المقالة الصريحة في آداب النصيحة

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فهذه رسالة لي طبعت منذ ما يقرب من عام بدار الجليمي للسنة الصحيحة بالقاهرة ، سميتها ( المقالة الصحيحة فيآداب النصيحة ) ، والنصيحة هي الكلمة الجامعة لخير المنصوح ؛ وشأنها في الإسلام عظيم ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الدِّينُ النَّصِيحَةُ "[SUP] [1] [/SUP].
ولما كان المرء - غالبًا - لا يرى عيب نفسه ، جعلت النصيحة بين المسلمين ، لإصلاح ما قد يكون من خلل في ظلم البعض لنفسه ، أو ظلمه لأخيه ؛ ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المُؤمن مرآةُ أخِيه ، والمؤمن أخو الي مؤمنِ ، يَكفُّ عليه ضَيْعَتَه ، ويحُوطُه مِن وَرَائِهِ " ، وفي لفظ : " الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ "[SUP] [2] [/SUP]، ومعنى ذلك أن المؤمن بالنسبة للمؤمن كالمرآة التي تريه ما خفي عليه من رؤيته من نفسه ، فهو يرى محاسن أخيه ومعايبه ؛ فينصح له ، ويريه عيب نفسه ، بغير مداهنة ولا تزييف ، كما تريه المرآة واضحًا ما لا يراه من نفسه .
قال الحسن البصري - رحمه الله : إن المؤمن شعبة من المؤمن ، إن به حاجته ، إن به علته ، إنه يكفله : يفرح لفرحه ، ويحزن لحزنه ، وهو مرآة أخيه ؛ إن رأى منه ما لا يعجبه ، سدده ، وقوَّمه ، وَوَجَّهه ، وحاطه في السر والعلانيه ؛ إن لك من خليلك نصيبًا ، وإن لك نصيبًا من ذكر من أحببت ، فتنقوا الإخوان والأصحاب والمجالس[SUP] [3] [/SUP].
هكذا فهم السلف ،
وفي الصحيحين عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ : بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ[SUP] [4]) [/SUP]؛ وعن علي رضي الله عنه قال : أنصح الناس وأعلمهم بالله ، أشد الناس حبًّا وتعظيمًا لحرمة أهل لا إله إلا الله[SUP] [5][/SUP] ؛ وقال أبو الدرداءرضي الله عنه : إن شئتم لأحدثنكم من أحب عباد الله إلى الله ؟ الذين يحبِّبون الله تعالى إلى عباده ، ويعملون في الأرض نصحًا[SUP] [6][/SUP] .

[1] رواه مسلم وغيره ، وسيأتي تخريجه .

[2] رواه البخاري في ( الأدب المفرد ) رقم 239 من حديث أبي هريرة t ، ورواه أبو داود ( 4918 ) بلفظ : " الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ .. " ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 926 ) .

[3] الزهد لابن المبارك ( 662 ) .

[4] البخاري ( 57 ) ، ومسلم ( 56 ) .

[5] حلية الأولياء : 1 / 74 .

[6] رواه ابن أبي عاصم في ( الزهد ) ص 143 .
 
في ( حلية الأولياء ) عن عبد الرحمن بن يزيد عن بلال بن سعد قال : بلغني أن المسلم مرآة أخيه ، فهل تستريب من أمري شيئًا ؟[SUP] [1][/SUP]
وقد قيل : لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما محَّضَ أخاه النصيحة ، فإذا حاد عن ذلك سلب التوفيق ؛ ذلك أن الخطأ شأن البشرِ جميعًا إلا من عصم الله تعالى ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ "[SUP] [2] [/SUP]؛ وقد أحسن من قال :
من ذا الذي لم يخط قط ... ومن له الحسنى فقط
وقال غيره :
والمرء يعجب من صغيرة غيره ... أي امرئ إلا وفيه مقال
لسنا نرى من ليس فيه غميزة ... أي الرجال القائل الفعَّال
والناس بين ناصح وغاش ، فناصح يسعى في خير أخيه ، والغاش يغرُّه بترك نصحه .
من كانَ ذا نصيحةٍ نَهاكا ... ومن يكنْ ذا بُغْضةٍ أغراكا
وفرق واسع بين النصيحة والتأنيب والتعيير ، وبعض الناس يحسبون النصح صورة من صور التجريح والتأنيب للمنصوح ، فيخطئون في النصيحة والمنصوح ؛ ولهذا لا يُقبل منهم النصح ؛ إذ النصح مناف للغل والغش الذي يخرج عنه التجريح والتأنيب ؛ وقد ابتليت بمن ينتسب إلى العلم فآذاني إيذاءً شديدًا ، وحلمتُ عنه لكبر سنه ؛ فلما راجعته ، قال : كانت نصيحة أخ !! فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وللنصيحة آداب لا بد أن يتأدب بها الناصح والمنصوح ، ليُرى أثرُها ويُنتفع بها .
وفي هذه الرسالة ( المقالة الصريحة في آداب النصيحة ) أحاول أن أَلِمَّ بأطراف هذا الموضوع المهم ، وسأتناوله من المحاور الآتية :
معنى النصيحة .
الفرق بين النصيحة والتأنيب .
الفرق بين النصيحة والتعيير .
الفرق بين النصيحة والغيبة .
متى تباح الغيبة ؟ وهو المقصود من النصيحة .
النصيحة هي الدين .
حكم النصيحة .
صفة الناصح .
أنواع النصيحة .
آداب النصيحة .
خاتمة .
والله الكريم أسأل العون والسداد ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

[1] حلية الأولياء : 5 / 225 .

[2] رواه الترمذي ( 2499 ) ، وابن ماجة ( 4251 ) ، وحسنه الألباني .
 
معنى النصيحة
النَّصِيحَةُ : تصفية النفس من الغش للمنصوح له ؛ مُشْتَقَّة مِنْ نَصَحْت الْعَسَل إِذَا صَفَّيْته ، يُقَال : نَصَحَ الشَّيْء إِذَا خَلُصَ ، وَنَصَحَ لَهُ الْقَوْل إِذَا أَخْلَصَهُ لَهُ ؛ أَوْ مُشْتَقَّة مِنْ النُّصْح وَهِيَ الْخِيَاطَة بِالْمِنْصَحَةِ ، وَهِيَ الْإِبْرَة ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَلُمُّ شَعَثَ أَخِيهِ بِالنُّصْحِ ، كَمَا تَلُمُّ الْمِنْصَحَة الثَّوْبَ ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي ( مَعَالِم السنن ) : النَّصِيحَة كَلِمَة يُعَبَّر بِهَا عَنْ جُمْلَة هِيَ إِرَادَة الْخَيْر لِلْمَنْصُوحِ لَهُ ؛ وَلَيْسَ يُمْكِن أَنْ يُعَبَّر عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِكَلِمَةٍ وَاحِدَة يَحْصُرهَا وَيَجْمَع مَعْنَاهَا غَيْرهَا .ا.هـ[SUP] [1] [/SUP].
قال ابن تيمية - رحمه الله : وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ الْخُلُوصُ ؛ يُقَالُ : فُلَانٌ يَنْصَحُ لِفُلَانِ ، إذَا كَانَ يُرِيدُ لَهُ الْخَيْرَ إرَادَةً خَالِصَةً لَا غِشَّ فِيهَا ؛ وَفُلَانٌ يَغُشُّهُ ، إذَا كَانَ بَاطِنُهُ يُرِيدُ السُّوءَ وَهُوَ يُظْهِرُ إرَادَةَ الْخَيْرِ ، كَالدِّرْهَمِ الْمَغْشُوشِ[SUP] [2][/SUP].
وعلى هذا جاء المعنى في تعريف العلماء للنصيحة ؛ قال الفخر الرازي – رحمه الله : النصيحة أن يُرَغِبَّهُ في الطاعة ، ويحذره من المعصية ، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب لأبلغ الوجوه .ا.هـ[SUP] [3] [/SUP].
وقال أبو عمرو ابن الصلاح – رحمه الله : النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلا[SUP] [4] [/SUP].ا.هـ .
وقال القرطبي – رحمه الله : النصح إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة ، بخلاف الغش .ا.هـ[SUP] [5] [/SUP].
وعلى ذلك فالنصيحة مبناها على الإخلاص للمنصوح ، والحرص على إيصال الخير له ، ودرء الضر عنه ، في أمور دنياه وأخراه .. قال ابن عاشور - رحمه الله - في ( التحرير والتنوير ) : والنُّصح والنَّصيحة كلمة جامعة ، يعبَّر بها عن حسن النِّيَّة وإرادة الخير من قولٍ أو عملٍ ... قال : ويكثر إطلاق النُّصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ، ويدفع عنه الضُّر ؛ وضدُّه الغشُّ[SUP] [6][/SUP] .

[1] نقلا عن ( عون المعبود ) : 13 / 196 .

[2] ( مجموع الفتاوى ) : 16/ 57 .

[3] مفاتيح الغيب : 14 / 297 - دار إحياء التراث العربي – بيروت .

[4] نقلا عن ( جامع العلوم والحكم ) ص 76 .

[5] الجامع لأحكام القران 4/234 .

[6] انظر (التحرير والتنوير ) عند الآية ( 62 ) من سورة الأعراف ، بشيء من الاختصار .
 
الفرق بين النصيحة والتأنيب
التأنيب من أنَّب يؤنب تَأْنِيبًا : عَنَّفَه ، ولاَمَه ، ووبَّخَه ؛ وقال ابن الأثير : التّأنِيبُ : المبالغَة في التَّوبيخ والتَّعنِيف[SUP] [1] [/SUP].
قال ابن القيم – رحمه الله : الفرق بين النصيحة والتأنيب ؛ أن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له ، والشفقة عليه ، والغيرة له وعليه ؛ فهو إحسان محض ، يصدر عن رحمة ورقة ، ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه ، والإحسان إلى خلقه ، فيتلطف في بذلها غاية التلطف ، ويحتمل أذى المنصوح ولائمته ، ويعامله معاملة الطبيب العالم المشفق على المريض المشبع مرضًا ، وهو يحتمل سوء خلقه وشراسته ونفرته ، ويتلطف في وصول الدواء إليه بكل ممكن ؛ فهذا شأن الناصح .
وأما المؤنب فهو رجل قصده التعيير والإهانة ، وذم من أنَّبَهُ ، وشَتْمُهُ في صورة النصح ، فهو يقول له : يا فاعل كذا وكذا ، يا مستحقًّا الذم والإهانة ، في صورة ناصح مشفق . وعلامة هذا أنه لو رأى من يحبه ويحسن إليه على مثل عمل هذا ، أو شرٍّ منه ، لم يعرض له ، ولم يقل له شيئًا ، ويطلب له وجوه المعاذير ؛ فإن غُلب ، قال : وأنى ضمنت له العصمة ، والإنسان عرضه للخطأ ، ومحاسنه أكثر من مساويه ، والله غفور رحيم .. ونحو ذلك ؛ فيا عجبا ! كيف كان هذا لمن يحبه دون من يبغضه ؟! وكيف كان لذلك منك التأنيب في صورة النصح ، وحظ هذا منك رجاء العفو والمغفرة ، وطلب وجوه المعاذير ؟!
ومن الفروق بين الناصح والمؤنب ؛ أن الناصح لا يعاديك إذا لم تقبل نصيحته ، وقال : قد وقع أجرى على الله ، قبلت أو لم تقبل ؛ ويدعو لك بظهر الغيب ، ولا يذكر عيوبك ، ولا يبيِّنها في الناس ؛ والمؤنب بعكس ذلك[SUP] [2][/SUP] .

[1] انظر ( لسان العرب ) باب الباء فصل الهمزة ، و( النهاية في غريب الحديث والأثر ) مادة ( أ ن ب ) .

[2] انظر ( الروح ) ص 257 ، 258 .
 
الفرق بين النصيحة والتعيير
التَّعْيِيرِ : التوبيخ ؛ من العار ، والعارُ : السُّبَّة والعيب ؛ وقيل : هو كل شيء يلزم به سُبَّة أَو عيب ؛ وهو الانتقاص بنسبة القبائح إليه[SUP] [1] [/SUP].
فالتعيير : هو إظهار السوء والقبح وإشاعته في قالب النصح ؛ فمن الناس من يلبس غايته السيئة ثوب النصيحة ، قال ابن رجب - رحمه الله : ومِن أظهرِ التعيير ، إظهارُ السوء وإشاعتُه في قالب النصح ، وزعمُ أنه إنما يحمله على ذلك العيوب ، وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى ، فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه في مواضع ؛ فإن الله تعالى ذمَّ من أظهر فعلاً أو قولاً حسنًا ، وأراد به التوصل إلى غرض فاسد ، يقصده في الباطن ، وعدَّ ذلك من خصال النفاق ؛ كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْراً وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ التوبة : 107 ] ؛ وقال تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 188 ] ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ ، وَحَلَفُوا ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ[2]. فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين ؛ وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً ، وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن ، ومقصوده بذلك : التوصل إلى غرض فاسد ، فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن ، ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه ، ويفرح هو بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن ، فتتم له الفائدة وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع ؛ ومن كانت هذه همته فهو داخل في هذه الآية ولا بد ، فهو متوعد بالعذاب الأليم[SUP] [3] [/SUP].
فالنصيحة والتعيير كلا منهما ظاهره حسن ، ولكن التعيير باطنه إرادة غرض فاسد ، وانتصار الإنسان لنفسه بسبِّ وتجريح من يكلمه ، وتحقير من يعيِّره ... فشتان بين النصيحة والتعيير .

[1] انظر ( لسان العرب ) باب الراء فصل العين ، و( مختار الصحاح ) مادة ( ع ي ر ) .

[2] متفق عليه : البخاري ( 4567 ) ، ومسلم ( 2777 ) .

[3] انظر ( الفرق بين النصيحة والتعيير ) ص 10 ، 11 بتصرف يسير .
 
الفرق بين النصيحة والغيبة
قد بين النبي صلى الله عليه وسلم حدَّ الغيبة المحرمة فقال : " أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ؛ قَالَ : " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ " ، قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : " إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ ، فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ، فَقَدْ بَهَتَّهُ "[SUP] [1] [/SUP]؛ و " بَهَتَّهُ " أي : كذبت عليه ، والبهتان : الباطل الذي يُتحير من بطلانه ، وشدة نكره ؛ قَالَ النَّوَوِيّ فِي ( الْأَذْكَار ) تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ : ذِكْر الْمَرْء بِمَا يَكْرَههُ ، سَوَاء كَانَ ذَلِكَ فِي بَدَن الشَّخْص ، أَوْ دِينه ، أَوْ دُنْيَاهُ ، أَوْ نَفْسه ، أَوْ خَلْقه ، أَوْ خُلُقه ، أَوْ مَاله ، أَوْ وَالِده ، أَوْ وَلَده ، أَوْ زَوْجه ، أَوْ خَادِمه ، أَوْ ثَوْبه ، أَوْ حَرَكَته ، أَوْ طَلَاقَته ، أَوْ عُبُوسَته ، أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّق بِهِ ، سَوَاء ذَكَرْته بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ وَالرَّمْز . قَالَ النَّوَوِيّ : وَمِمَّنْ يَسْتَعْمِل التَّعْرِيض فِي ذَلِكَ كَثِير مِنْ الْفُقَهَاء فِي التَّصَانِيف وَغَيْرهَا ، كَقَوْلِهِمْ : قَالَ بَعْض مَنْ يَدَّعِي الْعِلْم ، أَوْ بَعْض مَنْ يُنْسَب إِلَى الصَّلَاح .. أَوْ نَحْو ذَلِكَ ، مِمَّا يَفْهَم السَّامِع الْمُرَاد بِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلهمْ عِنْدَ ذِكْره : اللَّه يُعَافِينَا ، اللَّه يَتُوب عَلَيْنَا ، نَسْأَل اللَّه السَّلَامَة وَنَحْو ذَلِكَ ، فَكُلّ ذَلِكَ مِنْ الْغِيبَة[SUP] [2] [/SUP].
قال القرطبي - رحمه الله : يقال : اغتابه اغتيابًا إذا وقع فيه ، والاسم الغيبة ، وهي : ذكر العيب بظهر الغيب ... قال : لا خلاف أن الغيبة من الكبائر ، وان من اغتاب أحد عليه أن يتوب إلي الله تعالى[SUP] [3] [/SUP].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله : ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتي ؛ تارة في قالب ديانة وصلاح ، فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بالخير ، ولا أحب الغيبة ولا الكذب ، وإنما أخبركم بأحواله ، ويقول : والله إنه مسكين ، أو رجل جيد ...... ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر ، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول ، وقصده غير ما أظهر ، والله المستعان[SUP] [4] [/SUP].ا.هـ .
قال ابن القيم – رحمه الله – في ( الروح ) : الفرق بين النصيحة والغيبة ، أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير المسلم من مبتدع ، أو فتان ، أو غاش ، أو مفسد ، فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ، ومعاملته ، والتعلق به ، كما قال النبي e لفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاح معاوية وأبي جهم ، فقال : " أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ "[SUP] [5] [/SUP]، وقال بعض أصحابه لمن سافر معه : ( إذا هبطت عن بلاد قومه فأحذروه ) .
فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين ، فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات ؛ وإذا وقعت على وجه ذم أخيك ، وتمزيق عرضه ، والتفكه بلحمه ، والغض منه ، لتضع منزلته من قلوب الناس ، فهي الداء العضال ، ونار الحسنات التي تأكلها ، كما تأكل النار الحطب[SUP] [6][/SUP] .

[1] أخرجه مسلم ( 2589 ) من حديث أبي هريرة .

[2] نقلا عن ( فتح الباري ) لابن حجر : 10 / 469 ؛ وانظر ( الأذكار ) للنوووي ص 288 .

[3] انظر ( الجامع لأحكام القران ) عند تفسير الآية ( 12 ) من سورة الحجرات .

[4] مجموع الفتاوى / 28 /237- 238) .

[5] رواه مسلم في صحيحه ( 1480 ) من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها .

[6] انظر ( الروح ) ص 240 .
 
متى تباح الغيبة ؟ وهو المقصود من النصيحة
تُبَاح الْغِيبَة لِغَرَضٍ شَرْعِيّ ، وَذَلِكَ لِسِتَّةِ أَسْبَاب : أَحَدهَا : التَّظَلُّم ؛ فَيَجُوز لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّم إِلَى السُّلْطَان وَالْقَاضِي وَغَيْرهمَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَة ، أَوْ قُدْرَة عَلَى إِنْصَافه مِنْ ظَالِمه , فَيَقُول : ظَلَمَنِي فُلَان ، أَوْ فَعَلَ بِي كَذَا . الثَّانِي : الِاسْتِغَاثَة عَلَى تَغْيِير الْمُنْكَر ، وَرَدِّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَاب , فَيَقُول لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَته : فُلَان يَعْمَل كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ وَنَحْو ذَلِكَ .
الثَّالِث : الِاسْتِفْتَاء ، بِأَنْ يَقُول لِلْمُفْتِي : ظَلَمَنِي فُلَان ، أَوْ أَبِي ، أَوْ أَخِي ، أَوْ زَوْجِي بِكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَمَا طَرِيقِي فِي الْخَلَاص مِنْهُ ، وَدَفْع ظُلْمه عَنِّي ؟ وَنَحْو ذَلِكَ , فَهَذَا جَائِز لِلْحَاجَةِ ، وَالْأَجْوَد أَنْ يَقُول فِي رَجُل أَوْ زَوْج أَوْ وَالِد وَوَلَد : كَانَ مِنْ أَمْره كَذَا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِين جَائِز لِحَدِيثِ هِنْد وَقَوْلهَا : إِنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُل شَحِيح .
الرَّابِع : تَحْذِير الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرِّ ؛ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوه : مِنْهَا جَرْح الْمَجْرُوحِينَ مِنْ الرُّوَاة ، وَالشُّهُود ، وَالْمُصَنِّفِينَ ، وَذَلِكَ جَائِز بِالْإِجْمَاعِ ، بَلْ وَاجِب صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ ؛ وَمِنْهَا الْإِخْبَار بِعَيْبِهِ عِنْد الْمُشَاوَرَة فِي مُوَاصَلَته ، وَمِنْهَا إِذَا رَأَيْت مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا ، أَوْ عَبْدًا سَارِقًا ، أَوْ زَانِيًا ، أَوْ شَارِبًا ، أَوْ نَحْو ذَلِكَ تَذْكُرهُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَعْلَمهُ نَصِيحَة ، لَا بِقَصْدِ الْإِيذَاء وَالْإِفْسَاد ؛ وَمِنْهَا إِذَا رَأَيْت مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّد إِلَى فَاسِق أَوْ مُبْتَدِع يَأْخُذ عَنْهُ عِلْمًا ، وَخِفْت عَلَيْهِ ضَرَره ، فَعَلَيْك نَصِيحَته بِبَيَانِ حَاله قَاصِدًا النَّصِيحَة ؛ وَمِنْهَا أَنْ يَكُون لَهُ وِلَايَة لَا يَقُوم بِهَا عَلَى وَجْههَا ، لِعَدَمِ أَهْلِيَّته أَوْ لِفِسْقِهِ , فَيَذْكُرهُ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَة لِيُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى حَاله ، فَلَا يَغْتَرَّ بِهِ ، وَيَلْزَم الِاسْتِقَامَة .
الْخَامِس : أَنْ يَكُون مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَته كَالْخَمْرِ ، وَمُصَادَرَة النَّاس ، وَجِبَايَة الْمُكُوس ، وَتَوَلِّي الْأُمُور الْبَاطِلَة ؛ فَيَجُوز ذِكْره بِمَا يُجَاهِر بِهِ ، وَلَا يَجُوز بِغَيْرِهِ إِلَّا بِسَبَبٍ آخَر .
السَّادِس : التَّعْرِيف ؛ فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ كَالْأَعْمَشِ ، وَالْأَعْرَج ، وَالْأَزْرَق ، وَالْقَصِير ، وَالْأَعْمَى ، وَالْأَقْطَع .. وَنَحْوهَا ، جَازَ تَعْرِيفه بِهِ ، وَيَحْرُم ذِكْره بِهِ تَنَقُّصًا ، وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيف بِغَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى ؛ وَاَللَّه أَعْلَم .ا.هـ[SUP] [1] [/SUP].
وبهذا تعلم أن هذه الحالات الست هي النصيحة ، وبغير ذلك تكون الغيبة على الوجه الذي ذكره ابن القيم رحمه الله .

[1] شرح النووي على مسلم : 16 / 142 ، 143 .
 
النصيحة هي الدين
إن النصيحة هي قوام الدين ، وعليها مدار الإسلام كله ؛ قَالَصلى الله عليه وسلم : " الدِّينُ النَّصِيحَةُ " ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : " لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَامَّتِهِمْ "[SUP] [1] [/SUP].
هذا الحديث من الأحاديث الكلية العظيمة التي اشتملت على الدين كله ؛ على حقوق الله عز وجل ، وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى حقوق عباده ، فليس ثَمَّ أجمع في بيان تلك الحقوق من لفظ النصيحة ؛ قال النووي - رحمه الله : هَذَا حَدِيث عَظِيم الشَّأْن ، وَعَلَيْهِ مَدَار الْإِسْلَام ... وَأَمَّا مَا قَالَهُ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء : أَنَّهُ أَحَد أَرْبَاع الْإِسْلَام ، أَيْ : أَحَد الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الَّتِي تَجْمَع أُمُورَ الْإِسْلَام ، فَلَيْسَ كَمَا قَالُوهُ ، بَلْ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ ... وَمَعْنَى الْحَدِيث : عِمَاد الدِّين وَقِوَامه النَّصِيحَة ؛ كَقَوْلِهِ : " الْحَجُّ عَرَفَة " أَيْ : عِمَاده وَمُعْظَمه عَرَفَة[SUP] [2] [/SUP].
قال ابن الأثير في ( النهاية في غريب الأثر ) : النصيحة : كلمة يُعَـبَّرُ بها عن جملة هي إرادة الخير للمَنْصوح له ، وليس يُمكنُ أن يُعَبَّر هذا المعنى بكلمة واحدة تَجْمَع معناه غيرها ؛ وأصل النُّصْح في اللغة : الخُلوص ؛ يقال : نَصَحَتُه ، ونَصحتُ له[SUP] [3] [/SUP].
ومعنى النصيحةِ لِلَّهِ تعالى : اعْتِقَاد وَحْدَانِيَّته ، ونفي الشريك عنه ، وَإِفراده سبحانه بالعِبَادَةِ .
وَلِكِتَابِهِ : بِالْإِيمَانِ بِهِ ، وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ ، وتلاوته حق تلاوته ، وتعظيمه ، والدعاء إليه .
وَلِرَسُولِهِ : بالتَّصْدِيق بِنُبُوَّتِهِ ، والإيمان بجميع ما جاء به ، وَبَذْل الطَّاعَة لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ ، ومحبته ومحبة أتباعه .
وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : أي : حكامهم وولاة أمورهم ، بإعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به ، وطاعتهم ، وجمع الكلمة عليهم ، وأمرهم بالحق ، ورد القلوب النافرة إليهم ، وتبليغهم حاجات المسلمين ، والجهاد معهم ، والصلاة خلفهم ، وأداء الزكاة إليهم ، وترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيف ، والدعاء لهم بالصلاح .
وأما أئمة العلم فالنصيحة لهم : بث علومهم ، ونشر مناقبهم ، وتحسين الظن بهم .
وَعَامَّتِهِمْ : سائر المسلمين غير الحكام ، وذلك بالشفقة عليهم ، وإرشادهم إلى مصالحهم ، والسعي فيما يعود نفعه عليهم ، وكف الأذى عنهم ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه .

[1] رواه أحمد : 4 / 102 ، ومسلم ( 55 ) ، وأبو داود ( 4944 ) ، والنسائي ( 4197 ، 4198 ) عن تميم الداري ؛ ورواه أحمد : 1 / 351 عن ابن عباس ؛ ورواه أحمد : 2 / 297 ، والترمذي ( 1926 ) ، والنسائي ( 4199 ) عن أبي هريرة ؛ ورواه الدارمي ( 2754 ) عن ابن عمر .

[2] شرح مسلم للنووي : 2 / 37 .

[3] انظر ( النهاية في غريب الحديث ) مادة ( ن ص ح ) .
 
حكم النصيحة
النصيحة فرض على الكفاية في أصلها ، وقد يجري عليها الأحكام الخمسة ؛ قَالَ اِبْن بَطَّال - رَحِمَهُ اللَّه : وَالنَّصِيحَة فَرْضٌ يَجْزِي فِيهِ مَنْ قَامَ بِهِ ، وَيَسْقُط عَنْ الْبَاقِينَ ؛ وَالنَّصِيحَة لَازِمَة عَلَى قَدْر الطَّاقَة إِذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أَنَّهُ يُقْبَل نُصْحه ، وَيُطَاع أَمْرُهُ ، وَأَمِنَ عَلَى نَفْسه الْمَكْرُوه ؛ فَإِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسه أَذًى فَهُوَ فِي سَعَةٍ[SUP] [1] [/SUP].
قال النووي : ثُمَّ إِنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْض كِفَايَة ، إِذَا قَامَ بِهِ بَعْض النَّاس سَقَطَ الْحَرَج عَنْ الْبَاقِينَ , وَإِذَا تَرَكَهُ الْجَمِيع أَثِمَ كُلُّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ وَلَا خَوْف[SUP] [2] [/SUP].
وأما كونها يجري عليها الأحكام الخمسة : الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة ؛ فتكون فرض عين على الأمة إذا لم تقم الكفاية بها ؛ وتكون فرض عين على المسلم في حالات :
1- إذا استنصح المسلم أخاه ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ : إذَا لَقِيته فَسَلِّمْ عَلَيْهِ , وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ , وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْهُ , وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ , وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ , وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ " رواه مسلم[SUP] [3] [/SUP].
قال الصنعاني - رحمه الله - في ( سبل السلام ) قوله : " وَإِذَا اسْتَنْصَحَك " أي : طلب منك النصيحة ، " فَانْصَحْهُ " دليل على وجوب نصيحة من يستنصح ، وعدم الغش له ؛ وظاهره أنه لا يجب نصيحته إلا عند طلبها ، والنصح بغير طلب مندوب ؛ لأنه من الدلالة على الخير والمعروف[SUP] [4] [/SUP].
2- عند رؤية المنكر الذي سكت عنه الناس ، وعلمه من يستطيع تغييره ، فيجب عليه النصح إذا لم يترتب على إنكاره منكر أكبر منه ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ : مَرْوَانُ ؛ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ؛ فَقَالَ : قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ ؛ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا هَذَا ، فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ "[SUP] [5] [/SUP].
قال النووي – رحمه الله : قَوْله صلى الله عليه وسلم : " فَلْيُغَيِّرْهُ " هُوَ أَمْر إِيجَابٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة ؛ وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر : الْكِتَاب ، وَالسُّنَّة ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّة ؛ وَهُوَ - أَيْضًا - مِنْ النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ الدِّين ... قال : قَدْ يَتَعَيَّن كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَم بِهِ إِلَّا هُوَ ، أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَته إِلَّا هُوَ ، وَكَمَنْ يَرَى زَوْجَته أَوْ وَلَده أَوْ غُلَامه عَلَى مُنْكَر ، أَوْ تَقْصِير فِي الْمَعْرُوف[SUP] [6] [/SUP].
وتكون مندوبة في المندوبات ، وفي الأمور الدنيوية التي فيها مصالح الناس ، وإليه أشار الصنعاني - أنفًا - بقوله : والنصح بغير طلب مندوب ؛ لأنه من الدلالة على الخير والمعروف .ا.هـ .
وتكون حرامًا إذا ألبس الناصح التأنيب والتجريح ثوب النصيحة ؛ وإذا قصد بها الإفساد ، أو سعى للتجسس على المنصوح ، أو نصحه بما ليس فيه .
وقد تكون مكروهة إذا كان فيها إغلاظ لا تجريح فيه ، إذ الأصل في النصيحة اللين والشفقة ، قال الله تعالى : { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طـه : 44 ] ؛ فإذا كان هذا لفرعون ، فكيف بالمسلم ؟
ولا تسقط النصيحة الواجبة على الأعيان ، أو على الكفاية ، حتى إذا ظن عدم الإفادة ؛ ولا تسقط النصيحة الواجبة على الأعيان ، أو على الكفاية ، حتى إذا ظن عدم الإفادة ؛ قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَا يَسْقُط عَنْ الْمُكَلَّف الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر لِكَوْنِهِ لَا يُفِيد فِي ظَنِّهِ ، بَلْ يَجِب عَلَيْهِ فِعْلُهُ ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَع الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَمْر وَالنَّهْي لَا الْقَبُول ؛ وَكَمَا قَالَ اللَّه تعالى : { مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ } [ المائدة : 99][SUP] [7] [/SUP].

[1] نقلا عن ( المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ) للنووي : 2 / 39 .

[2] شرح مسلم للنووي : 2 / 23 .

[3] مسلم ( 2162 ) عن أبي هريرة t .

[4] سبل السلام : 2 / 613 .

[5] مسلم ( 49 ) ، من حديث أبي سعيد .

[6] شرح مسلم للنووي : 2 / 22 .

[7] نقلا عن ( شرح مسلم للنووي ) : 2 / 22 ، 23 .
 
صفة الناصح
لا يشترط في الناصح كمال الحال ؛ قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَا يُشْتَرَط فِي الْآمِر وَالنَّاهِي أَنْ يَكُون كَامِل الْحَال ، مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُر بِهِ ، مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ , بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْر وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَأْمُر بِهِ , وَالنَّهْي وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ ; فَإِنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ شَيْئَانِ أَنْ يَأْمُر نَفْسه وَيَنْهَاهَا , وَيَأْمُر غَيْره وَيَنْهَاهُ , فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا كَيْف يُبَاح لَهُ الْإِخْلَال بِالْآخَرِ ؟ قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَا يَخْتَصُّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر بِأَصْحَابِ الْوِلَايَات بَلْ ذَلِكَ جَائِز لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ ؛ قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ : وَالدَّلِيل عَلَيْهِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ غَيْر الْوُلَاة فِي الصَّدْر الْأَوَّل , وَالْعَصْر الَّذِي يَلِيه كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاة بِالْمَعْرُوفِ , وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الْمُنْكَر , مَعَ تَقْرِير الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ , وَتَرْكِ تَوْبِيخهمْ عَلَى التَّشَاغُل بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مِنْ غَيْر وِلَايَة ؛ وَاَللَّه أَعْلَم[SUP] [1][/SUP] .

[1] انظر ( المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ) للنووي : 2 / 22 .
 
أنواع النصيحة
في حديث تميم الداري رضي الله عنه ذِكْرٌ لأنواع النصيحة ، ويمكن أن تكون نوعين إجمالا :
الأول : نصيحة النفس ؛ وهي المجموعة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ " ، إذ معنى ذلك - كما قال النووي - رحمه الله : أَمَّا النَّصِيحَة لِلَّهِ تَعَالَى ، فَمَعْنَاهَا مُنْصَرِفٌ إِلَى الْإِيمَان بِهِ ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ ، وَتَرْكِ الْإِلْحَاد فِي صِفَاته ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَال وَالْجَلَال كُلّهَا ، وَتَنْزِيهه سُبْحَانه وَتَعَالَى مِنْ جَمِيع النَّقَائِص ، وَالْقِيَام بِطَاعَتِهِ ، وَاجْتِنَاب مَعْصِيَته ، وَالْحُبِّ فِيهِ ، وَالْبُغْضِ فِيهِ ، وَمُوَالَاةِ مَنْ أَطَاعَهُ ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ ، وَجِهَادِ مَنْ كَفَرَ بِهِ ، وَالِاعْتِرَافِ بِنِعْمَتِهِ ، وَشُكْرهِ عَلَيْهَا ، وَالْإِخْلَاصِ فِي جَمِيع الْأُمُور ، وَالدُّعَاء إِلَى جَمِيع الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة ، وَالْحَثّ عَلَيْهَا ، وَالتَّلَطُّف فِي جَمْع النَّاس - أَوْ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ - عَلَيْهَا .
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِكِتَابِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى ، فَالْإِيمَان بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى وَتَنْزِيلُهُ ، لَا يُشْبِههُ شَيْءٌ مِنْ كَلَام الْخَلْق ، وَلَا يَقْدِر عَلَى مِثْله أَحَد مِنْ الْخَلْق ، ثُمَّ تَعْظِيمه وَتِلَاوَته حَقَّ تِلَاوَته ، وَتَحْسِينُهَا وَالْخُشُوع عِنْدهَا ، وَإِقَامَة حُرُوفه فِي التِّلَاوَة ، وَالذَّبّ عَنْهُ لِتَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَعَرُّض الطَّاعِنِينَ ، وَالتَّصْدِيق بِمَا فِيهِ ، وَالْوُقُوف مَعَ أَحْكَامه ، وَتَفَهُّم عُلُومه وَأَمْثَاله ، وَالِاعْتِبَار بِمَوَاعِظِهِ ، وَالتَّفَكُّر فِي عَجَائِبه ، وَالْعَمَل بِمُحْكَمِهِ ، وَالتَّسْلِيم لِمُتَشَابِهِهِ ، وَالْبَحْث عَنْ عُمُومه وَخُصُوصه وَنَاسِخه وَمَنْسُوخه ، وَنَشْر عُلُومه ، وَالدُّعَاء إِلَيْهِ ، وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَصِيحَته .
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَتَصْدِيقه عَلَى الرِّسَالَة ، وَالْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ ، وَطَاعَته فِي أَمْرِهِ وَنَهْيه ، وَنُصْرَتِهِ حَيًّا وَمَيْتًا ، وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ ، وَمُوَالَاة مَنْ وَالَاهُ ، وَإِعْظَام حَقّه ، وَتَوْقِيره ، وَإِحْيَاء طَرِيقَته وَسُنَّته ، وَبَثّ دَعَوْته ، وَنَشْرِ شَرِيعَته ، وَنَفْي التُّهْمَة عَنْهَا ، وَاسْتِثَارَة عُلُومهَا ، وَالتَّفَقُّه فِي مَعَانِيهَا ، وَالدُّعَاء إِلَيْهَا ، وَالتَّلَطُّف فِي تَعَلُّمهَا وَتَعْلِيمهَا ، وَإِعْظَامهَا ، وَإِجْلَالهَا ، وَالتَّأَدُّب عِنْد قِرَاءَتهَا ، وَالْإِمْسَاك عَنْ الْكَلَام فِيهَا بِغَيْرِ عِلْم ، وَإِجْلَال أَهْلهَا لِانْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا ، وَالتَّخَلُّق بِأَخْلَاقِهِ ، وَالتَّأَدُّب بِآدَابِهِ ، وَمَحَبَّة أَهْل بَيْته وَأَصْحَابه ، وَمُجَانَبَة مَنْ اِبْتَدَعَ فِي سُنَّته ، أَوْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابه ، وَنَحْو ذَلِكَ .ا.هـ .
وهذه من أصول الإيمان ، التي لا بد أن ينصح المسلم نفسه بها ، ويجتهد في إتمامها ودوامها ؛ وما أجمل ما نقله النووي في آخر كلامه عن ( النصيحة لله ) عن الْخَطَّابِيِّ - رَحْمهما اللَّه - قال : وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَة رَاجِعَة إِلَى الْعَبْد فِي نُصْحه نَفْسه ، فَاَللَّه تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ النَّاصِح .ا.هـ . قلت : ويجري ذلك على كتاب الله تعالى ، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، إنما النصح لهما - كما تقدم - من أصول الإيمان ، التي لا بد أن ينصح المسلم نفسه بها ، ويجتهد في إتمامها ودوامها ... وللحديث صلة .
 
النوع الثاني : نصيحة الغير ، وهو ما ذكر في الحديث : " لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ "
وأئمة المسلمين هم الأمراء ، والعلماء ؛ وعامة المسلمين : هم غير الأمراء والعلماء .
النَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
أَمَّا النَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَمُعَاوَنَتهمْ عَلَى الْحَقِّ ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ ، وَأَمْرُهُمْ بِهِ ، وَتَنْبِيههمْ وَتَذْكِيرهمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ ، وَإِعْلَامهمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغهُمْ مِنْ حُقُوق الْمُسْلِمِينَ ، وَتَرْك الْخُرُوج عَلَيْهِمْ ، وَتَأَلُّف قُلُوب النَّاس لِطَاعَتِهِمْ ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّه : وَمِنْ النَّصِيحَة لَهُمْ الصَّلَاة خَلْفهمْ ، وَالْجِهَاد مَعَهُمْ ، وَأَدَاء الصَّدَقَات إِلَيْهِمْ ، وَتَرْك الْخُرُوج بِالسَّيْفِ عَلَيْهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ عِشْرَة ، وَأَنْ لَا يُغَرُّوا بِالثَّنَاءِ الْكَاذِب عَلَيْهِمْ ، وَأَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالصَّلَاحِ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاء وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَقُوم بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَاب الْوِلَايَاتِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور . وَحَكَاهُ أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ ؛ ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ يُتَأَوَّل ذَلِكَ عَلَى الْأَئِمَّة الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاء الدِّين ، وَأَنَّ مِنْ نَصِيحَتهمْ قَبُول مَا رَوَوْهُ ، وَتَقْلِيدهمْ فِي الْأَحْكَام ، وَإِحْسَان الظَّنِّ بِهِمْ .ا.هـ .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أيتها الرعية ، إن لنا عليكم حقًّا : النصيحة بالغيب ، والمعاونة على الخير[SUP] [1] [/SUP].
والأولى في نصح أولي الأمر أن يكون سرًّا ، لما في العلانية من فتح بابٍ للفتنة والشر ؛ ففي مسند أحمد عن شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيُّ - وَغَيْرُهُ - قَالَ : جَلَدَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ صَاحِبَ دَارِيَا حِينَ فُتِحَتْ ؛ فَأَغْلَظَ لَهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ الْقَوْلَ ، حَتَّى غَضِبَ عِيَاضٌ ؛ ثُمَّ مَكَثَ لَيَالِيَ فَأَتَاهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ ؛ ثُمَّ قَالَ هِشَامٌ لِعِيَاضٍ : أَلَمْ تَسْمَعْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا أَشَدَّهُمْ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لِلنَّاسِ " ، فَقَالَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ : يَا هِشَامُ بْنَ حَكِيمٍ ؛ قَدْ سَمِعْنَا مَا سَمِعْتَ ، وَرَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ ، فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً ، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ " ، وَإِنَّكَ يَا هِشَامُ لَأَنْتَ الْجَرِيءُ ، إِذْ تَجْتَرِئُ عَلَى سُلْطَانِ اللَّهِ ، فَهَلَّا خَشِيتَ أَنْ يَقْتُلَكَ السُّلْطَانُ ، فَتَكُونَ قَتِيلَ سُلْطَانِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى[SUP] [2] [/SUP]؟!
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : قِيلَ لِأُسَامَةَ : لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا ( أي عثمان رضي الله عنه ) فَكَلَّمْتَهُ ! قَالَ : إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ ، إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ ، دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ ؛ وفي رواية لمسلم : قِيلَ لَهُ : أَلاَ تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ ؟! فَقَالَ : أَتُرَوْنَ أَنِّى لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ ، وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا ، لاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ[SUP] [3] [/SUP].
قال ابن حجر - رحمه الله : أي كلمته فيما أشرتم إليه ، لكن على سبيل المصلحة والأدب في السرِّ ، بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها[SUP] [4] [/SUP]؛ ونقل عن عياض قوله : مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام ، لما يخشى من عاقبة ذلك ، بل يتلطف به وينصحه سرًّا ، فذلك أجدر بالقول [SUP][5] [/SUP].ا.هـ .
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سئل عن أمر السلطان بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ؛ فقال : إن كنت فاعلاً ولابد ، ففيما بينك وبينه[SUP] [6] [/SUP].
قال ابن الجوزي - رحمه الله : الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ ، فأما تَخْشِين القول نحو : يا ظالم ! يا من لا يخاف الله ! فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شررها إلى الغير ، لم يجز ؛ وإن لم يخف إلا على نفسه ، فهو جائز عند جمهور العلماء ... قال : والذي أراه المنع من ذلك ؛ لأن المقصود إزالة المنكر ، وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكبر من فعل المنكر الذي قصد إزالته[SUP] [7] [/SUP].
وقال الشوكاني - رحمه الله : ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد ؛ بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ، ويبذل له النصيحة ، ولا يذل سلطان الله . ولا يجوز الخروج على الأئمة ، وإن بلغو في الظلم أي مبلغ ، ما أقاموا الصلاة ، ولم يظهر الكفر البواح ؛ والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة ، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ، ويعصيه في معصية الله ؛ فإنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق[SUP][8] [/SUP].ا.هـ .

[1] رواه هناد بن السري في ( الزهد ) : 2 / 602 .

[2] رواه أحمد : 3 / 403 ، ورواه الطبراني في الكبير : 17 / 367 ( 1007 ) ، وصححه الحاكم ( 5269 ) .

[3] البخاري ( 3094 ) ، ومسلم ( 2989 ) .

[4] انظر ( فتح الباري ) : 13/ 51 .

[5] انظر ( فتح الباري ) : 13/ 52 .

[6] ذكره الحافظ ابن رجب في (جامع العلوم والحكم ) ص 82 .

[7] نقلا ( الآداب الشرعية لابن مفلح ) : 1 / 197 .

[8] انظر ( السيل الجرار ) : 4 / 556 ، باختصار .
 
نَصِيحَة عَامَّة الْمُسْلِمِينَ
أَمَّا نَصِيحَة عَامَّة الْمُسْلِمِينَ ، وَهُمْ مَنْ عَدَا وُلَاة الْأَمْر ، فَإِرْشَادهمْ لِمَصَالِحِهِمْ فِي آخِرَتهمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَكَفّ الْأَذَى عَنْهُمْ ؛ فَيُعَلِّمهُمْ مَا يَجْهَلُونَهُ مِنْ دِينهمْ ، وَيُعِينهُمْ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل ، وَسِتْرُ عَوْرَاتهمْ ، وَسَدُّ خَلَّاتهمْ ، وَدَفْع الْمَضَارِّ عَنْهُمْ ، وَجَلْب الْمَنَافِع لَهُمْ ، وَأَمْرهمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهْيهمْ عَنْ الْمُنْكَر ، بِرِفْقٍ وَإِخْلَاصٍ ، وَالشَّفَقَة عَلَيْهِمْ ، وَتَوْقِيرُ كَبِيرهمْ ، وَرَحْمَةُ صَغِيرهمْ ، وَتَخَوُّلهمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة ، وَتَرْك غِشِّهِمْ وَحَسَدِهِمْ ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْر ، وَيَكْرَه لَهُمْ مَا يَكْرَه لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَكْرُوه ، وَالذَّبُّ عَنْ أَمْوَالهمْ وَأَعْرَاضهمْ ، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل ، وَحَثّهمْ عَلَى التَّخَلُّق بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاع النَّصِيحَة ، وَتَنْشِيط هَمِّهِمْ إِلَى الطَّاعَات ؛ وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَف رضي الله عنهم مَنْ تَبْلُغ بِهِ النَّصِيحَة إِلَى الْإِضْرَار بِدُنْيَاهُ ؛ وَاَللَّه أَعْلَم[SUP] [1][/SUP] .

[1] انظر كلام النووي فيما ذكرنا من أنواع النصيحة ، في ( المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ) : 2 / 37 : 39 .
 
آداب النصيحة
للنصيحة آداب لكل من الناصح والمنصوح ؛ قبل النصيحة ، وأثناءها ، وبعدها ؛ وإليك بيانها .
أولا : آداب للناصح قبل النصيحة
لا بد أن يتهيأ الناصح لنصيحة من يريد نصحه بآداب ، أهمها :
1- الإخلاص ؛ إذ الإخلاص شرط لقبول العمل الصالح ، والنصيحة من أرفع الأعمال الصالحة ، وعند النسائي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا ، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ "[SUP] [1] [/SUP]؛ وتقدم في تعريف القرطبي للنصيحة : النصح إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة ، بخلاف الغش .ا.هـ .
فالناصح عليه أن يصفي نفسه من شوائب الغش وحظوظ النفس ، لتكون النصيحة صادقة ، وتقع موقعها من المنصوح ، وتكون محلا لقبول الله تعالى لها .
2 – ينبغي للناصح أن يكون صادقًا مع نفسه في النصح قبل أن ينصح غيره ؛ فيهتم بالنظر في عيوبه قبل أن يهمه عيب غيره ، فنفسه أولى بالنصح ؛ وعند ذلك يقبل منه ، وينتفع به ، وليحذر أن ينصح من شيء هو قائم عليه ، أو عيب هو فيه ، لا سيما إن كان ذلك لا يخفى على المنصوح ، فيعكس عليه نصيحته ، ولا يقبلها منه ؛ ولله در القائل :
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبدًا وأنت من الرشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم


[1] النسائي ( 3140 ) ، وصححه الألباني في ( الصحيحة ) رقم 52 .
 
3 - يجب على الناصح أن يحب للمنصوح ما يحب لنفسه ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ "[SUP] [1] [/SUP]؛ ومقتضاه : ويكره له ما يكره لنفسه ؛ فلينظر بما يحب أن يقال له عند النصيحة ، وليكن قوله بمثلها ؛ وقد تقدم أن معنى النصيحة : تصفية النفس من الغش للمنصوح له .
4 - أن يقدم الناصح بين يديه إحسان الظن ؛ إذ هو الأصل في المسلم ، إلا أن يظهر عكس ذلك ببينة ؛ كما قال جل جلاله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] ؛ وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا : " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ؛ وَلَا تَحَسَّسُوا ، وَلَا تَجَسَّسُوا ، وَلَا تَنَافَسُوا ، وَلَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا "[SUP] [2] [/SUP].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لا تظنن بكلمة خرجت من فِيِّ امرئ مسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملا[SUP] [3] [/SUP]؛ وقال محمد بن سيرين : إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ؛ فإن لم تجد له عذرًا ، فقل : له عذر[SUP] [4] [/SUP]. وعن سعيد بن المسيب قال : كتب إلى بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ، ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا ، وأنت تجد له في الخير محملا[SUP] [5] [/SUP].
5 - ليس للناصح أن يتتبع عورة المسلم بحجة نصحه ، وإنما ما ظهر من شيء يحتاج إلى نصح نصحه فيه ، وما كان خفيًّا ستره ؛ روى الترمذي عَنِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ : صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ ، فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ " ، قَالَ : وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ[SUP] [6] [/SUP].


[1] البخاري ( 13 ) ، ومسلم ( 45 ) من حديث أنس t .

[2] البخاري ( 6064 ، 6066 ) ، ومسلم ( 2563 ) عن أبي هريرة .

[3] رواه المحاملي في ( أماليه ) رقم 460 .

[4] رواه البيهقي في ( شعب الإيمان ) رقم 8342 .

[5] رواه البيهقي في ( شعب الإيمان ) رقم 8345 .

[6] رواه الترمذي ( 2032 ) ، وحسنه ؛ ورواه أحمد : 4 / 420 ، 424 ، وأبو داود ( 4880 ) عن أبي برزة t ؛ ورواه أبي يعلى ( 1675 ) عن البراء t ، ورواه الطبراني في الكبير : 11 / 186 ( 11444 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
 
6 - أن يكون الناصح عالِمًا بما يقوم بالنصح به : وَذَلِكَ يَخْتَلِف - كما يقول النووي رحمه الله - بِاخْتِلَافِ الشَّيْءِ ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْوَاجِبَات الظَّاهِرَة ، وَالْمُحَرَّمَات الْمَشْهُورَة كَالصَّلَاةِ ، وَالصِّيَام ، وَالزِّنَا ، وَالْخَمْر ، وَنَحْوِهَا ، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاء بِهَا ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِق الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال ، وَمِمَّا يَتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مَدْخَل فِيهِ ، وَلَا لَهُمْ إِنْكَاره ، بَلْ ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ ؛ ثُمَّ الْعُلَمَاء إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ ، أَمَّا الْمُخْتَلَف فِيهِ فَلَا إِنْكَار فِيهِ ؛ لِأَنَّ عَلَى أَحَد الْمَذْهَبَيْنِ كُلّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد كَثِيرِينَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَوْ أَكْثَرهمْ ؛ وَعَلَى الْمَذْهَب الْآخَر الْمُصِيب وَاحِد ، وَالْمُخْطِئُ غَيْر مُتَعَيَّن لَنَا ، وَالْإِثْم مَرْفُوع عَنْهُ ؛ لَكِنْ إِنْ نَدَبَهُ عَلَى جِهَة النَّصِيحَة إِلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف فَهُوَ حَسَن مَحْبُوب مَنْدُوب إِلَى فِعْلِهِ بِرِفْقٍ ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى الْحَثّ عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف ، إِذَا لَمْ يَلْزَم مِنْهُ إِخْلَال بِسُنَّةٍ ، أَوْ وُقُوعٍ فِي خِلَاف آخَر[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وقد أحسن من قال :
ولا يُعَذَبُ اتفَاقًا فَرْدُ ... فِيمَا فِيهِ الْخِلافُ يَرِدُ
وهذا في اختلاف التنوع ، وهو غالبًا في المسائل الفقهية التي فيها اجتهاد في فهم النص ، أو اجتهاد فيما لا نص فيه ، والأمر فيها واسع ؛ وقد وسِعَ سلفنا ، فيسعنا .
فيجب على الناصح أن يكون عالِمًا بما سينصح به ، وإلا سيخطئ حتمًا .

[1] انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 2 / 23 .
 
7 - التَّثَبُّت من الأمر المنصوح فيه ؛ وهذا أمر مهم جدًّا ، حتى لا يقع الناصح في ظلم من يظن أنه ينصحه ؛ وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الحجرات : 6 ] .
ومن عَجَبٍ أن يسارع المرء باتهام برئ لأنه بلغه عنه شيء لم يتثبت منه ، والأعجب أنه لا يذكر له هذا الشيء ، فيتضح الأمر ! ولكنه قد اعتقد صدق الناقل فظلم من ظنَّ أنه له ناصح ، فباء بإثم .
اللهم من كان من أمة محمد على غير الحق ، وهو يظن أنه على الحق فردَّه إلى الحق ردًّا جميلا حتى يكون من أهل الحق .
 
ثانيا : آداب للناصح أثناء النصيحة
بعد أن يتهيأ الناصح بما ذكرنا من آداب ، يلزمه أثناء النصيحة الآداب التالية :
1 – أن تكون النصيحة سرًّا ، وهذا أدعى لقبولها ، قال ابن كثير - رحمه الله : { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسهمْ قَوْلًا بَلِيغًا } [ النساء : 63 ] ، أَيْ : وَانْصَحْهُمْ فِيمَا بَيْنك وَبَيْنهمْ ، بِكَلَامٍ بَلِيغ رَادِع لَهُمْ .ا.هـ[SUP] [1] [/SUP]. وقال السعدي – رحمه الله : أي : انصحهم سرًّا ، بينك وبينهم ، فإنه أنجح لحصول المقصود[SUP] [2] [/SUP]؛ وقال بعضهم : من وعظ أخاه فيما بينه وبينه ، فهي نصيحة ؛ ومن وعظه على رؤوس الناس ، فإنما وبخه .
قال ابن رجب – رحمه الله : وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ( أي : العلانية ) ، ويحبون أن يكون سرًّا فيما بين الآمر والمأمور ، فإن هذا من علامات النصح ، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له ، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها[SUP] [3] [/SUP].
قال الشافعي - رحمه الله :
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي ... وجنِّني النصيحة َ في الجماعهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ ... من التوبيخِ لا أرضى استماعه
وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي ... فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه
قال الغزالي - رحمه الله : الفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ، كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء ؛ فإن أغضيت لسلامة دينك ، ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء ؛ فأنت مدار ، وإن أغضيت لحظ نفسك ، واجتلاب شهواتك ، وسلامة جاهك ؛ فأنت مداهن ( أي : مخادع )[SUP] [4][/SUP] .

[1] انظر ( تفسير ابن كثير ) عند الآية ( 63 ) من سورة النساء .

[2] انظر ( تفسير السعدي ) عند الآية ( 63 ) من سورة النساء .

[3] ( الفرق بين النصيحة والتعيير ) ص 18/ - تحقيق : بشير محمد عيون /مكتبة دار البيان - مكتبة المؤيد - الطبعة الأولى : دمشق - بيروت 1413 هـ / 1992 م .

[4] انظر ( إحياء علوم الدين ) : 2 / 182 .
 
2 - بذل كل الطرق للنصح ؛ وهذا من علامات الإخلاص ، قال معمر - رحمه الله : كان يقال : أنصح الناس من يخاف الله عز وجل فيك[SUP] [1] [/SUP]؛ وإذا خاف الله فيك بذل كل الطرق في نصحك ، لأن غايته أن يأخذ بيدك إلى الله تعالى ، فهو يتلمس كل الطرق المشروعة في ذلك .
وقال الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا } [ النساء : 63 ] ؛ قال ابن عاشور - رحمه الله : فهذا الإعراض إعراض صفح ، أو إعراض عدم الحزن من صدودهم عنك ، أي : لا تهتم بصدودهم ، فإن الله مجازيهم ، بدليل قوله : { وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا } ، وذلك إبلاغ لهم في المعذرة ، ورجاء لصلاح حالهم ، شأن الناصح الساعي بكل وسيلة إلى الإرشاد والهدى[SUP] [2][/SUP] .ا.هـ .

[1] رواه ابن المبارك في ( الزهد ) ص 485 .

[2] انظر ( التحرير والتنوير ) عند الآية ( 63 ) من سورة النساء .
 
4 - عدم التوبيخ والتثريب ؛ وتقدم معنى التوبيخ ، والفرق بينه وبين النصيحة ، والتثريب : التعيير ؛ قال ابن رجب - رحمه الله : فإذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه ، كان ذلك حسنًا لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منه ، إن كان له منه عذر ؛ وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب ، فهو قبيح مذموم ؛ وقيل لبعض السلف : أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك ؟ فقال : ( إن كان يريد أن يوبخني فلا ) ؛ فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم ، ولا يرضاه أحد[SUP] [1] [/SUP].ا.هـ .
وليس ذلك من صفة المؤمن في حال نصحه ؛ قال الفضيل بن عياض - رحمه الله : والمؤمن يستر ويعظ وينصح ، والفاجر يهتك ويعير ويفشي[SUP] [2] [/SUP].
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُثَرَّبَ على الأمة الزانية ، مع أمره بجلدها ؛ فتجلد الحدَّ ، ولا تعير بالذنب ولا توبخ به .

[1] انظر ( الفرق بين النصيحة والتعيير ) ص 7 .

[2] حلية الأولياء : 8 / 95 .
 
الرفق بالمنصوح ؛ إذ في الرفق الخير كله ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ "[SUP] [1] [/SUP]؛ وفي الصحيحين أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ : دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكُمْ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : فَفَهِمْتُهَا ، فَقُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ؛ قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَهْلًا يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ "[SUP] [2] [/SUP].
وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ ، وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ "[SUP] [3] [/SUP]. وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ "[SUP] [4] [/SUP].
والرفق هو لين الجانب بالقول والفعل ، والأخذ بالأسهل ، وهو ضد العنف ؛ قال النووي – رحمه الله : وفي هذه الأحاديث فضل الرفق ، والحث على التخلق به ، وذم العنف ؛ والرفق سبب كل خير ، ومعنى " وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ " ، أي : يثيب عليه ما لا يثيب على غيره ؛ وقال القاضي : معناه يتأتى به من الأغراض ، ويسهل من المطالب ما لا يتأتى بغيره [SUP][5][/SUP] .ا.هـ . وقال في موضع آخر : وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ، ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب ؛ فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : من وعظ أخاه سرًّا ، فقد نصحه وزانه ؛ ومن وعظه علانية ، فقد فضحه وشانه[SUP] [6][/SUP] .

[1] مسلم ( 2592 ) ، ورواه البخاري في الأدب المفرد ( 463 ) .

[2] البخاري ( 5678 ، 6032 ) ، ومسلم ( 2165 ) .

[3] مسلم ( 2593 ) .

[4] مسلم ( 2594 ) .

[5] شرح النووي على مسلم : 16 / 145 .

[6] نقلا عن ( شرح النووي على مسلم ) : 2 / 24 .
 
6 - احْتِمَال الْأَذَى عند بَذْل النَّصِيحَة ؛ فإن من يتعرض لنصح الناس ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، غالبًا ما يتعرض لنوع إيذاء ، ومن هنا قال لقمان لابنه وهو يعظه : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } [ لقمان : 17 ] ؛ فلا بد للناصح أن يهيئ نفسه لاحتمال الأذى ، والصبر على المنصوح .
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ ، فَقَالَ : " اتَّقِي اللَّهَ ، وَاصْبِرِي " ، قَالَتْ : إِلَيْكَ عَنِّي ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي ! وَلَمْ تَعْرِفْهُ ، فَقِيلَ لَهَا : إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ ، فَقَالَتْ : لَمْ أَعْرِفْكَ ، فَقَالَ : " إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى "[SUP] [1][/SUP] ، قال ابن حجر - رحمه الله : وَفِيهِ التَّرْغِيب فِي اِحْتِمَال الْأَذَى عِنْد بَذْل النَّصِيحَة وَنَشْر الْمَوْعِظَة[SUP] [2] [/SUP].ا.هـ.

[1] البخاري ( 1223 ) وهذا لفظه ، ومسلم ( 926 ) .

[2] انظر ( فتح الباري ) : 3 / 150 .




 
7 - لا يداهن المنصوح ولا يغشه ، وخاصة عند طلب النصيحة ؛ لقَوْله صلى الله عليه وسلم : " وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْهُ " قال النووي – رحمه الله : واذا استنصحك فمعناه طلب منك النصيحة فعليك أن تنصحه ، ولا تداهنه ، ولا تغشه ، ولا تمسك عن بيان النصيحة[SUP] [1] [/SUP].
والمداهنة : المخادعة ، يقال : داهنتُ الرجل مداهنةً ودِهانًا ، إذا واربته فأظهرت له خلافَ ما تضمر ؛ وأدهنتُ إدهانًا ، فأنا مُدْهِنْ : إذا غششت [SUP][2] [/SUP]؛ والغش ضد النصيحة ، فعليه أن يخلص في نصحه كما لو كان ناصحًا لنفسه ، أو كما يحب أن ينصحه غيره .

[1] شرح النووي على مسلم : 14 / 143 .

[2] انظر لسان العرب باب النون فصل الدال ، والمعجم الوسيط باب الدال ( دهن ) .
 
آداب تتعلق بالمنصوح
وهذه آداب تتعلق بالمنصوح :
أولا : قبول النصيحة ؛ فيجب على المنصوح أن يقبل نصيحة الناصح ؛ لا سيما إذا كانت بآدابها التي أسلفنا ، وإن كان له ردٌّ فيفصح عنه ، ولا يغضب من نصح الناصح ، لأنه يريد له الخير ؛ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا إِذَا قِيلَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ ، غَضِبَ[SUP] [1] [/SUP].

[1] الطبراني في الكبير : 9 / 114 ( 8588 ) ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 7 / 211 ) : رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح .
 
ثانيًا : الصبر على أذى الناصح ؛ فقد يكون الناصح يريد الخير للمنصوح ، لكنه يخطئ في العرض ، ويظهر منه بعض غلظة ، فينبغي على المنصوح أن يصبر على مثل ذلك ، لا سيما إذا علم من الناصح سلامة الطوية .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبر الناس على أذى الناس ؛ ففي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةً ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ ! فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ ؛ وَقَالَ : " رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى ، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ "[SUP] [1] [/SUP]؛ وتَمَعَّرَ ، أَيْ : انقبض وتغير ؛ وبوَّب عليه البخاري ( باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه ) قال ابن حجر - رحمه الله : وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِالتَّرْجَمَةِ بَيَان جَوَاز النَّقْل عَلَى وَجْه النَّصِيحَة , لِكَوْنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِر عَلَى اِبْن مَسْعُود نَقْله مَا نَقَلَ , بَلْ غَضِبَ مِنْ قَوْل الْمَنْقُول عَنْهُ , ثُمَّ حَلُمَ عَنْهُ ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُ اِئْتِسَاءً بِمُوسَى عليه السلام ، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهِ }[SUP] [2] [/SUP].ا.هـ .
وقال في موضع آخر : قال بعض أهل العلم : الصبر على الأذى جهاد النفس ، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ، ويقال فيها ؛ ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة ، لكنه حلم عن القائل ، فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين ، وأن الله تعالى يأجره بغير حساب[SUP] [3][/SUP] .

[1] البخاري ( 5712 ) .

[2] انظر ( فتح الباري ) : 10 / 476 .

[3] انظر ( فتح الباري : 10 / 511 ، 512 .
 
بين النصيحة واستجابة المنصوح
الناصح مأمور بالنصيحة ، غير مطالب باستجابة المنصوح ، فعليه أن يتأدب بآدابها ، ويؤديها ، وليس عليه غير ذلك ؛ قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ } [ الشورى : 48 ] ، ذلك لأن الهداية بيد الله تعالى ؛ قال نوح لقومه : { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ هود : 34 ] ؛ قال السعدي – رحمه الله : أي : إن إرادة الله غالبة , فإنه إذا أراد أن يغويكم - لردِّكم الحقَّ - فلو حرصت غاية مجهودي , ونصحت لكم أتم النصح ؛ فليس ذلك بنافع لكم شيئًا ، { هُوَ رَبُّكُمْ } يفعل بكم ما يشاء , ويحكم فيكم بما يريد ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم[SUP]( [1][/SUP] ) .

[1] انظر ( تفسير السعدي ) عند الآية ( 34 ) من سورة هود .
 
أقسام الناس مع النصيحة
الناس مع النصيحة أقسام ، فمنهم من يقبل النصيحة ، ويشكر لناصحه ، ثم يسعى في إصلاح نفسه ؛ وهذا ينتفع بالنصح ، ويُرجى له النجاة .
ومنهم من يجادل عن نفسه ، فإن ظهر له الحق اتبعه ؛ فهذا - أيضًا - ينتفع بالنصيحة ، ويرجى له النجاة .
ومنهم من يجادل عن نفسه ليتعلل لخطئه ، ولا يقبل الحقَّ ولو كان واضحًا ، وفي مثل هؤلاء قال ابن القيم – رحمه الله : إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها ، لا منفذ لها فيه ؛ فإنه لا يقبلها ، ولا تلج فيه ، لكن تمر مجتازة لا مستوطنة[SUP] [1] [/SUP].ا.هـ .
وهذا يخشى عليه ، فإنه على خطر عظيم ، إذ في النصيحة إفاقة من الغفلة ، وبيان لطريق النجاة ، فإذا لم يفق ، ولم يصحح طريقه ، فهو بلا شك على خطر عظيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
والنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار ؛ لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه ؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار ، الذين يحسون في النصيحة تنقصًا لأقدارهم[SUP] [2][/SUP] .

[1] انظر ( الفوائد ) ص 30 .

[2] انظر ( في ظلال القرآن ) عند الآية ( 142 ) من سورة الأعراف .
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: هذه رسالة نافعة للناصح والمنصوح له على السواء، فيها الحثّ على ضرورة التحلّي بالأخلاق الفاضلة والآداب الرفيعة، وقد نبّه صاحبها على أمور دقيقة قد تخفى على بعضنا، أسأل الله تعالى أن يتقبلها منه وأن يوفقني وإخواني المسلمين للعمل بمقتضاها، إنّه سبحانه هو البرّ الرحيم.
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى