abohamzahashhame
New member
- إنضم
- 23/06/2004
- المشاركات
- 20
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى يقول حاثا على القتال في سبيل الله :
{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111)
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (112) سورة التوبة
وهذه الآية هي الوحيدة التي قدم فيها الجهاد بالنفس على الجهاد بالمال بعكس بقية الآيات
وذلك لعظم البيع والشراء
وهي أهم آية في كتاب الله تعالى تحث على القتال
*************
إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين . .
اللّه - سبحانه - فيها هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع . فهي بيعة مع اللّه لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون اللّه - سبحانه - ودون الجهادفي سبيله لتكون كلمة اللّه هي العليا , وليكون الدين كله للّه . فقد باع المؤمن للّه في تلك الصفقة نفسه وماله مقابل ثمن محدد معلوم , هو الجنة:وهو ثمن لا تعدله السلعة , ولكنه فضل اللّه ومَنَّه:
(إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون , وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . ومن أوفى بعهده من اللّه ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به , وذلك هو الفوز العظيم) .
والذين باعوا هذه البيعة , وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة , ذات صفات مميزة . .
منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع اللّه في الشعور والشعائر ; ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين اللّه في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود اللّه في أنفسهم وفي سواهم:
(التائبون , العابدون , الحامدون , السائحون , الراكعون الساجدون , الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر , والحافظون لحدود اللّه . وبشر المؤمنين) .
*************
وهذه الآية تكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه , وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة . فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف [ المؤمن ] وتتمثل فيه حقيقة الإيمان . وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق !
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة - أن اللّه - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم ; فلم يعد لهم منها شيء . .
لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله . لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . . كلا . . إ
نها صفقة مشتراة , لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء , وفق ما يفرض ووفق ما يحدد , وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم , لا يتلفت ولا يتخير , ولا يناقش ولا يجادل , ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . .
والثمن:
هو الجنة . .
والطريق:هو الجهاد والقتل والقتال . .
والنهاية:هي النصر أو الاستشهاد:
(إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون) . .
من بايع على هذا . من أمضى عقد الصفقة . من ارتضى الثمن ووفى . فهو المؤمن . . فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا . .
ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا , وإلا فهو واهب الأنفس والأموال , وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً ; وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع اللّه - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده ; وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ; ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:. .
شر البهيمة . .(إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) . .
كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء .
****************
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ; ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم , أو يحسونها مجردة في مشاعرهم . كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها . لتحويلها إلى حركة منظورة , لا إلى صورة متأملة . .
هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة - رضي اللّه عنه - في بيعة العقبة الثانية . قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة رضي اللّه عنه , لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - [ يعني ليلة العقبة ] -:
اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال:
"الجنة " " . قالوا:
ربح البيع , ولا نقيل ولا نستقيل . .
هكذا . .
" ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل " . .
لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين ; انتهى أمرها , وأمضي عقدها , ولم يعد إلى مرد من سبيل:" لا نقيل ولا نستقيل " فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ; والجنة:ثمن مقبوض لا موعود !
أليس الوعد من اللّه ? أليس اللّه هو المشتري ? أليس هو الذي وعد الثمن . وعداً قديماً في كل كتبه:
(وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن) . .
(ومن أوفى بعهده من اللّه ?) .
أجل ! ومن أوفى بعهده من اللّه ?
*****************
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . .
كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه . .
إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: (ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) . .
(ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً) . .
إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه . ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق ! . .
بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . .
إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . .
بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . .
ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً ! . .
وما دام في "الأرض" كفر . وما دام في "الأرض" باطل . وما دامت في "الأرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل اللّه ماض , والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء . وإلا فليس بالإيمان:و " من مات ولم يغز , ولم يحدث نفسه بغزو , مات على شعبة من النفاق " . . . [ رواه الإمام أحمد , وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ] .
*****************
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . كل مؤمن على الإطلاق . منذ كانت الرسل , ومنذ كان دين اللّه . .
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ; إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة , والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:
(التائبون . العابدون . الحامدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله) . .
(التائبون) . .
مما أسلفوا , العائدون إلى اللّه مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى , وتوجه إلى اللّه فيما بقي , وكف عن الذنب , وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك . فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .
(العابدون) . .
المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية , إقراراً بالربوبية . . صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر , كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .
(الحامدون) . .
الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ; وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة , وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة . وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها , ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه , مهما خفي على العباد إدراكه .
(السائحون) . .
وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول:إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول:إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول:
إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول:
إنهم الصائمون . .
ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه , ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر:
(إن في خلق السماوات والأرض . واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب , الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ! . . .) . .
فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه , وإدراك حكمته في خلقه , وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك . .
(الراكعون الساجدون) . .
الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ; وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
(الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) . .
وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه , فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه , يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ; ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . .
(والحافظون لحدود اللّه) . .
وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس . ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . . ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله ; وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ; ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . .
****************
وقد قمت بشرحها مفصلا من كتب التفسير المشهورة قديما وحديثا
ومن كتب الفقه والأصول المشهورة
ومن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم رحمه الله
ومن كتب أخرى تعرضت لتفسير هذه الآية والاحتجاج بها
***********
سائلا المولى سبحانه وتعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره
قال تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 13) سورة الصف
6 جمادى الأولى 1426 هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى يقول حاثا على القتال في سبيل الله :
{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (111)
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (112) سورة التوبة
وهذه الآية هي الوحيدة التي قدم فيها الجهاد بالنفس على الجهاد بالمال بعكس بقية الآيات
وذلك لعظم البيع والشراء
وهي أهم آية في كتاب الله تعالى تحث على القتال
*************
إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين . .
اللّه - سبحانه - فيها هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع . فهي بيعة مع اللّه لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون اللّه - سبحانه - ودون الجهادفي سبيله لتكون كلمة اللّه هي العليا , وليكون الدين كله للّه . فقد باع المؤمن للّه في تلك الصفقة نفسه وماله مقابل ثمن محدد معلوم , هو الجنة:وهو ثمن لا تعدله السلعة , ولكنه فضل اللّه ومَنَّه:
(إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون , وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . ومن أوفى بعهده من اللّه ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به , وذلك هو الفوز العظيم) .
والذين باعوا هذه البيعة , وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة , ذات صفات مميزة . .
منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع اللّه في الشعور والشعائر ; ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين اللّه في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود اللّه في أنفسهم وفي سواهم:
(التائبون , العابدون , الحامدون , السائحون , الراكعون الساجدون , الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر , والحافظون لحدود اللّه . وبشر المؤمنين) .
*************
وهذه الآية تكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه , وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة . فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف [ المؤمن ] وتتمثل فيه حقيقة الإيمان . وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق !
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة - أن اللّه - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم ; فلم يعد لهم منها شيء . .
لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله . لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . . كلا . . إ
نها صفقة مشتراة , لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء , وفق ما يفرض ووفق ما يحدد , وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم , لا يتلفت ولا يتخير , ولا يناقش ولا يجادل , ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . .
والثمن:
هو الجنة . .
والطريق:هو الجهاد والقتل والقتال . .
والنهاية:هي النصر أو الاستشهاد:
(إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون) . .
من بايع على هذا . من أمضى عقد الصفقة . من ارتضى الثمن ووفى . فهو المؤمن . . فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا . .
ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا , وإلا فهو واهب الأنفس والأموال , وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً ; وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع اللّه - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده ; وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ; ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:. .
شر البهيمة . .(إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) . .
كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء .
****************
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ; ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم , أو يحسونها مجردة في مشاعرهم . كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها . لتحويلها إلى حركة منظورة , لا إلى صورة متأملة . .
هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة - رضي اللّه عنه - في بيعة العقبة الثانية . قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة رضي اللّه عنه , لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - [ يعني ليلة العقبة ] -:
اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال:
"الجنة " " . قالوا:
ربح البيع , ولا نقيل ولا نستقيل . .
هكذا . .
" ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل " . .
لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين ; انتهى أمرها , وأمضي عقدها , ولم يعد إلى مرد من سبيل:" لا نقيل ولا نستقيل " فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ; والجنة:ثمن مقبوض لا موعود !
أليس الوعد من اللّه ? أليس اللّه هو المشتري ? أليس هو الذي وعد الثمن . وعداً قديماً في كل كتبه:
(وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن) . .
(ومن أوفى بعهده من اللّه ?) .
أجل ! ومن أوفى بعهده من اللّه ?
*****************
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . .
كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه . .
إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: (ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) . .
(ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً) . .
إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه . ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق ! . .
بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . .
إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . .
بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . .
ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً ! . .
وما دام في "الأرض" كفر . وما دام في "الأرض" باطل . وما دامت في "الأرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل اللّه ماض , والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء . وإلا فليس بالإيمان:و " من مات ولم يغز , ولم يحدث نفسه بغزو , مات على شعبة من النفاق " . . . [ رواه الإمام أحمد , وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ] .
*****************
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . كل مؤمن على الإطلاق . منذ كانت الرسل , ومنذ كان دين اللّه . .
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ; إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة , والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:
(التائبون . العابدون . الحامدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله) . .
(التائبون) . .
مما أسلفوا , العائدون إلى اللّه مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى , وتوجه إلى اللّه فيما بقي , وكف عن الذنب , وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك . فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .
(العابدون) . .
المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية , إقراراً بالربوبية . . صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر , كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .
(الحامدون) . .
الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ; وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة , وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة . وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها , ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه , مهما خفي على العباد إدراكه .
(السائحون) . .
وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول:إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول:إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول:
إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول:
إنهم الصائمون . .
ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه , ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر:
(إن في خلق السماوات والأرض . واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب , الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك ! . . .) . .
فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى اللّه , وإدراك حكمته في خلقه , وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك . .
(الراكعون الساجدون) . .
الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم ; وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
(الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) . .
وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة اللّه , فيدين للّه وحده ولا يدين لسواه , يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ; ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . .
(والحافظون لحدود اللّه) . .
وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس . ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . . ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله ; وإلا الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ; ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . .
****************
وقد قمت بشرحها مفصلا من كتب التفسير المشهورة قديما وحديثا
ومن كتب الفقه والأصول المشهورة
ومن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم رحمه الله
ومن كتب أخرى تعرضت لتفسير هذه الآية والاحتجاج بها
***********
سائلا المولى سبحانه وتعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره
قال تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 13) سورة الصف
6 جمادى الأولى 1426 هـ