مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
المفردة القرآنية .. المراحل التي تمرُّ بها حال تفسيرها
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله الطيبين ، وعلى صحبه الكرام ، وعلى من تابعهم إلى يوم القيام ، أما بعد :
فقد أدرتُ الفِكْرَ في المفردة القرآنية ، فظهر لي في دراستي لها عدد من الموضوعات التي قد تكون مطروقة لكنها تحتاج إلى جمع في مكان واحدٍ يتعلق بالمفردة القرآنية ، التي قد تختصُّ ببعض المعاني التي لا تجدها في دراسة الدارسين للغة العرب .
ومما طرأ لي في هذا الموضوع أنَّ ألفاظ القرآن لا تخرج عن خمس مراحل ، وهي :
الأول : أن تأتي اللفظة على الأصل الاشتقاقي .
الثاني : أن تأتي اللفظة على الاستعمال الغالب عند العرب ، وفي هذه الحال يكون فيها معنى الأصل الاشتقاقي .
الثالث : أن يكون للفظة استعمال سياقيٌّ ، وهو ما استفاد منه أصحاب ( الوجوه والنظائر ) فركَّبوا كتبهم منه .
والاستعمال السياقي قد يرجع إلى أصل اللفظة الاشتقاقي ، وقد يرجع إلى المعنى الغالب في استعمال اللفظة عند العرب ، وهو على كلِّ الأحوال لا يخلو من الأصل الاشتقاقي .
الرابع : المصطلح الشرعي ، وهذا كثير في القرآن ، والمقصود به أن يكون استخدام اللفظ في القرآن والسنة على معنى خاصٍّ ؛ كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ، وغيرها .
والمصطلح الشرعي لا بدَّ أن يكون راجعًا من جهة المعنى إلى الأصل الاشتقاقي ، وقد يكون راجعًا إلى أحد المعاني التي غلب استعمال اللفظ فيها عند العرب .
الخامس : المصطلح القرآني ، وهو أخصُّ من المصطلح الشرعي ومن الاستعمال السياقي ؛ لأنَّ المراد به أن يكون اللفظ في القرآن جائيًا على معنى معيِّنٍ من معاني اللفظِ ، فيكون معنى اللفظ الأعم قد خُصَّ في القرآن بجزء من هذا المعنى العامٍّ ، أو يكون له أكثر من دلالة لغوية فتكون أحد الدلالات هي المستعملة لهذا اللفظ في القرآن .
وسأتحدَّث عن كل نوع من هذه الأنواع المذكورة ، وأضرب له أمثلة ، وأسأل الله المعونة والتوفيق والسداد .
أولاً : الأصل الاشتقاقي للَّفظة .
يعتبر الاعتناء بالأصل الاشتقاقي للفظة من المسائل المهمة لمن يدرس التفسير ، لحاجته الماسَّة لدقة توجيه التفسيرات التي تُفسِّر بها اللفظة القرآنية .
ولا تكاد تخلو لفظة قرآنية من وجود أصل اشتقاقي ، ومعرفته تزيد المفسِّر عمقًا في معرفة دلالة الألفاظ ومعرفة مناسبة تفسيرات المفسرين لأصل هذا اللفظ .
ولم تخل تفسيرات السلف من الإشارة إلى مسألة الاشتقاق ، فتجد في تفسيراتهم التنبيه على هذه المسألة اللغوية المهمة ، ومن ذلك ما رواه الطبري ( ت : 310 ) وغيره في تفسير قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (البقرة: من الآية31) ، فقد أورد عن ابن عباس ( ت : 68 ) أنه قال : (( بعث رب العزة ملك الموت فأخذ من أديم الأرض ؛ من عذبِها ومالحها ، فخلق منه آدم ، ومن ثَمَّ سُمِّي آدم ؛ لأنه خلق من الأرض )) .
وفي تفسير غريب لأبي العالية ( ت : 93 ) في تفسيره لقوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)(البقرة: من الآية51) قال : (( إنما سُمِّي العجل ؛ لأنهم عَجِلُوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى )) .
وممن له في تفسيره شيء من العناية بهذا الباب مقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) ، ومن غريب ما ورد عنه في الاشتقاق قوله : (( تفسير آدم عليه السلام ؛ لأنه خُلِق من أديم الأرض ، وتفسير حواء ؛ لأنها خُلِقت من حيٍّ ، وتفسير نوح ؛ لأنه ناح على قومه ، وتفسير إبراهيم : أبو الأمم ، ويقال : أبٌ رحيم ، وتفسير إسحاق ؛ لضحِك سارَّة ، ويعقوب ؛ لأنه خرج من بطن أمه قابض على عقب العيص ، وتفسير يوسف : زيادة في الحسن ، وتفسير يحيى : أحيي من بين ميتين ؛ لأنه خرج من بين شيخ كبير وعجوز عاقر ، صلى الله عليهم أجمعين )) . تفسير مقاتل بتحقيق د / عبد الله شحاته ( 3 : 53 ) .
وممن عُنيَ بأصل الاشتقاق من اللغويين ابن قتيبة ( ت : 276 ) ، في كتابيه ( تأويل مشكل القرآن ) ، و ( تفسير غريب القرآن ) .
ومن ذلك قوله : (( أصل قضى : حَتَمَ ، كقول الله عز وجل : (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت)(الزمر: من الآية42) ؛ أي : حَتَمَه عليها .
ثُمَّ يصير الحتم بمعانٍ ؛ كقوله : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(الاسراء: من الآية23) ؛ أي : أمر ؛ لأنه لما أمر حتم بالأمر .
وكقوله (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ )(الإسراء: من الآية4) ؛ أي : أعلمناهم ؛ لأنه لما اخبرهم أنهم سيفسدون في الأرض ، حتم بوقوع الخبر .
وقوله : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات)(فصلت: من الآية12) ؛ أي : فصنعهن .
وقوله : (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض)(طـه: من الآية72) ؛ أي : فاصنع ما أنت صانع .
ومثله قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيّ)(يونس: من الآية71) ؛ أي : اعملوا ما أنتم عاملون ولا تُنظِرون .
قال أبو ذؤيب :
وعليهما مسرودتان قضاهما** داود أو صَنَعُ السوابغ تبَّع
أي : صنعهما داود وتُبَّع .
وقال الآخر في عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قضيت أموًا ثم غادرت بعدها** بوائج في أكمامها لم تُفَتَّقِ .
أي : عملت أعمالاً ؛ لأنَّ كل من عمل عملاً وفرغ منه فقد حتمه وقطعه .
ومنه قيل للحاكم : قاض ؛ لأنه يقطع على الناس الأمور ويحتِم .
وقيل : قُضِيَ قضاءك ؛ أي : فُرِغ منه أمرك .
وقالوا للميت : قد قضى ؛ أي : فرغ .
وهذه كلها فروع ترجع إلى أصل واحدٍ )) . تأويل مشكل القرآن ( ص : 442 ) .
ويظهر أنَّ ابن فارس ( ت : 395 ) قد استفاد منه هذه الفكرة ، فصنَّف كتابه العظيم ( مقاييس اللغة ) منتهجًا بذلك ما كان قد طرحه ابن قتيبه ( ت : 276 ) في كتابيه السابقين . ينظر : مقدمة السيد أحمد صقر لكتاب تأويل مشكل القرآن ( ص : 83 ) .
كما عُنيَ الراغب الأصفهاني ( ت : 400 ) بأصل الاشتقاق في كتابه ( مفردات ألفاظ القرآن ) .
ثمَّ إنك تجد لأصل الاشتقاق منثورات في كتب اللغويين ، ككتاب الاشتقاق للأصمعي ( ت : 215 ) ، وابن دريد ( ت : 321 ) ، وغيرها من كتب أهل اللغة .
وممن كان لهم بذلك عناية واضحة أبو علي الفارسي( ت : 377 ) ، وتلميذه ابن جني ( ت : 392 )
وليس المقصد التأريخ لهذه المسألة العلمية ، وإنما ذكرت إشارات منه .
وقد يكون للفظة أصل واحد تدور عليه تصريفات الكلمة في لغة العرب ، وقد يكون لها أكثر من أصل .
ومن أمثلة الألفاظ القرآنية التي يكون لها أصل واحدٌ لفظ ( الأليم ) ، قال ابن فارس ( ت : 395 ) : (( الألف واللام والميم أصل واحدٌ ، وهو الوجع )) ، وعلى هذا فإنَّ تَصَرُّفَات مادة ( أَلَمَ ) ترجع إلى هذا المعنى الكلي ، فكل تقلُّباته في القرآن وفي استعمال العرب يعود إلى معنى الوجع ؛ كقوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10)
وقوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) .
أهمية معرفة أصل الاشتقاق :
معرفة أصل اشتقاق اللفظ يفيد في جمع جملة من المفردات القرآنية المتناثرة بتصريفات متعددة تحت معنى كليِّ واحد ، وهذه المعرفة تسوق إلى تفسير اللفظ في سياقه ، بحيث يُعبَّر عنه بما يناسبه في هذا السياق ، ويعبر عنه بما يناسبه في السياق الآخر ، وكلها ترجع إلى هذا المعنى الاشتقاقي الكليِّ .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ 0 وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) (الانشقاق: 17 ـ 18) ، فمادة ( وسق ) تدلُّ على جمع وضمِّ واحتواء ، ولفظت وسق واتسق مشتقة منها ، فمعنى الآية الأولى : والليل وما جمع وحوى وضمَّ من نجوم وغيرها .
ومعنى الآية الأخرى : والقمر إذا اجتمع واكتمل فصار بدرًا .
وبهذا تكون مادة اللفظتين من أصل واحد ، وهو الجمع والضمُّ .
ومنها لفظ ( أيد ) بمعنى قوَّى ، وقد ورد لهذا الأصل عدة تصريفات ، منها :
قوله تعالى : (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (المائدة:110) .
وقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22) .
وقوله تعالى : (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:17) .
وقوله تعالى : (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذريات:47) .
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87) .
فالمعنى الذي ترجع إليه الألفاظ ( أيدتك / أيَّدهم / أيدناه / ذا الأيد / بأيد ) كلها ترجع إلى معنى القوة . ( قويتك / قواهم / قويناه / ذا القوة / بقوة ) .
ومنها قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) (البقرة: من الآية255) ، وقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ) (التكوير:8) .
فلفظ : لا يؤوده بمعنى : لا يُثقِله .
والموؤودة هي البنت التي تُدفنُ وهي حيَّة ، وإذا أرجعت اللفظ إلى أصل اشتقاقه ، وجدت أنها إنما سُمِّت موؤودة ؛ لأنها أُثقِلت بالتراب حتَّى ماتت ، فرجعت اللفظة إلى أصل الثِّقَلِ ، فصارت لفظتي ( يؤوده ، والموؤودة ) ترجعان إلى أصل واحد ، وهو الثِّقَلُ .
وللحديث بقية ….
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله الطيبين ، وعلى صحبه الكرام ، وعلى من تابعهم إلى يوم القيام ، أما بعد :
فقد أدرتُ الفِكْرَ في المفردة القرآنية ، فظهر لي في دراستي لها عدد من الموضوعات التي قد تكون مطروقة لكنها تحتاج إلى جمع في مكان واحدٍ يتعلق بالمفردة القرآنية ، التي قد تختصُّ ببعض المعاني التي لا تجدها في دراسة الدارسين للغة العرب .
ومما طرأ لي في هذا الموضوع أنَّ ألفاظ القرآن لا تخرج عن خمس مراحل ، وهي :
الأول : أن تأتي اللفظة على الأصل الاشتقاقي .
الثاني : أن تأتي اللفظة على الاستعمال الغالب عند العرب ، وفي هذه الحال يكون فيها معنى الأصل الاشتقاقي .
الثالث : أن يكون للفظة استعمال سياقيٌّ ، وهو ما استفاد منه أصحاب ( الوجوه والنظائر ) فركَّبوا كتبهم منه .
والاستعمال السياقي قد يرجع إلى أصل اللفظة الاشتقاقي ، وقد يرجع إلى المعنى الغالب في استعمال اللفظة عند العرب ، وهو على كلِّ الأحوال لا يخلو من الأصل الاشتقاقي .
الرابع : المصطلح الشرعي ، وهذا كثير في القرآن ، والمقصود به أن يكون استخدام اللفظ في القرآن والسنة على معنى خاصٍّ ؛ كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ، وغيرها .
والمصطلح الشرعي لا بدَّ أن يكون راجعًا من جهة المعنى إلى الأصل الاشتقاقي ، وقد يكون راجعًا إلى أحد المعاني التي غلب استعمال اللفظ فيها عند العرب .
الخامس : المصطلح القرآني ، وهو أخصُّ من المصطلح الشرعي ومن الاستعمال السياقي ؛ لأنَّ المراد به أن يكون اللفظ في القرآن جائيًا على معنى معيِّنٍ من معاني اللفظِ ، فيكون معنى اللفظ الأعم قد خُصَّ في القرآن بجزء من هذا المعنى العامٍّ ، أو يكون له أكثر من دلالة لغوية فتكون أحد الدلالات هي المستعملة لهذا اللفظ في القرآن .
وسأتحدَّث عن كل نوع من هذه الأنواع المذكورة ، وأضرب له أمثلة ، وأسأل الله المعونة والتوفيق والسداد .
أولاً : الأصل الاشتقاقي للَّفظة .
يعتبر الاعتناء بالأصل الاشتقاقي للفظة من المسائل المهمة لمن يدرس التفسير ، لحاجته الماسَّة لدقة توجيه التفسيرات التي تُفسِّر بها اللفظة القرآنية .
ولا تكاد تخلو لفظة قرآنية من وجود أصل اشتقاقي ، ومعرفته تزيد المفسِّر عمقًا في معرفة دلالة الألفاظ ومعرفة مناسبة تفسيرات المفسرين لأصل هذا اللفظ .
ولم تخل تفسيرات السلف من الإشارة إلى مسألة الاشتقاق ، فتجد في تفسيراتهم التنبيه على هذه المسألة اللغوية المهمة ، ومن ذلك ما رواه الطبري ( ت : 310 ) وغيره في تفسير قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (البقرة: من الآية31) ، فقد أورد عن ابن عباس ( ت : 68 ) أنه قال : (( بعث رب العزة ملك الموت فأخذ من أديم الأرض ؛ من عذبِها ومالحها ، فخلق منه آدم ، ومن ثَمَّ سُمِّي آدم ؛ لأنه خلق من الأرض )) .
وفي تفسير غريب لأبي العالية ( ت : 93 ) في تفسيره لقوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)(البقرة: من الآية51) قال : (( إنما سُمِّي العجل ؛ لأنهم عَجِلُوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى )) .
وممن له في تفسيره شيء من العناية بهذا الباب مقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) ، ومن غريب ما ورد عنه في الاشتقاق قوله : (( تفسير آدم عليه السلام ؛ لأنه خُلِق من أديم الأرض ، وتفسير حواء ؛ لأنها خُلِقت من حيٍّ ، وتفسير نوح ؛ لأنه ناح على قومه ، وتفسير إبراهيم : أبو الأمم ، ويقال : أبٌ رحيم ، وتفسير إسحاق ؛ لضحِك سارَّة ، ويعقوب ؛ لأنه خرج من بطن أمه قابض على عقب العيص ، وتفسير يوسف : زيادة في الحسن ، وتفسير يحيى : أحيي من بين ميتين ؛ لأنه خرج من بين شيخ كبير وعجوز عاقر ، صلى الله عليهم أجمعين )) . تفسير مقاتل بتحقيق د / عبد الله شحاته ( 3 : 53 ) .
وممن عُنيَ بأصل الاشتقاق من اللغويين ابن قتيبة ( ت : 276 ) ، في كتابيه ( تأويل مشكل القرآن ) ، و ( تفسير غريب القرآن ) .
ومن ذلك قوله : (( أصل قضى : حَتَمَ ، كقول الله عز وجل : (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت)(الزمر: من الآية42) ؛ أي : حَتَمَه عليها .
ثُمَّ يصير الحتم بمعانٍ ؛ كقوله : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(الاسراء: من الآية23) ؛ أي : أمر ؛ لأنه لما أمر حتم بالأمر .
وكقوله (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ )(الإسراء: من الآية4) ؛ أي : أعلمناهم ؛ لأنه لما اخبرهم أنهم سيفسدون في الأرض ، حتم بوقوع الخبر .
وقوله : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات)(فصلت: من الآية12) ؛ أي : فصنعهن .
وقوله : (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض)(طـه: من الآية72) ؛ أي : فاصنع ما أنت صانع .
ومثله قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيّ)(يونس: من الآية71) ؛ أي : اعملوا ما أنتم عاملون ولا تُنظِرون .
قال أبو ذؤيب :
وعليهما مسرودتان قضاهما** داود أو صَنَعُ السوابغ تبَّع
أي : صنعهما داود وتُبَّع .
وقال الآخر في عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قضيت أموًا ثم غادرت بعدها** بوائج في أكمامها لم تُفَتَّقِ .
أي : عملت أعمالاً ؛ لأنَّ كل من عمل عملاً وفرغ منه فقد حتمه وقطعه .
ومنه قيل للحاكم : قاض ؛ لأنه يقطع على الناس الأمور ويحتِم .
وقيل : قُضِيَ قضاءك ؛ أي : فُرِغ منه أمرك .
وقالوا للميت : قد قضى ؛ أي : فرغ .
وهذه كلها فروع ترجع إلى أصل واحدٍ )) . تأويل مشكل القرآن ( ص : 442 ) .
ويظهر أنَّ ابن فارس ( ت : 395 ) قد استفاد منه هذه الفكرة ، فصنَّف كتابه العظيم ( مقاييس اللغة ) منتهجًا بذلك ما كان قد طرحه ابن قتيبه ( ت : 276 ) في كتابيه السابقين . ينظر : مقدمة السيد أحمد صقر لكتاب تأويل مشكل القرآن ( ص : 83 ) .
كما عُنيَ الراغب الأصفهاني ( ت : 400 ) بأصل الاشتقاق في كتابه ( مفردات ألفاظ القرآن ) .
ثمَّ إنك تجد لأصل الاشتقاق منثورات في كتب اللغويين ، ككتاب الاشتقاق للأصمعي ( ت : 215 ) ، وابن دريد ( ت : 321 ) ، وغيرها من كتب أهل اللغة .
وممن كان لهم بذلك عناية واضحة أبو علي الفارسي( ت : 377 ) ، وتلميذه ابن جني ( ت : 392 )
وليس المقصد التأريخ لهذه المسألة العلمية ، وإنما ذكرت إشارات منه .
وقد يكون للفظة أصل واحد تدور عليه تصريفات الكلمة في لغة العرب ، وقد يكون لها أكثر من أصل .
ومن أمثلة الألفاظ القرآنية التي يكون لها أصل واحدٌ لفظ ( الأليم ) ، قال ابن فارس ( ت : 395 ) : (( الألف واللام والميم أصل واحدٌ ، وهو الوجع )) ، وعلى هذا فإنَّ تَصَرُّفَات مادة ( أَلَمَ ) ترجع إلى هذا المعنى الكلي ، فكل تقلُّباته في القرآن وفي استعمال العرب يعود إلى معنى الوجع ؛ كقوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10)
وقوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) .
أهمية معرفة أصل الاشتقاق :
معرفة أصل اشتقاق اللفظ يفيد في جمع جملة من المفردات القرآنية المتناثرة بتصريفات متعددة تحت معنى كليِّ واحد ، وهذه المعرفة تسوق إلى تفسير اللفظ في سياقه ، بحيث يُعبَّر عنه بما يناسبه في هذا السياق ، ويعبر عنه بما يناسبه في السياق الآخر ، وكلها ترجع إلى هذا المعنى الاشتقاقي الكليِّ .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ 0 وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) (الانشقاق: 17 ـ 18) ، فمادة ( وسق ) تدلُّ على جمع وضمِّ واحتواء ، ولفظت وسق واتسق مشتقة منها ، فمعنى الآية الأولى : والليل وما جمع وحوى وضمَّ من نجوم وغيرها .
ومعنى الآية الأخرى : والقمر إذا اجتمع واكتمل فصار بدرًا .
وبهذا تكون مادة اللفظتين من أصل واحد ، وهو الجمع والضمُّ .
ومنها لفظ ( أيد ) بمعنى قوَّى ، وقد ورد لهذا الأصل عدة تصريفات ، منها :
قوله تعالى : (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (المائدة:110) .
وقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22) .
وقوله تعالى : (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:17) .
وقوله تعالى : (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذريات:47) .
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87) .
فالمعنى الذي ترجع إليه الألفاظ ( أيدتك / أيَّدهم / أيدناه / ذا الأيد / بأيد ) كلها ترجع إلى معنى القوة . ( قويتك / قواهم / قويناه / ذا القوة / بقوة ) .
ومنها قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) (البقرة: من الآية255) ، وقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ) (التكوير:8) .
فلفظ : لا يؤوده بمعنى : لا يُثقِله .
والموؤودة هي البنت التي تُدفنُ وهي حيَّة ، وإذا أرجعت اللفظ إلى أصل اشتقاقه ، وجدت أنها إنما سُمِّت موؤودة ؛ لأنها أُثقِلت بالتراب حتَّى ماتت ، فرجعت اللفظة إلى أصل الثِّقَلِ ، فصارت لفظتي ( يؤوده ، والموؤودة ) ترجعان إلى أصل واحد ، وهو الثِّقَلُ .
وللحديث بقية ….