَكادُ تُشكِّكُنا في صِحَّةِ أقوالهم وحساباتهم : أُمَّةٌ فيها القرآنُ الكريمُ تقرأُهُ صباح مساء ، ومع ذلك لا هي بالدين قامت ولا بالدنيا نهضت وأقامت ! ؛ ضَعْفٌ وتراجُعٌ وتخاذُلٌ وتبعية ، والقرآن فيها موجود . . ! أليس القرآن في الأمة نقرأه صباحَ مساء . . ؟! ؛ فلماذا تحطم الجدار الوحيدُ الذي كان في وجه أوروبا. . ؟! ، ولماذا استطاعوا السيطرة على الشرق والغرب وكلِّ مكانٍ فيه المسلمون . . يُقَلِّبون أُمورَنا . . ويلتهمون دورَنا . . ويقصمون ظهورنا . . والقرآن فينا موجود . . ! أليست المصاحفُ في المكتبات . . والطَّبعاتُ بالملايين ، وهي على أحسن صفات الطبع والإخراج . . بل وتُطبَعُ على نفقة الكبار وشَرَفِهِم . . ؟! ، فلماذا طالَ خُرُوجُ الأمة التي وُصِفَت فيه بأنها خيرُ أمَّةٍ أُخرِجت للناس . . ألم يكن إخراجُها من القرآن أوَّل مرَّة . . ؟! بلى ؛ القرآن هو القرآن ، وهو موجودٌ بين أيدينا نقرأُهُ وننظرُ فيه ، ولكنَّنا لا نستطيعُ الانتفاع بما فيه كما كان الأوَّلون ينتفعون بما فيه..!
لم يتغيَّر القرآن يقينًا ، ولكنَّ موقفنا من القرآن هو الذي تبدَّل وتغيَّر..!!
انظروا كيف كان حالُ الأوَّلين مع القرآن العظيم حتى كانوا جدارًا في طريق المصالح والأطماع ، فَحَفِظُوا أُمُورَهم . . وسَادُوا دورَهم . . وحمَوا ظهورَهم . . : قال الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين(يونس:57).
أربعُ صفاتٍ لكتابِ اللهِ تعالى فهمها الأوَّلون وعاشوها منهجَ حياة :
أيقنُوا أنَّ القرآن موعظَةٌ من الله ، فحفظُوا موعظة اللهِ ورعَوها حقَّ رعايتها فما ضيَّعوها كما ضَيَّع بنو إسرائيل موعظة الرحمن..
!
وأيقنُوا أَنَّه شفاءٌ لما في الصُّدور ، فعرضُوا على القرآن الكريم أمراضَهُم فشفاها ، وشُبُهاتِهِم فكشفها وجلاَّها ، فسلِموا من الشهواتِ والشُّبُهات..!
و أيقنوا أنَّه هُدًى من اللهِ فلم يطلبوا الهداية من غيره وما رضَوا بهِ بَدِيلاً ولا عنهُ وعن أحكامه صارِفًا ومُحيلاَ في عقائدهم وأحكامهم وأخلاقهم ومنهج حياتهم..!
وأيقنُوا أنَّ القرآن الكريم رحمةٌ للمؤمنين فلم يطلبوا الرحمة من الشرق أو الغرب، فكُلُّ الرحمةِ في لزومِ القرآن وإقامةِ الأحكامِ وطاعةِ الرحمان..!
حين كان القرآن الكريمُ في نفوسنا وواقع حياتنا بهذا المعنى : كانَ جدارًا في طريق المصالح والأطماع،عزَّ الدين،وحَلَّتِ البركةُ في الرزق والعجينْ ، وحينَ عُزِلَ القرآن من الأمَّةِ أن يكونَ منهجًا للحياة ، فصارَ بركةً للقبور ، وزينَةً للمكاتب والدُّور ، رُفِعَ عِزُّنا وأمْنُنَا وخُبزُنا جميعًا ، لأنَّ في القرآنِ أسبابُ العزِّ والأمنِ والخُبزِ جميعَا ، ولكنَّ أكثر النَّاسِ لا يعلمون ! . قال الله جل وعلا:﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم(المائدة:66) . وقال تعالى:﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون(الأعراف:96)...! وفي سورة نوح يقول الله تعالى :﴿استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا(نوح:10-12).
أيها الإخوة في الله :
حينَ تنظُرُ الأمَّةُ إلى القرآن الكريم على أنَّه كتاب هدايةٍ وشفاءٍ وتقويم وتغيير، على أنَّه هُدًى ورحمة للمؤمنين ؛ ستسري روح القرآن في الأمة من جديد ، وستُبعَثُ فينا روحُ القرآن التي جعلها اللهُ فيه . . ستنفتحُ علينا أبوابُ العِزِّ والخُبز من السَّماءِ والأرض ومن كلِّ مكان ، ولا يهُمُّ الزَّمنُ الذي تُفتَحُ فيه..فإنَّ القضيَّةَ قضِيَّةُ جيل ، والأجيالُ لا تُقاسُ أعمارُها بِعُمَّارِها !
نسأل الله العظيم التوفيق لما يحب ويرضى،أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم
.

الخطبة الثانية :

أيها الإخوة في الله : إن الله جل وعلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُم لهم الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(173)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِين(174)وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُون(171-175).
هذه كلمةٌ سبقت من اللهِ تعالى هي سُنَّةٌ للمرسلين وخلفائِهِم حتَى يرثَ الله الأرض ومن عليها ، تزويجُ الصبرِ باليقين لتحقيقِ النَّصرِ والغَلَبَةِ والتمكين . . ! هذا هو الثمنُ الذي تُمتَحَنُ عليه الأجيال ؛ يقينُ القلبِ بانتصارِ الحقِّ على الباطل ، وصبرٌ على ما تراهُ العينُ من ظُهورِ الباطِلِ على الحقِّ زمن الامتحان . . يقينٌ دائمٌ وصبرٌ حتَّى حينْ . . !
حتَّى حينْ
! : قد يكونُ بِضْعَ سنينْ ، وقد يكونُ ألفَ سنةٍ إلاَّ خمسينَ عامًا ، قال الله تعالى :﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(يونس:109). وكما قال الله تعالى :﴿وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المحْسِنِين(العنكبوت:69).
تيقّنوا يا معشر المؤمنين . . تيقّنُوا
:

حينَ تسري روح القرآن في الأمة من جديد ، ستُبعَثُ فينا روحُ القرآن . . سنأكُلُ من فوقنا ومن تحتِ أرجُلِنا،ستنفتحُ على الأمَّةِ أبوابُ العِزِّ والخُبز من كلِّ مكان..
! هذا وعدٌ من اللهِ غيرُ مكذوب . . ! ولكن : تُرى كم تحتاجُ هذه الأمَّةُ لتعودَ إلى القرآن الكريم..؟! ، وكم تحتاجُ من جهودِ الدَّعوة والبيانِ وجُهودِ التربيةِ والبناءِ والتَّجرُّد ، في المدارس والبيوت والمساجد والأسواق . . و في كل مكان ؟!
حين يكون لنا القرآن موعظةً وشفاءً وهدًى ورحمة ؛ لن تجدَ في الأمة من يرفضُ حكم اللهِ تعالى ، ويُقَدِّمُ عليهِ حكمَ غيرِهِ بسبب شهوةٍ أو عصبيَّة أو ظُلمٍ واستكبار ، لأنَّه يقرأ في القرآن الكريم قولَ الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُون(النور:51).
تُرى كم تحتاجُ الأمَّةُ من الجهودِ والأوقاتِ والتَّجرُّد لتتربَّى على هذه الآيةِ العظيمة وما تقتضيه في واقع الحياة..؟
!
حينَ يكون لنا القرآنُ موعظةً وشفاءً وهدًى ورحمة؛ لن تجدَ في الأمة امرأةً تتبرَّجُ وتتزَيَّن وتتعطر ثم تخرُجُ إلى الشوارع والطرقات تطلبُ الفتنةَ والإفسادَ في الأرض ، لأنَّها تقرأُ في القرآن الكريم:﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ(الأحزاب:33) ، فإن أبت ؛ فإنَّ والِدَها ووَليَّ أمرها يقرأُ في القرآن الكريم:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة(التحريم:6) . فتجِدُهُ يؤمن بهذه الآية العظيمة منهجا للأسرة، وسينهاهُ ما يقرأُ أن يتخلَّى..! .
تُرى كم تحتاجُ الأمَّةُ من الجهودِ والأوقاتِ والتَّجرُّد لتتربَّى على هذه الآيةِ وما تقتضيه في واقع الحياة . .
!
حين يكون لنا القرآنُ موعظةً وشفاءً وهدًى ورحمة؛لن تجدَ في الأمة من يشبعُ وجارُهُ جائع، لن تجدَ في الأمة من يهنَأُ بالإسراف والتبذير،وأخوهُ في الله تعالى لا يجدُ ما يُسكِتُ به الجوع ، ولا ما يمسحُ به الدُّموع. . ، لن تجدَ في الأمة من تهنأُ بقناطير الذهب وحقائب الجوهر وأختها في الله تُعاني الصِّغارْ وتخشى إسكاتَ الجوعِ بالعارْ..! لن تجدَ جارًا يفعل ذلك ، ولا أخًا في الله يستبيحُ ذلك ، وهو يقرأُ في القرآن الكريم قول الله تعالى:﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُون(الحشر:9) .
تُرى كم تحتاجُ الأمَّةُ من الجهودِ والأوقاتِ والتَّجرُّد لتتربَّى على هذه الآيةِ العظيمةِ وما تقتضيه..؟
! أيها الإخوة في الله : إنَّ جيلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما عَزَّ بالأماني ولا بالأحلام...! ما ارتفع عندَ اللهِ بالمظهريَّةِ الجوفاءِ والالتزامِ المُزَيَّف..! ولكنَّهُ حينَ ابتُلِيَ على الخَوفِ والجُوعِ صَبَرْ ، وحينَ امتُحِنَ على الأخُوَّةِ برهنَ وأظْهَرْ ، وحينَ عرضَ النفوس على الآيات استرجعَ واستغفرْ ، فتجرَّدَ وتَطَهَّر . . !
حينها سَرَتْ فيهم روحُ القرآن لأنَّهم رأوهُ كتابَ هدايةٍ وشفاءٍ وتغيير..
!
إنَّ القرآن الكريم - معشر النبلاء - لن يعمل في الأمة بطريقة سحرية ولكنَّه يحتاجُ إلى أوقاتٍ وجهودٍ وتجرُّد . . ! حينَ تنظُرُ الأمَّةُ إلى القرآن على أنَّه كتاب هدايةٍ وشفاءٍ وتغيير..! ، وحينَ تترَبَّى على كتابِ اللهِ تعالى ، وتصبِرُ على مراحلِ الطريقِ وتكاليف التربية والتغيير . . ستعودُ إليها الحياةُ من جديدْ..! ستسري روح القرآن فينا من جديد في عقائدنا وأعمالنا وأخلاقنا وتصوراتنا. . !
سنأكُلُ من فوقنا ومن تحتِ أرجُلِنا ولو بعدَ حين ، أكلَ عِزٍّ واقتدارْ ، لا أكلَ ذُلٍّ وصَغَارْ . . !
حينها يبعثُ اللهُ فينا الحياة كما يبعثها في الأرض بعد موتها ، فنستمتعَ بالحياةْ ، ونفهمَ قول الله تعالى:﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون(الحديد:16-17). نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا إلى حسن العلم وحسن العمل ، وأن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه صلاح قلوبنا وأعمالنا ، إنه نعم المولى ونعم النصير . . ( دعاء يناسب المقام ) ، وصلى الله وسلم وبارك على محمد على آله وصحبه أجمعين . .

[1] - مجلة المنار: عدد 9-11-1962م.
 
خطبة الجمعة : زاد المسير : ربنا الله ثم استقامُوا ! .
قال الله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31)نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيم(فصلت:30-32). وقال سبحانه:﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(13)أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون(الأحقاف:13-14).
أيها الإخوة في الله : إن الحياةَ الدنيا مسيرُ فتنةٍ وغرور، ودارُ امتحانٍ وعبور، مهما طالت أيامها، ومهما امتدت سِنِينُهَا وأعوامُهَا ، فلا بد لكل واحد فيها من نهايةٍ أكيدَة ، تقطعُ الشهوات، وتفضحُ الغفلات، هي أجَلُنا الذي كتبه الله لنا . . و لا يعلمُهُ إلاَّ الله . . !
تالله لقد نادت الدنيا على نفسها في الليل والنهار : يا عبد الله ؛ أجلٌ مكتوب . . وأملٌ مكذوب . .
! ولكن أين من يسمع . . ؟! والناسُ نائمون..! ، وأين من يبصر والقومُ عَمُون . . ؟! ، وأين من يعي وضجيجُ الفتنِ و الشهوات يخدعُ القلوبَ والعيون . . ؟!
الدَّهرُ يُوعِدُ فرقةً وزوَالاَ ** وخطوبُهُ لكَ تضربُ الأمثَالاَ
يا رُبَّ عيشٍ كانَ يُغبَطُ أهلُهُ ** بنعيمِهِ قد قيلَ كــانَ فزَالاَ
يا طالبَ الدُّنيا يُثَقِّلُ نفسَهُ ** إنَّ المُخِفَّ غدًا لأحسنُ حالاَ..![1].
نداءٌ صادقٌ من الأيَّام والليالي، ولكن أين من يسمع..؟! وأين من يبصر..؟! وأين من يعي..؟! وضجيجُ الفتنِ و الشهوات يخدعُ القلوبَ ويملأُ الدروب..!
لَقَدْ لَعِبْتُ وَجَدَّ الموتُ في طَلَبِي** وإنَّ في الموتِ لِي شُغْلاً عن اللَّعِبِ
ِ لو شمَّرتُ فكرَتي فيما خُلِقتُ له ** ما اشتدَّ حرصي على الدُّنيا ولا طلبي
سبحان من ليس شيءٌ يُعادلُهُ ** إنَّ الحريصَ على الدنيا لفي تـعبِ..![2].
لا بد لكل واحد منا - معشر الأحباب - أن يقف تلك الساعةَ الأخيرةَ من أيَّامه ليُوَدّعَ الأحبابَ والأصحابَ ، وينتقلَ وحيدًا إلى بيت الدُّودِ والتراب..! مهما طالت لحظاتك يا عبد الله ؛ فإن لك أجلا تنتهي إليه،وقبرا تصير فيه،لا يؤنسك فيه غيرُ إيمانِك وأعمالك التي قدمت..!
عن أنس
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يتبع الميت ثلاثةٌ أهلُهُ وعَمَلُهُ ومَالُهْ فيرجعُ اثنان ويبقَى واحدْ يَرْجعُ أهلُهُ ومَالُهْ ويبقى عَمَلُهْ"[3]. و والله إن لمن أجل نعم الله على العبد الموفق – معشر المؤمنين - أن يلهمه نعمة الاتّعاظ بغيره ، فيُبَادرُ إلى الخيرات زمن الإمكان قبل أن يُبادَر ، ويغتنمُ السَّاعاتِ واللحظاتِ في الحياة قبل الممات ، فيأتيه الموتُ حين يأتيه وهو مطمئنٌّ على أحسن حال لا خوفٌ عليه ولا هو يحزنْ . . !
معشر المؤمنين :
هذه الآياتُ العظيمة التي استفتحنا بها الموعظَة فيها الأمانُ والبشرى من الله تعالى للصادقين يوم يخاف الناسُ ويفزعون . . !
فيها وعدُ صدقٍ من الله تعالى للمؤمنين الذين عاشوا الصّدقَ في نيّاتهم فاستقامت لله جوارحُهم وحركاتُهم. . ! .
فيها مواساةٌ من الله تعالى وتثبيتٌ للمؤمنين يوم قرَّروا السيرَ في طريق الغربة الطويل ، يُكابِدون الزَّمان، ويُجاهدون الشيطان، ويصابرون المصائب و المِحَنَ والأحزانْ ؛ ألاَّ يخافوا ولا يحزنوا مما يخافُ منه النَّاسُ ويحزنون . . !
فيها وعدٌ من الله تعالى
للمؤمنين الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّه ثم استقامُوابالسعادة والطمأنينة وهم في مراحل الحياةِ يسيرون ،يُكابِدون بالصبر أسبابها، ويقطعون باليقين خَرابها، ويدفعون بالتقوى تُرابها . . وعدٌ من الله تعالى ألاَّ خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون . . ! ووعدٌ من الله تعالى لهم وهم على فراش الموت ينتظرون الذَّهاب ، ويودِّعُون الأهل والأحبابْ ، ألاَّ خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. . ! :﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31)نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيم.
أيها الإخوةُ في الله :إنَّ لكلّ عبدٍ لحظةَ الموت همَّان وأَلَمَان يُعذِّبانه : خوفٌ على نفسه وهمٌّ على غيره : خوفٌ ممَّا هو مقبلٌ عليه من السؤال والحساب و اللقاء مع الله جل وعلا كيف يكون..وإلى أين يكون المصير؟! أإلى الجنََّة أم إلى النَّار،أإِلى رضوانٍ أم إلى النيرانِ وربِّ غضبانْ..؟!
وهمٌّ آخر يعتصر الفؤادْ :هو الحزنُ على ما ترك خلفه من الذرِّيَّةِ والحقوق والضعفاء والأحباب كيف بَعْدَهُ يَحْيَون..؟ ، وماذا في الحياة يُلاقُون..؟ .
المؤمن الذي قال ربِّيَ الله ثم استقام على حقيقة ذلك ؛ سلَّمَهُ اللهُ من الهمَّين ساعةَ الموت ! ، لديه الأمان والبشرى من الله تعالى ألاَّ خوفٌ عليه ولا هو يحزن . . !
من مِنَّا - معشر الأحبَّة - لا يُريدُ السَّلامة من الهمَّين لحظةَ وفاتِه ، ومن منَّا لا يريدُ الأمان والبشرى من الله جل جلاله..؟!
ألاَ فلندفع الثمن من نفوسنا في الدنيا زمن الإمكان..
!
ألا علينا بالصدق مع الله تعالى في الاستقامة على الدين،ولزوم الصبر واليقين،قبل أن تنتهي الآجال،ويُحالَ بيننا وبين الأعمال..
!
نسأل اللهَ العظيم أن يوفقنا لحسن العلم وحسن العمل..أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:

معشر المؤمنين :
حقٌّ على كل واحد منا و اللهِ أن يترك صَخَبَ الحياة لِلَحظات ، لِيَلْتَفِتَ إلى ذاته ، فَيَقِفَ مع نفسه وقفةَ صدق ٍ وتفكر ومحاسبة :
كلُّنا يعلمُ أنه ميّت ، وكلُّنا يرى الموت يخطف الأعمار ، ويقطفُ الأزهارْ !
كلُّنا يعلمُ أنه موقوف بين يدي اللهجل و علا ،وأنه مسؤولٌ عن حدود الله ومحارمه التي أوجبها أو حرمها عليه ماذا عملَ فيها ؟ و مسؤولٌ عن علمه الذي سمعته الأذنان ، وقرأته العينان ، واستفاده الصدر والعقل ووعاه : ماذا قدمنا فيه في جنب الله جل وعلا ؟! .
إذا كنا نعلم كل هذا - معشر المؤمنين - فلمَ الغفلة عن التطبيق والعمل ؟! ؛ ونحن نرى الموتَ يخطفُ الأحباب،ويُغلقُ الأبواب ؟! .
لمَ تركنا الصدق مع الله تعالى ومع أنفسنا..
؟!
أين حالنا من حال الصادقين..؟! : عن معاوية بن قرَّة قال: كان لأبي الدرداء رضي الله عنه جملٌ يُقالُ لهُ " دَمُون"، فكان إذا استعاروهُ منهُ قال:لا تحملوا عليه إلاَّ كذا وكذا فإنَّهُ لا يُطيقُ أكثر من ذلك،فلمَّا حضرتهُ الوفاةُ قال:" يا دَمون لا تُخاصمني غدًا عند ربّي فإنّي لم أكن أحمِلُ عليك إلاَّ ما تُطيق".
ماذا نقول عن الوالدَين والأهل والإخوان و الناس وقد حمَّلناهُم ما لا يُطيقُونْ..؟
! .
لما حضرت عبادةَ بنَ الصَّامت الوفاةُ قال:"أخرجوا فراشي إلى صحن الدَّار،ثم قال:اجمعوا لي مواليَّ وخدمي وجيراني ومن كان يدخلُ عليْ"،فجمعوهم له فقال:"إنّي يومي هذا لا أراهُ إلاَّ آخرَ يوم يأتي عليَّ من الدنيا،وأوَّلَ ليلةٍ من الآخرة،وإنَّهُ لا أدري لعلَّهُ قد فرطَ منِّي إليكم بيَدِي أو بلساني شيء،وهو والذي نفسُ عُبادَةَ بيدِهِ القِصاص،وأُحَرِّجُ على أحدٍ منكم في نفسِهِ شيءٌ من ذلكَ إلاَّ اقتَصَّ منِّي قبل أن تخرُجَ روحي".فقالوا: بل كنتَ والْدًا وكنتَ مؤَدِّبَا.فقال:"أغفرتمْ لي ما كان من ذلك".قالوا:نعم. فقال:" اللهم فاشهد..اللهم فاشهد..!".
ماذا نقول غدًا للوالدَين وللأهل والإخوان وقد حمَّلناهُم ما لا يُطيقُونْ..؟! وقد يموتُ بعضُنَا غيرَ مُصافحٍ ولا مُسامِح يطلبُ القِصاصَ بينَ يدي الله تعالى..؟! لمَّا حضَرَ أبا هريرةَ رضي الله عنه الوفاةُ جعل يبكي،فقالوا له: ما يبكيكَ يا أبا هريرة؟ فقال:"قلَّةُ الزَّاد،وبُعدُ المفازَة،وعَقَبَةٌ هبوطُها الجنَّةُ أو النَّارْ" فماذا نقولُ نحن مع فساد الزَّاد وضعف اليقين وقلّة الصبر بين يدي الموت..؟!
إن الدنيا - معشر الأحبَّة - سرعان ما ترحل وتنقضي ، وما يدرينا لعلَّنا لا نعيش إلى صلاة العصر،أو لعلَّنا ننامُ فلا نستيقظُ من النوم أبدَا..؟!
ألاَ فاغتنموا الحياةَ في الخيرات ، وعليكم بالصدق مع الله تعالى فإنَّه مفتاحُ الوصول،وسرُّ الدخول..! و اعلموا –رحمكم الله- أنَّ أسعدَ النَّاس بهذه الكلمات من عمل بها، فإنَّ السماعَ ضائعٌ ما لم يصحبه من العمل رفيق،وإنَّ العمل حابطٌ ما لم يُقَوّمْهُ الصدقُ والإخلاصُ على الطريق.والمخلصُون على خطر ما لم يساعدهم الله بالتوفيق.. فسألُوا الله تعالى الإخلاص والتوفيق..!
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين .

[1]- ديوان أبي العتاهية(ص263).

[2]- ديوان أبي العتاهية(ص45).

[3] - صحيح الجامع(8017).
 
عودة
أعلى