الملتقى المغاربي الأول حول الإسهامات المغاربية في البناء المعرفي الإسلامي

إنضم
28/03/2011
المشاركات
609
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
ينظم مخبر مبحث الإسهامات المغاربية في إثراء الدراسات الإسلامية ومخبر بحث العلوم الإسلامية بكلية العلوم الإنسانية والإجتماعية والعلوم الإسلامية بجامعة الحاج لخضر بباتنة بالجزائر الملتقى المغاربي الأول حول الإسهامات المغاربية في البناء المعرفي الإسلامي في الفترة 25 و26 ذي الحجة 1432هـ، ومن بين المشاركات التي ستلقى فيه:
إسهامات المفسرين ودرس التفسير مع علوم القرآن الكريم للدكتور محمد بلعيدوني من جامعة مستغانم بالجزائر.
ولي عودة إلى هذا الملتقى بعد حين إن شاء الله تعالى...
 
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
فلقد أنعم الله علي بالرحلة إلى باتنة بالجزائر للمشاركة في ملتقاها الطيب المبارك....وكان بالأمس إيابي ...وهذا أوان نفض الجراب بما علق في ذهني من ذكريات ومواقف ...أقتصها بعد حين...عندما أنال الرَّوحَ والراحة...وأُذهب الوعثاء...فانتظرنا...
 
حياكم الله يادكتور محمد ، وهذه عادة حسنة اعتدناها منكم، ونحن بشوق إلى طرائف أخباركم في الملتقيات العلمية التي تحضرونها.
 
شاء الله جلَّ وعلا أن أسافر إلى الجزائر كرة أخرى...وإني كلما جئت إلى هذا البلد شعرت أني في وطني...فاللسان هو اللسان...والعادات هي العادات...والسحنة هي السحنة...والناس هم الناس...فلاجرم إذن أن يسعد مني القلب والجنان أنْ قيل إني ذاهبٌ إلى الجزائر...لم تكن المدينة التي يممتها هذه المرة من الجزائر بعيدة عن قسنطينة التي قصدتها آنفا في ملتقى التنصير...بل كانت منها على مرمى حجر...بعيدةً عنها بمائة كيلو ...إنها باتنة...قرأتُ عنها قبل أن أسافر إليها...وكان مما قرأتُ...أنها عاصمة أوراس...وعاصمة الجهاد...ومأرز المجاهدين...ومُنطلق الثورة الجزائرية ضد الإستعمار الغاشم...الذي اغتال الناس والأرض والسماء..
 
إنها باتنة الجبلية....الواقعة على جبال الأوراس في شمال شرق الجزائر. ..المتميزة بجوها البارد شتاءً...مع برد وثلج ومطر لا يكاد يفارقها طوال فصل الشتاء....كان ورودنا بصحبة معشر كرام من المغرب على باتنة عشاءً...إذ نزلت طائرتنا على أرض مطار المدينة قادمةً من الجزائر العاصمة بعد رحلة دامت أزيد من ساعة...خرجنا من الطائرة متعجلين كأننا متعطشون إلى أمنا الأرض التي عليها درجنا وفي ثراها مثوانا...بعد أن أقلتنا طائرتان من المغرب إلى الجزائر العاصمة ومنها إلى باتنة....توجهنا صوب صالة الإستقبال...رمقتْ عيني شخصا قدَّرتُ أنه الذي ينتظر مقدمنا...بيد أن الشك ساورني فيه...بيد أنه سرعان ما جاء اليقين أنه هو...إذ نشر بين يديه ورقة ًمكتوبٌ عليها جامعة لخضر باتنة ...متطلعا إلى باب الصالة الذي يُسلم إلى الطائرة...باحثا عنا...فلما رأيت جده في البحث وتطلعه إلى الوقوف على خبرنا...أومأت إليه من بعيد بإشارة أننا معاشر الوفد المغربي هنا قد وصلنا من ديارنا بسلامة وأمن وأمان...ففرج عن الأستاذ المنتظر...وهشَّ وبشَّ...وبالغ في الحفاوة والترحاب...وزاد في البِشر والإكرام...
 
جمعتنا سيارة الأستاذ المنتظر...كنا ثلاثة أساتذة وأستاذة...جلستُ إلى جنْب أستاذ شيخ وقور...كنت رمقته في الطائرة التي أقلتنا من الجزائر العاصمة إلى باتنة...خيم الصمت مليا على السيارة...قطعه صوتُ الأستاذ الذي رحَّب بنا واستقبلنا في المطار قائلا وهو يشير إلى تجمُّع بناياتٍ فارهة لا نكاد نتبين معالمها من ظلمة الليل ـ:" هذه هي البناية الجديدة لجامعة باتنة...وفيها من الكليات والتخصصات الشيء الكثير...وقريبا جدا ستُنقل إليها جميع الكليات التي توجد مفرقةً في باتنة "....وفي الحق لقد رمقت أعيننا مجموعة من البنايات التي ذهبت في السماء طولا...وفي الأرض عرضا...وفي حُسن البناء مذهبا بعيدا...فحمدنا الله أن وفَّق إلى هذا تكريما للعلم، واهتبالا بأهله...التفتُّ إلى الشيخ الأستاذ الذي كان جالسا عن يميني متخبرا أخباره...فعرَّفني باسمه...فألفيتُه علَما مبرَّزا...إنه المفكر الإسلامي المعروف الأستاذ الدكتور عمار جيدل..مربي الأجيال...وأستاذ طبقات كثيرة من الطلبة والخريجين..
 
كان الشيخ الدكتور عمار جيدل حفظه الله كهلا بادي الوقار...ذا مهابة ونباهة...فصيح العبارة...على كلامه طلاوة...ولمنطقه في قلب سامعيه حلاوة...يعبر تحليله للشيء يقول فيه عن خبرة بالعلم واسعة..مع تدقيق وتحقيق، وتدبر وتفكر وتمحيص...أخذنا بأطراف شتى من الحديث ...طوال طريق السيارة إلى الفندق الذي كان فيه مثوانا...تحدثنا عن حال العلم الشرعي وطلبه في الوطن العربي والإسلامي...وذكرنا من هموم الإصلاح الجامعي الذي تخوض تجربتَه بعضُ البلاد العربية...وكنت في أثناء ذلك أدعُ للشيخ الفاضل فرصة الإفادة...لما قد علمتُ من فضله وعلمه واتساع نظره...ولا أفيض في الحديث إلا من حيث أعلم أني قائلٌ في شيء يستثير دفينَ ما عنده، ويُخرج جواهر صدره...وواللهِ ـ والحقَّ أقولُ ـ لقد ألفيتُه أعرفَ الناس بأهل المغرب رجال علمٍ، ومعاهد فكرٍ، وكيف لا يكون كذلك وهو الذي كما ذكر لي طاف المغرب مشرقا ومغربا وشمالا وجنوبا، فعرف من عرف...وعلم من قد علم...ولقد وددتُّ أن الطريق طال بين المطار والفندق...لموضع حديث الشيخ الدكتور...ولانفرادنا به عن أعين الرقباء...بيْد أنَّ السيارة لم تنشب أنْ توقفت عند مدخل فندق شيليا مؤْذنةً بضيافة طيبة مباركة على أرض باتنة المجاهدة...
 
أثار فضولنا اسم الفندق الذي آوينا إليه...فبادرنا من لقينا من الأساتذة المستقبلين على بابه...بالسؤال عن شيليا...فقيل لنا إن الإسم يطلق على أعلى قمة جبل يوجد في باتنة...ويقدَّر ارتفاعه بأكثر من 2000 متر فوق مستوى البحر...قلت ومن ثمَّ يأتي باتنة من برد الجبال ما يأتيها شتاءً...فبردُها بارد...وثلجها مقيمٌ...بيْد أن ذلك عندي مما يُنعش الروح...وينشِّط البدن...ويفتِّق الفكرة...ويبعث على النشاط...
 
كان موضوع الملتقى المغاربي عن الإسهامات المغاربية في البناء المعرفي الإسلامي...ولقد امتد العملُ فيه عبر ستِّ جلسات، في كل جلسة طائفة من المداخلات ما عدا الجلسة الأولى إذ انفرد بالقول فيها الأستاذ الدكتور عمار جيدل في محاضرة افتتاحية هذه قطوف منها:
الزهرة الأولى: دارت محاضرة الأستاذ حفظه الله حول العطاء المعرفي المغاربي القديم أسباب إشعاعه وآليات التواصل معه اليوم.
الزهرة الثانية: وقف الأستاذ المحاضر عند ظاهرة عدم عناية أهل الغرب الإسلامي بالتشهير ـ بالمعنى الإيجابي ـ بأهل العلم فيهم، بخلاف أهل المشرق، وأورد كلمة لابن مريم في البستان يذكر فيها من عناية أهل المشرق بعلمائهم وأهل الفضل فيهم.
قلتُ: وقد راجعتُ كلمة أبي عبد الله محمد بن محمد الملقب بابن مريم التلمساني في كتابه الموسوم بـ:" البستان في ذكر الأولياء والعلماء في تلمسان" ص 7 في طبعة جزائرية قديمة نشرت سنة 1326هـ فألفيتها هكذا:" ...ويرحم الله المشارقة ما أكثر اعتناءهم بمشايخهم وبالصالحين منهم خصوصا.."...وذكَّرتني كلمةُ ابن مريم بأُخيَّةٍ لها قد كان قالها ابن حزم قبله، قال وهو يذكر في رسالته في فضل الأندلس أهل جهته وما جبلوا عليه من الزهد في العالم والحسد له:"...وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر:" أزهد الناس في عالم أهله"....ولا سيما أندلسنا، فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم، الماهر منهم، واستقلالهم لكثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقاطه وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته، بأضعاف ما في سائر البلاد...."، وما طويته من كلام ابن حزم أوقعُ فانظره إن شئتَ في رسالته المنوه بها آنفا ضمن رسائله التي نشرها د/ إحسان عباس2/178.
 
الزهرة الثالثة: ذكر الأستاذ الدكتور عمار جيدل الشيخ محمد البشير الإبراهمي أحد أعلام الفكر والأدب والسياسة في الجزائر ـ وفخَّم أمره، فكان مما ذكره في حقه أنه في النقد الإجتماعي نسيج وحده، وفي النقد السياسي نسيج وحده، وفي وصف أدواء الأمة نسيج وحده، وأنه بذلك سابق لزمانه، وأن أمة أخرجت مثله في عصره قادرة على إخراج أضرابه في هذا العصر، وختم قوله فيه بذكر طرفة نادرة مستملحة، ذلك أنه ذكر أن الشيخ دخل يتوضأ في مكان عام، ووضع جُبَّته، فجاء رجل فصوَّر رأس حمار عليها، فلما خرج الشيخُ وجد الحالَ على ماذُكر، فقال أين الحمار الذي اتخذ من جبتي مرآة؟!!
 
كان من بين حضور هذا الملتقى المغاربي المميزين الشيخ الأستاذ إحسان قاسم الصالحي...المعروف بالمترجِم سفير رسائل النور...كان الأستاذ إحسان الصالحي شيخا كبيرا قد نيف على الثمانين...قد علته شيبة وزانه وقار...وغشيته جلالة العلم...وبدت عليه مخايل التقى والصلاح...وهو عراقي الأصل...عربي اللسان...وإن كان يظهر من أوَّل لقاءٍ به لمن لا يُثبته معرفةً أنه تركي...لسماعه أنه المشرف العام على مركز بحوث رسائل النور باستانبول... ولكلامه في الملتقى بالتركية مع صاحبٍ له كان مرافقا له يدعى كنعان دمير طاش الذي عرفتُ بعدُ أنه المدير المسؤول عن مركز النور للدراسات الحضارية والفكرية باستانبول....جمعتني بالشيخ إحسان الصالحي مائدة عشاء...فسألني عن المغرب وأهله...فألفيته عارفا بأهل الفضل والحجى من أهل أفقنا...إذ كان زار المغرب كما ذكر لنا مرارا وكرارا...وجلست قرب الشيخ كرة أخرى في مطار باتنة عقب صلاة الصبح..وسألته عن تركيا وأهلها...فذكر أن الأتراك يقبلون على حفظ القرآن الكريم...بيْد أنهم لايفهمون معانيه...لمكان عُجمة اللسان...والبُعد عن العربية...لكن تشبتهم بالدين أمرٌ لامراء فيه ولا جدال....وجمعتني بالشيخ إحسان أيضا جلسة إلقاء المداخلات...فكان أن جاءه تعقيب أحسن الشيخُ في التعليق عليه أنا ذاكره بعدُ...
 
كان مدارُ مشاركة الشيخ الأستاذ إحسان الصالحي حول:" البعد اللساني في حاشية النورسي على منظومة السلم المرونق للأخضري"، وأوضح الشيخ الجليل في كلمته التعريفية بمشاركته أن الأخضري واسمه عبد الرحمن بن محمد الجزائري الذي كان من أهل القرن العاشر الهجري ألف متنا في علم المنطق، فجاء بديع الزمان النورسي فشرحه، ثم ضرب الشيخ أمثلة متعددة من كتاب الأخضري، وجلب بعدُ من شرح النورسي عليها...وانتهى الشيخ من كلمته منوها بالنورسي والأخضري كليهما، موضحا أن الإسهام المعرفي لأهل الغرب الإسلامي قد عرفه الأتراكُ، وأن ما قدمه دليل عليه وحجة له...وكانت كلمة الشيخ بتُؤدة الأكابر..وتمهُّل الشيوخ الأفاضل...ورِفق المنتهين الأكارم...ولما جاء التعقيب والتعليق من قبل الحاضرين...جاءت الشيخَ ورقةٌ مكتوبٌ عليها رجاءٌ يتمنى صاحبه أن لو تكلم الشيخ بالتركية كلمات ولو أنْ يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بالتركية!!!
 
قرأ الشيخ إحسان قاسم الصالحي تعليق السائل المذكور آنفا...ولست أدري إن كان قد أخفى ابتسامة قد تبدت على السامعين للتعليق...لأني لم أكن أره مواجهةً فلقد كنت مثله على منصة الإلقاء...بيْد أني سمعته يجيب المعلق جواب من كان ذا نظر سديد...وبديهة حاضرة...فإنه قال للمعلق...وماذا في كلامي بالتركية...لقد كان بديع الزمان النورسي وهو التركي الذي كتب بالتركية إذا ورد ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فيما كان يؤلف ويدبج...صلى عليه بالعربية وسلم...ثم تخلص الشيخ إحسان بأن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم واختار من الصيغ: " اللهم صل على طب القلوب وأدوائها..."...
قلتُ: وهذا الذي تخلَّص به الشيخُ إحسان عينُ الصواب...فلا معنى لأن يتكلم الشيخُ هنا بالتركية بين جمهور لا يحسن إلا العربية أداةً للتواصل العلمي والثقافي...على أنه لا حرج على من أراد أن يتعلم اللسان التركي من أن يطلبه ويستمع إليه من الشيخ أو غيره في غير هذا الموضع...
 
تميز هذا الملتقى بطبع أعمال المشاركين فيه في كتاب أخرج منه الجزء الأول..وأخبرنا أن الجزء الثاني سيخرج بعد حين...ولقد كان هذا الجزء من جملة ما أهدي إلى المشاركين لأول مقدمهم إلى باتنة...وهذا عمل يجب أن يذكر فيشكر...إذ الشأن في اللقاءات العلمية، والندوات الثقافية الجادة...تحصيل البحوث من المشاركين...وتحكيمها أو تصحيحها...ثم طبعها في كتاب يتم توزيعه على المشاركين خاصة يوم اللقاء والإجتماع...بخلاف ما قد حدث في ندوات كثيرة شاركنا فيها مذ أعوام....لم تطبع بحوثها...مع التوصية بطبعها...فأخرجنا ما شاركنا به من تلك البحوث في دراسات نشرت أو كتب ألفت لأنها من حقنا وإبداعنا...فلاجرم أن نتصرف فيها تصرف المالك الذي لا يُسأل عما يفعل...بيْد أن الذي أثار إعجابي في ملتقى باتنة...وحملني على ذكره في هذه الشذرات...هو ما رأته عيناي من عناية القائمين على هذا الملتقى بتوزيع الكتاب الذي طبعت فيه أعمال الملتقى على الحاضرين في اليوم الأول من انعقاده....وتالله لقد كنتُ أرى الكتاب يؤتى به بالعشرات فيُعطى لكل جالس في مُدرَّجٍ يسعُ ألوفا...فحمدت الله على هذا الإهتبال بنشر العلم..وبذْله لكل أحد...
 
كان ممن لقيته في ملتقى باتنة الأستاذ الدكتور مصطفى حميداتو الذي كانت بيني وبينه مكاتبات ومراسلات في قضايا ومسائل العلم...والدكتور سلمه الله يجمعني به التخصص الواحد، كما تجمعني به أواصر الكتابة عن تاريخ الحديث والمحدثين في الغرب الإسلامي عموما...وفي الأندلس خاصة...والغريب أن اهتدائي إلى الدكتور كان حديثا عجبا...ذلك أنني لم أكن أعرف الدكتور عينا ومشاهدة...حتى لو لقيته في زقاق من أزقة باتنة ما عرفت أنه هو....فلما وصلت إلى باتنة...كان أول من سألت عنه الأستاذ الدكتور...فقيل لي إنه قد يكون من الغد في الجلسة الإفتتاحية للملتقى...فلما جاءت الجلسة...سألت عنه من كان بجنبي من أساتذة الكلية...فدار برأسه باحثا عنه في الحاضرين الذين ملأوا المدرج...ثم أجاب:"أظن أن الدكتور لم يحضر"...ثم سألت عنه بعدُ د/ منصور كافي وهو من اللجنة التنظيمية للملتقى...فقال:" سيكون الدكتور في المساء من بين المحاضرين المشاركين...وسيَسدُّ مسد أستاذ غائب عن الملتقى"ففرحتُ لذلك...وقلت مع نفسي: "وأخيرا سألقى الدكتور"...وجاء وقت الغذاء...وكان في مطعمٍ قرب الكلية...في محفل عظيم حضره جمعٌ من الأساتذة...ازدحم بهم المطعم عن آخره...وبينا أنا جالس مع رفقة صالحة ننتظر الطعام...إذ جاء من ظننته من اللجنة التنظيمية...فسألته عن الأستاذ الدكتور وهل هو موجود في المطعم ضمن هذا الجمع....فأشار إلى رجل جالس على مرمى حجر مني مع من احتف به من الأساتذة....يأكلون هنيئا مريئا...فشكرت الدال على الخير....وخشيتُ إن أنا سلمت على الأستاذ الدكتور من بعيد وعرفته بنفسي أن أحرجه....فتركت ذلك قانعا بما اتفق لي من التعرف على الأستاذ المذكور...وقلت:" الآن حصلت المعرفة...فمتى ما قدِّر اللقاء حصلت المؤانسة والكلام...
 
ومضيت في أكلي...مقطعا ذلك بالحديث مع بعض من كان يحضرني من الأساتذة الكرام...سارقا النظر من بعيد بين الفينة والأخرى إلى الدكتور مصطفى حميداتو...وكأني أحفظ ملامح وجهه...وانتهى الغذاء وحمدنا الله تعالى على ما رزق وأنعم...وأفاء وأكرم...وأخذ الجمع ينفض فخرجت من المطعم فيمن من خرج...ناسيا مراجعة الدكتور الذي عرفتُ محلَّه مني...وما ذكرت أمره إلا بعد أن هممت داخلا إلى المسجد الكبير الذي يوجد قرب الكلية...انتهت صلاتنا في ذاك المسجد الجامع بين فخامة البناء...وسعة المكان...مسجدٌ بُني على الطراز المشرقي مآذنا ومنبرا وعمارةً وفنا....و.كأن مآذنه تحاكي مآذن المسجد النبوي في المدينة المنورة...دخلت بعدُ أنا ورفيق لي إلى القاعة المخصصة لإستقبال كبار الضيوف فجلسنا هناك في انتظار بداية الجلسة المسائية للملتقى....وأخذ الأساتذة يتوافدون على القاعة...حتى غصت بهم جنباتها...وفجأة دخل الدكتور حميداتو فأخذ يسلم من اليمين إلى اليسار...وحسبت أنه لم يثبتني معرفةً فلما أقبل عليَّ مسلِّما...اعتنقته وقلت له وهو يسلم:" أنا فلان ...,وكم سألت عنك وبحثت"..فأجاب: وأنا كذلك بحثت عنك...ولقد دُللتُ عليك في المطعم....وكنتَ في غذاء فلم يحْلُ لي أن أشغلك...قلتُ: سبحان الله وأنا كذلك دلوني عليك في المطعم...وقدَّرتُ الذي قدَّرتَ...ثم جذبت الدكتور فأجلسته إلى جنبي...
 
لم يكن الوقت مسعفا لكي يمتد اللقاء الأول بالأستاذ الدكتور مصطفى حميداتو...إذ سرعان ما انتقلنا إلى مدرج الجلسات لتبدأ الجلسة المسائية التي كان الأستاذ الدكتور أول متحدث فيها...كانت مشاركة الدكتور حميداتو عن الفكر المنهجي في مؤلفات أهل الأندلس في الحديث وعلومه...فذكر الشيخ من ذلك نبذا...كالذي وقع لبقي بن مخلد القرطبي في مسنده الذي هو مسند مصنف...وهو أمر لم يقع لغيره من أهل المشرق...وكالذي وقع في التأليف في رجال أهل الأندلس...إذ تتابع طائفة من الأندلسيين على تأليف كتب يشد آخرها بذيل أولها...في التعريف بعلماء ورواة العلم في الفردوس المفقود...كالذي وقع لابن الفرضي الذي كمل كتابه الحميديُّ والضبيُّ، ثم جاء على أثرهما ابنُ بشكوال فألف الصلة التي وصل بها ما انقطع، فابن الأبار في التكملة، وابن الزبير الغرناطي في صلة الصلة، فالمراكشي في الذيل والتكملة...
 
كان لقائي الثاني بالأستاذ الدكتور مصطفى حميداتو فجأة في اليوم الثاني للملتقى صباحا وأنا أطَّوَّفُ بكلية باتنة مطلعا على مرافقها....فما هو إلا أن لقيني حتى ألقى إليَّ ببعض كتبه هديةً...فكان مما أهدانيه مشكورا مأجورا...كتابه:" مدرسة الحديث في الأندلس" وهو في مجلدين نفيسيْن من مطبوعات دار ابن حزم في بيروت سنة 1428هـ، وهو رسالته للدكتوراه التي ناقشها في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة البنجاب ...كما أهداني الأستاذ الدكتور كتابه عن:" عبد الحميد بن باديس رحمه الله وجهوده التربوية"، وهو من سلسلة كتب الأمة القطرية المعروفة، وقد صدر في المحرم سنة 1418هـ...
 
كان لقائي الثالث بالأستاذ الدكتور مصطفى حميداتو مساء قبيل الجلسة الختامية للملتقى...فلقيني على عادته بالبشر والترحاب...وألقى إلي تحقيقه لكتاب إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم المعروف بابن الأمين الطليطلي المتوفى سنة 544هـ الموسوم بـ:" الإعلام بالخيرة من أصحاب النبي عليه السلام" وهو في جزء واحد من مطبوعات دار الضياء في مصر سنة 1428هـ...ثم كان لقائي الرابع الموسَّع مع الشيخ الدكتور لما اصطحبني إلى الفندق لأتحفه ببعض كتبي هديةً...
 
كان لقائي الموسع بالأستاذ الدكتور حميداتو طافحا بالفوائد العلمية...فمن ذلك أني حدثته أن كتابه الذي أهدانيه لابن الأمين قد حقق عندنا في المغرب في رسالة علمية من مطبوعات وزارة الأوقاف المغربية سنة 1429هـ في جزأين وعنوانه في تحقيق: الأستاذة حداد حنان:" الإستدراك على الإستيعاب"...فأفادني الدكتور أن تحقيقه للكتاب قديم جدا أيام كان في الشرق الأقصى في باكستان...وأنه لم يجد للكتاب ناشرا إلا بأخرة...ويشهد لما ذكره الأستاذ الدكتور...أن النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق كان قد اطلع عليها كما ذكر في ص 56 من التحقيق في مكتبة مركز البحوث الإسلامية بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد...
 
وحدثت الأستاذ َالدكتور مصطفى حميداتو عن شرح المهلب بن أبي صفرة الأندلسي المتوفى سنة 420هـ على قولٍ للجامع الصحيح للإمام البخاري...فأفادني أنه لا يعلم عنه شيئا إلا ما ذكرت أنا في مقال لي نشر في مجلة دعوة الحق المغربية التي تصدر عن وزارة الأوقاف سنة 1416هـ ...وأنه ذكر ذلك معزوا إليَّ في كتابه:" مدرسة الحديث في الأندلس" 336/1...فقلت للشيخ الدكتور: لقد ذكرتُ في ذاك المقال أن قطعة من شرح المهلب توجد في خزانة ابن يوسف في مراكش، وأني وقفت عليها وباشرت العمل عليها...وكتبتُ على ضوئها المقال المشار إليه...لكن لما ضرب الدهر ضرباته...وكان مني زيادة متابعة لموضوع الشروح الأندلسية لصحيح الإمام البخاري...وصح مني العزم على الشروع في تحقيق تلك القطعة...وأعددت للتحقيق عدته...تبين لي أني كنت واهما واهلا....إذ كشف لي البحثُ أن تلك القطعة ليست للمهلب كما كنتُ قدَّرتُ ...وأنها قطعة من شرح ابن بطال القرطبي تلميذه الذي كان يقول فيها من أولها إلى آخرها:" قال المهلب" وينقل عن شيخه....فحسبتُ أن المهلب هو القائل...وزين ذلك في قلبي وصححه لديَّ أن النسخة لا أول لها ولا آخر حتى يُعلم من ناسخها مؤلفُها..زدْ على ذلك أن كثيرا من نُقول ابن بطال في تلك القطعة أورده ابن حجر في الغالب بحروفه في فتح الباري...لكن لما طبع شرح ابن بطال في مكتبة الرشد في ذاك التحقيق الذي ليس بذاك ـ تبين لي أن تلك القطعة لابن بطال وليست لشيخه المهلب...ولقد صرحت بهذا الكشف...وبادرت إلى تصحيح وهمي في بعض ما نشرته في بعض المواقع الإلكترونية....وأنشره إن شاء الله في كتابي عن جهود مشرقية ومغربية على صحيح البخاري الذي سيرى النور قريبا...
 
من أعجب ما حدثني به الأستاذ الدكتور حميداتو أن مقالي عن المهلب بن أبي صفرة الأندلسي المنشور في مجلة دعوة الحق المغربية من دهر قد وقف عليه الشيخ في باكستان أيام إعداده لأطروحته...وأفاد أن القوم هناك لهم عناية بالحديث ....فلا جرم أن يجمعوا كل ما له به علاقة..
 
كان مما أهدي إلى المشاركين في هذا الملتقى عدد جديد وهو العدد الرابع عشر ـ من مجلة كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية والعلوم الإسلامية جامعة الحاج لخضر باتنة...وهي مجلة علمية دورية محكمة وسمت بـ:" الإحياء"...وقد طبع هذا العدد المذكور منها في حلة أنيقة...تخلب اللب...وتأسر القلب...وقد نشر فيها من البحوث المتعلقة بالقرآن وتفسيره وعلومه:
تفسير القرآن بالقرآن دراسة تأصيلية تطبيقية للدكتور بكار الحاج جاسم.
أسس تعليم القرآن للدكتور عامر العرابي.
علاقة التفسير بعلوم القرآن للدكتور بوخالفة السعيد.
قراءة تطورية في مفهوم التفسير للأستاذ حيدوسي عمر.
مقاصد التفاضل وأثره على العمران من خلال القرآن الكريم للدكتورة نورة بن حسن.
 
وسمت بي همةٌ إلى زيارة مكتبة كلية الآداب في باتنة...فزرتها ولقيت بعض العاملين فيها...وأهديت المكتبة بعض كتبي وقفا مسبَّلا مؤبدا...أرجو عائدته وأجره وثوابه...فأهداني المشرفون على المكتبة أعدادا من مجلة الكلية، فمن ذلك العدد الثاني عشر والعدد الثالث عشر، ومن دراسات العدد الأول في القرآن الكريم:
حوار القرآن الكريم مع أهل الكتاب في التشريع الإلهي للأستاذ الدكتور محمد الزحيلي.
منهج الطبري وابن كثير في التفسير للأستاذة سامية دردوري.
البعد الواقعي في تفسير الشيخ ابن باديس للأستاذة نادية وزناجي.
ومن دراسات العدد الثاني في القرآن الكريم:
أسس تفسير القرآن الكريم للدكتور العربي بن الشيخ.
أبواب الإحسان من خلال القرآن الكريم للأستاذة نورة بن حسن.
 
من فوائد ما قدم من مشاركات في هذا الملتقى...إبراز أثر علماء بعض الدويلات والفرق والمذاهب التي وجدت على ثرى الغرب الإسلامي...فمن هذه الدول: الدولة الرستمية التي نشأت في القرن الثاني الهجري في المغرب الأوسط في الجزائر...وهي وإن كانت تنزع منزع الخوارج إلا أن لها إسهامات علمية بينتها باحثة مشاركة في هذا الملتقى في مداخلتها الموسومة بـ:" إسهامات الدولة الرستمية وأعلامها في نشر أسباب الحضارة بالمغرب الإسلامي"...على أن الباحثة وصفت المغرب الإسلامي في العنوان بقولها:" القديم"..ولقد ناقشها رئيس الجلسة قبل تعقيب وتعليق الحاضرين في هذا الوصف...لأن الدولة الرستمية نشأت كما مر آنفا في القرن الثاني الهجري...والوصف بالقدم لهذه الفترة التاريخية لا يصدق عليها...وما كان في نفس رئيس الجلسة من تعقب خطر ببالي وكنت هممت بالتعليق لولا أن الرئيس قد سبقني إلى ذلك...
 
ومن المشاركات التي نزعت إلى هذا المنحى...مداخلة الدكتورة عائشة بطو الموسومة بـ:" الجهود اللغوية لأعلام الإباضية في المغرب الإسلامي"...ولقد استعرضت الباحثة في مشاركتها جملة من جهود علماء الإباضية في هذه الجهة الغربية من العالم الإسلامي..وبينت أثرها في الدرس اللغوي...وهنا قد يثار هذا السؤال...كيف يمكن الإستفادة من التراث الحضاري الذي خلفه علماء الطوائف التي نجمت في الإسلام...من غير تأثر بعقيدة هذه الطوائف..لأنه ما من تراث حضاري لطائفة من هذه الطوائف إلا وهو متلون مصطبغ بعقيدتها ومنهج تفكيرها؟؟
 
كان من فوائد هذا الملتقى التنبيه على الفرق بين قرطبيين قد يلتبس أحدهما بالآخر وهما مشهوران...في غاية النباهة والسؤدد والنجابة...فأما أحدهما فهو المفسر المعروف بأبي عبد الله محمد بن أحمد بن فرح الأنصاري الخزرجي القرطبي الأندلسي المتوفى سنة 671هـ صاحب أحكام القرآن الكتاب الذي طنَّ ذكره في الآفاق...وقلَّ بيتٌ علمي لاتوجد منه نسخةٌ...وتلميذ القرطبي الآتي بعدُ ...وأما الثاني فهو أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي الأندلسي المتوفى سنة 656هـ صاحب الشرح الشهير على مسلم الذي وسمه بـ:" المفهم"..وصاحب الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام على ما رجحه سمير قدوري في مقال نشره في مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية، وعلى ما اختاره أيضا الدكتور يوسف كلام في مشاركته في هذا الملتقى عن:" إسهامات علماء الغرب الإسلامي في نشأة علم مقارنة الأديان.."، وأفاد الدكتور يوسف أن قطعة من الإعلام ستخرج محققة بعنايته وعناية الدكتورة نادية الشرقاوي عن دار صفحات السورية قريبا وسمت في التحقيق بـ:"نقض كتاب تثليث الوحدانية في معرفة الله"..
 
تقدم أن باتنة مدينة الجهاد ضد المستعمر الفرنسي الذي رام استلاب الهوية...وسرقة التراث...ومسخ التاريخ واللغة والدين...وباتنة الحديثة تتذكر شهداءها الأبطال الذين قضوا في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل....خرجت أنا ورفيق لي نطوف مع هدأة الليل في باتنة...عقِب عشاء دسم...رجاء نومة هنيئة...تمد النفس بالرَّوْح....كان الليل باردا برودة شديدة...وأقفرت المدينة إلا من أناس هنا وهناك...وسيارات تمر مرور السهم المنطلق....سرنا ما شاء الله لنا أن نسير....استوقفتنا بعد حين لوحات قد صف بعضها إلى بعض...اقتربنا من تلك اللوحات الكثيرة...لنتبين ما كُتب عليها فنقرأه...فلقد كان الليل شديد الظلمة...وقفنا عند تلك اللوحات الرخامية...قرأنا فيها أسماء شهداء المدينة الذين قتلوا في معارك الجهاد والتحرير...كتبت الأسماء بحرف بارز...وكتب إزاءها تاريخ مولد الشهيد وتاريخ استشهاده....حمدنا لأهلنا في باتنة صنيعهم في تخليد أسماء الشهداء...لأن في ذلك وصلا لحاضر المدينة بماضيها...وكأن واضع اللوحات رام أن يربط الجيل الحالي بالجيل الماضي....فحيثما ولى هذا الجيل وجهه....ذكر أن جيلا قد مضى هو الذي كان سببا في النعيم الذي هو فيه...
الشذرة القادمة هي الأخيرة
 
مرحبا بكم دكتور محمد مرة أخرى.
لقد أفدتم وأتحفتم كعادتكم.
لي طلب أرجو أن تتمكنوا منه، وهو تلك الدراسات القرآنية التي ذكرتموها، فلو أمكن تصويرها ، ثم نشرها في الملتقى لنستفيد منها، فلقد ذكرتم أعلامًا من الباحثين الجزائريين، وكم أتمنى لو نتواصل معهم من خلال هذا الملتقى، أو من خلال الرسائل لنستفيد منهم.
 
خرجنا في السَّحر من فندق شليا...نروم المطار...كنا أربعة: مغربيان وتركيان ستجمعنا طائرة واحدة من باتنة إلى الجزائر العاصمة...وهناك سيكون الفراق الذي نرجو أن يكون بعده التلاقي...انطلقت بنا سيارتان..تشقَّان هدوءَ الليل البهيم الذي تطاول...في شتاء مقيم...وبرد شديد...كان سائق السيارة التي كنتُ فيها رجلا بادي البشر..ذا حديث مؤْنس...تكلم في موضوعات شتى..ذكرَ همَّ الأمة الأكبر...الفرقةَ والشقاق...فحقَّر من شأنها...وشأنه...ودعا إلى الوحدة والإتفاق..وفخَّم من أمرها وأمره...وصلت السيارتان إلى المطار بعد مسيرة أقل من ساعة...وقد كاد الفجر أن ينشق...ودعنا السائقان أتمَّ وداع وأكمله...كوداع الرجل لأهله الذين لهم به خلطة طويلة...ومعاشرة مكينة...صلينا الصبح في المطار جماعة...ودعونا الله تعالى أن يردَّنا من أهلنا إلى أهلنا سالمين غانمين....مرَّت ساعات طوال بعدها....وجدتني أنا وصاحب لي في طائرة تشق أجواز سماء صافية ..عابرةً وجدة وفاسا ومكناس...وصولا إلى الدار البيضاء حيثُ قلب مغربنا الحبيب....
انتهت بحمد الله وحسن توفيقه شذراتي التي سميتها:" الدَّعة في الرحلة إلى باتنة"...

همسة إلى فضيلة الأستاذ الدكتور مساعد الطيار...
البحوث والدراسات القرآنية التي ذكرتها هنا تجيئ في صفحات كثيرة...يعسر علي تنزيلها ...وهي عندي في الحفظ والصون...فمتى ما تيسر اللقاء على أرض مغرب...دفعتها إلى من تسمو به همة للتنزيل والتصوير...
 
عودة
أعلى