(المنار):محمد توفيق صدقي:رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكاتب : محمد توفيق صدقي
مجلة المنار لرشيد رضا(رقم المجلد 11 ص208)
القرآن والعلم
( 1 )

تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز

اشتبه بعض علماء الإفرنج من المستشرقين وغيرهم الباحثين في الإسلام في
آيات كثيرة من القرآن الشريف لم يفهموا معناها الصحيح بسبب ما وجدوه في بعض
كتبنا من التفاسير السخيفة والآراء السقيمة . وقد اتبعهم في ذلك دعاة المسيحيين
متخذين بعضَ آراء هؤلاء المستشرقين ذريعةً للطعن في الكتاب العزيز ناسِبِينَ إليه
الجهلَ والخطأَ ؛ لتشكيك عوامّ المسلمين في دينهم القويم .
وقد سبق لي أن تكلمت على كثير من هذه الشبهات في ( مقالات الدين في نظر
العقل الصحيح ) بما يشفي العِلّة ، ويروي الغُلّة ، ولكن فاتني أن أستقصيها
جميعًا إذ ذاك ؛ فلذا رأيت الآن أن أستدرك ما فاتني خِدمةً للإسلام , وتذكيرًا للعلماء
كي ينظروا في هذا الدين , ويقدروه قدره . فإنه ما نظر فيه عالم محقق من أي وجهة
كانت إلاَّ وجد الحق والصواب عمادًا لجميع مبانيه ، والعلم والعقل أساسًا
لكافة عقائده وأوامره ونواهيه ، وقد رأيت أن أذكر الآية أولاً ، ثم أعلق عليها بما يفتح
الله به عليَّ حتى يتضح الدليل ، وتستبين السبيل ، فأقول وبالله أستعين :
المسألة الأولى
( الحجر )
قال الله تعالى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا
عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } ( الحجر : 80-82 ) .
اعلم أنه يوجد بين العقبة والبحر الميت مدينة شهيرة عند السائحين تدعى
باللغة اليونانية ( بترَا ) أي : الصخرة , وهي المسماة في العهد القديم بمدينة ( سالع )
كما في سفر الملوك الثاني ( 14 : 7 ) وفي كتاب أشعيا ( 16 : 1 ) وَكِلاَ
الاسْمَيْنِ : ( بترا ) و ( سالع ) بمعنى واحد , لكنهما بلغتين مختلفتين .
يحيط بهذه المدينة جبال وعرة , أعلاها جبل هور المذكور في سفر العدد ( 33 : 38 ) ولذلك كان اليهود يسمون أهلها الأولين بالهوريين , ومعناه : سكان
الكهوف ؛ لأن بيوتهم منحوتة في الصخور , ومنظر هذه المدينة من أعجب
المناظر .
فلما رأى بعض سياح الإفرنج هذه المدينة ، وسمع ذكر ( الحجر ) في القرآن
الشريف ظن أن هذه الكلمة ترجمة لفظ ( بترا ) اليوناني لتوهمه أنها بفتح الحاء
والجيم ( الحَجَر ) وبنى على ذلك أن ( الحجر ) في القرآن هو ( سالع ) في العهد
القديم .
ولَمَّا كانت مدينة سالع هذه معروف عنها ما ينافي أن أهلها أهلكهم الله
بالصَّيْحَة , وما يدل على أنها كانت عامرةً بالسكان إلى ما بعد الميلاد بقليل أخذوا
يطعنون على القرآن الشريف , وينسبون إليه الخطأَ والجهلَ بالتاريخ , والله يعلم
أنهم لَكَاذِبون ؛ إذ لولا تسرعُ هؤلاء الحَمْقَى وجهلهم لعلموا أن الحِجْر بكسر الحاء
وسكون الجيم غير بترا أو سالع , وأن إحداهما تبعد عن الأخرى بُعْدًا عظيمًا , فإن
الحجر قرية صغيرة على خط سكة الحديد الحجازية الآن إلى جنوب دُومَة الجَنْدَل ،
وتنزل بها حُجاج الشام ، وتسمى بمدينة صالح وهو النبي الذي أرسله الله إلى أهلها
( ثمود ) , ولا تزال إلى الآن آثار مساكنهم التي كانوا ينحتونها في جبالها المسماة :
( أثالب ) كما قال في دائرة المعارف العربية , ويمكن لكل أحد أن يذهب إليها وإلى
سالع لِيَرَى بِعَيْنَيْ رأسه أنهما مدينتان متباعدتان في موضعين مختلفين , وأن المسافة
بينهما تقارب ما بين الإسكندرية والعقبة , وأن الحِجْر في الجنوب الشرقي لسالع .
ومعنى الحِجْر : المكان الذي حوله حجارة , وهو غير معنى ( سالع ) أي :
الصخرة . وما يزعمه بعضهم أن جميع ما نراه فيها من البيوت كانت قبورًا لا مساكنَ
لم يَقُمْ دليلٌ على صحته , كذاك لا يبعد أن بعضها كان كذلك , والقرآن لم
يقُلْ إن جميعها كانت مساكِنَ , ولا أن جميع مساكنهم كانت منحوتةً في الجبال . بل
قال : إن بعض المساكن كانت تبنى على الأرض , والبعض الآخر ينحت في الجبال
كما في سورة الأعراف : { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ
الجِبَالَ بُيُوتاً } ( الأعراف : 74 ) إلى قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ( الأعراف : 78 ) فكانت لهم قبورًا بعد إهلاكهم , وإن لم
تكن جميعها كذلك في أول أمْرِهِم . ومن ذلك تعلم خطأَ ما قاله المستشرق الشهير
مرجليوث في كتابه المسمى ( محمد ) في هذه المسألة .
* * *
المسألة الثانية
( الإسراء وتاريخ بيت المقدس )
قال الله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى
المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ( الإسراء : 1 ) .
المسجد الحرام هو : الحَرَم المَكِّيُّ والمسجد الأقصى هو : بيت المقدس . وهذا
البيت كان خَرَّبَهُ تيطس الروماني سَنَةَ سبعينَ للميلاد , وأحرقه بالنار , فلم يكن له
وجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ آثارًا وأطلالاً ؛ فكيف يقول القرآن
الشريف : إن النبي أسرى به إليه ؟
الجواب [1] :
المسجد في اللغة : مكان السجود والعبادة , ولا يُشترط فيه أن يكون محاطًا
بالبناء , ولا أن تكون سُقفه مرفوعةً على أعمدة أو نحو ذلك مما اعتاده الناس الآن ,
وما كانت مساجد العرب في مبدأ الإسلام إلاَّ أمكنةً بسيطةً خاليةً من الأبنية الضخمةِ
والزخرف والزينة , وكل مكان يعبدون الله فيه يسمونه مسجدًا لهم , بل سَمَّى رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم جميعَ الأرض مسجدًا لِصِحَّةِ العبادة في أي جزء منها ؛
فقال : ( وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورَا ) فلا يلزم من قول القرآن : إن النبي
أُسْرِيَ به إلى المسجد الأقصى . أنه كان إذ ذاك مبنيًّا مَشِيدًا , كما كان قَبْلَ تخريب
الرومان له .
ولذلك كان العرب يذهبون إلى أورشليم وغيرها من بلاد الشام , ويعرفون ما
كان عليه المسجد الأقصى من الخراب , ومع ذلك لم يسمع من أحد منهم انتقاد على
عبارة القرآن الشريف هذه , أو تردد في فهمها , أو تكذيب للنبي صلى الله عليه
وسلم فيها ؛ وغاية ما سُمِعَ منهم تكذيبه في ذهابه إلى هذا المسجد بهذه السرعة
العجيبة , لا في وجود ما يسمى عندهم بالمسجد الأقصى , وإنْ كان خربًا .
على أن الظاهر أن القرآن الشريف يريد بالمسجد الأقصى بلدَةَ : ( أورشليم ) ,
وبالمسجد الحرام : ( مكة ) أي : إنَّ النبي سار ليلاً من مكة إلى أورشليم ؛ لأن
المسجد الحرام ما كان بيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم ينام فيه , بل كان نائِمًا في
بيت أم هانئ أحد بيوت مكة , كما جاء في الروايات الواردة في هذه المسألة .
فالقرآن أطلق هنا المسجد الحرام على مكة , وأطلق المسجدَ الأقصى على
أورشليم من باب تسمية الكل بالجزء الذي هو أعظم وأشهر شيء فيه .
ومثل هذا الإطلاق شائع في العربية وغيرها , وكثير في القرآن الشريف ؛
ولذلك وردَ تسمية الحرم كله بالبيت العتيق كما في قوله تعالى في الذبائح : { لَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ } ( الحج : 33 ) , مع أن
الذبح لا يعمل في نفس البيت , وإنما يعمل في ( مِنى ) بالقرب منه .
أمّا ما وردَ في بعض الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط زمام
البُراق في إحدى حلقات بيت المقدس , فالأقرب عندي أن هذه الروايات وأمثالها هي
مما وضعه الواضعون بعد تعمير بلاد المسلمين لهذا البيت ؛ أي : بعد فتح عمر لبلاد
الشام وإقامة مسجد مكان الهيكل ( بيت المقدس ) وقد غاب عن هؤلاء الواضعين
هذه الحقائق كما هو شأن الكذابين , فلم يعرفوا أن ما يشاهدونه في زمنهم لم يكن في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم [2] .
واعلم أن القرآن الشريف قد ذكر تاريخ بيت المقدس , وما لحقه من التخريب ؛
فلا يُقال : إننا فيما قلنا ملفقون أو إننا لأجْل دِفاعِنا عن القرآن ننسب إليه ما لم
يعرفْه , ولم يخطر على بال مؤلفه كما يقولون . بل ورد فيه في نفس هذه السورة
( الإسراء ) بعد الآية السابقة قوله تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ
لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ
عِبَاداً لَّنَا } ( الإسراء : 4-5 ) هم بُخْتَنَصَّرُ وقومه الكلدانيون , { أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } ( الإسراء : 5 ) اليهودية ؛ أي : جالوا ، وترددوا فيها للنهب
والقتل والسلب والسبي والتدمير , { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } ( الإسراء : 5 ) { ثُمَّ رَدَدْنَا
لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } ( الإسراء : 6 ) بأن أرسلنا عليهم كورش ملك فارس , فدَمَّر
مملكتهم , وفتح بابل , وأنقذ اليهود من أسرهم , وأكرم مثواهم , وأحسن إليهم ,
وردهم إلى بلادهم ؛ فصاروا فيها أعزاء , وسادوا على أعدائهم الذين تركهم
الكلدانيون فيها تحت رعايتهم , فعاد إلى اليهود شيء كبير من مجدهم السابق , ثم عَمَّروا بيت المقدس الذي كان خَرَّبَه بختنصر وأحرقه , وصاروا يقيمون شعائر دينهم
فيه كما كانوا يفعلون من قبلُ { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } ( الإسراء : 6 ) فرجعوا من الأسر بأشياء كثيرة من الذهب والفضة ، وبأمتعة ،
وبهائم ، وتحف ، وغيرها كما في سفر عزرا ( 1 : 4 -11 ) { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ
لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } ( الإسراء : 7 ) .
العقوبة الثانية { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا } ( الإسراء : 5 ) { لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ
وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ } ( الإسراء : 7 ) أي : بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا
مَا عَلَوْا تَتْبِيراً } ( الإسراء : 7 ) فدخله تيطس الروماني بجيشه , ونهبه وأحرقَ
الهيكل ودمَّرَه تدميرًا كما فعل الكلدانيون مِن قبلُ , وتشتت اليهودُ بعد ذلك في العالم
ولم تعد إليهم الدولة إلى الآن .
وإنما قال القرآن : { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ( الإسراء : 7 ) مع أن الداخلين
المدمرين للمسجد في المرة الثانية غيرُ الذين دمروه في المرة الأولى ؛ لأن الجامع
بينهم شيء واحد , وهو كونهم جميعًا عبادًا لله , فإنه قال في أول القصة : { بَعَثْنَا
عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا } ( الإسراء : 5 ) بدون ذِكْر جنسهم .
وهذا على حد قولك : ( دخل الأوربيون الجامع الأزهر مرة ثم دخلوه مرة
أخرى ) مع أن الداخلين في المرة الثانية قد يكونون إنكليزًا وفي الأولى فرنساويين
ولاشتراكهم في الوصف ( وهو كونهم أوربيين ) كان هذا التعبير صحيحًا , ومِثْل
ذلك قوله تعالى مخاطبًا ليهود العرب : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } ( البقرة : 55 ) مع أن ذلك لم
يحصل لهم , وإنما حصل لبني إسرائيل في زمن موسى ولاشتراك يهود العرب معهم
في الدِّين جاز هذا التعبير , وهو شائع في جميع اللغات .
فمما تقدم تعلم أن القرآن الشريف ذَكَرَ أن المسجد الأقصى خُرِّب مرتيْنِ , وذكر
لليهود عقوبتين ، الأولى : ما أوقعه الكلدانيون بهم , والثانية : ما فعله الرومانيون .
أما الواقعة الأولى فقد تَمَّتْ في سنة 587 قبل الميلاد , وبها زال استقلال
اليهود , وصاروا خاضعين للكلدانين , ثم الفرس ، ثم اليونان , ثم الرومان .
وأما الثانية ؛ فقد تمت في سنة سبعين بعد الميلاد , وبها تَشَتَّت اليهود في
أنحاء العالم , وَقُضِيَ عليهم قضاءً أَبَدِيًّا .
ومِن ذلك تعلم أن هاتين الواقعتين يدور حولهما تاريخ الأمة اليهودية , وعليهما
يُقام هيكله ؛ فلولا وَحْي الله لَمَا أمكنَ لذلك العربي الأمّيّ العامّيّ الناشئ بين الوثنيين
أن يستخلصها من تاريخ الأمة اليهودية الطويل العريض , وليس في بلاده كتب
يرجع إليها , بل لا يتيسر له إذا أراد ولم يقم على تربيتة معلم , وليس له مدارس ؛
ومع ذلك قد لخص هذا التاريخ الكبير في كلمة صغيرة هي نهاية الإعجاز وعِبْرَة
العِبَر وحِكْمة الحِكَم مع ما فيها من الإشارات الدقيقة إلى الحقائق التاريخية التي
يفهمها الراسخون في العلم .
هذا وقد كان أسْر اليهود إلى بابل من أكبر ما حَلّ بهم من المصائب حتى كانوا
كلَّ يوم ينتظرون الفرج والخلوص العاجل , وقد كان كورش ملك فارس المخلص
الأكبر لهم من ذلك , وكانوا يسمونه مسيح الرب ( أشعياء 45 : 1 ) فلذا كثر
الثناء عليه في كتب العهد القديم لإنقاذه إياهم من المحن والبلايا والرزايا التي حَلّتْ
بهم في بابل , التي أطنبت كتبهم في وصفها وتعديدها , وأنذرهم الأنبياء بها قبل
وقوعها , ثم صاروا يبشرونهم بالخلاص منها .
وهذا هو سبب ورود لفظ الخلاص ونحوه كثيرًا في كُتُب العهد القديم ككتاب أشعياء وغيره مما صار النصارى يزعمون أنه رموز إلى المسيح عيسى عليه السلام والحقيقة أنه لا علاقةَ لأكثره به , ولكنهم ولعوا وولع مؤلفو العهد الجديد بذلك من قبل حتى إنهم كانوا ينسبون للمسيح عليه السلام من الحوادث ما ينسبون ، ثم يستشهدون عليها بعبارات في العهد القديم كاستشهاد مَتَّى ( 2 : 15 ) بكلام
هوشع عن خروج بني إسرائيل من مصر ( إصحاح11 : 1 ) وزعمه أن ذلك نبوة
عن المسيح عليه السلام وكاستشهاده في الإصحاح 27 : 9 بكلام يزعم أن أرميا
النبي قاله مع أنه لا وُجودَ له في كتابه , وإنما يوجد في كتاب زكريا بعض ألفاظ
تشبهه ( إصحاح 11 : 13 ) ولا مناسبةَ بينهما وبين ما يقوله مَتَّى في إنجيله ؛
وإنما ذكرنا ذلك إبطالاً لِدعاويهم العريضة وردًّا لكيدهم وتحاملهم على القرآن
الشريف مع الجهل والتعصب كما بيناه ونبينه .
وَلَمَّا أُصِيبَ اليهود للمرة الثانية بِما أُصيبوا به من الرمانيين صاروا يترقبون
مجيء مخلِّص لهم ككورش , وهم إلى الآن ينتظرون ذلك ! .
هذا شيء من تاريخ اليهود ذكرناه هنا تفصيلاً لِتفسير ما جاء في أول سورة
الإسراء , ومنه تعلم أن القرآن الشريف ذكر تخريب المسجد الأقصى في المرتين ,
فلا يُقال : إنه أخطأ وجهل التاريخ كما يدعي جهلة المسيحيين افتياتًا عليه ورغبة
منهم في تكذيب حادثة الإسراء وهي كما ترى ليس فيها شيء ينافي العلم ، أو
يناقض حكم العقل الصحيح . وما نشاهده من حركات الأجرام الكونية , وما اخترعه
البشر من آلات البخار والكهرباء يُقَرِّب إلى العقل تصور تلك الحركة
السريعة التي حصل بها الإسراء , إن كان ذلك جسمانيًّا كما عليه جمهور المسلمين ,
وأما إن كان روحانيًّا أو رؤيا مَنَامِيَّة كما عليه بعضهم فلا شبهة عليه , والله أعلم .
(لها بقية) ...
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار : راجع ص 699 وما بعدها من المجلد السادس .
(2) المنار : في ص701م6 توجيه لهذه المسألة مبني على صحة الحديث .
(11/208
 
الكاتب : محمد توفيق صدقي
(المجلد 11 ص 281، من مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا)
القرآن والعلم
( 2 )

تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في ردّ الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز

المسألة الثالثة
( ذو القرنين ومطلع الشمس ومغربها )
قال الله تعالى في قصة ذي القرنين : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } ( الكهف : 86 ) إلى قوله : { حَتَّى إِذَا
بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } ( الكهف :
90 ) .
تقول العرب : بلغ فلان مغرب الشمس , أو وصل إلى المشرق إذا سار إلى
أقصى ما عرف لهم من المسكونة في جهتي الشرق والغرب , فكان الكلام على تقدير
مضاف ؛ أي : وصل فلان إلى أرض المغرب أو أرض المشرق , ومعنى ذلك أنه
وصل إلى آخر أرض تغيب عنها الشمس , أو إلى أول أرض تشرق عليها بِحَسب
علمهم , وإلى الآن تقول جميع الأمم الراقية : ( بلغ فلان الشرق الأقصى ) إذا سافر
إلى بلاد اليابان أو إلى بلاد مراكش . ويسمون هذه البلاد : الشرق أو المشرق وبلاد
الغرب أو المغرب , ولا يعنون بذلك سوى أنها أول بلاد من الدنيا القديمة تشرق
عليها الشمس , وآخر بلاد تغرب عنها ؛ فمعنى قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ } ( الكهف : 86 ) أنه وصل إلى آخر أرض معروفة للعرب تغيب عنها
الشمس ويسمونها المغرب .
ومهما كان الإنسان عالمًا فإنه لا يتحاشى أمثال هذه التعابير المعهودة للبشر ,
فكذلك القرآن الشريف فإنه جرى عليها , وكذلك كل كتاب ولو كان في الفلك أو
الجغرافيا الحديثة { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ( الكهف : 86 ) أي : خُيّلَ له
أنها تغرب في العين , كما يخيل ذلك لكل من وقف على ساحل البحر وَقْتَ الغروب
فإنه يرى الشمس كأنها تغيب في البحر ؛ ولذلك نسب القرآن الأمر إلى وجدان ذي
القرنين ؛ فقال : { وَجَدَهَا } ( الكهف : 86 ) ولم يقل مثلاً : ( حتى إذا بلغ مغرب
الشمس رآها وهي تغرب في العين ) أو نحوه مما يفيد أنها تغرب فيها حقيقة .
والعين : كل ماء جارٍ , كما في قوله تعالى { فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ } ( الشعراء : 57 ) أي : أنهار جارية وكقوله في وصف الجنة { فِيهَا عَيْنٌ
جَارِيَةٌ } ( الغاشية : 12) وقوله : { حَمِئَةٍ } ( الكهف : 86 ) معناه ذات طين
أسود , وفي قراءة ( حامية ) أي : ساخنة ولعل سخونة الماء ناشئة عن وجود ينبوع
حارّ خارج من جوف الأرض بجوارها , وإذا كان المراد مياه المحيط فقد تكون
سخونتها ناشئة عن التيارات المائية الآتية من خط الاستواء كما هو معروف
للمطلعين على علم الجغرافية , فإن المحيط الأطلانطيقي ينطبق عليه هذان الوصفان
وهو كونه ذا طين أسود , وكون بعض مياهه ساخنة , فلعل ذا القرنين وصل إليه
بسيره إلى نهاية أفريقية من جهة الغرب . فإن تيار الخليج
STREAM GULF

الآتي من ساحل أمريكا عند خط الاستواء ينقسم وهو ذاهب إلى الشمال إلى قسمين :
قسم يصعد إلى أوربا , وقسم ينزل إلى ساحل أفريقيا الغربي ولون مائه أسود , وهو
ساخن ( فإن درجة حرارته لا تقل عن 85 بمقياس فرنهيت ) .
ثم قال : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن
دُونِهَا سِتْراً } ( الكهف : 90 ) والمعنى أنه سارٍ إلى أرض المشرق حتى وصل
إلى أول أرض تطلع عليها الشمس ؛ أي : بِحَسَبِ ما تعرف العرب من المسكونة ,
ولعل ذا القرنين وَصَلَ إلى جبل عالٍ من جبال آسيا ظن أنه نهاية الأرض , أو
وصل إلى ساحل الهند الشرقي فظن أنه نهاية العالم , فلما وصل إلى تلك الجهة التي
تسميها العرب مطلع الشمس أو المشرق وجد الشمس أول ما تطلع تطلع على قومٍ
عُرَاة الأبدانِ , ليس لهم من دون الشمس وقاية , وهذا هو حال الأمم المتوحشة
الساذجة .
واعلم أن أمثال هذه السياحات أو الفتوحات الكبيرة معهودة في تواريخ القدماء
كالإسكندر المقدوني وغيره , وكان يتيسر لهم ذلك لِعِظَمِ قوتهم , وضعف الأمم
المجاورة لهم وبساطتهم , وقِلّة عددهم بالنسبة لهم , فكان يسير الفاتح العظيم منهم
بجيشه الجرار , ولا يجد في كثير من الجهات أدنى مقاومةٍ , أو إذا وجد تكون في
الغالب ضعيفةً .
والغالب أن ذا القرنين هذا المذكور في القرآن هو أحد ملوك اليمن الحميريين ,
فإن العرب لا يعرفون ملوك غيرهم من الأمم , وما كانوا يسألون النبي عليه
السلام عنها , و ( ذو ) لفظة عربية محضة وردت كثيرًا في ألقاب العرب أهل
اليمن كذي يزن و ذي كلاع و ذي نُوَاس .
ونقل عن ابن عباس أنه سئل عن ذي القرنين المذكور في القرآن , فقال : هو
من حمير . وقال أحد شعراء الحميريين :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ... ملكًًا علا في الأرض غير مفندِ
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم سيدِ
وكل ذلك يؤيد أن العرب ما سألوا النبي إلا عن ذي القرنين هذا المعروف
عندهم , ونظرًا لانْدِرَاسِ التاريخ القديم عمومًا وخصوصًا تاريخ العرب الأقدمين ,
ولعدم الثقة بأكثر ما جاء فيه من القصص , ولعدم اهتمام الأمم المتأخرة بشأن أهل
اليمن لم يشتهر أمْر هذا الفاتح الكبير بين الأمم الأخرى , والمظنون أنه كان على
زمن الخليل إبراهيم عليه السلام .
قيل : إن اسمه الصعب بن الرايش . وقيل : إنه أبو كرب شمس بن عبير بن
أفريقش ، وكان ملوك اليمن يَلْبَسُونَ تاجًا له قرنان الغالب أنهم اقتبسوه من ملوك
مصر . وأول من لَبِسَهُ اشْتُهِرَ بينهم بلقب ذي القرنين من أجل ذلك .
وفي التاريخ القديم آثار كثيرة يدل على أن أهل اليمن كانوا قد بلغوا شأوًا
كبيرًا من القوة والعظمة , وأنهم تغلبوا على أقاصي البلاد , وغَزَوْا بابل ، وبلغوا
الهند ، وفتحوا بلاد الفرس ويسمى غزو العرب لبلاد فارس في أحاديث الفرس
( غزو ذو حاق ) , وكان ذلك قبل الميلاد بأكثر من 2000 سنة , وقد أغار أهل
اليمن أيضًا على بلاد المغرب ، وفتحوا مصر , واستوطنوها ، ويسمون فيها
بالهكسوس .
فلا يبعد أن يكون ذو القرنين المذكور في القرآن هو أكبر ملوكهم الفاتحين ,
وقد بلغ ملكه أو سيره أقصى ما كان معروفًًا إذ ذاك من بلاد المشرق والمغرب , وقد
بنى سدًّا بين جبلين في جهة الشمال لا يعرف الآن موضعه ؛ لمنع يأجوج ومأجوج
من التعدي على الأمم المجاورة لهم , وهما قبيلتان شهيرتان من القبائل القديمة
المتوحشة , وقد ورد ذكرهما أيضًا في كُتُب أهل الكتاب ( تك10 : 2وحز38 : 2
و3 ) .
وإذا علم الإنسان أن أكثر بقاع الأرض لم تطأها أقدام أحد مِن السائحين
الباحثين أو الجغرافيين , وإذا تذكر ما عرض لهذا السد من التغيرات الطارئة عليه
من الصدأ , ومن هبوب الرياح , ونزول الأمطار , ورسوب التراب وغيره عليه بل
ربما تغطى بأشياء كثيرة مما يحملها سيل المياه على الجبال , إذا تذكر كل ذلك أدرك
شيئًًا من أسباب عدم عثور أحد على مثل هذا السد , وربما إذا رآه أحد الآن لا يمكنه
أن يميزه عن سائر الجبل , فقد يكون مغطى بطبقة حَجَرِيَّة مما أذابتها المياه ,
وحملتها إليه ، فجفت عليه .
فإذا جاء يومُ القيامة انْدَكَّ هذا السّدّ كما تُدَكّ جميع الجبال كما قال القرآن
الشريف : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاًّ } ( الكهف : 98 ) .
هذا ومن تذكر إغارة المغول ( التتار ) وهم نسل يأجوج ومأجوج في القرن
السابع الهجري على بلاد المسلمين والنصارى , وما أَتَوْهُ من الإفساد في الأرض ,
وما أوقعوه بالأمم المختلفة من القتل والسَّبْي والنَّهْب - أمكنه تصور حصول هذا منهم
مرةً أُخرى قبل مجيء الساعة , كما قال القرآن الشريف : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } ( الأنبياء : 96-97 )
ولا مانِعَ من أن يكون ما حصل منهم سابقًًا هو الذي أراده القرآن في هذه الآية
ويكون قوله : { وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ } ( الأنبياء : 97 ) كقوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانشَقَّ القَمَرُ } ( القمر : 1 ) على أن الانشقاق حصل في عَصْرِ النَّبِيِّ محمدٍ صلى
الله عليه وسلم , وهو تعبير معهود في الكتب المقدسة إذا أنبأت عن الحوادث
المستقبلة .
* * *
المسألة الرابعة
( يحيى بن زكريا )
قال الله تعالى : { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ
سَمِيَّا } ( مريم : 7 ) . يقولون : إن يحيى هو يوحنا عند أهل الكتاب , ويوحنا هذا
اسم شهير عند اليهود سُمِّيَ به كثيرون قبْل ابن زكريا ؛ فكيف يقول القرآن : { لَمْ
نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيَّا } ( مريم : 7 ) ؟ ؟
ونقول لا نُسَلِّمُ بأنّ لفظ يحيى في القرآن هو تعريب لفظ يوحنا عندهم ؛ لأن
يحيى من الحياة , ويكتب في العبرية هكذا ( ) , وينطق : يحييه , وأما ( يوحنا ) فهو
الصيغة اليونانية للفظ ( يوحنان ) العبري , ومعناه : ( يهوه حنون ) أي : الله حنون .
فهو إذًًا من الحنان لا مِن الحياة , وعليه يكون لفظ يحيى غير يوحنا , ووجود
شخص مُسَمًّى باسمين كثير جدًّا , وقد يكون الاسم الثاني لقبًا له , وأمثلة ذلك في
كتب العهدين كثيرة جدًّا ؛ منها أن اسم بطرسَ : سمعانُ واسم تداوسَ : لباوسُ ,
وهما من تلاميذ المسيح ( راجع مَتَّى 10 : 2و3 ) وكان النبي عليه السلام يغير
كثيرًا من أسماء أصحابه , فيشتهرون بما سَمَّاهم به رسول الله , وعند جميع الأمم
يوجد أشخاص لهم أكثر من اسم .
هذا إذا لم نقل إن تسمية ابن زكريا في العهد الجديد بيوحنا هو من خطأ
مؤلفي الأناجيل باللغة اليونانيه ؛ إذ يجوز أنهم لم يحسنوا نقل اسمه الحقيقي
( يحييه ) إلى لغتهم .
ويحتمل أن الاسم الذي بشر الله به زكريا هو ( يحيى ) ولما اشتُهِر عن
يحيى الشفقة والحنان بالناس كما قال القرآن في وصفه : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } ( مريم :
13 ) صاروا يلقبونه بيوحنا حتى شاع بينهم ذلك أكثر من اسمه الأصلي الذي
سمّاه الله به .
وهناك وجه آخر في تفسير عبارة القرآن الشريف . وهو أن زكريا طلب من الله
وارثًًا له من نسله خوفًًا من مواليه , فَبَشَّرَهُ الله بأن سيكونَ له ولد , وسيكون اسمه
يحيى , وقال له : إن هذا الاسم لم يسم به أحد قبله ؛ أي : بينهم في أهله
وعشيرته , كما قال إنجيل لُوقَا ( 1 : 61 فقالوا لها - أي : لأمه - ليس أحد في
عشيرتك تسمى بهذا الاسم ) فقوله تعالى : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ } ( مريم :
7 ) أي : في أهل زكريا الذين كان الكلام معه في شأنهم والخطاب له فيمن يرثه منهم
إذا سلم أن لفظ يحيى هو عين يوحنا , وأنه تعريب له .
على أنه قد يكون المراد بالسمي السمي الحقيقي ؛ أي : إنه لم يسم أحد قبل
يوحنا بهذا الاسم , وكان مثله في صفاته العالية وأخلاقه الطاهرة , فكل من سمي
قبله به ما كانوا يستحقونه ؛ لأنهم لم يصلوا إلى درجته في الشفقة والرحمة والحنان ,
وقد ورد لفظ السمي في القرآن بهذا المعنى أيضًا في سورة مريم التي منها هذه
الآية التي نحن بصدد الكلام عليها , فقال تعالى : { رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ( مريم : 65 ) أي : سميًّا حقيقيًّا ,
وإلا فقد اتخذ آلهة أُخْرَى من دُونِ الله كثيرون .
* * *
المسألة الخامسة
( السَّامِرِيُّ والعِجْل )
قال الله تعالى : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } ( طه : 88 ) إلى قوله : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ
يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } ( طه :
95-96 ) .
رجحنا في ( مقالات الدين في نظر العقل الصحيح ) أن لفظ السامري علم
لشخص من بني إسرائيل يسمى بلغتهم شِمري وهو اسم مشهور عند قدمائهم . انظر
مثلاً سفر أخبار الأيام الأولى ( 4 : 37 و11 : 45 و26 : 10 ) وَلَمَّا عُرِّبَ هذا
الاسمُ أُبْدِلَتِ الشين المعجمة بالسين المهملة , كما هي العادة في تعريب العبري ,
وأدخلوا عليه ( أل ) كما أدخلوها على غيره من الأعلام المُعربة كلفظ ( الجودي )
وهو اسم جبل , ولفظ ( السموأل ) وهو علم لأحد نابغي شعراء اليهود من العرب .
وتسمى زيادة ( أل ) في مثله زيادة لازمة , كما يقول النحاة . وهو مُعَرَّبٌ من
لفظ ( شموئيل ) والتغيير الذي حدث فيه كالذي حدث في لفظ ( شمري ) فأُبْدِلَتِ
الشين سينًًا , وزِيدَتْ عليه ( أل ) مع تغيير طفيف في الكلمة . وهذه التغيرات
شائعةٌ في جميع اللغات في أسماء الأعلام المنقولة إليها , فانظر الفَرْق بين لفظ
بُخْتَنَصَّر وأصله ( نبوخذ ناصر ) , ولفظ عيسى وأصله يشوع .
وغير ذلك كثير جدًّا , يعرفه المطلعون على بعض اللغات الأجنبية ,
وما فيها التغيير والتحريف في الأعلام .
واعلم أن لفظ السامري الوارد في القرآن كانت تكتبه العرب ( السمري ) وكذلك كتب في مصاحف عثمان التي أرسلها إلى الآفاق . ولَعَلَّ في ذلك لإشارة إلى أصله العبري الذي ذكرناه هنا , وإنْ كانوا ينطقونه السامري . وليست الياء فيه للنسبة بل هي كالياء في لفظ الجوديّ بالتشديد وأصله جوردي بدون تشديد .
قال تعالى : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } ( طه : 88 ) أي : صنع لهم السامري { عِجْلاً
جَسَدًا } ( طه : 88 ) أي : تِمثال عجل , ولكنه جسد بلا رُوحٍ , فإن لفظ الجسد
يطلق غالبًا على الحي إذا مات أو ما كانت صورته صورة الحي , ولكنه جماد كهذا
العجل الذي صنعه السامري من الحلي وكتماثيل الحيوانات , فإنها كأجسادها بعد
الممات لا حياةَ فيها . { لَّهُ خُوَارٌ } ( طه : 88 ) أي : صوت يشبه صوت العجل ,
ولعله توصل إلى ذلك بالصناعة مع الحيلة كأن يضع فيه ما يشبه المزمار , ويسلط
عليه آلة نافخة لا يشعر بها الناظرون .
وأمثال هذه الحيل كثيرة يفعلها الدّجّالون في كل زمان ومكان .
ثم قال تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } ( طه : 95 ) أي قال له موسى :
ما شأنك ؟ وما الذي حملك على ما فعلت ؟ { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } ( طه : 96 ) أي : علمت ما لم يعلموا وأدركت ما لم يدركوا { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ } ( طه : 96 ) أي : أخذت بشيء من تعاليم هارون الذي استخلفته فينا ,
واقتفيت أثره فيها , فلم يرق لي شيء منها . وسمى هارون بالرسول ؛ لأنه هو
وموسى كانا يسميان كذلك بين بني إسرائيل , فإن الله قال لهما : { فَقُولا إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ } ( طه : 47 ) , وعدم اعتقاد السامري بصحة هذه الرسالة لا ينافي أن يقول
ذلك من باب التّهَكّم كما كانت قريش يتهكمون على رسول الله , ويقولون له : { مَا
لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ } ( الفرقان : 7 ) , ثم قال السامري :
{ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } ( طه : 96 ) أي : فرفضت ما أخذته من تعاليم
هارون بعد تجربتي له , وهذا ما مالت إليه نفسي التي علمت ما لم يعلم غيري .
هذا هو التفسير الصحيح الذي يتبادر من هذه الآيات , ولا يمكن لأي عربي أن يفهم
منها سواه , لولا ما حشاه به أكثر المفسرين من الخرافات , وهو يقارب ما ذهب إليه
محقق المفسرين أبو مسلم الأصفهاني وارتضاه منه فخر الدين الرازي وعززه .
قال له موسى : { فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا
لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ } ( طه : 97 ) أي :
لنبردنه . ويؤيده قراءة ( لنَحرقنه ) بفتح النون وكسر الراء وضمها خفيفة { ثُمَّ
لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً } ( طه : 97 ) .
فإن قال قائل : ما بال القرآن في الكلام على هذا العِجْل يأتي بما يحتمل أنه
كان حيًّا , وإن كان ذلك بعيدًا من عبارته ؟
قُلْتُ : جرت عادة القرآن في أمثال هذه المسائل العرضية البسيطة أن يأتي
بالتعبير الذي لا يصادم اعتقاد الجمهور مصادمةً لا تقبل التأويل حتى لا يكون
ذلك صادًّا لهم عن النظر فيه أو شاغلاً لهم عن البحث فيما أتى به من جوهر الدين ,
كما هي طريقة الحكماء .
فالظاهر أن أهل الكتاب من العرب كانوا يعتقدون أن هذا العجل صار حيًّا ,
وربما كان عندهم من رواياتهم وأحاديثهم ما يحملهم على هذا الاعتقاد , فلم يرد القرآن
أن يشتغل معهم بأمثال هذه التفاهات , فأتى لهم بما لو سمعوه لقبلوه , وما لو سمعه
العلماء المحققون لأدركوه , وفهموه ؛ ولذلك تراه مثلاً ينص على دوران الأرض
بقوله : { وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ } ( النمل : 88 ) في سياق يحتمل أن يكون ذلك مما يحصل يوم القيامة وإن
كان ظاهر الآية يبعد عن الاحتمال الذي لا يزال مقبولاً عند الجهلاء على أن
معنى الآية الصحيح لا يخفى على العلماء . فإن القرآن قد أتى للعامة والخاصة
والمنحطين والمرتقين , فلذا تنوعت أساليبه , وسحر بيانه عقول الجميع , وبذلك لم
يخطئ الغرض ، ولم يشتغل عن الجوهر بالعرض .
* * *
المسألة السادسة
( تكون الجنين )
قال الله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي
قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا
العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } ( المؤمنون : 12 - 16 ) .
اشتملت هذه الآيات على جميع أطوار الإنسان في حياته , وما يمر به من
التغيرات , من أول وجوده إلى يوم بَعْثِه .
( الطور الأول )
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ } ( المؤمنون : 12 ) أول الأحياء
في هذا العالم لا شَكَّ في أنه خُلِقَ من مادة الأرض مباشرةً , ثم ارتقت الحال بعد ذلك
فصارت الأحياء تتكاثر بانقسام الخلايا , ثم بالتلقيح الذي يعقبه الانقسام ( ومعنى
التلقيح اختلاط عنصر الذكر بعنصر الأنثى ) فإن الإنسان في طوره الأول كان
طينًًا , وإذا نظرنا إلى الإنسان من جهة أخرى وجدنا أن الحيوانات المنوية
والبويضات التي يخلق منها الإنسان مخلوقة من الدم , والدم من الغذاء , والغذاء من
الحيوان والنبات , وكلاهما من الأرض ؛ أي : الطين .
( الطور الثاني )
{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } ( المؤمنون : 13 ) النطفة : الإفراز ,
فتطلق على المَنِيِّ , ولا مانِعَ من إطلاقها أيضًا على بويضات المرأة التي يفرزها
المبيضان [1] , ولم يَذْكُرِ القرآنُ بويضاتِ المرأة صريحًا ؛ لأن ذلك غير معروف
لجماهير الناس , وهو لم يأْتِ لتعليمهم أمثال هذه الأشياء , وإنما هو يؤيد قضاياه بما
يعرفونه ولا ينكرونه , واكتفاؤه بِذِكْرِ المَنِيّ دون غيره في أكثر المواضع لا يَدُلُّ
على أن الإنسان لا يخلق من شيء آخَرَ معه ؛ إذ ليس في عبارته ما يدل على
الحَصْرِ ؛ فالطور الثاني طور النطفة وهي من الرجل ما فيه الحيوانات المنوية ,
ومن الأنثى ما فيه البويضات , فإذا حصل التلقيح بدخول رأس الحيوان المنوي في
البويضة استقرت في الرحم .
والمراد بالقرار المكين : أعضاء الأنثى الداخلة ( البوقان والرحم ) وهي التي يحصل فيها التلقيح ثم التكوين . ولا شك أن حيوان الذكر وبويضة الأنثى يَسبحان قبل التلقيح وبعده في قليل من سائل مخصوص ومجموع ذلك هو النطفة , وهي التي
تستقر في الرحم .
( الطور الثالث )
{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } ( المؤمنون : 14 ) وذلك بانقسام البويضة بعد
التلقيح بالحيوان المنوي إلى أقسام كثيرة , تكوِّن كتلةً صغيرةً تشبه العَلَقَة
وخلاياها كلها متشابهة .
( الطور الرابع )
{ فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً } ( المؤمنون : 14 ) , وهي قطعة أكبر من العَلَقَة
قَدْرَ ما يُمْضَغُ في الفم مركبة من عِدَّة خلايا ناشئة من انقسام البويضة الأصلية
بعد تغذيتها في جدر الرحم , وما أحيطت به من سوائل زلالية .
( الطور الخامس )
{ فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا } ( المؤمنون : 14 ) أَيْ : حوّلنا بعض خلايا المضغة
التي كانت كلها متشابهة إلى خلايا أخرى تصير بالتدريج بعد هذا التنويع عظامًا .
( الطور السادس )
{ فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا } ( المؤمنون : 14 ) أي حوّلنا الجزء الباقي من المضغة
إلى أنسجة رخوة , ذات خلايا مغايرة في شكلها للخلايا الأصلية, وهذه الأنسجة
تكون كاسيةً للخلايا الآخذة في التحول إلى عظام , فبينما تجد بعض الخلايا يتحول
إلى عظام تجد البعض الآخر يتحول إلى لحم وشحم وغيره يكسو هذه العظام .
( الطور السابع )
{ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } ( المؤمنون : 14 ) أي : بعد تمام خلقته وولادته
يصير بالتدريج إنسانًًا عاقلاً مُدْرِكًًا مفكرًا بعد أنْ كان لا يعلم شيئًًا كما قال تعالى :
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَالأَفْئِدَةَ } ( النحل : 78 ) الآية , فالشيء الذي كنت تراه لا يدرك وجود نفسه
يصبح محيطًًا بالكون بعقله ويخترق الحُجُب بفكره { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ } ( المؤمنون : 14 ) . وعبر هنا بِثُمَّ ؛ لتراخي ذلك عن زمن تمام التكوين .
( الطور الثامن والتاسع )
{ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } ( المؤمنون : 15-
16 ) فهذه هي الأطوار الإنسانية التي تُسْتَفَاد من هذه الآيات الشريفة .
ويجب الاعتراف هنا بأن هذه الآيات لم تصف هذه الأطوار بالتفصيل كما
يصفها الفسيولوجيون , وإنما وصفتها بإجمال خالٍ من الوهم والخطأ , داعٍ إلى
التفكر في قدرة الله , والتدبر في أعماله وهو ما يريده القرآن الشريف , ولا يريد
تدريس علم تكوّن الجنين للناس ولا غيره من العلوم الدنيوية , فلذا لا ينتظر من مثل
هذا الكتاب العزيز أن يدخل فيما ليس من غرضه الإطناب فيه ؛ لأن الناس يصلون
إليه من غير طريق الوحي .
* * *
المسألة السابعة
( ميراث بني إسرائيل الأرض من بعد فرعون )
قال الله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ( الشعراء : 57-59 ) ومن المعلوم أن بني إسرائيل
مِن بعدِ غرق فرعون وقومه لم يرثوا أرض مصر , بل خرجوا منها فما معنى هذه
الآية إذًًا ؟ .
ذهب محققو المؤرخين إلى أن فرعون موسى هو منفتاح بن رمسيس الثاني ,
وقد خضعت بلاد الشام لمصر في عهد رمسيس الثاني , وكان من عادته أن يبقي
فرقة من العساكر المصرية في البلاد التي يفتحها ؛ ليستوطنوها , ولينشروا فيها
عاداتهم وأخلاقهم , فكانت بلاد الشام مستعمرةً تابعةً لمصر ومحتلة بجزء من جيشها
وكان المصريون يجنون من خيراتها , ويتمتعون بها , وبعضهم يذهب إليها ليقيم
فيها تحت رعاية دولته كما يفعل الأوربيون الآن في الممالك التي يستعمرونها , ودامَ
الحال كذلك إلى عهد منفتاح بن رمسيس هذا , وفي عهده كان خروج بني إسرائيل
من أرض مصر .
إذا علمت ذلك ؛ فاسمع تفسير ما قال الله في القرآن الشريف : { فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ } ( الشعراء : 53 ) التابعة له كبلاد مصر والشام { حَاشِرِينَ } ( الشعراء : 53 ) يجمعون إليه جيشه وقومه المستوطن في هذه البلاد , قائلاً لهم :
{ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ } ( الشعراء : 54 - 56 ) , ثم قال تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُم } ( الشعراء : 57 ) أي :
المصريين { مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } ( الشعراء : 57-58 ) في
مصر والشام { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ( الشعراء : 59 ) أي : أورثناهم ما
كان يتمتع به المصريون من جنات الشام وعيونها وكنوزها ومقامها الكريم , فإن ذلك
قد آل إلى بني إسرائيل ؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى في هذا الموضوع :
{ وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } ( الأعراف : 137 ) , والأرض
التي بارك الله فيها هي أرض الشام كما جاء في آيات أخرى كثيرة في القرآن
الشريف كقوله : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء :
71 ) وقوله : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } ( الإسراء : 1 ) , فأنت ترى من هذا أن آيات القرآن
في هذا الموضوع يفسر بعضُها بعضًا , وأن المراد من ميراث بني إسرائيل لما
تركه المصريون هو ما كان ببلاد الشام .
( للمسائل بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار : النطفة في الأصل : الماء , أو كل سائل فيصح إطلاقه على ماء الرجل الذي فيه الحيوانات المنوية وعلى ماء الأنثى الذي فيه البويضات إذ كل منهما سائل .
(11/281)
 
الكاتب : محمد توفيق صدقي
مجلة المنار المجلد11 ص 361
القرآن والعلم
( 3 )

تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز [1]

( المسألة الثامنة )
( موت سليمان )
قال الله تعالى : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ
تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ
المُهِينِ } ( سبأ : 14 ) اعلم أنه كثيرًا ما يحدث أن الإنسان إذا لَحِقَه الموت فجأة
عقب انفعال عصبيّ ومجهود جسمانيّ يحصل له تيبس في الحال في جميع أجزاء
جسمه بحيث يحفظ بعد وفاته هيئته وشكل جسمه قبل الممات ، ويبقى على هذه
الحالة من بضع ساعات إلى يومين فأكثر ، وخصوصًا إذا كان الجو باردًا , وتسمى
هذه الحالة في كتب الطب باللغة الإنكليزية
Spasm Cadaveric
أي :
تيبس الموت .
ولذا يشاهد في بعض الحروب أن بعض العساكر يموت ويبقى واقفًا مستندًا
على بندقيته كأنه حي إلى أن يبتدأ التعفن في الجثة , فتزول يبوستها وتسقط .
فالظاهر أن سليمان عليه السلام كان واقفًا بعد مجهود جسماني عقلي مستندًا
على عصاه { مِنسَأَتَهُ } ( سبأ : 14 ) ففاجأه الموت ، فحصل له ما يحصل لغيره ,
وبقي قائمًا كأنه لم يَمُتْ فشاهدت الجن أنه لا يبدي حراكًا ، ولا يظهر عليه أنه يتنفس
لعدم تحرك صدره ؛ فداخلهم شك في حالته , وربما اجتمع على وجهه الذباب فلم
يطرده عنه , فازداد شكهم , ثم دخلت فأرة ( وهي من دواب الأرض ) وأخذت
تلعب حوله , وأخيرًا بدأَتْ تقرض عصاه والجنُّ إلى ذلك ينظرون فيتعجبون ,
ولكنهم خافوا أن يتركوا أعمالهم المكلفين بها , أو أن يظهروا شكهم في حياته ، ولبثوا
على هذه الحالة مترددين بِضْعَ ساعات أو يومًا أو يومين .
فلما حركت الفأرة العصا التي أخذت تقرضها عن موضعها قليلاً اخْتَلّ
التوازن فسقط على الأرض وَبِذَا أَيْقَنَتِ الجِنُّ أنه كان ميتًا , وأن اشتباههم كان في
محله . ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا لحظةً بعد وفاته قائمين بأشغالهم الشاقة ,
ولعرفوا الوفاة حين حدوثها بلا تردد . ولفظ ( لبث ) يستعمل في الزمن القليل والكثير
كقوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ
عَامٍ } ( البقرة : 259 ) .
فهذا هو التفسير الصحيح لهذه الآية الذي ينطبق على العلم ، ولا يوجد في تاريخ
سليمان ما ينافيه .
* * *
( المسألة التاسعة )
( الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان )
قال الله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } ( ص :
34-35 ) معنى هذه الآية : أن سليمان لَمّا وَرِثَ أباه داود في مُلْكِهِ سأَلَ اللهَ أنْ يرزقَه
وَلَدًا لِيَرِثَهُ مِن بَعْدِ مَوْتِهِ , ولِيَبْقَى المُلْكُ في نَسْلِه , فاختبره الله تعالى , ولم يجب
دعاءَه في أول الأمر إلا بإعطائه ولدًا ناقص الخلقة ( كأن يكون لا رأسَ له ولا مخَّ ,
أو نحو ذلك مما يحصل أحيانًا لبعض المولودين ) ولما كان هذا المولود أقرب إلى
الميت منه إلى الحي المدرك سمّاه الله جسدًا كأنه لا رُوحَ له , فلمّا وجد سليمان أن
مَن رزقه الله ليخلفه في كرسيه عَدَمُهُ خَيْرٌ مِن وُجُودِهِ ضَجِرَ ، وتألَّمَ ، ولَمْ يَشْكُرِ اللهَ
على كل حال , ولكنه لم يلبث إلا قليلاً ورجع إلى الله يستغفره على ما فرط منه ,
ويرجوه العفوَ عن عدم رضائه بِما قضاه تعالى , وقال : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي } ( ص : 35 ) أي حيثُ إنك لم تَرْزُقْنِي بِمَن يَرِثُني
في هذا المُلْك فوسعه علي ، وزدني سلطانًا , ومتعني بما لا يصل إليه أحد من الملوك
بعدي حتى تعوضني بذلك ما حرمتني من النَّسْل الصالح , فاستجاب الله دعاءَه ,
وسَخَّرَ له الريحَ , وسَلَّطَه على الجن والإنس والطير , وبعد ذلك رَزَقَه الله تعالى أيضًا
بمن يرثه ( وهو ابنه رحبعام ) ولكنه كان ضعيف العقل سَيِّئ التدبير , رديء
السياسة حتى خرجت عليه عَشَرَةٌ من أسباط بني إسرائيل ، ووقع الانقسام بينهم
في عهده .
فمما تقدم تعلم أن قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ } ( ص : 34 )
معناه ذاك المولود الناقص , وهو أول مَن رُزِقَه , وقال : ألقيناه على كرسيه ؛ لأنه
بمنزلة ولي عهده كما يقولون الآن , وتقول العرب : ( أُلْقِيَ الليلةَ على كرسي
الفرس مولودٌ ) مثلاً إذا رزق كسرى بالولد الذي يرثه في ملكه ، ويجلس على كرسيه
من بعده .
وهذا التفسير هو الذي كان يفهمه العرب من هذه الآية ؛ ولذلك ورد في بعض
الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها ما يقرب منه , ولولا حَشْوُ مفسرينا
الإسرائيلياتِ في تفسير الكتاب العزيز ما فَهِمَ أحدٌ منها خلافه ؛ فاحذر مما قالوه , ولا
تَعْبَأْ به ، فإنه مَثَارٌ لشبهات كثيرة .
* * *
( المسألة العاشرة )
( اللؤلؤ والمَرْجَان )
قال الله تعالى : { مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } ( الرحمن : 19-22 ) , فقال كثير
من الناس : إن اللؤلؤ والمَرْجَان يخرجان من البحر المالح, ولا يوجد منهما شيء في
البحر الحلو .
واعلم أن اللؤلؤ يخرج من كثير من الأنهار , ويوجد في بلاد أوستراليا أنهار
مشهورة باستخراج الصدف واللؤلؤ منها ؛ وهاك أسماء بعضها :
نهر هنتر
Hunter , و كلارنس Clarence , و كوك Cook's , و كليد
Clyde , وغيرها ، وهي موجود في ولاية ويلز الجنوبية الجديدة
Wales South New من أوستراليا .
* * *
( المسألة الحادية عشر )
( السماء في القرآن )
السماء : من سَمَا ، أي : ارتفع , فالسماء في اللغة كل مرتفع فسقف البيت سماء
والسحاب سماء , والكواكب سماوات والفراغ اللانهائي الذي فوق رءوسنا هو
سماء أيضًا , وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الشريف بعِدَّةِ مَعَانٍ تُعْرَف من السياق ,
وتفسر في كل مقام بحسبه , وإن اشتركت كلها في معنى الارتفاع والسمو . وكذلك
يوجد في اللغة العربية ألفاظ كثيرة تُستعمل في مَعَانٍ مختلفةٍ لا يعينها إلى السياق .
مثلاً ( لفظ ) نَجْم يُسْتعمل في الكوكب , وفي النبات ، فمثال الأول : { وَالنَّجْمِ إِذَا
هَوَى } ( النجم : 1 ) ومثال الثاني : { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } ( الرحمن : 6 )
والمقام هو الذي عين كلا من المعنيين , ويسمى هذا النوع من الألفاظ بالمشترك .
إذا عرفت ذلك فاعلم أن لفظ السماء إذا ورد في القرآن يجب أن يعرف معناه
من المقام , ويجب أن لا يحمل في جميع المقامات على معنى واحد مثلاً في قوله
تعالى : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } ( الرعد : 17 ) معناه : السحاب ؛ ولذلك قال في
آية أخرى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ } ( النور : 43 ) ( أي : المطر ) { يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } ( النور : 43 ) الآية ,
وفي قوله : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ } ( الحج : 15 ) يعني : سقف البيت , وفي
قوله : { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ } ( الرحمن : 7 ) معناه : الكواكب . والألف
واللام هنا للجنس , وكذلك في قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْنَاهَا } ( ق : 6 ) أي : جعلنا أجزاءَ كل منها متماسكة , ثم هي في مجموعها
متجاذبة بعضها إلى بعض كالبُنْيَان يشُد بعضه بعضًا { وَزَيَّنَّاهَا } ( ق : 6 ) بأن
جعلنا أشكالها جميلة مستديرة , وأن بعضها مع بعض لها منظر بهيج , ثم أضأناها
بالأنوار الذاتية أو المنعكسة عليها من غيرها { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } ( ق : 6 ) أي :
شقوق , فلا ترى كوكبًا منها به كسور أو منشقة أجزاؤه أو متفرقة , فهو كتأكيدٍ لِقَوْلِه :
{ بَنَيْنَاهَا } ( ق : 6 ) وفي قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } ( الملك : 5 ) السماء الدنيا معناها الجو , أو الفراغ
المحيط بنا القريب منا , وهو المزين بالكواكب , وأما ما وراءه من الفراغ اللانهائي ,
فليس به زينة ولا شيء , وجعلناها رجومًا للشياطين بانقضاض الشهب منها لإهلاكهم
كما في قوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } ( الصافات : 10 )
وهذه المسألة لا يوجد في العلم الطبيعي الآن ما يصدقها , ولا ما ينفيها , وغاية
الأمر أنها غير معروفة له , فنحن نصدقها لإتيان النبي الصادق بها , وقد ثبتت
نبوته عندنا بالبراهين القاطعة كما أوضحناه في مقالات الدين في نظر العقل
الصحيح .
وقوله : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً } ( الملك : 3 ) المراد به : الأجرام
السبعة العلوية المشهورة التي كانت تعرفها العرب ، وتراها بأعينها وهي القمر
وعُطَارد والزهرة والشمس والمِرِّيخ والمُشْتَرِي وزُحَل .
وإنما خصّ هذه السبعة بالذكر ؛ لأنها أكبر ما تعرفه العرب وأكبر ما
تشاهده , وإلا فالأجرام السماوية العظيمة أكثر من سبعة .
وليس في القرآن الشريف ما يدل على الحصر . على أن بعض علماء اللغة
قالوا : إن العرب إذا أرادت المبالغة في العدد تأتي بلفظ سبعة , وما ركب منها
كالسبعين والسبعمائة , واستشهدوا على ذلك بنحو قوله تعالى في وصف جهنم :
{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } ( الحجر : 44 ) فإن المقام مقام
تهويل لا يناسبه إلا ذكر العدد الكبير . وإن لم يكن لِجَهَنَّمَ سوى هذه الأبواب السبعة
اقتضى المقام عدم ذكر العدد هنا بالمَرّة ؛ لقلته ، فلو لم يكن لفظ السبعة يستعمل عندهم
في مطلق الكثرة لَمَا ذكره هنا ؛ ولذلك قال أئمة المفسرين في مثل هذه المواضع :
إن العدد لا مفهومَ له , ومثل ذلك قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ
أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } ( لقمان : 27 ) .
قد يقول قائل ما بالك تَذْكُرُ هنا في تفسير السماوات السبع القمر والشمس مع
أن القمر تابع للأرض , والشمس هي مركز العالم والسيارات تدور حولها , ومنها
أرضنا هذه . ونقول : إن هذه المسائل الفلكية لم يتعرض لها القرآن هنا في مثل هذه
الآية , وغاية ما ذكره أن الله خلق سبع سموات طِبَاقًا , وقلنا : إن الأجرام التي
خلقها الله هي عالية بالنسبة لنا ؛ فهي سموات وهي سبع طباق , بعضها فوق
بعض بالنسبة لنا أيضًا , فلا دَخْلَ لِذلك في كون بعضها تابع لغيره [1] فإن هذه
المسائل لا علاقة لها بتفسير الآية كما لا يخفى على ذِي عقل .
ويستعمل لفظ السماء في اللغات الإفرنجية أيضًا في عِدَّة معانٍ مختلفة , ففي
الإنكليزية لفظ
Heaven قد يُرَادُ به السحاب أو الجوّ أو الذات العليّة أو الجنة أو
غير ذلك , والمقام هو الذي يعين هذه المعاني المختلفة كما هو المعهود في اللغة
العربية .
* * *
( المسألة الثانية عشرة )
( الأرض والجبال )
قال الله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ
الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } ( الطلاق : 12 ) , وقال : { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } ( النحل : 15 ) , وقال : { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } ( النبأ : 7 ) .
لم يذكر في القرآن أن الأرض سبع إلا في الآية المذكورة هنا , ولم يذكر فيه
مطلقًا لفظ الأرض بالجمع ولا في الآية السابقة بخلاف السماء فإنها ذكرت بالجمع
في أكثر المواضع , فالظاهر أن الأرض شيء واحد ولكنها ذات طبقات سبع ؛ فلذا
قال هنا : { وَمِنَ الأَرْضِ } ( الطلاق : 12 ) ( بالإفراد ) { مِثْلَهُنَّ } ( الطلاق :
12 ) أي : في العدد , وهي كونها سبعًا , وفي كونها طباقًا , ويجوز أن تكون طبقاتها
أكثرَ من سبع , وإنما خَصّ هذه بالذكر لِكَوْنِهَا الطبقات الأصلية أو الأساسية , فإن
الآية لا تدل على الحصر , فلا مانِعَ مِن أن يكونَ بعض هذه الطبقات الأصلية مركبًا
من طبقات أخرى , وقد يكون لفظ ( سبع ) لا مفهوم له , ومستعمل هنا للدلالة على
الكثرة فقط , كما بيناه سابقًا في مسألة السموات .
وقوله : { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } ( لقمان : 10 ) . تميد
مِن مَادَتِ السفينةُ ؛ أي : مَالَتْ واضطربت , فمعنى الآية : أن الله أثقل الأرض
بالجبال لِمَنْعِهَا مِن الميدان والتزلزل الدائم , وذلك أن الجبال بوجودها في بعض
الجهات جعلت ثقل الأرض في جميع الجهات متساويًا بالنسبة إلى المركز , فإذا
دارت الأرض حول مركزها لا يحصل أدنى اضطراب فيها , ولو كان بعض جهاتها
أخف من البعض الآخر لشعرنا بالاهتزاز يوميًّا من حركة الأرض حول محورها .
وأيضًا فإن الجبال بثقلها العظيم على الأرض , وبما امتد من قواعدها
من الشعب الصخرية كونت طبقة حجرية عظيمة تقي ما بين الجبال من الوديان من
انفجار باطن الأرض الملتهب , ونسف قشرتها أو زلزالها الدائم , ولا يخفى أن
أغلب الأراضي المسكونة إنما هي في الحقيقة وديان بين جبال . فلولا الجبال
لتوالت الزلازل ، ولما هدأ للبشر جميعًا بَالٌ ، ولما كان حدوث الزلازل نادرًا كما هو
الآن ، وحاصلاً لبعض البشر دون بعض .
وقوله : { وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً } ( النبأ : 7 ) هو كقوله بعده : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِبَاساً } ( النبأ : 10 ) أي : كاللباس في الستر . فالمعنى : أن الجبال كالأوتاد
المغروسة في الأرض , وإذا لاحظنا أن الأرض تجذبها من جميع نقطها إلى مركزها
كما تشد الأوتاد بالحبال المربوطة بها أدركنا ما بينهما من الشبه العظيم , وفهمنا
نكتة هذا التشبيه . وكما شبه الله تعالى الجبال هنا بالأوتاد كذلك شبه الأهرام المصرية
بها في قوله : { وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ } ( الفجر : 10 ) .
* * *
( المسألة الثالثة عشرة )
( تفسير آيات عدم صلب المسيح )
قال الله تعالى ] وَقَوْلِهِمْ [ أي : اليهود { إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ } ( النساء : 157 ) قالوا ذلك تهكمًا , والمسيح معناه عندهم الملك ؛ لأنهم كانوا يمسحون ملوكهم بالزيت عند توليتهم , وسمي عيسى مسيحًا ؛ لأنه كملك رُوحَانِيّ استولى على قلوب الناس ونفوسهم , وخلصهم من عاداتهم الرديئة , ومن أسر التقاليد والأوهام والعقائد السخيفة ورقى نفوسهم , وأصلح أمورهم ، فهو كالملوك العظام الذين كانوا يأتون اليهود , فيخلصونهم من الأسر والبلايا , ويرقون شئونهم ككورش ملك فارس الذي تقدم ذكره وكانوا يسمونه هو وغيره من الملوك النافعين لهم بالمسيح , وكانوا يتوهمون أن
المسيح سيأتي , ويرد لهم ما فقدوه من المجد والسلطان( عيسى) تعريب لفظ يشوع
ومعناه المُخَلِّص ، وهو علم مشهور عند اليهود , وسمي به كثيرون قبل المسيح بينهم كيشوع خليفة موسى عليهما السلام ,وكانوا يتفاءلون بهذا الاسم ويرجون أن يكون لهم بشرى خير لخلاصهم مما كانوا فيه من الرزايا والمصائب .
{ ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } ( النساء : 157 ) أي : اشتبه عليهم الأمر فأخذوا واحدًا يشبهه ظانين أنه هو المسيح , وصلبوه وقتلوه .
واعلم أن وجود أشخاص متشابهين في الخلقة أمر مشاهد معروف , وقد يكون
الشبه تامًّا بحيث يخدع به أهله وذووه فما بالك إذا كان القابضون على المسيح
ما كانوا يعرفونه , ولا الذين حاكموه , ولا الذين حضروا تنفيذ الحكم , فقد فرّ
تلاميذُه من حوله وهربوا , وكل ذلك صريح في نصوص العهد الجديد .
ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادثُ كثيرةٌ في باب تحقيق الشخصيات دالّة
على أنه كثيرًا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص , ويشتبهون عليهم
بغيرهم وقد ذكر ( جاي ) و ( قرير ) مؤلِّفَا ( كتاب أصول الطب الشرعي ) في
اللغة الإنكليزية حادثة استحضر فيها 150 شاهدًا لمعرفة شخص يدعى ( مارتين
جير ) فجزم أربعون منهم بأنه هو هو , وقال خمسون : إنه غيره , والباقون ترددوا
جدًّا , ولم يمكنهم أن يبدوا رأيًا , ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غيرَ
مارتين جير , وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون , وعاش مع زوجة مارتين محاطًا
بأقاربه وأصحابه ومعارفه لمدة ثلاث سنوات , وكلهم مصدقون أنه مارتين , ولما
حكمت المحكمة عليه لظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى ,
فأحضر ثلاثون شاهدًا آخرون , فأقسم عَشَرَةٌ منهم بأنه هو مارتين , وقال سبعة :
إنه غيره, وتردد الباقون ، وقد حدثت هذه الحادثة سنة 1539 في فرنسا ، وأمثالها
كثير .
وقد بلغ شبه بعض الأشخاص لغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم
ممن شابههم من الكسور أو الجروح أو آثارها ، وغير ذلك حتى تعسر تمييز بعضهم
عن بعض , ولذلك جدّ الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين .
فإذا كان الأمر كذلك فهل في حادثة المسيح أدنى غرابة ؟
ثم قال تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ
اتِّبَاعَ الظَّنِّ } ( النساء : 157 ) كما في الحادثة التي سبقت , ولذلك اختلفت طوائف
النصارى قديمًا وحديثًا في هذه المسألة , واختلف فيها ما وجد عندهم من الكتب كما
بيناه في موضع آخر . ولو كانت حادثة الصَّلْب يقينيةً لَمَا وقعَ فيها ما وقع من
الاختلاف بينهم .
{ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } ( النساء : 157-158 ) أي : إنه لم
يقتل , ولكن توفّاه الله ، ورفع روحه إليه , وأسكنها عنده في جنان النعيم , كما قال
في آية أخرى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ( آل عمران :
55 ) , وكقوله تعالى حكايةً لقول المسيح عن نفسه في الآخرة : { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي
كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ( المائدة : 117 ) فالرفع هنا رُوحاني معنوي , وكذلك
وَرَدَ الرفع في القرآن في مواضع كثيرة في الأمور المعنوية . قال تعالى : { وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } ( البقرة : 253 ) , وقال : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ
إِلَى الأَرْضِ } ( الأعراف : 176 ) , فمعنى الآية : أنهم لم يقتلوه , ولكن الله هو
الذي قبضه إليه بدون أن تصل إليه أيدي الأعداء بالسوء , ورفع روحه إلى جنته ,
وأسكنه بجواره , وذلك كله على حد قوله في مواضعَ أخرى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ( آل عمران : 169 ) أي :
تتمتع أرواحهم في الجنة . وقوله : { إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } ( القمر : 54-55 ) , فكل هذه العبارات : كـ ( عند الله ) ,
و ( رفعه الله إليه ) , ونحوها مستعملة في معانيها المجازية لا الحقيقية .
فالظاهر أن المسيح عليه السلام ذهب إلى جهة من الجهات , أو جبل من
الجبال فتوفاه الله هناك , ولما ذهبوا ليقبضوا عليه وجدوا شخصًا يشبهه فاغتروا به
فأخذوه ، وقتلوه ، وصلبوه .
ولعلّ هذا الشخص هو يهوذا الإسخريوطي , وكان يقصد خيانة المسيح ,
وأن يقبض عليه , ويسلمه ، فوقع فيما كان يدبره لسيده , فاشتبهوا فيه ، وأخذوه
أخذًا وَبِيلاً , وأما المسيح فكان قد توفّاه الله , وأنجاه من مثل هذا العذاب .
وذهاب بعض الأنبياء إلى بعض الجبال ووفاتهم بها أمر معهود , كما وقع
لموسى عليه السلام ( راجع سفر التثنية 34 : 1 - 6 ) .
ثم قال الله تعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } ( النساء : 159 ) أي : إن كل شخص من أهل الكتاب لا بُدَّ عند
وفاته أن تتضح له الحقيقة , فيؤمن بالمسيح كما جاء به القرآن , وليس معناه أنهم
يؤمنون به عند نزوله يوم القيامة كما هي عقيدة النصارى ؛ فإن الآية صريحة في
أن كل شخص منهم سيؤمن به , وأما عند نزوله فلا يؤمن به إلا الذين يحضرونه ،
وهو خلاف نص الآية .
واعلم أن المسلم لا يجب عليه الإيمان بأنه سيجيء يوم القيامة , والظاهر أن
هذه عقيدة سَرَتْ من النصارى إلى المسلمين . ولم يأت بها القرآن . والأحاديث لا
يؤخذ بها في العقائد إلا إذا تواترت ، وليس في هذه المسألة حديث متواتر .
وأما قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } ( الزخرف : 61 ) ,
فمعناه أنه لدليل على قدرة الله على البعث , فإن الذي خلقه بلا أب , والذي أحيا
الموتى على يديه قادر على إحياء الموتى يوم القيامة , وهذه الآية كقوله :
{ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 91 ) .
ولقائل أن يقول : إذا كان المسيح مات وتفرق تلاميذه من حوله بسبب أعمال
اليهود , وكانوا قليلي العدد ؛ فما معنى قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ
نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } ( الصف : 14 ) , ونقول : أما في عصر المسيح عليه
السلام فقد كانوا مؤيدين بقوة اليقين والإيمان ظاهرين على أعدائهم بالحُجّة والبُرْهان,
وبما يظهره الله تعالى على يده من المعجزات والآيات البينات , وأما بعد وفاته فقد
سلّط الله الرومانيين على اليهود , فشتتوهم في أقطار العالم , وخربوا مسجدهم
المقدس , ولم يصب المسيحيين في أثناء ذلك أدنى أذى ، ثم صاروا ينتشرون في
الأرض ويزداد عددهم شيئًا فشيئًا حتى دخل قسطنطين في المسيحية , وصارت
ديانتهم هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية ، وبذلك تمّ لهم الظهور على أعدائهم
اليهود , ولا يزالون كذلك إلى الآن كما قال تعالى : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ } ( آل عمران : 55 ) , وإنما عبر تعالى بالفاء
في قوله : { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } ( الصف : 14 )
مع أن ظهورهم الماضي لم يظهر إلا بعد مُضِيّ سنين طويلة ؛ لأن سنيننا هنا هي
عند الله كلحظات { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ( الحج : 47 )
{ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } ( المعارج : 6-7 ) وغلوّ المسيحيين في
بعض معتقداتهم , وتأليههم لنبيهم لا ينافي أنهم مؤمنون به ؛ فلذا وصفهم الله
تعالى بالإيمان في هذه الآية كما وصفهم به في آيات أخرى كقوله تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } ( الحديد :
28 ) الآية . فلا منافاة بين الغلوّ في العقيدة وبين أصل الإيمان .
( للمسائل بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي .
(2) حاشية - من تذكر أن لكثير من السيارات توابع كالقمر بالنسبة للأرض ، وهذه التوابع أو الأقمار تضيئها , فهم معنى قوله تعالى : [ وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ] (نوح : 16) , فإن الألف واللام هنا تصحّ أن تكونَ للجنس لا للعهد , والمعنى : أن الله جعل الأقمارَ أنوارًا تضيء بها السموات .
(11/361)
 
الكاتب : محمد توفيق صدقي
مجلة المنار المجلد11 ص441
القرآن والعلم
( 4 )


تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب
في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز
المسألة الرابعةَ عَشْرَةَ
( هامان وزير فرعون )
قال الله تعالى حكاية عن فرعون : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا } ( القصص : 38 ) ,
وقالوا : إن هامان كان وزيرًا لأحشويروش ملك فارس ، وهو متأخر عن فرعون بسنين .
وهذه الشبهة من أضعف الشبهات ، فإنه لا يبعد أنْ يكونَ لفرعون وزير يسمى
هامان , ثم سمي بهذا الاسم وزير آخر لملك الفرس , ومن عَرَفَ علاقة المصريين
بالأمم المجاورة لهم وتغلبهم على بلادهم تارة , وخضوعهم لهم تارة أخرى كما كان
يحصل بين ملوكهم وملوك فارس لا يتعجب من دخول بعض أسماء أهل مصر في
لغات الأمم الأخرى , ولا من دخول بعض أسماء من هؤلاء الأمم في لغة مصر
القديمة , على أننا لا نعرف جميع أصول ما ورد في الكتب المقدسة مِن الأسماء ,
ولا ندري جميع مصادرها ، فيجوز أنْ يكونَ للفظ هامان أصل في اللغة المصرية
القديمة ( الهيروغريفية ) لا نعرفه . ولا يخفى أن ردّ الأعلام المنقولة من اللغات
بعضها إلى بعض عسير , وفي بعض الأحيان يكونُ متعذرًا . وخصوصًا مثل هذه
الأسماء القديمة الواردة في كتب الأمم المقدسة . فكم في كتب العهدين مِن أعلام لا
يعرف اشتقاقها إلا رَجْمًا بالغيب ! وكم فيها مِن أسماء لأشخاص من أُمّم يسمون عند
أممهم بغيرها ولا يعرف سبب لهذا الاختلاف .
فإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لتلك الشبهة . فإن الشبهة لا تدحض حُجّة إلا إذا
بنيت على أساس ثابت مقطوع به . ومادامت الشبهة وَهْمِية أو ظنية , فلا يلتفت
إليها . ولا يعبأ بها في مقابلة الدلائل اليقينية .
* * *
المسألة الخامسة عشرة
( أموال قارون ) [1]
قال الله تعالى في قصة قارون : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ
بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ } ( القصص : 76 ) فقال قوم : إن ذلك غير معقول ؛ لأن
وجود مال بهذه الكثرة غير معروف .
ونقول : أما إنْ كانَ ماله من الذهب والفضة فربما كان قولهم صحيحًا . وأما
إنْ كانَ من غير الذهب والفضة أو كان من جنس العروض لا من جنس النقد كان
ذلك جائزًا . فمن المحتمل أنه كان عنده مخازن عديدة تحتوي على غلال ومأكولات
وملبوسات ومفروشات ومصنوعات , وغيرها مما ادخره لنفسه أو للاتجار به ،
وكان لهذه المخازن عدة أبواب ومفاتيح كثيرة تثقل العصبة أولي القوة وخصوصًا إذا
لاحظنا أن مفاتيح الأمم القديمة كانت كبيرة وضخمة . بحيث يصعب على الإنسان
حمل كثير منها .
على أن الأرجح أن لفظ ( مفاتح ) معناه الخزائن , وقياس واحده مَفْتَح بفتح
الميم . وبذلك قال ابن عباس و الحسن .
وقد ورد بهذا المعنى أيضًا في قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ
هُوَ } ( الأنعام : 59 ) أي خزائن الغيب ومكنونات أسراره . خزائن أموال قارون
كانت ثقيلة . وهذا أمر مشاهد مثله الآن ومعروف كما في البلاد الأوربية والأمريكية
من النقود الذهبية وغيرها .
* * *
المسألة السادسةَ عَشْرَةَ
( الوضع اللغوي )

( استعمال لفظ القلب في القرآن )
توضع الألفاظ في اللغات للمعاني والذوات لمناسبات صحيحة أو غير صحيحة ,
ثم يفشو استعمالها بين الناس ويتوسع فيها حتى يجهل كثير من الناس أصول
معانيها , فلا يبالون في استعمالهم لها إنْ كانَ السبب الذي وضعت لأجله هذه الألفاظ
للمعاني المخصوصة صحيحًا أو غير صحيح . مثال ذلك قولهم : ( فلان مجنون )
أي غير سليم العقل فلفظ ( مجنون ) من جُنّ الرجل أي أصابته الجِنّ , ولما كان هذا
الاعتقاد شائعًا بين القدماء فشا بينهم استعمال لفظ مجنون , وما كان من مادته فيمن
اختل عقله وإنْ كانَ هذا الاختلال في الحقيقة ليس ناشئًا عن الجن كما يزعمون ,
ولم تبال الناس بالبحث عن صحة هذا السبب المزعوم الذي لأجله استعمل هذا اللفظ
في هذا المعنى بل صاروا يستعملونه ( بقطع النظر عن البحث في حقيقة أصله )
في كل اختلال للعقل حتى كأنه وضع في أول الأمر لهذا المعنى . ومثل ذلك لفظ
( عبقر ) وهو اسم لموضع تزعُم العرب أنه مِن أرض الجن , ثم نسبوا إليه كل شيء
تعجبوا من جودة صنعه كما في قوله تعالى : { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } ( الرحمن : 76 )
مع أن هذا الموضع لا وجود له إلا في مخيلاتهم الواهمة . وكذلك لفظ ( القلب ) فإنه
في الأصل موضوع لداخل الشيء ولبه , ولذا أطلقوه على الفؤاد ولما كانوا يعتقدون
أن الفؤاد هو مكان التعقل والتفكر صاروا يسمون العقل قلبًا من باب تسمية الشيء
بمحله على سبيل المجاز المرسل , ثم شاع بينهم هذا الاستعمال حتى صارت
الكلمتان ( العقل والقلب ) عندهم مترادفتين في بعض المواضع وجرى على ذلك
الأولون والآخِرون غير مبالين إنْ كانَ أصل هذا الاستعمال مبنيًّا على فكرة صحيحة
أو غير صحيحة . ومن ذلك أيضًا قولهم : ( غربت الشمس ، أو طلعت ) فإنه تعبير
يُرَاد به احتجاب الشمس عنا أو ظهورها لنا سواء كان ذلك ناشئًا عن حركاتها أو
عن حركة الأرض , فإن أمثال هذه المباحث يجب أنْ تكونَ بعيدةً عن الأوضاع
اللغوية التي عهدتها الناس وعن الاصطلاحات التي جروا عليها في كلامهم
وتعبيراتهم , ولذلك تجد في جميع اللغات ألفاظًا وُضِعَتْ في الأصل لأفكار غير
صحيحة , ثم شاعت بين الناس في معانٍ صحيحةٍ فلم تجد العلماء بُدًّا مِن الجري
عليها في كلامهم واستعمالها في عباراتهم مع علمهم بخطأ الأصل الذي بنيت عليه .
وما سمعنا بأن أحدًا منهم عاب غيره لأجل استعمالها بعد شيوعها بين الناس
ومعرفتهم لها , ولذلك يقولون : ( لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح ) .
فنحن لا ننكر أن في القرآن بعض ألفاظ وضعها العرب في معانٍ مخصوصةٍ
لأفكار كانت عندهم وهي غير صحيحة , ثم شاعت بينهم في المعاني حتى نزل
القرآن , فلم يستَغْنِ عن استعمالها فيما استعملت فيه بينهم , وإن كانوا في وضعها
مخطئين , فإن ذلك مما تقتضيه الضرورة لنزوله بتلك اللغة فلا يجوز أن يتحاشى
تعبيراتها المعهودة للعرب وخصوصًا إذا كانت سَلِسَلة التركيب .
وإنما الذي ننكره بما كتبناه سابقًا أمران :
( 1 ) أن يضع القرآن من تلقاء نفسه لفظًا في معنى لفكرة غير صحيحة .
( 2 ) أن ينص على أمر من الأمور بعبارة له صريحة , ويكون هذا الأمر
في الواقع ونفس الأمر غير صحيح . فلا ينافي ذلك ورود لفظ فيه مثل القلب ،
وعبقري ، ومجنون ، بمعنى العقل والشيء الجميل ومختل العقل . وإن كانت العرب
في وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني قد راعوا عِلَلاً غير صحيحة . فإن ذلك معهود في
جميع اللغات وفي كلام جميع العلماء مهما أوتوا من العلم والفلسفة ؛ إِذْ لا داعي
يدعوك لترك أمثال هذه الألفاظ بعد جريانها على ألسنة الناس في معانٍ صحيحة ،
وإن كانت في أصل وضعها خطأً , فإنهم لو تحاشوا لضاقت عليهم اللغات , ولَكانت
تعابيرهم عاجزةً عن تأدية المعنى المراد ركيكةً في نظر جماهير الناس ، فمن أمثلة
ذلك في اللغات الأجنبية تسميتهم بعض جزائر أمريكا باسم Indies West أي
جزائر الهند الغربية ، والسبب في ذلك أن مكتشف أمريكا ( كريستوفر كولومبس )
لما رأى هذه الجزائر ظنّ أنها جزائر الهند , فسماها بذلك وجرى الناس على هذه
التسمية إلى هذا اليوم مع علمهم بأنها خطأ . ومِن ذلك أيضًا تسمية الأطباء لبعض
الديدان الشريطية المعوية باسم Solivm Taenia أي الدودة الشريطية الوحيدة ؛
لتوهم الناس في الزمن السابق أنه لا يوجد منها في الأمعاء سوى واحدة , ومع أنهم
الآن قد علموا أنه قد يوجد منها أكثر من واحدة ، ترى جميع العلماء يصرون على
هذا الاسم , وإنْ كانَ الوصف فيه خطأً ؛ لشيوعه بين الناس . وكذلك تسميتهم بعض
الأمراض العصبية ( بالهستيريا ) من لفظ Hystera اليوناني ، ومعناه ( الرحم )
لظن الناس في الزمن الأول أن علَّةَ هذا المرض هي في الرحم , ومع عِلْمِ الأطباء
بخطأ ذلك لا يزالون متمسكين به .
إذا علمتَ ذلك فاسمع الآن معنى القلب في قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ
وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ } ( الحج : 46 ) , فمعنى القلوب في أول
الآية ، العقول . وإنما لم يقل : ( فتكون لهم عقول يعقلون بها ) لِرَكَاكَةِ ذلك ، ولم
يَقُلْ : ( فتكون لهم أمخاخ يعقلون بها ) ؛ لعدم معرفة العرب ذلك ولاستنكارهم هذا
التعبير والقرآن لم يَأْتِ لتعليمهم أمثال هذه المسائل الفسيولوجية ؛ فلذا لم يهتم بها
ويصح أنْ يكونَ معنى القلوب هنا الأنفس العاقلة المفكرة والأرواح المدركة المدبرة ؛
لأن قلب الشيء هو جوهره ولُبّه [2] وخلاصته , ولا جوهر للإنسان سوى روحه
فإنها هي حقيقته وكل ما سواها قشور لها . وأما لفظ القلوب في آخر الآية فمعناه
العضو المعروف في صدر الإنسان , ومعنى الآية أنهم لم يعموا عن المواعظ والعبر ؛
لعمى أبصارهم , بل لعمى قلوبهم التي في صدورهم ؛ أي لعدم تأثرها وانفعالها
حتى كأنها قلوب أموات ، فإن قلوب الأحياء تتأثر بما يحيط بالإنسان من العوامل
فتَزِيد ضرباتها أو تنقص وتقوى , أو تضعف وتنتظم , أو تختل إلى غير ذلك من
التغيرات التي تحصل لحركات القلب , وهي تدل على مبلغ تأثر صاحبه وعلى
درجة الإحساس عنده ، فَمَنْ لم يتأثر قلبُه كانت نفسُه جامدةً ؛ لأن القلوب هي دلائل
النفوس , ولذلك قيدها الله هنا بقوله : { فِي الصُّدُورِ } ( الحج : 46 ) لمنع التجوز
في معنى القلوب ، فكأنه تعالى يقول : إن الذي يدلكم على موت نفوس هؤلاء القوم
وجمود أرواحهم أنكم لو أحسستم بقلوبهم الحقيقية التي في صدورهم لَمَا وجدتموها
تنفعل أو تضطرب لِمَا تضطرب منه قلوب الأحياء المتقين إذا سمعوا ما به يتعظون ,
أو رَأَوْا ما به يعتبرون ، فكأنه تعالى جعل آخر هذه الآية كدليل على ما قاله في
أولها مما معناه أن عقولهم أو نفوسهم لا تدرك شيئًا , ولولا القيد المذكور وهو قوله :
{ الَتِي فِي الصُّدُورِ } ( الحج : 46 ) لأَمْكَنَ حَمْل القلوب في آخر الآية على ما
حملت عليه في أولها , وكان المراد منها العقول في الموضعين ، وبذلك تخفى الفائدة
من باقي الآية , ولا يكون ما في آخرها كالدليل على ما نسبه إليهم في أولها .
هذا وورود لفظ بمعنيين مختلفين في أول الجملة وفي آخرها كما في هذه الآية
له شواهدُ أُخْرَى كثيرةٌ مِن القرآن وفي كلام العرب ؛ كقوله تعالى : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ } ( النور : 43 ) - أي الأعين - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ } ( النور : 44 ) أي العقول , وكقول الشاعر :
لم نَلْقَ غيرك إنسانًا يلاذ به ... فلا بَرِحْتَ لعين الدهر إنسانًا
* * *
المسألة السابعة عشرة
( التناقض في عبارات القرآن في السورة الواحدة )
ذكر بعض المتقدمين من أمثلة ذلك التناقض في السورة الواحدة ما جاء في
سورة المزمل من الأمر بالصلاة بالليل في أولها مع ما ينافي ذلك في آخرها , ولما
كنت ممن لا يقول بجواز النسخ في القرآن وجب علي التكلم على هذه الشبهة بما لا
يخل بأصولي الآتية في تفسير القرآن الشريف , وهي :
( 1 ) عدم القول بالنسخ في القرآن .
( 2 ) عدم توقف فهم القرآن على روايات الآحاد .
( 3 ) كون آيات كل سورة يلتئم بعضها مع بعض كأنها نزلت دفعةً واحدةً .
فمع مراعاة هذه الأصول الثلاثة نقول :
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كانوا في أول الإسلام يصلّون في
الليل إلى ثُلُثِهِ أو نصفه أو ثُلُثَيْهِ ، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك اتباعًا لأمر مِن الله لهم به
في غير القرآن كما كانوا يصلون إلى بيت المقدس في أول الإسلام مع أن الأمر
بذلك لم يرد في القرآن , وأمثال هذه الأوامر هي مما نسميه الأوامر الوقتية أو
القولية ( غير الكتابية أو غير الرسمية ) . وكانت هذه الصلاة الليلية من أكبر ما
يقوي الرابطةَ بين جماعة المؤمنين الأولى حينما كانوا قليلي العدد ، فقراء ، ضعفاء ،
فكانت هذه الصلاة أعظم وسيلة لتثبيتهم واتحادهم وتضامنهم , وليزدادوا قوةً في
إيمانهم على قوتهم فيه ، فلما جهر بالدعوة إلى الإسلام وبدأ الدين أنْ يكونَ أعمّ مما
كان وأخذ يدخل فيه أصناف مختلفة من الناس منهم ضعفاء الأجسام , ومنهم ذَوُو
الأعمال الدنيوية التجارية وغيرها ، ومنهم مَن لم يكن عنده من الإيمان ما يحمله
على سهر الليل كما حمل أولئك المؤمنين الأولين - لما صار الأمر كذلك أنزل الله
سورة المزمل ( 73 ) , وفيها يأمر الله نبيه بالاستمرار على قيام الليل ويوجبه عليه
دون غيره من المؤمنين ، فناداه بقوله : { يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } ( المزمل : 1-2 ) الآيات ، والخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وحده كما يدل
باقي السورة . والمراد بقوله : { قُمِ اللَّيْلَ } ( المزمل : 2 ) الأمر بالدوام
والاستمرار .
والذي يدل على ذلك قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ } ( المزمل : 20 ) الآية ، فكأنه تعالى يقول : أنا أعلم ما تفعل ومطلع عليه , وإنما
أمري لك به هو لطلب الاستمرار عليه ، وكذلك أعلم أنه يقومه { وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ
مَعَكَ } ( المزمل : 20 ) يعملون ما تعمل ولا يعلمون لك أمرًا في ذلك .
ثم قال تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ( المزمل : 20 ) أيها المؤمنون
{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ( المزمل : 20 ) بالترخيص لكم في ترك ما أمرتم به . وفي هذه
العبارة الْتِفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ، فإن المخاطبين هنا هم الطائفة الذين سبق
ذكرهم , ونكتة هذا الالتفات البلاغية هي إظهار عنايته بهم ورعايته تعالى لهم ,
وإقباله عليهم إكرامًا لهم على ما قاموا به من التهجد بالليل .
ولما بدأ أنْ يكونَ من المسلمين المرضى والمشتغلون بالتجارة وغيرها خفف
الله عنهم , وبين أن قيام الليل لم يَبْقَ فرضًا عليهم ، فلهم فيه الخيار ، لأن تكليفهم به
على سبيل الوجوب أصبح شاقًّا عليهم وخصوصًا لأنهم سيضطرون يومًا ما إلى
القتال دفاعًا عن أنفسهم في سبيل الله ، فقال تعالى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ( المزمل : 20 ) الآيات .
والخلاصة أن قيام الليل كان فَرَضَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على نفسه
وعلى أتباعه , ولم ينزل قرآن في ذلك , ولعله فعله بالاجتهاد أو بالوحي في غير
القرآن , ثم رفع الله تعالى ذلك عن المؤمنين بسورة المزمل ، وألزم به النبي صلى
الله عليه وسلم دون سواه ، فالنسخ ليس للقرآن وإنما هو لِمَا كان يفعله المؤمنون
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . والذي يدلك على أن قيام الليل صار خاصًّا
برسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في موضع آخر : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً
لَّكَ } ( الإسراء : 79 ) أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة
بك دون الأمة .
فمما تقدم تعلم :
( 1 ) أن سورة المزمل لا نسخ فيها للقرآن .
( 2 ) ولا تناقض فيها بين آياتها .
( 3 ) وأن الأمر في أولها هو للدوام والاستمرار ، وهو معهود في اللغة ,
كقولك لمن يأكل ( كُلْ ) . والذي دلنا على ذلك قوله فيها : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } ( المزمل : 20 ) , إلخ .
( 4 ) وأن هذه السورة تفهم بدون احتياج لروايات الآحاد ومن كان خالي
الذهن لا يفهم منها سوى ما قلناه .
( 5 ) وأنه لا حاجةَ للقول بأن جُزْءَها الأول نزل أولاً ، وأن جزءها الأخير
نزل بعد مُدَّةٍ . بل على تفسيرنا تكون آياتها ملتئمة مع بعضها كأنها نزلت دفعةً
واحدةً . فكل من يدعي أن في عبارات القرآن تناقضًا فإنما هو جاهل غبي بليد
الذهن .
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
* * *
المسألة الثامنة عشرة
( البعث الجسماني ) [3]
إذا مات الإنسان فدفن تفرقت أجزاء جسمه في الثرى ، فإذا زرع الزارعون
في هذه الأرض تغذت الأشجار والنبات منها ومن أجزاء الإنسان التي دفنت فيها
وانحلت . فإذا أكل إنسان آخر من هذه الأشجار والنباتات أو من الحيوانات التي
تأكلها استحالت إلى جسمه ودخل في تركيبه بعض موادّ مما كانت في جسم الإنسان
الأول ، ومن ذلك تعلم أن مادة الإنسان تشترك معه ومع غيره فلا يمكن إعادته بها
وإلا لَمَا أمكن إعادة من اشترك معه فيها .
ومِن جهة أخرى قد ثبت أن جسم الإنسان دائمًا في تبدل وتغير ، فإذا أعيد
بجميع مادته التي كان بها في الدنيا كان جسمًا عظيمًا كبيرًا جدًّا وهو خلاف المنتظر
والمألوف .
هذان الاعتراضان هما أكبر ما يقال للتشكيك في البعث الجسماني , ونجيب
عنهما بأن المسلم لا يجب أن يعتقد أن جميع ما دخل في جسمه من المواد في الدنيا
لا بُدَّ من إعادتها ، ولا أنه لا بُدَّ من إعادته بجسمه الدنيوي لا بغيره ، بل الواجب
عليه أن يعتقد بأن البعث رُوحَاني جسماني ، وأن جسمه قد يكون فيه شيء من المادة
التي كانت له في الدنيا ، وقد لا يكون فيه شيء من ذلك ، فإن مادته الدنيوية إذا
دخلت في غيره فأعيد بها فلا يمكن إعادته هو أيضًا بها وهو أمر بديهي لا يحتاج
لِقِيلَ وقَالَ ، فإن الإنسان لا يتوقف تحقق وجوده على هذه المادة التي هي لجوهره
وروحه كالثوب للبدن ؛ ولذلك ترى أنه في الدنيا يتبدل ويتغير مع أن حقيقته هي
هي ، فالمعول على روحه لا على مادته ، ولذلك قال الله تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ } ( النساء : 56 ) وهو صريح في أن
المعول عليه هو نفوسهم وأرواحهم لا أجسامهم المتبدلة المتغيرة , ولا ينافي ذلك قوله
تعالى : { أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ( القيامة : 3 ) فإن الألف واللام
في الإنسان هي للجنس ، والمعنى : أيظن الإنسانُ أنْ لَنْ يجمعَ اللهُ عظامَ الجنس
البشري يومَ القيامة , ويخلق منها الأشخاص ؟ فهو ليس نصًّا في أن كل مادة لأي
فرد إذا كانت مما دخل في غيره , وأُعِيد بها فلا بُدَّ من إعادته هو أيضًا بها ، بل إن
الله سيعيد أجسام البشر من المواد التي كانوا بها في الدنيا ولا يمنع ذلك من إضافة
جزء من مادة جديدة عليها ، وكذلك لا يستلزم أن كل مادة دخلت في جسم في هذه
الدنيا لا بُدَّ أن ترجع إليه في الآخرة , وإلاَّ لَلَزم أنْ يكونَ للمادة الواحدة عدة محال
تقوم بها , وهو محال وليس في عبارات القرآن ما يؤدي إليه , بل غاية ما يفهم منه
أن الله سيركب أجسام البشر من المواد التي ركبت منها في الدنيا ، فإن لم تكف فلا
مانع من إضافة مادة جديدة عليها ثم إنه سيعيد المواد إلى أصحابها الذين كانوا بها في
الدنيا بقدر الإمكان , فإذا كانت مما تداخل في عدة أشخاص اكتفى بإعادتها إلى
شخص واحد منهم . فإن الغرض إعادة الأرواح إلى أي جسم لا إلى جسم معين كما
يدل عليه قوله : { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } ( النساء : 56 ) كما تقدم ولا ينافي ذلك
أيضًا قوله تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } ( يس : 78-79 ) , فإننا
لا ننكر أن الله سيُحيي عظام البشر الرميمة , ولا ننكر أنه عالم بجميع أنواع الخلق
وطرقه ، وأنه عالم بجميع الأشخاص الذين دخلت في أجسامهم أي مادة معينة ، فهو
تعالى سيحيي الميت ويرد كل مادة إلى صاحبها الذي يعلمه . ولا يخرج في ذلك عن
الممكنات , فإنه لا يأتي المستحيلات ولم يقل القرآن : إنه سيأتي شيئًا مستحيلاً .
أمّا شهادةُ أعضاء الإنسان التي كانت له في الدنيا عليه في الآخرة كما جاء به
القرآن الشريف فهي ليست مستحيلةً ، فإن مادة هذه الأعضاء التي اقترف بها الآثام
في الدنيا يجوز عقلاً أن تنطق بذلك , وتشهد به عليه سواء كانت معادة في جسمه أو
في جسم غيره . فكأن مادة هذه الأعضاء ستقوم بالشهادة على جميع الأشخاص الذين
اقترفوا بها الآثام في الدنيا ، وإن كانت هذه المادة قائمة بشخص واحد منهم يوم
القيامة [4] . ومن لا يضع عقله في دائرة الأمور الضيقة أمكنه التسليم بذلك ، فإنه
من المعقول أن تشهد المادة بجميع ما عملته في الأشخاص المختلفة ؛ فيعذب الله
نفوسهم على ما عملته , وهي قائمة في أي مادّة كانت .
وهناك طريق آخر في الرَّدِّ على هذه الشبهة . وهذا الطريق هو ما جرى عليه
قدماء علماء الكلام . وتقريره أننا نشاهد أن جسم الإنسان هو دائمًا في تبدّل وتغيّر ؛
فتراه أولاً صغيرًا , ثم يكبر شيئًا فشيئًا , وينتقل من سمن إلى نحافة , ومن نحافة
إلى سمن , وفي جميع هذه الأطوار والأحوال ذات الشخص وحقيقته واحدة لا تتبدل
ولا تتغير , فالشخص الصغير هو هو بعينه الكبير ، والنحيف هو السمين وبالعكس ؛
إِذْ لا بُدَّ أنْ يكونَ في جسم الإنسان شيئان : مادة أصلية ؛ ومادة فرعية . فالمادة
الأصلية هي التي تبقى فيه مِن أول نشأته إلى آخر حياته , لا تتبدل ولا تتغير ،
وهي التي بها تتحقق شخصيته وفيها تنتقل الأمراض الوراثية والاستعدادات
والأخلاق والصفات من الآباء إلى الأبناء . ولا ينافي ذلك ما ثبت في علم
الفسيولوجيا الآن من التغيرات الكيماوية الحيوية التي تحصل في خلايا الأجسام
الحية , فإننا لا يمكننا أن نثبت باليقين أن جميع الذرات التي تتركب منها الخلايا
الحية تتبدل وتتغير إِذْ يجوز أنْ يكونَ التبدل والتغير حاصلاً لبعض الذّرّات دون
البعض , ولِمَا انْضَمّ إليها من المواد الغذائية أي أن كل خلية فيها جزء ثابت
وجزء متغير . وعليه فالغالب أن بعض مادة الإنسان تكونَ ثابتةً مِن أول حياته
إلى آخرها , ولا يمنع ذلك مِن انضمام أجزاء أخرى إليها تصير ثابتة مثلها , ولها
من الخواص ما لها وهذه الأجزاء تأتي إليها من طريق الغذاء ومجموع هذه المادة
الثابتة هي ما نسميه ( المادة الأصلية ) , وأما المادة الفرعية فهي التي تتبدل وتتغير
ولا عِبْرَةَ بها في تحقق شخص الإنسان .
فإذا مات شخص وانحل جسمه فتغذت به النباتات فالحيوانات حفظ الإله القدير
العليم المادةَ الأصلية له من أنْ تكونَ مادة أصلية لشخص آخر , وإنْ كانَ يجوز أن
تدخل في جسم الآخر وتصير مادة فرعية له لا يتوقف عليها تحقق شخصه ، وأما
المادة الفرعية فقد تصير للثاني مادة أصلية بانضمامها إلى أجزائه الثابتة , واكتسابها
خواص منها إنْ كانَ الشخص في طَوْر النمو . وعليه فالمادة الأصلية لكل شخص
تبقى له وحده إلى يوم القيامة ، وإن كانت تدخل في غيره على أنها فرعية له .
وبذلك يكون البعث الجسماني ممكنًا ؛ لأن هذا الغرض جائز ولا يوجد في العلم
الطبيعي ولا العقل ما يثبت استحالته .
والفرق بين هذا الطريق والطريق الأول أننا في الأول نسلم تغير وتبدل جميع
مادة الإنسان ، وأما في الثاني فنقول : إن التغير والتبدل حاصل لبعض مادة الإنسان
دون البعض . والطريق الأول أقرب إلى ظاهر نواميس الوجود , والثاني أقرب إلى
ظاهر الآيات القرآنية الشريفة . وكِلاَ الطريقين معقول ولا يوجد في العلوم الطبيعية
شيء مقطوع به ينافيهما . ولا في آيات الكتاب ما لا يلتئم معهما والله أعلم .
إلى هنا أمسك بالقلم عن الجولان في ميدان الطُّرُوس ، فقد زالت الشبهات ،
وتجلت آيات الكتاب بجمالها كالعروس ، وحصحص الحق ، وظهر الصدق ، فقطع
ألسنة الكاذبين ، وبهر عقول الناظرين ، وإن في هذا الكتاب لآيات للمؤمنين ، وإنه
لَتَنْزِيل رَبّ العالمين ، وليعلمنّ نبأه بعد حين .
* * *
الخاتمة
( في ذكر آيات علمية من القرآن )
قلنا : إن القرآن الشريف لم يَأْتِ لتعليم الناس شيئًا من العلوم الطبيعية ، ولكن
مع ذلك لم تخلُ آياتُه مِن التعبيرات الدقيقة العلمية , ولا مِن الإشارة إلى حقائق
كثيرة من المسائل الطبيعية , مما يدل على أنه تنزيل العليم الحكيم ، فإن هذه
المسائل ما كانت معروفة لأحد في زمنه ، ولا يمكن لعربي أُمِّيٍّ في ذلك الوقت أن
يقف عليها لولا وَحْيُ الله . ولنذكر هنا شيئًا من هذه الآيات المشتملة على التعبيرات
الدقيقة والمسائل العلمية الطبيعية .
( 1 ) قال الله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ
كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ( الأعراف : 57 ) , وقال أيضًا : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ
مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ
سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي
الأَبْصَارِ } ( النور : 43-44 ) وفيه إشارة إلى أن البرق يتولد من السحاب
وقوله : { مِن جِبَالٍ فِيهَا } ( النور : 43 ) هو تشبيه لِقِطَعِ السحاب العظيمة بالجبال
لما بينهما من التشابه في الشكل وعدم الانتظام وعِظَم الحَجْم كما شبه أمواج الماء
بالجبال في قوله : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } ( هود : 42 ) .
( 2 ) [5] قال تعالى : { وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } ( النمل : 88 ) , وهو صريح
في حركة الأرض . وليس ذلك في شأن القيامة ، فإن قوله : { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } ( النمل : 88 ) لا يناسب مقام التهويل والتخويف ، وقوله : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ } ( النمل : 88 ) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة . وقال أيضًا :
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } ( الشمس : 1-4 ) وهو أيضًا يشير إلى حركة الأرض .
( 3 ) [6] قال تعالى : { أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا
رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } ( الأنبياء : 30 ) وهو
صريح في أن الأرض والكواكب كانت شيئًا واحدًا ثم انفصل بعضها عن بعض ،
وهو كقول العلماء الطبيعيين إنها كلها أجزاء انفصلت عن الشمس وكانت ملتهبة
فصارت تبرد شيئًا فشيئًا وإلى ذلك يشير القرآن بقوله أيضًا : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ( فصلت : 11 ) أي وهي ذات دخان لالتهاب أجزائها ولكون أكثرها في الحالة
الغازيّة .
( 4 ) قال الله تعالى : { وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } ( الرعد : 3 ) وهو صريح في أن الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى ، وهو أمر لم
يعرف إلا مِن عهد قريب . والقرآن نفسه هو الذي فسر الزوجين بذلك في آية أخرى
بقوله : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } ( النجم : 45 ) .
( 5 ) قال الله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } ( الحجر : 22 ) أي
ملقحات للأشجار .
( 6 ) قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا
آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } ( الإسراء : 12 ) وهو يشير إلى أن القمر وهو { آيَةَ النَّهَارِ } ( الإسراء : 12 )
مظلم لذاته .
( 7 ) قال الله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ *
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ( يس : 37-40 ) .
( 8 ) [7] قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ } ( الزمر : 21 ) الآية .
فقل لي بأبيك ؛ أيُّ عربيٍّ أُمِّيٍّ يعْرِف هذه المسائل أو تخطر له على بال ,
وخصوصًا في تلك الأزمان التي كان فيها أعلم العلماء في أرقى البلاد يجهل بعض
هذه الحقائق المذكورة في القرآن كدوران الأرض ، وكون جميع السيارات منفصلة
عن أصل واحد ، وأنها كانت دُخَانًا . وأنّ الثمرات جميعًا فيها الذكر والأنثى ، وأن
الرياح هي التي تلقحها إلى غير ذلك من دقائق المسائل العلمية الطبيعية . وكلها
دلائل على أن هذا الكتاب ليس مِن صُنْع البشر بل هو تنزيل مِن الله العليم الحكيم .
... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد توفيق صدقي
__________
(1) المنار : وراجع الكلام عن قارون وهامان في ص 294 من المجلد السادس .
(2) ولذلك سموا العقول أيضًا بالألباب لأنها أهم شيء في الإنسان منه اهـ .
(3) المنار : راجع المسألة في ص 54 و412 من المجلد السابع .
(4) المنار : لا نص في القرآن على أن هذه المواد التي تتركب منها أعضاء الإنسان في الدنيا هي التي تبعث وتشهد عليه , بل أسند الشهادة إلى أعضائه سواء تركبت منها أو من غيرها ، فهي أعضاؤه على كل حال ، وهل الشهادة قولية أو حالية على حدّ : لي في محبتكم شهود أربع ، إلخ البيتين ؟ الله أعلم .
(5) راجع ص 260 م 6 وص 104 وما بعدها م 8 وص 920 م 9 .
(6) راجع ص 333 م 6 و289 م 7 .
(7) راجع ص 290 م 7 .​
(11/441)
 
عودة
أعلى