· المناسبة اللفظية :
من خصائص النظم القرآني المعجز، إحكام بنائه، وتناسق أجزائه، وقد كان القرآن يراعي في اختيار الألفاظ وصياغة التعبير مناسبة الآية لسوابقها ولواحقها، بحيث تجيء الكلمة أو العبارة فيه متمكنة في موقعها، ملائمة لسياقها، لا يسد غيرها مسدها.
ومن الجوانب التي التفت إليها العلماء المتدبرون للقرآن الكريم، متشابهات آياته؛ وهي تلك الآيات التي تتشابه في ألفاظها وترد في أكثر من موضع مع اختلاف يسير في التعبير بتقديم أو تأخير أو زيادة أو نقصان أو إبدال أو غير ذلك مما يوجب اختلافا بينها.
لقد انطلق العلماء في تدبرهم لهذه المتشابهات وغيرها من فكرة التناسب بين ألفاظ القرآن وآياته وسوره؛ والتي مفادها أن كل آية لا تليق إلا بموضعها الذي وردت فيه دون غيره.
والتناسب وجه من أوجه إعجاز القرآن، قد أجمع العلماء عليه، غير أن منهم من اهتم بالجانب اللفظي منه ، ومنهم من اهتم بالجانب المعنوي، أما علماء متشابه النظم فإنهم لم يغفلوا مراعاة كلا الجانبين، فاعتمدوا عليهما في توجيه المتشابه، واطرد التعليل بهما في كثير من الأمثلة
ولا شك، فإن روعة القرآن وتفرده تأتي من هذه الأمور مجتمعة، ولا يمكن إرجاع روعته وتفرده إلى جانب واحد من تلك الجوانب المشار إليها، غير أن الجانب اللفظي واللغوي في القرآن كان له نصيب لا يستهان به في روعة هذا القرآن وتفرده ؛ ذلك أن القرآن نزل على أمة تقيم وزناً للكلمة، وتهتم بشأن اللغة بياناً وأسلوباً غاية الاهتمام، وأي شيء في تاريخ الأمم - كما يقول الرافعي - أعجب من نشأة لغوية، تنتهي بمعجزة لغوية .
والمناسبة اللفظية نوع من أنواع التناسب، الذي اعتمده العلماء المتدبرون ، في توجيه الآيات المتشابهات وبيان أسرارالتنزيل، ووصفت المناسبة بـ (اللفظية): لأن التناسب يعود فيها إلى أمور لفظية .
وهنا أشير إلى ما ذكره الزرقاني وهو يتحدث عن خصائص النظم القرآني، ويجعل في مقدمتها ما سماه (مسحة القرآن اللفظية)، يقول: " إنها مسحة خلابة عجيبة، تتجلى في نظامه الصوتي، وجماله اللغوي "
وقد ذهب البعض إلى ضعف التوجيهات والتعليلات التي يغلب عليها الجانب اللفظي،. وأحسب أن الذي دعا أولئك العلماء للقول بضعف هذه التعليلات ؛ رؤيتهم أن مراعاة ذلك لا تكون إلا على حساب الجانب المعنوي في الغالب.
والحق أن لكل من اللفظ والمعنى مكانة في البلاغة، وأن كلاً منهما ينبغي مراعاته في ذلك، وافتراض أن مراعاة أحد الجانبين لا يكون إلا على حساب الآخر، افتراض لا يناسب بلاغة القرآن، التي بلغت الغاية في الحسن ألفاظاً ومعاني.
ويحرر الزركشي المسألة بقوله ولا فرق بين ما يرجع الحسن فيه إلى اللفـظ أو المعنى، وشذ بعضهم فزعم، أن موضع صناعة البلاغة فيه إنما هو المعاني، فلم يعد الأساليب البليغة والمحاسن اللفظية، والصحيح أن الموضوع مجموع المعاني والألفاظ".([1])
يقول الدكتور محمد أبو موسى في الرد على من قال بضعف التعليلات اللفظية "لا ضير إذا قلنا إن القرآن يراعي الفاصلة، فيبدل في كلمته أو يضع مكانها أخرى، لأن هذا ليس أمراً لقظياً هيناً، كما فهمه بعض البلاغيين، وقليل منهم تنبه إلى قيمة الأثر الصوتي أو الأثر الموسيقي في التأثير والإيحاء، وظل أكثرهم يفهم أن شؤون اللفظ لا تعدو أن تكون محسنات سطحية لا تتصل بجوهر البلاغة، وليس من الخطأ في الدين ولا في البلاغة أن تقول: إن القرآن يهتم بالناحية اللفظية؛ لأنها جزء من أسلوبه، ولأنها من دواعي التأثير وتلك وظيفة القرآن، فالغرض منها أولاً قيادة النفس الإنسانية إلى سبيل الخير فمن المحتم أن يأخذ كل سبيل إلى هذه الغاية، فلا يهمل هذا الجانب المهم في بلاغته".([2])
وقد تنبه العلماء المتدبرون إلى أثر مراعاة المناسبة اللفظية في اختيار الألفاظ، وترتيب الكلمات، فكانوا كثيراً ما يعزون الفروق التعبيرية بين جملة من الآيات المتشابهة إلى هذا المسلك، دون أن يغفلوا مراعاة الجانب المعنوي، الذي قد يبرز أحياناً، وقد يخفي أحياناً، وخفاؤه أو عدم ذكره، لا يعني بأي حال عدم وجوده.
أخيراً فإن التناسب اللفظي في القرآن وجه عظيم من وجوه الإعجاز من الخطأ تجاهله أوالتقليل من شأنه، مع التأكيد على أنه لا يطلب لذاته بل لما ورائه من معنى ؛ إذ هو الأساس والمقصود، والميزة التي انفرد بها القرآن، أنه استعمل هذه الأنواع التعبيرية، لإيصال المعاني المطلوبة، فجمع بين الوفاء بحق اللفظ والمعنى على حد سواء.
([1]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 2/483.
([2]) د. محمد أبو موسى، البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، ط2 (القاهرة، مكتبة وهبة، 1408هـ)، 242.
من خصائص النظم القرآني المعجز، إحكام بنائه، وتناسق أجزائه، وقد كان القرآن يراعي في اختيار الألفاظ وصياغة التعبير مناسبة الآية لسوابقها ولواحقها، بحيث تجيء الكلمة أو العبارة فيه متمكنة في موقعها، ملائمة لسياقها، لا يسد غيرها مسدها.
ومن الجوانب التي التفت إليها العلماء المتدبرون للقرآن الكريم، متشابهات آياته؛ وهي تلك الآيات التي تتشابه في ألفاظها وترد في أكثر من موضع مع اختلاف يسير في التعبير بتقديم أو تأخير أو زيادة أو نقصان أو إبدال أو غير ذلك مما يوجب اختلافا بينها.
لقد انطلق العلماء في تدبرهم لهذه المتشابهات وغيرها من فكرة التناسب بين ألفاظ القرآن وآياته وسوره؛ والتي مفادها أن كل آية لا تليق إلا بموضعها الذي وردت فيه دون غيره.
والتناسب وجه من أوجه إعجاز القرآن، قد أجمع العلماء عليه، غير أن منهم من اهتم بالجانب اللفظي منه ، ومنهم من اهتم بالجانب المعنوي، أما علماء متشابه النظم فإنهم لم يغفلوا مراعاة كلا الجانبين، فاعتمدوا عليهما في توجيه المتشابه، واطرد التعليل بهما في كثير من الأمثلة
ولا شك، فإن روعة القرآن وتفرده تأتي من هذه الأمور مجتمعة، ولا يمكن إرجاع روعته وتفرده إلى جانب واحد من تلك الجوانب المشار إليها، غير أن الجانب اللفظي واللغوي في القرآن كان له نصيب لا يستهان به في روعة هذا القرآن وتفرده ؛ ذلك أن القرآن نزل على أمة تقيم وزناً للكلمة، وتهتم بشأن اللغة بياناً وأسلوباً غاية الاهتمام، وأي شيء في تاريخ الأمم - كما يقول الرافعي - أعجب من نشأة لغوية، تنتهي بمعجزة لغوية .
والمناسبة اللفظية نوع من أنواع التناسب، الذي اعتمده العلماء المتدبرون ، في توجيه الآيات المتشابهات وبيان أسرارالتنزيل، ووصفت المناسبة بـ (اللفظية): لأن التناسب يعود فيها إلى أمور لفظية .
وهنا أشير إلى ما ذكره الزرقاني وهو يتحدث عن خصائص النظم القرآني، ويجعل في مقدمتها ما سماه (مسحة القرآن اللفظية)، يقول: " إنها مسحة خلابة عجيبة، تتجلى في نظامه الصوتي، وجماله اللغوي "
وقد ذهب البعض إلى ضعف التوجيهات والتعليلات التي يغلب عليها الجانب اللفظي،. وأحسب أن الذي دعا أولئك العلماء للقول بضعف هذه التعليلات ؛ رؤيتهم أن مراعاة ذلك لا تكون إلا على حساب الجانب المعنوي في الغالب.
والحق أن لكل من اللفظ والمعنى مكانة في البلاغة، وأن كلاً منهما ينبغي مراعاته في ذلك، وافتراض أن مراعاة أحد الجانبين لا يكون إلا على حساب الآخر، افتراض لا يناسب بلاغة القرآن، التي بلغت الغاية في الحسن ألفاظاً ومعاني.
ويحرر الزركشي المسألة بقوله ولا فرق بين ما يرجع الحسن فيه إلى اللفـظ أو المعنى، وشذ بعضهم فزعم، أن موضع صناعة البلاغة فيه إنما هو المعاني، فلم يعد الأساليب البليغة والمحاسن اللفظية، والصحيح أن الموضوع مجموع المعاني والألفاظ".([1])
يقول الدكتور محمد أبو موسى في الرد على من قال بضعف التعليلات اللفظية "لا ضير إذا قلنا إن القرآن يراعي الفاصلة، فيبدل في كلمته أو يضع مكانها أخرى، لأن هذا ليس أمراً لقظياً هيناً، كما فهمه بعض البلاغيين، وقليل منهم تنبه إلى قيمة الأثر الصوتي أو الأثر الموسيقي في التأثير والإيحاء، وظل أكثرهم يفهم أن شؤون اللفظ لا تعدو أن تكون محسنات سطحية لا تتصل بجوهر البلاغة، وليس من الخطأ في الدين ولا في البلاغة أن تقول: إن القرآن يهتم بالناحية اللفظية؛ لأنها جزء من أسلوبه، ولأنها من دواعي التأثير وتلك وظيفة القرآن، فالغرض منها أولاً قيادة النفس الإنسانية إلى سبيل الخير فمن المحتم أن يأخذ كل سبيل إلى هذه الغاية، فلا يهمل هذا الجانب المهم في بلاغته".([2])
وقد تنبه العلماء المتدبرون إلى أثر مراعاة المناسبة اللفظية في اختيار الألفاظ، وترتيب الكلمات، فكانوا كثيراً ما يعزون الفروق التعبيرية بين جملة من الآيات المتشابهة إلى هذا المسلك، دون أن يغفلوا مراعاة الجانب المعنوي، الذي قد يبرز أحياناً، وقد يخفي أحياناً، وخفاؤه أو عدم ذكره، لا يعني بأي حال عدم وجوده.
أخيراً فإن التناسب اللفظي في القرآن وجه عظيم من وجوه الإعجاز من الخطأ تجاهله أوالتقليل من شأنه، مع التأكيد على أنه لا يطلب لذاته بل لما ورائه من معنى ؛ إذ هو الأساس والمقصود، والميزة التي انفرد بها القرآن، أنه استعمل هذه الأنواع التعبيرية، لإيصال المعاني المطلوبة، فجمع بين الوفاء بحق اللفظ والمعنى على حد سواء.
([1]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 2/483.
([2]) د. محمد أبو موسى، البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، ط2 (القاهرة، مكتبة وهبة، 1408هـ)، 242.