المغايرة الإعرابية في القرآن الكريم

إنضم
12/08/2005
المشاركات
84
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
د. مصطفى رجب : بتاريخ 14 - 10 - 2007
إن الأنماط اللغوية المتعددة للآيات القرآنية، وفقاً للقراءات، أو للرسم العثماني، ذات قيمة تعبيرية تحفل بالعديد من المظاهر التأثيرية التي يتغياها النص القرآني الشريف. وقد استفرغ علماء اللغة والبلاغيون جهودهم سنين طوالا في تتبع مظاهر تأثير هذا الأسلوب الفريد. فلم يبلغوا من ذلك إلا مقدار ما أتاحته لهم المشيئة الإلهية. ليبقى للقرآن الكريم عطاؤه المتجدد للأمة المسلمة وغيرها في كل زمان ومكان.
والمتتبع للقنوات الفضائية الساقطة – وهي معروفة – ولبعض مواقع الانترنت التشكيكية ، يرى كثيرا من السفهاء وأغيلمة السوء يقعون في القرآن الكريم لجهلهم الفاضح وعجزهم الواضح عن تذوق العربية . وسنرد في هذا المقال بعض حرابهم إلى نحورهم المريضة .
والمقصود هنا بالمغايرة الإعرابية "مخالفة إعراب كلمةٍ ما ، لما تواضع عليه النحاة واللغويون من قواعد نحوية أو صرفيةً"، وسوف نحاول أن نتلمس أسرار هذه المخالفة التي نؤكد هنا إنها ما جاءت على هذا النحو إلا لإثراء الأسلوب، وبث قيم دلالية جديدة فيه. وهذا ما عنيت به المدارس اللغوية الحديثة لا سيما مدرسة تشومسكي التي اهتمت كثيراً بهذه الظاهرة وأطلقت عليها اسم "التحويلات اللغوية" أو "الأسلوبية".
النموذج الأول:-
قال تعالى في وصف الكافرين: "مَثَلُهَمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلّمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لا يُبْصُرونَ". [البقرة/17]
الضمير الجمعي في كلمتي (نورهم – تركهم) وكذلك الواو الجماعية في كلمة (يبصرون) تتعلق جميعاً بكلمة (الذي) في أول الآية. فهنا حدثت مغايرة إعرابية إذْ عاد ضمير الجماعة على المفرد. فما سر هذه المغايرة؟ وهل أضافت قيمة دلالية عما لو سار السياق كله على المفرد فقيل –مثلاً- (ذهب الله بنوره وتركه في ظلمات لا يبصر)؟.
إن أقوال القدماء من العلماء في تفسير هذه المغايرة تدور –في معظمها- حول قضية (الحمل على المعنى) أي أن معنى الآية متعلق بالكافرين فجاء اللفظ بصيغة الجمع حملاً للفظ على معناه المقصود.
غير أن هذه الرؤية، وإن كانت صحيحة، لا تشفي الغليل، فاللغة العربية تسمح أساساً بأن يعامل المفرد معاملة الجمع كما في قول الشاعر القديم:
وإن "الذي" حانت بفلجٍ دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أُمَّ خالد
وقد ورد هذا في القرآن الكريم في مواضع شتى منها قوله تعالى:
"أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء......". [النور/31]
وما حوتْ العربية هذا الخصيصة إلا لعلة بيانية هي ما نسعى إلى تلمسه في هذه الآية الكريمة التي أتت بعد عدة آيات تحدثت عن الكافرين ومكابرتهم وإصرارهم على الاستهزاء بدعوة الرسل. فشبّه الله تعالى موقفهم في هذه العنجهية والمكابرة بموقف الذي ذهب مع أصحابه يرود لهم الطريق فأشعل ناراً يستضئ – هو وقومه – بنورها فأتت ريح أطفأت نارهم فتخبطوا في الظلام حائرين عاجزين مذهولين.
ومن هنا، كان للمغايرة الإعرابية – من إعادة ضمير الجماعة على المفرد (اسم الموصول) قيمة دلالية جديدة إذ أوحى السياق- بهذه البنية اللغوية- بأن ما يتذرع به الكفار من حجج إن هو إلاّ وهم باطل، وأنه لا فارق بين كفر وكفر، فزعيمهم الذي يستوقد لهم النار سيناله ما ينالهم من حيرة واضطراب وعجز وذهول حين يكتشف –معهم- أن لا أمل لهم في نجاة، فالظلمات تحيط بهم جميعاً من كل مكان. وفي إعادة الضمير الجمعي على المفرد إيذان بتحمل هذا الفرد مسؤولية إضلال قومه، وكشف له أمامهم، وبيان ما هو عليه من ضعف وذل. وفوق هذا كله. فقد بدأت الآية بالجمع [مثلهم...] وانتهت بالجمع [يبصرون] وراوحت في ثناياها بين الأفراد والجمع – مع الحفاظ على مستوى الزمن – مما أكسب التعبير حيوية وتجدداً في عطائه الدلالي للسامع والقارئ.
النموذج الثاني:-
قال تعالى: "إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا والَّصابِئُونَ وَالنَّصَارَى: مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونُ". [المائدة: 69].
وردت كلمة (الصابئون) في هذه الآية مرفوعة، وظاهر السياق يدل على أنها معطوفة على المنصوبات اللواتي سبقنها لأن (الذين أمنوا والذين هادوا) في محل نصب اسم (إن) التي في صدر الآية. وجميع القراءات السبع تجعل كلمة (الصابئون) مرفوعة كما هي عليه في رسم المصحف. لذلك اجتهد النحاة والمفسرون في إيجاد تفسير لهذه المغايرة الإعرابية التي تستوقف القارئ والسامع للكتاب الكريم.
وقد وردت كلمة (الصائبون) منصوبة في سياقين آخريْن في كتاب الله الكريم، ففي سورة البقرة "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون". [البقرة/ 62].
وفي سورة الحج "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا: إن الله يفصل بينهم يوم القيامة...." [الحج/ 17].
فإذا أردنا أن ندرك سر رفع (الصابئون) وهي في موضع العطف على اسم إن في الآية التي بين أيدينا، فلننظر في السياقين الآخرين اللذين وردت فيهما تلك الكلمة منصوبة. لنلاحظ أنها في أية المائدة –التي نحن بصددها- ارتفعت بالواو وهي متقدمة على كلمة (النصارى) بعدها. لأن الصابئين أقدم وجوداً من النصارى. وقد شملت الآية أربع طوائف (الذين آمنوا – اليهود – النصارى – الصابئة) ثلاث طوائف منها أهل كتب سماوية. والصابئة ليسوا بأهل كتاب بل كانوا يعبدون الكواكب والنجوم. فجاء رفع الكلمة ليظهر اختلاف هذه الطائفة عن الطوائف الثلاث. وجاء تقديمها على النصارى مراعاةً لكون الصابئة أقدم عهداً من النصارى.
ويرى بعض الباحثين بان من الممكن تفسير هذه المخالفة الإعرابية بأن الصابئين يتوب الله تعالى على من آمن منهم. وهو دفع موضع التوهم [أي نفي فكرة عدم التوبة] بأن الله تعالى لا يتوب على أحد منهم لأنهم عبدوا النجوم ولم يُعهد من أمرهم أنهم كانوا يتآولون....".
وذهب بعض القدامى مثل الخطيب الإسكافي (ت 420 هـ) مذهباً فريداً في تأويل هذه الآية خلاصته أنه ليس من المستساغ أن يقال: (إن الذين آمنوا.... من آمن بالله) فإذا كانوا قد وُصفوا بأنهم آمنوا في صدر الآية فلا وجه لإعادة الصفة، بل المعنى: إن الذين آمنوا بكتب الله المقدسة المتقدمة مثل: صحف ابراهيم، والذين آمنوا بما نطقت به التوراة وهم اليهود، والذين آمنوا بما أتى به الإنجيل وهم النصارى، قال: "ثم أتى بذكر (الصابئين) وهم الذين لا يثبتون على دين وينتقلون من ملة إلى ملة، ولا كتاب لهم".
فخلاصة رأيه أن آية البقرة جاءت على ترتيب الكتب السماوية، والمقصود فيها –عنده- بالذين آمنوا: الذين آمنوا بصحف ابراهيم –عليه السلام- وأما آية المائدة –التي نحن بصددها- فجاءت على ترتيب الأزمنة قال: "فرفع (الصابئون) ونُوي به التأخير عن مكانه، كأنه قال بعدما أتى بخبر الذين آمنوا والذين هادوا وهو (من آمن منهم...الخ) والصابئون هذا حالهم أيضاً. وهذا مذهب سيبويه".
النموذج الثالث:-
قال تعالى: " وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيِهِ أَجْرَاً عَظِيماَ". [الفتح 10].
هذه هي قراءة حفص عن عاصم التي عليها رسم المصحف بضم الهاء من كلمة (عليه) وهو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد بهذا الضبط وما عداه لا يرد إلا بكسر الهاء إذا سبقها حرف الجر (على). وهذه [بالضمٍ] لغة أهل الحجاز، وبقية العرب يكسرون الهاء.
يقول العلماء إن الضمة ثقيلة النطق لأن "النطق بها يحتاج إلى جهد عضلي أكثر من الكسرة والفتحة وذلك لأنها لا تُنطق إلا بانضمام الشفتين وارتفاعهما ولا تحتاج الكسرة ولا الفتحة إلى ذلك".
وقد وردت هذه النقطة في سياق آية تحدثت عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم –يوم الحديبية وكانت بيعتهم على الموت في سبيل نصرة الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
لذلك جاءت الهاء مضمومةً في هذه الكلمة، في هذا الموضع فقط، لكي يظهر من مخالفتها المألوف من الإعراب مدى ثقل العهد الذي تضمنته تلك البيعة العظيمة التي نسبها الله تعالى إلى نفسه وجعل يده فوق أيدي المؤمنين إذ قال جل شأنه: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما " ] الفتح/ [10
ثمّ إن الضمّة – كما يقول الدكتور فاضل السّامرائي ناقلاً عن الألوسي – يُنطق بعدها لفظ الجلالة مفخَّماً بخلاف الكسرة فإنّها ينطق معها لفظ الجلالة بترقيق اللام .
فجاء بالضم ليتفخم النطق بلفظ الجلالة , إشارة إلى تفخيم العهد , فناسب بين تفخيم العهد و تفخيم الصوت.
النموذج الرابع :
قال تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام و هو يقص رؤياه على أبيه يعقوب عليه السلام :" و الشَّمْسَ و القَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي ساجدين " [يوسف:4] والمعروف في قواعد اللغة أن الجمع بالياء والنون والواو والنون إنما يكون للعقلاء، والمرئيات التي رآها يوسف عليه السلام من الكواكب والشمس والقمر ليست من ذوي العقول. بل هي جمادات.
قال العلماء: قد يكون عبَّر عن لسان الحال بالكلام، فقد يُطلق الكلام على لسان الحال كما قال الشاعر القديم:
شكى إليَّ جَمَلِي طولَ السُّرى
وكما قال الشاعر نصيب:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهلُه
ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائبُ
وقال بعض العلماء: "لما وصفت[الكواكب والشمس والقمر] بصفات العقلاء وهو السجود. أجريت مجراهم فجمعت صفتها جمع العقلاء.
وقال الألوسي: "وإنما أجريت هذه المتعاطفات مجرى العقلاء في الضمير [أي في قوله: "رأيتهم"] جمع الصفة لوصفها بوصف العقلاء. وإعطاء الشئ الملابس لآخر من بعض الوجوه حكماً من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة....شائع في الكلام".
ومع ذلك فإن في العدول عن وصف الكواكب والشمس والقمر بما ينبغي لها، ووصفها بصفة العقلاء إشعاراً للقارئ والسامع بان الإيمان بالله يحوِّل القلوب الغافلة والعقول التائهة من حال التيه والزيغ إلى حال الإدراك والاستقرار. فالكفار الذين شبههم القرآن الكريم بأنهم كالأنعام أو أضل، لو آمنوا وعبدوا وركعوا وسجدوا، كانوا كمن انتقل من حال الحيوانات والجمادات إلى حال البشر العقلاء الذين وصلوا أرواحهم بربهم وأنابوا إليه.
ومن جهة أخرى، فقد يكون نبي الله يوسف عليه السلام قد قصَّ ما رآه لأبيه على سبيل الحقيقة. فقد كان إذ ذاك طفلاً. والطفل قد يرى في منامه الأشياء على غير حقيقتها. فقد يرى للكواكب والنجوم وجوهاً ورؤوساً وأيدياً وأرجلاً. ويراها تركع وتسجد ويُلقى في روعه أن هذه وتلك: الشمس والكواكب تتحرك نحوه ومومئةً ساجدة. ولذا لم يستنكر يعقوب عليه السلام من طفله هذه الرواية. بل أدرك ما وراءها وعرف أن لابنه مستقبلاً إيمانياً طيباً. على نحو ما يبين في سورة يوسف بعد ذلك.
النموذج الخامس:-
قال تعالى متحدثاً عن أبي لهب: "وامْرَأتُه حَمَّالَةَ الحَطَبْ في جِيدِهَا حَبلٌ مِنْ مَسَدٍ". [المسد: 4،5]
قراءة حفص عن عاصم وعليها رسم المصحف بفتح كلمة (حمالةَ) وقد قال النحاة في هذه القراءة: إن كلمة (حمالة) منصوبة على أنها مقطوعة عما قبلها على تقدير: أذمُّ حمالةَ الحطب
وقال مكي بن أبي طالب: "هذه المرأة كانت قد اشتهرت بالنميمة، فجرت صفتها على الذم لها، لا للتخصيص. وفي الرفع ذم. ولكنه في النصب أبين. لأنك إن نصبت لم تقصد أن تزيدها تعريفاً وتبييناً. إذ لم تجر الإعراب على مثل إعرابها. وإنما قصدت إلى ذمها لا لتخصيصها من غيرها بهذه الصفة التي اختصصتها بها.
-------------
[email protected]


نقلا عن
http://www.almesryoon.com/ShowDetailsC.asp?NewID=39658&Page=7&Part=1
 
عودة
أعلى