المقامة القصيمية

إنضم
05/02/2006
المشاركات
485
مستوى التفاعل
4
النقاط
18
[FONT=KFGQPC Uthman Taha Naskh, Traditional Arabic]
المقامة القصيمية
الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، والصلاة والسلام ، على سيد الأنام ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام ، وبعد :
يقول راقم هذه الحروف العبد الفقير ابن الغوثاني ، كان الله في عونه في الساعات والدقائق والثواني ، لقد ألمح إليّ المحِبُّ شهاب الدين ، عمر ابن الحِبٍّ عبد المجيد بن أسعد الحلبي في يوم الاثنين ، أن أسطر مقامة تتضمن أخبار رحلاتي التي تسر القلب وتقر العين ، فاستجبت مسرعاً وقلت على الرأس والعين ، وأمسكت باليراع ، واطلقت الشراع ، والقلب من هول الإقدام في التياع :

انطلقنا يوم الأحد من عنيزة العتيقة ، إلى مدينة المذنب العريقة ، فقد ذكروا لي فيها شيخا معمراً تجاوز التسعين ، وعقله في غاية الاستحضار والتمكين ، وتزامن هذا الخبر المنيف ، مع سفر لي لتقديم محاضرة في جمعية تحفيظ القرآن الكريم للجنس اللطيف ، من الأخوات المؤمنات ، اللواتي يرغبن أن يكن من جملة الحافظات ، فألقيت فيهن محاضرة حول القرآن وأنهيتها بسلام وأمان .
ثم صلينا صلاة الظهر في مسجد العلامة الشيخ محمد صالح المقبل ، والجميع ما بين عاكف في صلاته أو داع إلى الله مقبل ، وللقبلة مستقبل ، وبعد الصلاة وقضاء الطاعة ، اجتمعنا بالشيخ عقل بن الداعية الشيخ عبد العزيز العقل شيخ الجماعة ، وانطلقنا إلى منزل الشيخ المعمرالكبير ، سالم بن إبراهيم بن عبد المحسن الشهير ، والذي قضى من السنين ستيناً ، إماماً لمسجد الحي ومدرساً أميناً ، ومذكرا بالله مستعيناً ، واشتهر هذا الشيخ في مسجده الوضاء ، بأنه يطيل القراءة في القيام والدعاء ، ويؤخر إقامة صلاة العشاء حتى تغور النجوم في السماء ، وإن مساجد بريدة قد تقام فيها صلاة العشاء ، وينطلق الرجل منها الى المذنب بسيارته فيلحق الجماعة وبينها قرابة 40 كم بدون استياء ،



وكان يطيل الصلاة بسكينة واطمئنان ، وهدوء وتحقق في أداء السنن والواجبات والأركان ، لا كما يفعل كثير من أبناء هذا الزمان


ووصلنا أمام بيت متواضع وطرقنا الباب ، واستقبلنا ابن أخي الشيخ وهو كهل في آخر عقد الشباب ، ذلك ضيف الله بن عبد الله بن إبراهيم ورحب بنا أجمل ترحاب ، وسلمنا على الشيخ الوقور ، وجلسنا على الأرض نحن وجميع الحضور ، وإذا به ذو لحية كثة غناء ، وقد غير شيبه بالحناء ، فرحب بنا وحيهل ، وشد على أيدينا وسهل ، وكرر الترحيب والتأهيل ، وأمر بقهوة ممزوجة بالهيل ،


عرَّفت الشيخ بكل هدو وروية ، باسمي وبلدي وهويتي الشامية ، وهدفي من زيارته التاريخية ، وقرأت عليه الحديث المسلسل بالأولية ، فسمعه بأذن واعية ، وقلب مؤمن داعية ، وقلت له : هل سمعتم من مشايخكم هذا الحديث الشهير ، قال نعم كثير كثير، كانوا يحدثون فيه في المجالس والمناسبات ، والجلسات واللقاءات ، ثم لما رأيته حاضر القلب منصتاً لما أقول ، تشجعت وقرأت عليه المسلسل بالمحبة المتصل بالرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ما دعا داع وتعلم ،


وسألته عن ترجمته وحياته ، وطلبه للعلم ورحلاته ، فأجابني : بأنه ولد عام ثلاث وثلاثين بعد الثلاثمائة والألف ، وحضر محالس ودروس الشيخ بن سعدي ووصفها أدق وصف ، وتلقى العلم على يدي أخيه الشقيق الكريم العلامة عبد الله بن إبراهيم ، الذي توفي سنة 1366هـ ، وقال إن أخي الكبير الفهيم ، كان من تلاميذ عمر بن سليم ، وأخذ عن الشيخ الكبير المبجل ، الشيخ محمد صالح المقبل ، المتمكن في فقه ابن حنبل ،



وقال بصوت منخفض لا يسمعه إلا كل داني : هناك مجموعة من طلبة العلم الرباني ، رحلوا للشيخ بن سليم ، وهم المقبل وبن مشل والحسياني ، ومعهم أخي الشيخ عبد الله بن إبراهيم المذنباني ،



ومدح الشيخ بن سليم كثيرا وقال عنه ( كان شيخاً في العلم كبيراً ) لم أجد له في العلم مثيلاً ولا نظيراً .

وقال الشيخ سالم وهو ثابت الجنان ، قد من الله علي بحفظ القرآن ، واستظهرته مع التفسير ، لا سيما تفسير ابن كثير ، فقد درسته مرات ومرات ، في المجالس والمساجد بعيد الصلوات ،
وقال قولاً بعيد الدلالات ، لقد حججت وما معي من متاع الدنيا سوى ثلاث ريالات ، فاشتريت بريال منها أضحية من الأضحيات ، والريال الآخر كتاباً عظيماً أصبح من عالم الذكريات ، ونسيت اسمه وفات مع مافات ، وفهمت منه أنه يقرأ الحروف والكلمات ويحفظها حفظاً متيناً مضبوطة الشكل والحركات ، إلا أنه لا يجيد أن يكتب بخطه ولو بضع كلمات ،


وطلبت منه أن يجيزني بما يجوز له من العلوم العزيزة ، إجازة عن شيوخه بلفظة وجيزة ، فسكت برهة من الزمان ، ثم قال بصحيح البخاري بصحيح البخاري ، أجزتكم عن شيوخنا الأخيار


وكان من الحاضرين في هذا اللقاء جماعة من أهل العلم والصفاء وهم : الأخ الذي لأطراف الخيرات حائز ، الشيخ فايز الفايز ،

والأخ الفالح الصنديد الشيخ عبد الرحمن الوهيد ،

والأخ المتبحر في العقل والنقل ، الشيخ عقل عبد العزيز العقل ،​
ثم ودَّعَنا الشيخ ودعا لي بهذا الدعاء ( الله يوفقك لما يحب ويرضى )

وإلى اللقاء إلى اللقاء ، في حلقة أخرى بتقدير خالق الأرض والسماء


[/FONT]
 
الجزء الثاني من المقامة القصيمية

في يوم الاثنين 5 صفر 1427 هـ ( في عنيزة )
ويتابع الراقم لهذه الأوراق ، يحيى بن عبد الرزاق ، حديثه الشائق ، ووصفه الرائق ، والذي تفتحت له الأحداق ، وتمايلت طربا له المتون والأعناق ، وتأمل بين سطوره أهل الأذواق ، فذاقت ارواحهم من خلاله الشهد المذاب ، وحلا الاستماع للحديث وطاب ...

كنت على موعد أكيد ، مع الشيخ الداعية عبد الرحمن الشتوي
أبي عبد الملك الصديق الفريد ، وهو أحد الأحباب القدامى الذين يجيدون انتقاء الألفاظ ، بل وحضر دورتي وصار من جملة الحفاظ ، وانطلقنا قبيل الظهربهمة وسعادة قوية ، متجهين إلى المكتبة الصالحية ، لزيارة العلامة النسابة الشيخ محمد العثمان القاضي ، ومن هو عن حال أهل العلم غير راضي ،

ودخلنا بوابة المكتبة العتيدة ، فوجدنا رجلا يتصفح جريدة ، وقد استرخى في مقعد وثير ، يتابع سطور الأحداث بعمق وبشكل مثير ، فألقينا عليه تحية الإسلام ، فهب من جلسته وقام ، مرحبا ومسلماً حافي الأقدام ، ورحب بنا ترحيبا فوق ما يليق بالمقام ، وأخذنا أماكننا في غرفته ، واسترخى هو على أريكته ، ثم عرفه أبو عبد الملك بهويتي ، وببلدي وبسبب زيارتي ...

وقبل أن يسترسل بالكلام على السجية ، اقتنصت الفرصة حتى لا يفوتني التسلسل بالأولية ، فقرأت عليه حديث الرحمة بكل روية ، وهو منصت إنصات المتعجب الأواه ، فكرره فضيلته بصوت مرتفع وأسمعني إياه ، ثم قال وعلامة الجد والغضب قد بدت عليه ، ماذا يعني هذا وماذا تقصد من مبادرتك إليه !!
فابتسمت وقلت لا يخفى على فضيلتكم أيها الشيخ المبجل ، أنه حديث متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ومسلسل ، ولقد سمعنا عنك أن لديك إجازات واتصالات ، وصولات وجولات ، في علم الأسانيد والمسلسلات ، ولكم عدة رويات ، عن شيوخ وعلماء مسندين ، وأنك تروي هذا الحديث متصلا عن شيوخك المجيدين ، من أهل عنيزة وبريدة النجديين ،
فقال نعم عندي وعند أبي عشرون إجازة مخطوطة ... ولم يحصل على مثلها حتى ابن بطوطة ، ولكن لا فائدة منها ولا جدوى ولا هي مضبوطة

وشيخنا ابن سعدي الشيخ الشهير ، كان له رأي في هذه المسألة خطير مع أنه مجاز من ثلاث شيوخ ، من ذوي العلم والرسوخ ـ ومن لهم في العلم أيما عزة وشموخ ، وقال قولة قديمة وهي مما سمعتها منه ورأيت : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما استجزت أحدا ولا رويت ... فلا فائدة من هذه الإجازات ، ولو زعمتم ما في فيها من البركات والخيرات ، بل كثير منها خرافات في خرافات ،
قلت وبكل تلطف وهدوء ، وقصدي أن ألا يهيج الجو ويسوء : يا شيخنا لا يخفى عليكم فوائدها وقيمتها ، ولا معناها ومكانتها ، ولا جمالها وفتنتها ، فاستشاط غضباً وصاح ، بصوت أقوى من صوت أبي الدحداح ، وقال أنا لها لا أرتاح ، ولا فائدة منها ولومدحتها من المساء إلى الصباح

وههنا تكهرب الجو واستحكمت الشدة ، وظهر من ثتايا الكلام نبرة الحدة ، وكأن الشيخ من قبل مجيئنا قد أعد العدة ، أو أنه قد استثير في هذا الموضوع من بعض طلبة العلم من الحجاز وجدة ،
فتلطفت بالكلام والإيجاز ، وابتسمت ابتسامة تشي بالحب والاعتزاز ، وقلت : ولكن شيخ الاسلام ابن تيمية قد استجاز وأجاز ، وهذا أمر مشهور متواتر بين علماء الشام ومصر والحجاز ،
فلما سمع اسم شيخ الإسلام ابن تيمية ، زالت الحدة النجدية ، واعترته لحظة خشوع وروية ، وكأنه قد حلت علينا سكينة سماوية ، فقال : نعم زمانهم غير زماننا ، وأحوالهم غير أحوالنا ، وأنا لا أنكر إجازات أولئك الكبار ، من العلماء الأخيار ، والسلف الأبرار ، وإنما أنا أصب جام غضبي وأسل سيف الإنكار ، على ما أسمعه في الليل والنهار، مما يفعله شباب اليوم في بعض الأمصار ، من قراءة حديث أوحديثين من أول البخاري أو أحد كتب السنة الكبار ، ويريد إجازة فيه وفي سائر كتب علماء الأمة والأمصار ، بل وفي سائر العلوم ، منطوقها والمفهوم ، والمعقول منها والمنقول .. هذا عبث .... هذا عبث ..... لا يقبله صحاح العقول ،

ثم بدأ يصيح بصوت مرتفع ، حتى كاد من أريكته أن يقع ، لا فائدة منها أيها الضيف الأمين ، فأنا لم استفد منها شيئاً على مر السنين ، وأنا عنها من جملة المثبطين .. تفضل تفضل القهوة ، مع التميرة وكل ما تهوى .
فلما رأيت الشيخ في كلامه قد احتد ، وصرخ في كلامه واشتد ، خشيت من تغير المزاج إلى أبعد من هذا الحد ، فغيرت مسار الحديث والكلام ، فسألته عن نشأته وطلبه للعلم ولقائه بالأعلام ، فقال وبكل تواضع واحترام ، وقد هدأت أمواج بحر الطمطام :
ولدت سنة ألف و ثلاث مائة وست وأربعين ، ولازمت الشيخ السعدي قرابة ستة عشر من السنين ، وحضرنا عليه دروسا كثيرة ، واستفدنا منه فوائد وفيرة ، وقيدنا عنه معلومات غزيرة ،
ومن المشايخ العلماء المهتمين بالاجازات في عنيزة وهذا النادي ، المحدث الشيخ علي بن ناصر بو وادي ،
قلت : وقد استخف بي الطرب ، هل أجاز الشيخ بو وادي أحداً من أهل عنيزة من أهل العلم والأدب ، فأعدت الشيخ بطريقة غوثانية ذكية ، إلى الإجازات والأسانيد العلية ، ومافيها من فوائد ثرية ،
فقال مبتسماً متفاعلاً مؤكداً تأكيداً : نعم لقد أجاز لعشرين شيخاً عالماً صنديداً
قلت ماشاء الله رب الأرض والسماء ، وهل بقي أحد منهم من الأحياء ،
قال : رحمهم الله كلهم قد طواه الثرى ، ولم يبق أحد منهم ممن درس عليه أو قرا ، ثم تابع الحديث بشغف واضح لديه ، ومنهم والدي الذي أخذت العلم على يديه ، ووالدي مجاز من الكثير، من علماء الفقه والتفسير، منهم ابراهيم بن عيسى المؤرخ الشهير
وأما الشيخ علي بو وادي المذكور فقد رحل للهند ، وديار السند ، ومجاز من صديق حسن خان القنوجي ملك بهوبال القوي ، ومن نذير حسين المحدث الدهلوي
قلت وأنا أرتشف فنجان قهوتي مع التمر : من بقي من زملائك من الأحياء من ذوي العلم والقدر،
قال بقي منهم العلامة الذي كان عن دروس العلم لا يبطي : الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن حنطي ، وهو درس على عبد العزيز المطوع ، وكان جادا غير متهوع ، وتولى قضاء الدرعية ، لسنة واحدة قمرية ، ثم اشتغل بتحفيظ وتعليم القرآن ، في مساجد عنيزة للأطفال والصبيان


قلت شيخنا هل لكم مؤلفات منشورة ،قال نعم كثيرة مشهورة ، منها : روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وأطلعني على مجلد منه وقال هو موجود في مكتبة في الرياض فابحثوا عنه .


ثم قال القهوة والتميرة .... القهوة والتميرة
وههنا تعلمت مفردة جديدة ، من لهجة أهل عنيزة العتيدة ، مما قد لا أجده في كتاب ولا جريدة ،
ثم تجول بنا جولة من الجولات في غرفة الكتب والمخطوطات ، وهناك رأيت العجب العجاب ، مما يدمي القلب ويزيد الارتياب ، مخطوطات أصيلة قديمة وقد علاها الغبار والتراب ، وفتح لنا الباب ولمسنا المخطوطات الحقيقة التي عمرها مئات السنين ، والتي لو أنها في مكتبات أخرى فإنها تجد اهتماما وعناية لائقين ، فقد زرت مكتبات عالمية وعلمت كيف يحافظون على التراث ، ويحمونه من عاديات الزمن والأحداث ، لدرجة أنني تذكرت قول ذلك الكاتب الذي نسيت اسمه وبقي في راسي رسمه : وقد تمنى أن تذهب مخطوطات العرب والمسلمين الى ديار جورج وسيكزتين ،

تألم قلبي للإهمال الموجود في غرفة المخطوطات ، فقد رأيتها متراكمة منثورة تكاد تتمزفق من الورقات ، حيث يوجد 600 مخطوطة من نفائس التراث في المكتبات
وقد لفت نظري أنه منذ الصباح ، لم نجد خلال طول زيارتنا زائرا واحدا للمكتبة غدا أو راح
والشيخ ـ حفظه الله ـ متألم جدا من إعراض الناس عن العلم والمكتبات ، وعن نفض الغبار عن تلكم المخطوطات ، وقال : إذا زارنا بعضهم فيزورنا لأجل هذه الجرائد والمجلات ،
ثم سألته عن التصوير الفوتوغرافي واستأذنته هل ترون مذهب التحريم أم التيسير فإنني أرغب بتصوير شخصكم للاحترام والتوثيق والتقدير ، فقال صور يا ابن الأكرمين ، فأنا للصوير من المجيزين

وتعجبت من ذلك التعميم ، فحسب علمي أن علماء نجد قلطبة يميلون للتحريم
ثم سألته : من زاركم هذه المكتبة من العلماء ؟؟ ، قال كثيرون منهم الشيخ زهير الشاويش والشيخ الألباني وغيرهم من الألباء
والتحق بهذه الزيارة الميونة في هذا اليوم ، أخونا الشاب الظريف ، والنشيط الغطريف عبد الله التوم ، وبصحبته الأستاذ تميم القاضي ولم يسمعا بما دار بيننا حول الإجازات ، من تلك المعركة المدوية الكلمات ، فقال الأخ عبد الله التوم بكل أدب وحشمة ، نريد أن نسمع منكم حديث الرحمة ، فصرخ في وجهه وامقاً وأعاد ماذكره سابقاً ...

فغمزت للتوم بعيني ، ففهم علي بالحين
ووقبل نهاية الزيارة دعانا وبشدة على الغداء ، فاعتذرنا وتعللنا ببعض الأشياء ، وشكرنا على الزيارة في هذه الأيام ، وأثنى على أدب أهل الشام ، بل وعندما عرف أنني من الشام ، قال أنا من محبي أهل الشام ، فقد عقدت قراني قبل عدة أعوام ، على مليحة القد والقوام ، غزال من غزلان هؤلاء الشوام ، ترد الروح ، وتشفي القلب المجروح ،

وتعيد الكهل إلى سن الشباب والباه ، وترجع الشيخ إلى سني صباه

قلت إذن أنت صهرنا ، وحبك واجب طول دهرنا ،
وودعناه وانطلقنا ، وإلى اللقاء في حلقة أخرى حول ما قد علقنا

وأدرك ابن الغوثاني أذان الظهروالرواح ، فسكت الكلام المباح ...


 

سألني أحد الإخوة ماذا تعني المقامة فأنقل له كلام الأستاذ مهدي حسن الشاوي
المقامة : تعريفها، أركانها، خصائصها



تعريف المقامة :
المقامة إحدى فنون الأدب العربي النثرية المطعمة أحياناً بالشعر، وهي أقرب الى أن تكون قصة قصيرة مسجوعة، وحكاية خيالية أدبية بليغة، ينقلها راوٍ من صنع خيال الكاتب يتكرر في جميع المقامات، يصوره وكأنه قد عاش أحداثها، ولها بطل إنساني مشّرد شحاذ ظريف ذو أسلوب بارع وروح خفيفة، يتقمص في كل مرة شخصية معينة، يضحك الناس أو يبكيهم أو يبهرهم ليخدعهم وينال من أموالهم، ضمن حدث ظريف فحواه نادرة أدبية أو مجموعة مسائل دينية أو مغامرة هزلية تحمل في طياتها لوناً من ألوان النقد والسخرية وسقوط القيم لتمثل صور من الحياة الاجتماعية في العصر الذي كتبت فيه، وتقوم على التفنن في الإنشاء، والاهتمام باللفظ والأناقة اللغوية وجمال الأسلوب، بحيث تتقدم على الشعر بمحسناتها اللفظية والبديعية، وتشتمل على كثير من درر اللغة وفرائد الأدب والحكم والأمثال والقطع النثرية والأشعار الغريبة في بابها، وتدخل ضمن فن الفكاهة، وهدفها الأساس تعليم الناشئة أصول اللغة والقدرة على النظم والتفنن في القول. قال صاحب صبح الأعشى: وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة، كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها. فمعنى المقامة في اللغة: المجلس.



أركان المقامة:
تقوم المقامة على ثلاثة أركان: الراوي، والبطل، والنكتة


- الراوي:
يكون في كل مقامة راوٍ معين باسمه، يتكرر في جميع المقامات، فراوي مقامات الهمداني مثلاً هو (عيسى بن هشام) وراوي مقامات الحريري هو (الحارث بن همام) ..وهو من ينقلها عن المجلس الذي تقع فيه، ينتمي في غالب الأحيان الى طبقة اجتماعية متوسطة، يتابع البطل أو يصادفه، ويمهد أحياناً لظهوره، ويبدو وكأنه يتبعه أينما مضى، ويحسن طريقة تقديمه، ويسخط في غالب الأحيان على أخلاق البطل واحتياله وخداعه، ولا يكتشف أمره أحياناً إلا في نهاية المقامة.


- البطل (الشحاذ) :
ويكون لكل مجموعة مقامات معينة أيضاً بطل قصتها الذي تدور حوله، وتنتهي بانتصاره في كل مرة، وهو يتكرر في جميع المقامات تماماً كالراوي باسمه وشخصه، فبطل مقامات الهمداني مثلاً هو (أبو الفتح
الأسكندري)، وبطل مقامات الحريري هو (أبو زيد السروجي)، وهو شخص خيالي - غالباً - مخادع ينتمي الى شريحة المحتالين الأذكياء البلغاء، الذين يستخدمون الحيلة والفطنة والدهاء في استلاب الناس أموالهم، لذا فإن أبرز ميزات البطل الشحاذ هي أن يكون خفي المكر، لين المصانعة، فتيق اللسان، شديد العارضة، مفوهاً حذاقياً، واسع المعرفة في صنوف الأدب وغريب اللغة وأحكام الدين وصنوف العلم، فهو شاعر وخطيب وواعظ، يتظاهر بالإيمان والزهد ويضمر الفسق والمجون، ويتصنع الجد ويخفي في طياته الهزل، ويظهر غالباً كشخص مسكين متهالك بائس، إلا أنه في واقع الأمر طالب منفعة.
والحقيقة أن الشخصية التي يستشعرها القارئ ليست شخصية البطل الأسطوري هذا وإنما هي شخصية مؤلف المقامة الذي ينبغي له أن يكون واسع الاطلاع على مختلف الفنون والعلوم، قدير في النظم والنثر والخطابة، قوي الملاحظة حاد الفكرة في حل الألغاز وكشف المبهمات، وهو بنفس الوقت هزل مرح النفس أمام الصعوبات واجتيازها.


- النكتة:
تدور كل مقامة من المقامات على نكتة خاصة وفكرة معينة يراد إيصالها عن طريق البطل الشحاذ، وتكون عادة فكرة مستحدثة، أو ملحة مستظرفة، وقد تستبطن فكراً جريئاً لا يدفع غالباً الى تبني السلوك الإنساني الطبيعي، أو الحث على مكارم الأخلاق، وموضعات المقامات تكون مختلفة، فمنها ما هو لغوي، أو أدبي، أو بلاغي، ومنها ما هو فقهي ، أو حماسي أو فكاهي، ومنها ما هو خمري أو مجوني، بحيث تترادف المقامات في مواضيع مختلفة خالية من النسق والترتيب أو يكون ترتيبها غير ظاهر الترابط بوضوح، فكل مقامة تعتبر وحدة قصصية قائمة بنفسها تعتمد وحدة المكان غالباً. ويغلب المقامات عادة الفكاهة والملح النادرة.


مقومات الشكل:
تعتمد المقامة في صياغتها وأسلوبها على التزام السجع، والإغراق في الصنعة اللفظية وتوظيف غريب اللغة، والمحسنات البديعية المختلفة لا سيما الجناس منها، وفنون البلاغة المتنوعة من تشبيهات وكنايات واستعارات واقتباس، ومقابلة وموازنة وما الى ذلك، فهي فن تزويق وتأنق لفظي.


اسم المقامة وطولها :
غالباً ما تؤخذ أسماء المقامات من اسم البلد الذي انعقد فيه مجلسها، فمن أسماء مقامات الحريري مثلاً: المقامة الصنعانية، المقامة الحلوانية، المقامة الكوفية، المقامة المراغية، المقامة الدمشقية، المقامة البغدادية، المقامة السنجارية، ....، وتختلف المقامات فيما بينها في الطول، فقد تكون طويلة، وقد تكون قصيرة.


تأثير المقامة العربية في أدب العالم:
يشير بعض النقاد الى أن المقامة العربية قد أثرت في الأدب الغربي تأثيراً واسعاً، فقد أثار بعض الباحثين مسألة تأثيرها في (الكوميديا الإلهية) لدانتي، وكان لأثرها بروزٌ كبيرٌ وواضحٌ في قصص الشطّار الأسبانية التي تتحدث عن أحوال المجتمع وظروف الأغمار من الناس وقصص الطماعين والشحاذين، مما أوحى به مضمون المقامة، واعترف به المهتمون بالأدب الأندلسي استناداً الى المقارنات التي عقدوها بين المقامة والأدب السردي في أوربا.
 
عودة
أعلى